من حصاد الأيام 5

أقوال ومأثورات وقصص

إعداد ووضع وترجمة

محمود عباس مسعود  

سمعتك تصدحين بأغنية لم يرددها صوت من قبل

ولم تلامسها شفاه!

ولكم طربت لرجع صدى همسك الرخيم

المنسجم إيقاعاً مع أنباض القلب!

 

بيت بجانب الطريق

House by the Side of the Road

هناك نفوسٌ متوحدة

تعيش منفردة وسط قناعتها وقناعاتها..

ونفوسٌ كالنجوم

تمضي عمرها الضوئي المديد

وحيدة دون رفيق

في فضائها العميق السحيق..

وهناك نفوسٌ رائدة

تشق طريقها بإقدام

عبر مساحات لم تخترقها دروب

لكنني أريد أن أسكن بجانب الطريق

وأكون صديقاً للناس.

دعني أسكن بيتاً بجانب الطريق

حيث البشر على اختلاف مشاربهم يخطرون..

الطيبون منهم والسيئون..

طيبون وسيئون مثلي.

لن أجلس على كرسي الإستخفاف بهم والإزدراء؟

ولن أتهمهم أو أحرمهم حقهم.

فقط دعني أسكن بيتاً بجانب الطريق

وأكون صديقاً للناس.

من بيتي الذي على قارعة الطريق

القابع بمحاذاة سكة الحياة

أرى نفوساً متأججة بلهيب الحماس والأمل

ونفوساً أرهقها التعب المضني فهدَّ حيلها..

لكنني لا أشيح بوجهي عن بسماتها

ولا أتجاهل دموعها

فالضحكات والعبرات

هي جزئيات متممة لكليّات.

دعني أسكن بيتاً بجانب الطريق

وأكون صديقاً للناس.

أعرف أن أمامي مروجاً منتشية بالسواقي

وجبالاً عسيرة المرتقى..

وأن الطريقَ يمر عبر الأصيل الطويل

ويمتد حتى الظلام.

مع ذلك أبتهج لفرح المسافرين

وأذرف الدمع مع الغرباء

إذ يأنـّون ويتأوهون

فلا أكون في بيتي على قارعة الطريق

كمن يعيش وحيداً لا يبالي بأحدٍ سواه.

أجل.. دعني أعيش في بيتي بجانب الطريق

حيث البشر على اختلاف مشاربهم يخطرون..

الطيبون منهم والسيئون، الضعفاء منهم والأقوياء

هم حمقى وحكماء.. وأنا كذلك.

فلماذا إذاً أجلس على كرسي الإستخفاف والإزدراء؟

ولماذا أتهمهم أو أحرمهم حقهم؟

فقط أريد أن أعيش في بيتي الذي بجانب الطريق

وأكون للناس خير صديق.

سام وولتر فوس

Sam Walter Foss

RE 1-22


 

خلطة سحرية

المكونات:

ثلاثة فناجين أشعة شمس ذهبية

فنجانان لطف

فنجان صبر

فنجان ضحك

نصف فنجان ابتسامات

دزينة ورود حمراء

عشرون نقطة مطر فضية

مشحة سماء زرقاء

رشة من توابل الحياة

طريقة التحضير:

امزج الخلطة بقلب طافح بالمحبة

واخبزها على نار هادئة

في فرن يستمد حرارته من لهب الحقيقة..

ثم برّدها بمياه جدول السلام

حيث تشدو بلابل الأمل أعذب ألحانها

وزيّنها بباقة من زهور برية

مقتطفة من وادي الذكريات السعيدة..

غلفها بورق رقة رقيق

ثم ضعها في علبة متينة

مبطنة بمخمل الإخلاص والتعاطف الوجداني..

اختمها بختم الطيبة

وابعثها على أجنحة الشوق

إلى من يحبهم قلبك.. وبالهنا والعافية!

RE 1-22


 

الأم

هي أصفى مورد وأنقى منبع للمحبة المجردة. في عينيها عاطفة لا يُسبر لها غور ولا تستقصى.. وفي صوتها نغمة حنان تعرف طريقها إلى الأفئدة والمشاعر.. ورقة متناهية تبدد الهموم وتجبر الخواطر.

هي رمز السمو والاعتبار

والروعة والعظمة

والرقة والحدب

والرأفة والحنان.

وجهها مرآة صقيلة تظهر خفايا الوجود وأنوار السماء.

محبتها تلخـّص غبطة الفردوس ونعيم الله.

من عينيها ينظر القدير ومن قلبها يحب ومن يديها يخدم. هي الوسيلة الجميلة لأهداف الخالق، وقليل من التأمل في جمال الأمومة وقدسيتها كفيل بتكوين أسمى فكرة عن الله الذي اتخذ من الأم وسيلة لتلهم وتوحي وتشجع عباده في وادي الدموع والأحزان على هذه البسيطة..

دموعها إكسير الحياة ولمستها بركات الودود. ونغمة صوتها همسة الخلود. تكريمها واجب مفروض، وخدمتها يفرح بها أبو الأنوار.

من ضياء الله تكوّن قلبها، وهي البوابة الموصلة إلى شواطئ الأمن وواحات النعيم.

فطوبى للذي تذوّق عذوبة محبتها فقد ترشـّف غبطة الروح التي دونها كل سعادة أرضية.


 

طاغوريـات1 - رحلتي ستستغرق زمناً طويلاً..

والطريق الذي سأسلكهُ طويـــــــــــــل وبعيـــــــــــــــد.

لقد أتيتُ ممتطياً إشعاعات الفجر الأولى

فانطلقت في حال سبيلي عبر العوالم الموحشة

مخلفاً آثاري على العديد من الكواكب والنجوم.

المسافر سيقرع كل بابٍ غريب

حتى يصل أخيراً إلى باب الحبيب.

والمتلمّس سيضطر للترحال والتجوال في العوالم الخارجية

إلى أن يبلغ أخيراً أعماق الذات.

لقد شردتْ عيناي بعيدا قبل أن أطبقهما وأقول

"إنك حقاً هنا!"

آه.. كم من مرة تساءلتُ بحرقة "أين أنتَ؟"

لكن تساؤلي ذاب أخيراً في فيض منهمر من الدمع

يشبه السواقي الغزيرة

وتحول إلى جواب يقيني أكيد.. "ها أنا ذا!"

RE 2-22

 

"من محطتك المباركة أستمع يوميا لأنغامك الأثيرية الناعمة التي تعصى على الوصف، لكنها ألحان مألوفة وعزيزة على قلبي. حاولت بادئ الأمر أن ألتقط برنامجك الرائع ولكن مجاله كان يبدو أبعد من أن يتمكن جهاز عقلي من استقباله. ولكن بعدة لمسات دقيقة لقـُرص التأمل أتيتَ فجأة على أمواج الأثير، فسمعتك تعزف ألحان الأرض الطيبة والقلوب السامية النبيلة."

الحكيم برمهنسا

 

March, 2012

 -------------


أمنيتي لكم للعام الجديد

 

أن تشرق شمس السعادة على حياتكم

فتذيب صقيع الهواجس وتبدد سحب الهموم

وأن يتحول العبوس إلى ابتسام

وتومض في سماء لياليكم نجوم السعد

وأن يغمر دفء البهجة والعزاء نفوسكم الطيبة

وتبقى كهرباء التفاؤل مشعشعة في دياركم

وأن تضمحل الكآبة وتتلاشى المخاوف

وتشرق بوارق الأمل على دروبكم

ويخيم الأمن والسلام على أجوائكم

سعدت بالتواصل معكم في هذا العام

وأرجو أن تتواصل لقاءاتنا

على المحبة والخير في السنة الجديدة

وأن تحمل الأيام القادمة مفاجآت سارة للجميع

كل عام وأنتم بخير أصدقائي وأحبتي

 

من الحواضر

ذات مرة كانت إحدى الفرق اليابانية تقوم بمعركة وهمية (مناورة)، وقد وجد بعض الضباط أن الضرورة تقتضيهم اتخاذ أحد الهياكل مقراً لهم.

