هناك يتجرأ الفكر

في تلك الواحة المباركة التي تضم بين ظهرانيها أشجار السلام وأنهار الإلهام وتشرق في سمائها شمس اليقين التي تسكب إشعاعاتها على ورود الأمل فتفتـّح بتلاتها وتطلق أريجها لتعبق به الأجواء وما أعذب أجواء الواحات العابقة بالأريج الفواح!

إنها واحة القلب المفعم بالسلام الإلهي والمغسول بمياه الروح. إذ ذاك يصبح هيكلا قدسياً تتوارد إليه الإلهامات وتشتاق الأرواح الطيبة زيارته لأنه على صلة وثيقة بالذات العليا التي تغذيه بإكسير المحبة وتهبّ عليه بأنسام الشوق اللطيفة. تلك النسائم التي يستعذبها أصحاب الأحوال إبان سفرهم الصحراوي الطويل نحو واحة الأمن حيث الأمل المنشود واللقاء الموعود.

في تلك الواحة الظليلة يجد القلب ضالته ويلتمس راحته التي طالما تشوق إليها قبل وأثناء السفر.

هناك.. في خلوة الذات.. يستذكر المريد أحداث حياته ويتأمل محطات العمر بما فيها من حلو ومر.

قد يحس بفرح غير معهود يتوارد إليه.. وقد تطرق سمعه أنغام جديدة وفريدة كأنه سمعها من قبل بالرغم من عدم قدرته على تصنيفها أو توصيفها حتى لنفسه.

وقد يرى أفكاره تخطر جيئة وذهاباً على دروب عقله.. وبين حين وآخر قد يبصر سطوعاً مباغتاً يأتي بإنسجام فوري لعناصر الروح والعقل والجسد ويعمل على خلخلة الصخور التي تسد منافذ النفس وربما إزاحتها من أمام فيض النور الدافق فتمتزج الروح ولو للحظة عابرة ببحر النور الكوني الذي عنه انبثقت النفوس ولا بد من العودة إليه ولا بديل مهما طال زمن الإغتراب.

في تلك اللحظات يتحدث الصوت الداخلي همساً وإيحاءً للنفس المستغرقة في التأمل العميق ويطلعها على الأسرار المتصلة بطبيعتها ويخبرها عن الكنوز التي كانت وما زالت لها وفي انتظارها.

يخبرها عن غاية الحياة وعن صلتها العضوية بخالق الحياة والنور.. وعن الغبطة السرمدية التي من نصيبها عندما تقرر العودة من تلقاء ذاتها إلى المقر الأولي الذي لا قرار ولا استقرار إلا فيه. وكأن الشاعر أشار إليه تلميحاً وتصريحاً عندما قال:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينهُ أبداً لأولِ منزلِ

هناك في تلك الواحة ذات السلام والسكينة تبزغ أفكار جديدة وتومض أقباس عديدة وينسكب رحيق الروح في أقداح الوعي وما ألذه من شراب!

هناك يبصر المريد كواكب السعد ويتذوق طعم السعادة الحقيقية النقية، مثلما يعرف بكل ثقة ووضوح الفرق بين قشور المعارف ولبابها وتِبن الأشياء وحبوبها.

هناك يتضافر التحفيز الباطني مع الدفع الذاتي والحث الوجداني لإيقاظ النفس من نومها العميق أو غيبوبتها الطويلة التي سلبتها الكثير من كنوزها المعنوية وأضاعت عليها العديد من الفرص الذهبية.

هناك يبزغ التصميم الراسخ في أعماق النفس لجعل الغاية القصوى الهدف النهائي والرغبة الأولى في حياة المريد.

وهناك أيضاً يتجرأ الفكر على النفاذ إلى آفاق العقل الكلي ويتتبع مسار الأفكار القديمة والحديثة فيراها ماثلة أمامه بكل جلاء ولن يحتاج إلى من يقنعه بصحتها أو بطلانها لأنها تخضع تلقائياً لميزان بصيرته الدقيق الذي لا يمكن مخادعته كونه أكثر دقة من أدق مخترعات الإنسان الرقمية.

ومع هذا الإدراك يعرف أنه اقترب من مشارف الوعي الكلي مستودع كل القوى والأفكار والإبداعات والإنجازات التي تمكن أقطاب وعباقرة وجهابذة الأدب والفن والعلوم والمخترعات من مقاربتها والاتصال بها. فكلها موجودة في مستويات أثيرية غير مستحيل الوصول إليها واختبارها ولو للحظة أو لحظات بما يكفي للتيقن من وجودها الذي لا خلاف عليه بين أرباب الوعي ورواد الروح.

الخيال وحده – مهما كان خصباً وواسعاً – لا يكفي لبلوغ تلك الآفاق الشفافة التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق تدريب ملكات روحية محددة ذات صلة بالتحكم بالطاقة الحيوية أو النشاط الجسدي الذي ينبغي إعادة تأهيله وتحويله إلى قنوات خاصة تسحبه طبيعياً وتلقائياً من انهماكه المتواصل في الجسد وأموره وترتفع به إلى مستويات من الوعي في انتظار من يرتادها ويعرف أسرارها.

وبما أن الوعي ملازم دائماً وأبداً للطاقة أو النشاط فإن سحب الطاقة الحيوية من الجسم يعني بالضرورة سحب الوعي أيضا والإرتقاء به إلى مناطق أسمى اكتشفها علماء الروح وأجمعوا على حقيقة وجودها، ورسموا لها معالمَ وابتنوا لها جسوراً وسلالمَ لمن يهمهم الأمر ويشدهم الشوق لتحقيق غاية الحياة.

والسلام عليكم

محمود عباس مسعود