عندما علم ناسك الهيكل بذلك قال للطباخ:

"لتكن الوجبات التي تقدمها للضباط والجنود من نفس طعامنا البسيط.. أي من حواضر الهيكل."

شعر العسكر بالغضب لإنهم كانوا معتادين على معاملة تفضيلية (منسف ياباني).

فذهب أحدهم إلى الناسك وقال له: "ألا تعرف من نحن؟ إننا جنود نضحي حياتنا من أجل بلدنا، فلماذا لا تعاملوننا معاملة تليق بنا؟"

فأجاب الناسك بحزم: "وأنت ألا تعرف من نحن؟ إننا جنود الإنسانية، وغايتنا هي تحرير النفوس من ربقة الجهل."

Zen Stories

RE 4-22 


 

الرسام الناسك


كان أحد الرسامين ناسكاً ومع ذلك فقد كان يتقاضى مبالغ طائلة عن أعماله، تفوق أضعاف ما كان يتقاضاه غيره من الرسامين، وكان يصر على الدفع قبل البدء بالرسم.

وفيما بعد تبين أن السبب من وراء أسعاره الباهظة هو الآتي:

كانت المجاعة غالباً ما تجتاح منطقته، ولم يتطوع الأغنياء لمساعدة الفقراء.

فقام الرسام بحيازة مخزن كبير ملأه بالحبوب دون أن يخبر أحدا بذلك. وكان يوزع تلك الحبوب التي اختزنها للحالات الطارئة على المناطق المنكوبة.

كما أن الطريق من قريته إلى المعبد الوطني كان في حالة رديئة، وقد عانى الكثير من المسافرين جراء ذلك، فأراد أن يبني طريقاً أفضل وأكثر أمناً.

وكان معلمه يرغب في بناء معبد لكنه فارق الحياة قبل أن تتحقق أمنيته، فأراد الرسام أن يحققها إكراماً لروحه.

وما أن حقق الرسام هذه الأمنيات الثلاث حتى ألقى بأدواته جانباً والتمس خلوة الجبال ولم يرسم بعدها أبداً.

Zen Stories

RE 2-22

 


قيادة بالقدوة

 

عندما وصل المعلم سوزوكي روشي إلى مقر جمعية كيمبردج البوذية في الساحل الشرقي وجد جميع التلاميذ منهمكين في تعزيل وتنظيف وترتيب المكان استعداداً لقدومه.

وقد فوجئوا بإطلالته لأنهم كانوا يتوقعون وصوله في اليوم التالي.

أما هو، فما كان منه إلاّ أن شمّر عن ساعديه وقال:

"أصر على مشاركتكم العمل استعداداً لقدومي".

حقاً أن القيادة بالقدوة!

A View on Buddhism

RE 1-22


 

سائق الشاحنة وأبوه: قصة واقعية

 

كانت حركة الشاحنات متواصلة من وإلى مستودع إحدى المستشفيات، وكان منسق المستودع غالباً ما يتحدث إلى السائقين أثناء انتظار دورهم، وقد لفت انتباهه أحدهم لأنه لم يأتِ مرة واحدة إلى المستودع دون أن يصطحب أباه معه.

وكان فور وصوله يسأل عن مرطبات يأخذها إلى والده الرزين الذي كان غالباً ما يظل جالساً في الشاحنة بانتظار ابنه، وبين الحين والآخر كان يترجل ويتمشى بهدوء أثناء تنزيل البضاعة وإتمام المعاملات.

سأل منسقُ المستودع الإبن ذات مرة عن السر من رفقة أبيه له أثناء العمل فقال:

"بعد انتقال والدتي صار والدي يشعر بالوحشة ولا أطيق أن أتركه لوحده في البيت. عرضت عليه كي يرافقني ويمضي وقته معي فراقت له الفكرة وارتاح كثيراً لهذا العرض.

وكما تلاحظ، لا هو يفارقني ولا أنا أفارقه. فحيثما ذهبت – وتنقلاتي كثيرة ومتواصلة – يظل بجانبي. ولأنه لا يتكلم كثيراً أسأله عندما نقترب من أحد المطاعم إن كان جائعاً فإن أجابني بنعم نتوقف وأشتري لنا إما وجبه سريعة نتناولها في الشاحنة، أو نتناول طعامنا في المطعم ونستريح قليلاً من السفر ثم نواصل السير. وعند المساء نرجع إلى البيت وفي اليوم التالي نعاود الكرّة عوداً على بدء وهكذا دواليك. فراحته تهمني ويبدو أنه مبسوط من هذه التنقلات المشتركة."

تأثر المنسق بشهامة ذلك الإبن النبيل وبمدى محبته لوالده وتفانيه في توفير الراحة له.


 

أمنيتي في عيد الميلاد

أن يزور الفرح القلوب الحزينة

وتحل الطمأنينة على النفوس المتألمة

وأن تزدان بساتين العقول

بأزاهير الفهم و المحبة

و تتناغم الأفكار مع نبض الحياة

وتستلهم مقاصد السماء

لتشرق أنوار الخير

ويحل السلام على الأرض.

ميلاد مجيد وسعيد على الجميع.


 

القوة: أين تكمن؟

-------------------

الإنسان يشعر في قرارة نفسه أن بينه وبين القوة صلة.. فيسعى إلى امتلاكها بطريقة أو بأخرى.

أقول بطريقة أو بأخرى إذ في تقديري هناك طريقتان لامتلاك القوة: واحدة عن جدارة وأخرى عن غير استحقاق.

إنني من المؤمنين بأن مصدر الإنسان هو إلهي بطبيعته وأن في كيانه تكمن بذرة القوة الإلهية التي يحاول بوعي منه أو بغير وعي استنباتها أو لنقل استخراجها من تحت كومات وتراكمات قديمة.. متطاولة العهد.

هو يحس بوجودها لا شعورياً ويشعر بأن من حقه أن تكون في متناوله، وهو شعور صادق ورغبة مشروعة لا جدال في ذلك.

قلت هناك طريقتان لامتلاك القوة، وما قصدته هو إما بالبحث عنها داخل النفس أو خارجها. وما هو الفرق بين الطريقتين؟

الطريقة الأولى تنطوي على قناعة ذاتية بأن القوة موجودة أصلاً داخل الإنسان والسبيل الأمثل للوصول إليها والإستفادة منها هي بالبحث عنها في المكان الصحيح.

طبعاً التمني لا يكفي لامتلاك تلك القوة ، بل يتعين بذل المجهود لتفتيت صخور وإزاحة ركام وفتح منافذ وتمهيد دروب وصولاً إلى الغاية المرجوة.

المثابرة عنصر أساسي، وبإمكاننا القول أن كل من يستثمر طاقاته على هذا النحو لا بد أن تتكلل مساعيه بقدر من النجاح يمنحه ما يكفي من القناعة بأنه انتهج المقاربة السليمة فيشعر بارتياح ذاتي ولا تراوده رغبة بعد ذلك باستخدام الطريقة الثانية الشبيهة بقفزة في الظلام محفوفة بالمخاطر.. وما هي تلك الطريقة؟

إنها محاولة جادة جاهدة من قِبل غير الراغب بالتوجه إلى الداخل، وسعيٌ حثيث وموصول من جانبه لإحراز تلك القوة بغض النظر عن الوسائل والسبل الموصلة إليها.

وكلما حاول المرء امتلاك القوة خارج نطاق الإستحقاق، كلما قلّت احتمالية عثوره عليها في جوهرها النقي وكلما تضاعفت رغبته في الإثبات لنفسه وللآخرين بأنه ليس قوياً وحسب، بل بأنه لا يوجد من هو أقوى منه..

والأشجار بثمارها

والأعمال بخواتيمها

و{أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}

قوّاكم الله وإيانا فيما ينفع أنفسنا والآخرين

والسلام عليكم أصدقائي

 

صديقي المزارع

 

ذهبت منذ يومين إلى سوق الخضار في إحدى المدن القريبة وتوجهت إلى بسطة صديقي المزارع النظيفة والجيدة التنسيق، فأقبل نحوي بقامته الفارعة وعينيه الخضراوين ووجهه البشوش، واستهل الحديث بتعليق وجيز على حالة الطقس، ثم سألني إن كان بإمكانه تقديم خدمة.

قلت له: أريد كذا وكذا، ورحتُ أضع جانباً ما أنتقيه من خضروات وفواكه بينما انهمك هو بوضعها في أكياس بلاستيكية وورقية.

اشتريت صندوقاً من اللفت وكان بجانبه عدة صناديق من الشوندر (الشمندر أو البنجر)، فقلت له لا أريد سوى شمندرة واحدة من أجل اللون لأنني أريد أن أصنع مخلل اللفت، فوضع واحدة مع اللفتات وقال "هذه علينا."

رأيت عنده نوعين من الفول السوداني بقشره، فسألته عن الفرق بين النوعين فقال: "هذا مملح" وهذا "مفلفل"

قلت: "أعطني مقدار كذا من كل نوع"

فوضع المملح في كيس وكتب عليه "مملح" ثم وضع النوع الثاني في كيس آخر وكتب عليه "مفلفل".

كنت ألاحظ حركاته وطريقة تناوله للمواد وتأكدت من أن رغبته في كسب المال لا تزيد قيد أنملة عن رغبته في الخدمة الطيبة وإرضاء الزبائن.

وعندما انتهى من توضيب الأكياس سألته عن المبلغ المستحق، فذكره لي ثم أردف قائلا: "لقد راعيتك إكراماً للأعياد المقبلة علينا فشكرته وودعنا بعضنا بتبادل العبارات والأماني الطيبة.

في مناسبات أخرى يكون أحياناً مشغولاً بخدمة زبائن آخرين فأطلب منه بعض الأكياس الفارغة أضع فيها المشتريات، وعندما يأتي دوري للدفع أبدأ بتفصيل ما وضعته في الأكياس فيقول لي "لا حاجة للتفقيط" إشارة إلى الثقة ما بيننا.

أسعار صديقي مناسبة جداً قياساً على بائعين آخرين، أما ما يتمتع به من حالة نفسية إيجابية فقد يعود إلى تعامله مع منتجات الطبيعة الأم .. المغذية و الزاخرة بقوة وبركة الحياة.

تلك هي قصة صديقي المزارع يا أصدقاء


 

ولنا مع السمعة وقف

 

قال ما تعريفك للسمعة؟

أجاب: هي ما يعتقده الناس بنا وما يعرفه الله عنا.

قال: وما هو تقييمك للإسم؟

أجاب: إنه أثمن جوهرة يمكن أن يمتلكها المرء وينبغي أن يعرف قيمتها ولا يفرط بها.

قال: وما الطريقة الأمثل لاكتساب الصيت الحسن؟

أجاب: لقد نصحنا سقراط بأن نسعى كي نظهر كما نرغب أن نكون.

قال: وما رأي الحكماء في ذلك؟

أجاب: الحكماء هم أكثر رغبة في استحقاق الإسم النظيف بدلاً من امتلاكه، وبذلك يعيشون حياة طبيعية كريمة بحيث لا يخشون حتى من الموت.

قال: وما هو الدليل على امتلاك السمعة الطيبة؟

أجاب: الحكم الرشيد والتعامل المنصف والاستقامة وإكرام الحق.

قال: وبماذا يمكن تشبيه السمعة الطيبة؟

أجاب: يمكن تشبيهها بنبتة غضة إنما بطيئة النمو. فهي لن تنمو بليلة واحدة مثل يقطينة النبي يونس، لكنها كاليقطينة يمكن أن تتلف بيوم واحد.

قال: وما رأيك بقول شكسبير: "لقد فقدت الجزء الخالد من كياني بفقداني سمعتي"؟

أجاب: ما دامت السمعة قائمة على الأخلاق الفاضلة فلا خوف عليها من الضياع حتى ولو عمد البعض إلى تلطيخها وتشويهها ستحتفظ مع ذلك بمقوماتها الجوهرية الأصيلة.

قال: أيهما في تقديرك أهم: الصيت أم المبادئ؟

أجاب: الصيت دون مبادئ هو نحاس يطن وصنج يرن. فالإنسان قد يكون أفضل من صيته لكن ليس أفضل من مبادئه. الصيت قد يكون أرحب من الفضاء في حين الخُلق هو الأساس ونقطة الإرتكاز.

قال: وما رأيك بالتفاخر بالأنساب؟

أجاب: هذا السؤال أجاب عنه أكثم بن صيفي بقوله:

وما شرفُ الإنسانِ إلا بنفسهِ

أكانَ ذووه سادةً أم مواليا

3:23

 

أربعون عاماً على تبادل البطاقة الأولى

 

كان ذلك في عام 1973 عندما استأجرت بيتاً في مدينة وندزر بمقاطعة أونتاريو في كندا، وقد قابلت صاحبيّ البيت المستر والمسز دايموند لمرتين فقط إذ كانا يعيشان في مدينة أخرى، وفي نهاية العام تلقيت بطاقة معايدة منهما فبادلتهما ببطاقة مماثلة.

في عام 1975 غادرت البيت إلى مكان آخر ولم أرهما بعدها.. وبحدود هذا الوقت من ذلك العام أرسلت لهما بطاقة معايدة تحمل عنواني الجديد فأتتني منهما بطاقة خلال فترة وجيزة.

غيّرت السكن أكثر من مرة في تلك المدينة وهما أيضاً انتقلا إلى مناطق عدة، وبقينا مع ذلك نتبادل البطاقات وشعرنا أننا قد أصبحنا أصدقاء.

غادرت كندا إلى الولايات المتحدة في عام 1980 وبقينا على تواصل، ولم تمر سنة واحدة دون أن نتبادل البطاقات.

واليوم استلمت منهما بطاقة المعايدة لهذا العام وفيها ما فيها من مشاعر المحبة والصداقة والإهتمام الودي والأماني الطيبة.

 

إن شئت أن تذهب يا صديقي

إلى أماكن العبادة

حيث الأجواء الروحية الهادئة

فعلى بركة الله..

فإحناء الهامة تواضعاً

من الشعائر المستحبة

وكذلك ضم الأكف إلى بعضها

وتحريك الشفاه بالدعاء

ولا ضير من إيقاد الشموع

وحرق البخور

وعد حبات السبحة

إن شئت..

ورائع وضع ما تجود به اليد

في صندوق التبرعات

إنما لنتذكر يا صديقي

أن القلب هو ما ينظر إليه خالقنا

قبل كل شيء

وفوق كل اعتبار

وأن روح العبادة

تكمن في المعاملة الطيبة

التي نعامل بها بعضنا

وكذلك إخوتنا في البشرية

الذين تربطنا بهم

صلة الإنسانية.

فإن أحسنا المعاملة يا صديقي

فقد نسمع صوتاً خفياً خفيضاً يهمس:

أحسنت.. وها أنا ما زلت معك!

مع انبلاجة الفجر

ويقظة الفكر

وتلاشي ظلال الوهم..

وعندما يشرق نور الفهم

بروعة متناهية..

أبهى من ألق الصباح

وأحلى من النهار الوضاح

ستجدني عندها معك!

 

من يقتلع الأشواك؟

 

في المثل "كل واحد يقتلع شوكه بيده"

هذا قد يكون مقبولاً إن كان الهدف منه بعث الثقة في النفس

و تشجيع الآخر على تفعيل قدراته الكامنة

الكفيلة - لدى إيقاظها - باقتلاع شوكه وشوك الآخرين أيضاً.

أما إن كان المقصود من المثل التنصل من المسؤولية تجاه الآخر

فهو مردود وموؤود لأنه ينطوي على أنانية بغيضة

وقانا الله وإياكم منها ومن شرورها.

لا يوجد من لم تخزه شوكة

ولا يوجد من يستطيع اقتلاع كل شوكه بيده.

أذكر أن أحد الأساتذة درّس في قريتي الرحى أيام زمان

ومع انتهاء الفصل الدراسي وحلول العطلة الصيفية

أتى بجَمل وحمّله بما لديه من أثاث متواضع

ثم ركب فوق الأثاث، وانطلق بعد أن ودعه أهالى الرحى

شاكرين له تفانيه وجهوده المخلصة في تعليم أبنائهم.

توجّه الأستاذ الطيب الذكر إلى قريته في ريف السويداء الجنوبي

وفي الطريق رأى الجمل شيئاً أجفله

فرمى بالأثاث وبالأستاذ وسط أرض بور تغص بالأشواك

فما كان منه إلا أن عاد أدراجه إلى الرحى

واختار أن يكون ضيفنا الأثير

لأنه كان صديقاً لشقيقي المرحوم حمد

وما أن علم تلامذته المخلصون بما حدث

حتى توافدوا لتحيته من جديد، فرحين بعودته

وراحوا يتناوبون على اقتلاع الشوك من جسمه.

تلك كانت لحظة مؤثرة، تزخر بمشاعر الود والحميمية.

أجل.. **الحياة فيها الكثير من الأشواك، لا سيما اللامنظور منها

فيها أشواك قلق

وأشواك خوف

وأشواك ألم

وأشواك هموم ضاغطة

وأشواك تحسّبات لمفاجآت غير سارة

وأشواك مرارة وحزن وقنوط

والنفوس الطيبة كنفوسكم الكريمة

تعمل ما بوسعها لاقتلاع تلك الأشواك الواخزة

ولو بكلمة تحمل نغمتها التشجيع

تبعث في النفس الطمأنينة

وتنقل مشاعر المواساة

وتبدد غيوم الهموم

وتوحي بأن الدنيا ما زالت بخير

وأن في الحياة حلاوة أكثر من العلقم

وأن الحزن لا يدوم

وأن رحمة الله لا يقنط منها المؤمنون.

RE 2-22

 

الومضة

 

تحية لجميع الأصدقاء الأعزاء الذين أبدوا إعجابهم

بموضوع "الجوهرة" وأهلاً بكم إلى موضوع "الومضة.

 

نبصرها عند الصباح

مع أول شعاع تطلقه سيدة الأجواء

من عينها التي لا تنام

ونظرتها التي لا تقاوم

فتبهرنا وتوقظ فينا إحساساً صامتاً من البهجة والنشاط..

نلمحها في الظلام فنطمئن لها

ويمر طيفها مروراً خاطفاً في الذهن فنأنس به

ويصوغها فكرٌ في أقصوصة رشيقة وطريفة

أو عبارة معبرة لم نسمعها من قبل

فتلقى لدينا استحسانا

وقد تحفزنا أحياناً لمحاكاتها

فما هي الصلة بيننا وبين تلك الومضة؟

ولماذا تعجبنا وكأنها خاصتنا

و لنا بها النصيب الأوفر؟

لا أعتقد أن شيئاً رائعاً خارج كيان المرء

إلا وله في نفسه نظير

ولا أظن أن أحداً على قدر من إرادة طيبة

لم يختبر تلك الومضة

في لحظة ما من حياته..

إذ قد تبزغ مكافأة لغوص معمق

أو ثمرة لدعاء

من أعماق نفس متعبة

عندما تمس لها الحاجة

فتبدد على الفور

أكداساً من الهموم

بمثل لمح البصر..

وقد تأتي على حين غرة

لبرهة وجيزة

ربما أثناء إغفاءة القيلولة

عندما يتوق الفكر لجرعة من السلام

أو عندما يكون محاصراً

ومنافذ الفرج موصدة

فتجلب معها فيضاً من راحة منعشة

تبدّل على الفور الحالة السابقة لها

ولهذا ينصح الحكماء بالخلود للنوم

عندما تهجم الهموم وتعتكر مياه الفكر.

وقد تأتي أيضاً أثناء التهدئة الواعية

لدوامات الأفكار الشبيهة بالإعصار

من خلال ترديد كلمات مباركة

بتركيز ذهني تام

أو بحصر الفكر

في عناصر إيجابية بحتة

فينبثق من أعماق النفس

إحساس نقي وقوي

ينتهر أشباح المخاوف فتفر هاربة

ويغمر النفس بنشوة محسوسة

ينتقل تأثيرها إلى خلايا الجسم والأعصاب

فترتاح العضلات .. وبالحيوية تفيض

ويلتمع الوجه بوميض.

 

الجوهرة

 

ينعتون بها الأفاضل من الرجال والنساء

وقد اعتـُبرت من أنفس مقتنيات الأباطرة

والملوك والأمراء والأثرياء على مر العصور

لأجلها شـُنت حروب

وكانت من ضمن شروط السلام.

حيكت حولها الأساطير

واقترن لفظها بشيء غاية في الجمال والقيمة والقيم

وحلم بالعثور عليها كثيرون

فحفروا أنفاقاً في باطن الأرض

بحثاً عنها وكأنها إكسير الحياة.

ولقد فكرتُ في طبيعتها

وقرنتُ جوهرها بعناصر غير مادية

فتبادر إلى ذهني أن الجوهرة التقليدية بحد ذاتها

لا تلبي احتياجات الإنسان الحيوية والمباشرة

إذ قد يمتلك جوهرة وتتقطع مع ذلك به السبل

حيث لا ماء ولا زاد

فتفقد الجوهرة قيمتها

ويشتهي بدلاً منها كسرة خبز أو جرعة ماء.

وقد يكون لديه العديد منها فلا ترد عنه المرض

ولا تخفف عنه المصائب

ولا تجلب له السعادة

حتى لو ملأ بها جيوبه والأكياس..

وقد تُسرق منه فينفطر عليها قلبه

ولا يهنأ له عيش بدونها.

الجوهرة في تقديري هي ذات كيان لا مادي

ومن هنا مصطلح "الجوهر"

الذي لا يقبل الإختزال ولا يخضع للفساد

وهذا الجوهر هو عميم النفع لمن يمتلكه

بحيث أن امتلاك الجواهر المادية التي نحن بصددها

لا يقارن بحيازة الجوهر الذي يهب لصاحبه

بهجة متجددة

ومشاعر لذيذة

وحيوية لا تعرف الوهن

ورؤية واضحة

ونشاطاً فواراً

وسلاماً منعشاً

وإلى ذلك مكانه مأمون

أكثر من الكنز المصون

ومن خزائن الدر المكنون

ولا يُفقد ما دام صاحبه لا يفرّط به

وهو عصيٌّ على السلب والإستلاب

ولعل المتنبي ألمح إليه عندما قال:

وإذا كانت النفوسُ كبارا

تعبت في مرادها الأجسامُ.

 

وداعاً نيسلون مانديلا

------------------------


لقد كنت بين ظهرانينا وهجاً نيّراً

وعقلاً زاخراً بأجمل الأفكار وأنبلها

وقلباً موقناً بروعة الحياة وعظمتها.

 

تحليت بالصبر رغم مرارته

واعتصمت بإيمانك الراسخ

بأن الحق فوق القوة

وعرفت كيف تصفح

عندما كان باقتدارك محاسبة سجّانيك

وتبرهن للعالم أجمع

أنك أحد ألمع الكواكب النيرة

في سماء الإنسانية.

 

لقد بزغ ضياؤك كبرق كوني

التمع في مشارق الأرض ومغاربها

وتحولت سيرتك الجميلة

إلى دروس للإستيحاء والإلهام.

 

بددتَ جحافلَ من غيوم الكراهية الركامية

التي حجبت رؤية الإنسان

وناديت بالفهم والتفاهم

وتجاوز بؤر الإساءات الضيقة

إلى فضاءات التضحية

والإنفتاح وقبول الآخر.

 

فتحية لروحك المتألقة

بأنوار السلام والمحبة

ووداعاً أيها البطل!

---------- 

December, 2013

---------

 

وهذه حفنة من التشبيهات

 

قالوا في النقاء:

 

نقي كرقعة ثلج منهمرة من السماء

كإغفاءة الرضيع .. كقلب الحب

كأجواء لم تعرف العواصف أبدا

كنسائم الجبال وينابيعها الصافية

كحلم طفل للتو هبطت روحه من الجنة

كزنابق الحقول .. كالأبرار في الأعالي ..

كنجمة متلألئة في فضائها السحيق

كالشعلة المقدسة في محراب الذكرى

كأفكار وألفاظ الملائكة

كفجر يقظة الروح

كآدم وحواء قبل الإغواء

كبراعم قبل التفتح

كصلوات الأطفال ليس بينها وبين الله حجاب

كتنهدة القديس .. كهالة تحيط به

كأنفاس الصنوبر العاطرة .. كالماء المبارك

كالندى المتساقط من أوراق الورد

كالنفوس الطاهرة

كتصورات الأطفال الأبرياء

كضوء النهار ..

كملاك برداء أبيض يحرس مذبح الطهر

كقلب بتول يستعد لرؤية الله

كالأماني البريئة تطلقها الشفاه عند الدعاء

كالنعمة .. كالإيمان.. كنوايا الصالحين

كالألم الصامت العميق.. كالشمس.. كالحق

كصباح الفردوس..

RE 5-22


 

زُحلٌ كان موطئي إذ رحلتُ

بخيالي وفي السماكِ حللتُ

وصعاباً من مشكلات حللتُ

واجتليت الغوامضَ المبهماتِ

ولقيتُ الحقائقَ السافراتِ

غير أن الآجالَ والموتَ فيها

ذاكَ سرٌ لم أنضُ عنه نقابا

 

- عمر الخيام - ترجمة وديع البستاني

 

لعله قصد بذلك:

 

لقد استخدمتُ وقود التركيز المركز

وأطلقت مسبار خيالي الحيّ

في فضاء الفكر غير المحدود

فتخطيت الأجرام البعيدة

وبلغت آفاقاً مجيدة

وتحررت من نسبيات مقيدة

ونتيجة لذلك التمدد الكبير في الوعي

فقدَتْ المشكلات الصعبة زخمها

وباتت حلولها مفاتيحَ في قبضتي.

وانعتاقي المؤقت من السجن الجسدي ومحدودياته

مكنني من التعرف على الكثير من الحقائق

التي كانت بالنسبة لوعيي الضيق

والمكبل بالكثير من القيود

أموراً مستغلقة يصعب اكتناهها

ومع ذلك..

بقي هناك حجاب رقيق

استعصى عليّ اختراقه

والنفاذ إلى منبلج الأسرار

ومنبثق الأنوار

حيث عرش العليم الخبير

الذي بمعرفته تكتمل الرواية

وتـُبلغ الغاية التي ما بعدها غاية. 

 

ودع الوقتَ بالورى يستبدُ .. لا مردّ لحكمه لا مردُّ

ذرهُ فيهم مستأثراً ما يودُ

وإذا رستمٌ أهابَ لحربِ .. أو دعا حاتمٌ لأكل وشربِ

فأصمَّ المسامعَ.. إلبث فلا ذاك ولا ذا من يستحقُ جوابا

عمر الخيام: ترجمة وديع البستاني

 

قراءة تفسيرية :

 

لعله عنى بذلك:

مهما تجبّر المرء واستكبر

فإن الزمن أكثر جسارة منه وأعظم جبروتاً

ومهما حاول الإفلات من قبضته فلن يقدر

لأن الزمن يتحكم بكل الظواهر والمظاهر الطبيعية

ومن يقرن حياته بتلك الظواهر والمظاهر

فلا بد أنه سيخضع لسلطان الزمن، شاء أم أبى

لكن من يلبث في كينونة الذات

ويتجه بأفكاره إلى أعماقه، استكشافاً لطاقات وإمكانات

فلن يبقى أسير التقلبات والمفاجآت غير السارة

بل سيدرك أن ذاته الروحية

على نقيض المادة الدائمة التغير والتبدل

ذات جوهر ثابت يصمد للصروف على اختلافها

ومن يتماهى مع ذلك الجوهر اللطيف

يكتسب خاصياته ويلامس طبيعته اللامادية.

وإن تنادى مشاهير القادة للحرب

فهناك غاية أسمى من القتال..

وإن جعل أحدهم الكرمَ والضيافة هدفاً في الحياة

فالكرم محطة واحدة على الطريق

ولا بد من مواصلة السير

حتى بلوغ المحجة

قبل أن تأفل شمس العمر

وتدلهم وتتكاثف الدياجير..

 

رباعية – سباعية جديدة مع تفسيرها

 

جاء في مدونة الأستاذ عماد علي بوخمسين ما يلي عن ترجمة وديع البستاني لرباعيات الخيام:

إنها الترجمة الأروع لرباعيات الخيام الخالدة و التي لم تتفوّق عليها ترجمة أخرى حتى اليوم، مع أن الكثيرين طرقوا هذا الباب و حاولوا مداعبة الخيّام و لكنهم لم يصلوا إلى شواطئه كما وصلها وديع البستاني.

في مطلع القرن العشرين، يقول وديع البستاني أنه وجد في المكتبات الأوروبية 152 ترجمة و دراسة عن رباعيات عمر الخيام. و كان دائماً يستغرب لماذا لم ينل الخيّام حظه من الشهرة و التقدير مبكراً لدى العرب كما نالها لدى الغرب… فقرر أن يترجم الرباعيات بصياغة جديدة.

جاءت ترجمة اللبناني وديع البستاني على شكل “سباعيات” بدلاً من “رباعيات” كما في الأصل، و لعل هذا يعطينا مؤشراً على قدرة الشاعر وديع البستاني على الإبداع و عدم التزامه بقيود النص الأصلي. و هذا مثار جدل لدى المترجمين، فأنت إذا حاولت أن تتمسك بالنص الأصلي، فإن ترجمتك قد تكون ضائعة، فلا هي تنتمي للأصل و لا هي تنتمي للوجهة.

وهذا الاجتهاد الذي قام به المترجم في الواقع زاد ترجمته جمالاً و روعة و تفرّدا.

جاءت بعد ترجمة وديع البستاني ترجمات عديدة أشهرها ترجمة أحمد رامي من مصر و ترجمة أحمد الصافي النجفي من العراق، و ترجمة ابراهيم العريّض من البحرين، و ترجمة مصطفى وهبي التل من الأردن، و غيرها و لكنها لم تتفوّق على ترجمة البستاني و إن تفوّقت عليه في الشهرة و الإنتشار.

وهذه واحدة منها:

 

أقبل الفجرُ بهجة يتلالا

فأدرها تزري الصباحَ جمالا

واعتزل حلبة الفـَخار اعتزالا

والأمانيّ خلِّ والآمالا

وتأمل فروعَ هند الطوالا

واسمع العودَ واطرّح عنكَ همّا

واصفُ واهنأ بالكأس عيشاَ وبالا

 

يقول الخيام:

 

ها قد لاحت تباشير فجر اليقظة الروحية

فاغتنمها فرصة نادراً ما تحدث أو تتكرر

وارتشف رحيق غبطة الوصال الإلهي

الذي لا يمكن مقارنة حتى الصباح البهي

بجماله المشعشع الأخاذ

فاختلِ بنفسك إن أردت أن تعرف روعتها

التي تعصى على الوصف

ودعك من الاعتبارات الدنيوية الواهمة

التي تعتبر السطحيات أموراً جوهرية مقدسة

وتضرب صفحاً عن الجوهريات فلا تعيرها كبير اهتمام

ولا تحصر همك واهتمامك بالأماني الدنيوية التي قد لا تتحقق

والآمال التي تذهب أدراج الرياح

وبدلاً من ذلك، اجلس تحت شجرة المدركات الروحية

ذات الفروع الباسقة والممتدة في كل اتجاه

واصغ للأنغام الأثيرية الصادرة عن موسيقى الأفلاك السماوية

التي بسماعها يصفو العيش وتتبدد الهواجس وتنزاح الهموم

وما دمتَ قادراً على التواصل مع البُعد الأثيري الزاخر بالمسرات

فاشرب ما طاب لك من كأس المدركات العليا

واهنأ بتجربة روحية يعرفها التواقون المشتاقون

ولا يطيب لهم العيش بدونها.

 

"رباعية" وتفسيرها

 

صاح ِ هذي قوافل الأيامِ

مسرعاتٌ بنا إلى الإعدامِ

فتملص من ربقة الإهتمامِ

لغدٍ فيه سوف يُبكى علينا

وقليلٌ من الزمان لدينا

فاغتنمهُ واسكب وهات وخذها

وانتهب فرصة البقاء انتهابا

عمر الخيام – ترجمة وديع البستاني

 

ما أقرؤه في هذه الأبيات للحكيم عمر هو الآتي:

انتبه جيداً يا صديقي

فقطار الأيام لا يتوقف

بل يمضي بنا بسرعة مذهلة نحو العدم

وقليل منا من يتنبّه ويحاول جاداً الوقوف على السر

من هذا الوجود الأرضي الموقوت

لأن الناس يكبلون أنفسهم بهموم الدنيا وشواغلها

التي لا تقف عند حد

وبذلك يخفقون في معرفة غاية الحياة

ويودّعون هذا العالم دون زاد يتزودون به

يدفع عنهم سغب الروح الذي لا يشبعه

سوى معرفة يقينية للذات

وملامسة فعلية للحضور الإلهي.

فلا تسمح يا صديقي لهموم هذه الدنيا الخانقة

بأن تتكاثف عليك وتصدك عن معاينة شمس اليقين

فالعمر قصير ولا يجمل بنا التفريط به

دون إحراز ما يستحق الإكتساب

ويبعث على الطمأنينة والرضا.

ألا فلنغتنم الفرصة يا صاحبي

بتساقي شراب الأفكار الملهمة

وتبادل الأحاسيس الروحية المثملة

فللحياة هدف يعرفه اليقظون

ويعز عليهم مغادرة هذا المسرح الأرضي

قبل الانعتاق من قيود الجمود

.وبلوغ الهدف المنشود

 

ألحان بريئة

للشاعر وليم بليك

 

وأنا أتمشى في البرية وسط الوديان

وأعزف على شبابتي لحناً طروباً

رأيت طفلاً يتهادى على سحابة

فقال لي ضاحكاً:

 

"اعزف لحناً عن خروف"

فعزفت والبهجة تملأ قلبي.

فقال: "أيا عازف! اعزفها من جديد"

عزفتها له فاستمع إليها باكياً.

 

ثم قال:

"أترك شبابتك السعيدة

وانشد أغانيكَ المفعمة بالفرح"

فرحت أغني ما كنت أعزفه

في حين كان يبكي فرحاً لسماعها.

 

ثم قال:

"يا عازف الشبابة

أجلس ودوّن في كتاب

شيئاً يقرؤه الجميع."

ثم توارى عن عينيّ

فاقتطفت قصبة جوفاء

وصنعت منها قلماً ريفياً بسيطاً

ولوّنت الماء الصافي القراح

ودوّنت أناشيدي السعيدة

لعلها تدخل البهجة

إلى قلب كل من يسمعها من الأطفال.

 

Reeds of Innocence

William Blake

RE 2-22 

 

من الأرشيف: القلب يروي قصته

------------------------------------

لقد صوّرني خالقي نقياً كشعاع النور

صافياً كسماء الربيع وضحكة الرضيع

وغطى أرجائي بتربة طيبة

نثر فيها بذوراً مباركة لا تنبت عداوة أو استئثار..

وفجّر من بين شغافي ينبوعاً من الحب الرقيق الرقراق

وغلفني بهالة أثيرية

تتكسر عليها حراب القسوة

ونبال الشراسة

وسكاكين الحقد

كاتمة للغيظ..

لا ينفذ منها غرور أجوف..

وقدمني هبة أنقى من الذهب الخالص

لأنفسٍ أطلقها من كيانه المطلق.

احتفظتْ بعض النفوس بي على ما فُطرت عليه

فعاشت بأمن وأمان وراحة واطمئنان

مبتهجة بخمائلي المتأرجة..

متنسمة عبق الحب والسلام..

ثملى بترانيم الحياة البسيطة.

لكن كثيرين شاؤوا أن يبدّلوا طبيعتي وطبعي

ويضيفوا إلى عناصري الجوهرية مكوّنات

فنفثوا في فضائي بخاراً من الأفكار كثيف

استحال سحباً ربداء دكناء..

وغرسوا في تربتي بذور رغبات أنانية

فأنبتت وساوسَ وجزعاً وأوهام..

وحاولوا تنقية مائي القراح

فصبوا في ينبوعي مواد غريبة

لوثت مياهي الكريستالية

فانبجست فوارات هائلة

من احتقان آسن واضطغان أثيم.

ثم أرادوا تحسين حالتي وتعزيز هالتي

فعالجوها بأدوات حادة من التعجل والعبث

ومزقوها شر ممزق..

لذلك فقدتْ قدرتها على الدرء والحماية

فحصل في ساحتي هرج ومرج ..

واختلط الحابل بالنابل..

وتكاثرت وتعاظمت المشاكل ..

كل ذلك بفضل تفنن الإنسان غير المحسوب

ولوذعيته التي لا يُحسد عليها.

 

ولنا مع الكلمات وقفة

-----------------------

في الطبيعة ظواهر عديدة

سأختار منها الشمس والمطر والبَرَد والأعاصير

وأحاول عقد مقارنة بسيطة بين هذه الظواهر والكلمات.

الشمس تمنح الدفء والنور والنماء

والكلمة الطيبة فيها دفء للمشاعر

وإضاءة لزوايا غامضة

وتنمية لعلاقات ودية.

المطر ينعش النبت

وكذلك الكلمة الودودة تنعش المشاعر.

أما البّرّد فضرره يعرفه المزارعون وغيرهم

وكذلك الكلام الجارح الممض

له نفس الوقع والتأثير في النفس.

الأعاصير لا تخلّف سوى الدمار

وهذا ينطبق على الكلام المشحون بالحقد والغيظ

الصادر عن أفكار ظلامية رقطاء

فإنه يتسبب بحوادث مُرّة وكوارث خطيرة.

الكلمات فيها طاقات هائلة للتعمير أو للتدمير.

للتعزية وجبر الخواطر

أو لتحطيم النفوس وتهشيم المشاعر.

هناك كلمات تخلق البلبلة والتشويش

وكلمات تبدد الهموم وترطب القلوب..

كلمات تشعل حروباً شعواء

وكلمات تلطف الأجواء

وتخفف المصائب والأعباء.

لقد وهب الله الإنسان ملكات عديدة

ومنها القدرة على التعبير عن نفسه

بالكلمة المنطوقة والمقروءة والمسموعة

من أجل التواصل الحميم بين الناس

فالبشرية أسرة واحدة

بغض النظر عن الاعتبارات الظاهرية المتباينة.

فلتكن الكلمة أداة للتقريب لا للترهيب

لبث الطمأنينة لا لنشر الذعر

لترسيخ الوئام لا لزرع الخصام

لإزالة العوائق والعقبات

لا لملء الدروب بالأشواك والعثرات.

قال السيد المسيح: "بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان"

وفي الآية الكريمة نقرأ:

{كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}

ويفيدنا الكريزي من الشعر بيتاً أو اثنين، إذ يقول:

أقللْ كلامكَ واستعذ من شرهِ

إن البلاءَ ببعضهِ مقرونُ

واحفظ لسانكَ واحتفظ من غيهِ

حتى يكونُ كأنهُ مسجونُ

 

وأنا في طريقي...

--------------------

 

وأنا في طريقي

 

مررت بشيخ طاعن في السن

 

ملتهب العينين، فقال لي:

 

"مهما ضحكتِ وتبادلتِ أرق تعابير الحب

 

ستصيرين مثلي ذات يوم."

 

فلم أصدقه

 

وسارعت الخطى كي أتجاوزه وأبتعد عنه

 

وأنا أقهقه بضحكة مجلجلة.

 

لكن في يوم آخر

 

أطلق نفس العبارة

 

لأن ضحكتي على ما يبدو أحزنته

 

فصدقته هذه المرة!

 

واهتززت كما تهتز الصفصافة في الجدول

 

وارتعشت كما يرتعش الثور تحت المنخس

 

وترنحت ترنح المستعبَد الكادح تحت عبء ثقيل

 

وتمايلت تمايل القصبة تحت زخات المطر

 

وتلويت ألماً كالعليل

 

وذعرت كغزالة مطاردة من كلاب الصيد

 

وشعرتُ كأنني جثة حديثة توسدت باطن الأرض.

 

سلامتكم قراءنا الأعزاء

دامت ابتسامتكم وتحية طيبة لكم.

 

As I Went By

Rose O'Neill 

 

الحب حبيب الله

------------------

 

وهذه قصيدة عتيقة نظمها ناسك إنكليزي منذ حوالي 700 سنة

وربما تترجم إلى العربية لأول مرة:

 

خفيفٌ هو حِمل الحب

 

الذي يبهج الصغار والكبار

 

على حد سواء

 

وقد أخبرني العاشقون

 

أن الحب لا توجد فيه لواعج أحزان

 

وأنه شراب أثيري مثير

 

يجعل الشخص كبيراً ذا شأن

 

ويمنحه إقداماً وجرأة

 

وبأن لا أشواك فيه يحتضنها القلب.

 

والحب هو أعذب الأشياء التي

 

تذوقها البشر على هذه الأرض

 

وهو حبيب الله

 

الذي يشد اللحم إلى العظام

 

فلنتشبه بالحب

 

إذ لا أعرف ما هو أنسب منه وأفضل

 

أما بالنسبة لي

 

فإن الحب يوحدني مع محبوبي

 

Love

Richard Rolle of Hampole

RE 4-22 

----------- 

عثور على الذات


انطلقتُ أبحثُ عن ذاتي

فلم ألقَ سوى الإخفاق

ورحتُ أطلبُ ربي

فما شعرتُ بالخلاّق

وقلتُ أنهي مشواري

بالاطمئنان عن جاري

وإذ بي أجدُ ذاتي

وأحظى برضا الباري

RE 2-22

 

أتخيلك تعشقين سكينة الصحراء

وتتلمسين بارقات الأمل

في عتمة الحيرة

وتسافرين مع نسمات الخريف

إلى خمائل الصفصاف البعيدة

حيث تتضوع التربة

عبق الجمال ونبض المعاني.

وأتصور روحك الوالهة

تستريح في ظلال الأدواح

وسط رياض الياسمين والليلك الأبيض

على ضفاف جدول الأماني

وقد ملأتها الدهشة

وأحاطت بها هالات من الحنين.

وبين الفينة والفينة

ألمح طيفك يخطر بين زنابق الوادي

يتهادى مع شعاع الصباح

تغمره بهجة اليقظة

ويستلذ حلاوة الأحلام.

وأحياناً...

أراكِ هائمة كالسحاب

هامسة كهينمة النسيم

منتشية بالسحر الآسر

وحيدة كالشمس.

 

كوني عمقي أيتها السماء...

-------------------------------

مناجاة الشاعرة العازفة ليونورا

---------------------------------

 

خذي مقاساتي أيتها السماء!

واخبريني أنني بأغنية (تنفي الهموم)

يمكنني الإقتراب من النجوم!

 

خذي وزني أيتها الريح!

واخبريني..

ما إذا كانت موازينك تسجل فوائدَ أم آلام؟

أم أفراحاً بوزن الكلام؟

 

حاول أيها الأفق

أن تصل إليّ

أمسك بيديّ

وخدني بجذبة إليك!

 

ويا محيط الكرة الأرضية

وسّع بفكرةٍ واحدة

مجال رؤيتي

 

كوني عمقي أيتها السماء

وكوني طولي وعرضي أيتها الريح

ويا أيها العالم

كن امتداداً لقلبي

ويا أيتها الوحدة

كوني جناحاً لتحليقي

 

ليونورا سبيار 

 

November, 2013

 ---------------

 

ولنا مع الإرادة وقفة...

------------------------

الإرادة هي من أقدس الهبات التي امتن الله بها على الإنسان. وهو سبحانه يريدنا أن نستخدمها في كل ما نقوم به. ولم يمنحنا الإرادة وحسب، لأنه لو فعل ذلك لجاءت إرادة عمياء لا تحسن التمييز بين الحق والباطل والخطأ والصواب. بل رحمة منه أردفها أيضاً بهبة العقل وكذلك بملكة التمييز بين النافع والضار والمعقول واللامعقول.

ولا يضيرنا القول أن إرادة الإنسان مهما كانت جبارة لا يمكنها التعامل دوماً وبمفردها بنجاح مع كل مسائل ومشاكل الحياة. وفي ذلك حكمة لأولي الألباب.

المهاتما غاندي كان صاحب إرادة جبارة تمكن بفضل توجيهها في المسار الصحيح من تحرير بلاده بالوسائل السلمية من قبضة أعتى قوة استعمارية عرفها التاريخ الحديث.

هذا فعله لأنه كان دائماً وأبداً يطلب العون والإرشاد من الإرادة الإلهية. فهو لم يَقدم على عمل كبير أو صغير قبل التوجه بكليته إلى ذلك الوعي الأعظم طالباً الهداية والعزيمة الموجهة بالحكمة والسداد. وهكذا كان ناجحاً في حياته مثلما احتل منزلة رفيعة في نفوس محبي العظمة والبطولة واللاعنف وما زال، حتى بعد مضي خمسة وستين عاماً على رحيله.

وبما أن إرادة الإنسان غير قادرة على التغلب بمفردها على ما يعترضها من عوائق وتحديات فلا بد أن يستعين الإنسان بمصدره ملتمساً العون والإسناد في معركة الحياة. ما عدا ذلك لن يحرز نجاحاً فعلياً ولن يتمكن من مقارعة الأحداث بمفرده. بل وقد تأتيه مفاجآت غير متوقعة تجعله يعيد الحساب ويسعى لانتهاج مسالك الصواب.

فالله هو الذي يمنح للوعي نوراً

وللإرادة عزيمة

وللبصيرة هداية

وللقلب طمأنينة

ومن يتوجه إليه بأمل ورجاء لا بد أن يحصل على مبتغاه لأنه سبحانه أكرم من أن يحرم سائليه أو يخذل المتكلين عليه. وصدق من قال:

من يسأل الناسَ يحرموه

وسائل الله لا يخيبُ!

 

من الأرشيف: قصة الراعي الذي تاقت نفسه للتجارة

أصدقائي الأعزاء:

بين يديّ اليوم كتاب قديم بعنوان Fables of Aesop and Others (حكايات إيسوب وغيرها من القصص والحكايات)، إعداد وترجمة رئيس شمامسة هيرفورد الدكتور صموئيل كروكسال.

طُبع الكتاب بتاريخ 1 أيار 1722 كتقدمة إلى اللورد سنبوري، بارون هاليفاكس. والنسخة التي أترجم عنها هذه القصة تقع في 329 صفحة ويعود تاريخها إلى سنة 1811 وهي الطبعة التاسعة عشرة نظراً لما حظي به الكتاب من شعبية كبيرة في تلك الأيام. والآن تفضلوا إلى قراءة القصة:

يحكى أن راعياً كان يرعى أغنامه بالقرب من البحر. وفي يوم من أيام الصيف حيث كانت السماء صافية والجو رائقاً اقترب بقطيعه من الشاطئ فجلس على صخرة ليستمتع بالنسيم البارد القادم من البحر الذي بدا صقيلاً هادئاً والحوريات ترقص وتتمايل على صفحته الزرقاء.

اهتز قلب الراعي فرحاً والتهب حماساً ورغب في أن يصبح تاجراً، فقال مخاطباً نفسه:

"آه كم سأكون سعيداً لو أتيح لي أن أحرث هذا السهل المائي الفسيح بقاربٍ صغير متين ينقلني إلى أجزاء بعيدة من العالم بدلاً من حياة الرعي الخاملة هذه وسط قطيع من الأغنام.

سأعمل بالتجارة وأحقق أرباحاً طائلة، وفي فترة قصيرة سأصبح ثرياً موفور الجاه، يشار إليّ بالبنان ويختصني الناس بالإكبار والإعتبار."

خلاصة القول، تحولت فكرته إلى قرار فسارع إلى بيع قطيعه وكل ما لديه واشترى قارباً صغيراً وجهزه لرحلته العتيدة بعد أن ملأه بشحنة من التمر وانطلق قاصداً أحد الأسواق عند الشواطئ الآسيوية على بعد حوالي خمسمائة فرسخ من الشاطئ.

وما أن قطع مسافة قصيرة حتى هبت عاصفة قوية وراحت الأمواج الصاخبة تتقاذف القارب في كل اتجاه، فاضطر لأن يلقي بالتمر في الماء لتخفيف حمل القارب.

بعد ذلك قذفت موجة عاتية قاربه نحو الشاطئ فارتطم بأحد صخوره وتفككت أجزاؤه. أما هو فقد نجا دون أن يُصب بأذى.

وإذ فقد كل ما لديه ذهب إلى الرجل الذي اشترى أغنامه وطلب منه أن يشغله عنده كراع ٍ للقطيع فوافق على طلبه وعاد صاحبنا لرعي الأغنام من جديد.

وذات مرة جلس في نفس المكان كالسابق وقد بدا البحر ساكناً هادئاً، فخاطبه قائلاً:

"أيها البحر.. يا لك من مخادع تغري الناس لتغدر بهم. لن تتمكن من استهوائي مرة ثانية فقد تعلمت درساً قاسياً لكنه مفيد وصرت بفضل تجربتي يقظاً وقررت أنه مهما كانت ظروفي وأحوالي فلن ألقي بنفسي ثانية في لجتك التي لا ينبغي الوثوق بها أو الركون إليها."

 

من الأرشيف: بركات و براكين

--------------------------------

إنني من المؤمنين

بأن الأفكار أشياء

لها أجسام وأجنحة

وقادرة على التنفس

وبأننا نرسلها لتملأ العالم

إما بالخير أو بالشر.

إن ما ندعوها أفكارنا السرية

تنطلق بسرعة

إلى أبعد أركان المعمورة

وتترك حيث ذهبت

إما بركات أو براكين

كما لو كانت آثارها

التي تخلفها وراءها.

هذه الأفكار لها حياة

ولها القدرة

على التحليق والطيران

وعلى التعمير أو التدمير.

إذ قد تكون كالنسائم المنعشة

أيام الصيف

أو كريح السموم

أو الحمى الصفراء

التي تنشر الموت والفناء

حيثما أطلقت

أنفاسها الخبيثة القتـّالة.

وبعد أن نكون قد نسينا

بعض أفكار متلاشية

أو تخطيناها بمراحل

تعود إلى عقولنا

لتعشش من جديد

إما حمائم وديعة

أو كواسر جارحة.

فلتكن أفكارنا السرية

وردية وودية

لأنها تلعب دوراً حيوياً

في صياغة العالم

وتحديد مصيره.

حقاً إن النظام الإلهي

غاية في الدقة والتعقيد!

 

الفكرة

-------

 

للشاعر وليام برايتي راندز

-----------------------------

 

في يوم صيفٍ مشمس ٍ

 

أرسلتُ فِكرة للسماءْ

 

لتنطلقْ نحو الألقْ

 

حيثُ تشع الشمسُ في صمتٍ عميقْ

 

فجابتْ الصقعَ السحيقْ

 

وسألتها عند الرجوع:

 

أي فكرتي!

 

ماذا رأيتِ في المساحات الرحيبة؟

 

لكنها لم تعطني أدنى جوابْ

 

بل أطلقتْ نـَفـَساً عميقاً

 

خِلتهُ فصل الخطابْ

 

عما رأته فكرتي

 

وسْط الفضاءات المضيئة ْ..

 

ورأيتُ وهجاً يسطعُ

 

منها جلياً ظاهرا

 

فعلمتُ أنها عُمِّدتْ

 

بإشعاعاتٍ باهرة ْ

 

William Brighty Rands

 

قاطع الطريق وبوذا

يحكى أن قاطع طريق رأي ذات يوم بوذا فامتشق سيفه وهجم عليه ينوي الفتك به لكنه لم يتمكن من الوصول إليه مع أن بوذا كان على مقربه منه. أخيراً ناداه قائلاً:

"اثبت أيها الناسك حيث أنت.. لا تتحرك ولا تحاول التملص والهروب"

فأجابه بوذا:

"أنا ثابت لا أتملص، بل عليك أنت أن تتعلم الثبات"

تركت كلمات بوذا أثراً غريباً في نفس الرجل فرمى بسيفه جانباً وطلب من بوذا أن يساعده كي يتمكن من الدنو منه ومعاينته وجهاً لوجه ففعل بوذا ذلك، وعندما وصل إليه لقّنه كيفية تهدئة الفكر المضطرب والحواس الناشزة. دخلت كلمات المتنور بوذا قلب قاطع الطريق فغيرته وجعلت منه رجلاً طيباً، محباً للسلام والخير والناس وأصبح قلبه هادئاً وصافياً بهدوء وصفاء بحيرة في يوم مشمش حيث لا عواصف تضرب ولا مياه تضطرب.

 

حكاية الفول الأخضر وروح العطاء

------------------------------------------

عندما كنت طفلاً رافقت ذات مرة المرحوم والدي إلى المدينة في الصباح الباكر ورحت أتنقل بين المحلات التي يؤمن أصحابها بأن البركة في البكور، وكان أحد البقالين قد بسط ما لديه من فواكه وخضروات أمام المحل، فاستوقفتني معروضاته، وقبل أن أقرر ما سأشتريه، رحت أتأمل بإعجاب بضاعته المصفوفة بأناقة وترتيب من خوخ أو برقوق وجنرك (جرنك) ودراق ومشمش وسفرجل وتفاح وغيرها من الخيرات.

طالت وقفتي تلك على نحو استنفد صبر البقال فحدجني بنظرة تنم عن إزعاج وكأنه حدسَ ببصيرته الثاقبة أنه لا تلوح في الأفق بوادر لصفقة بيع ذات شأن، فما كان منه إلا أن أمسك بقرنين من الفول الأخضر ودسهما في يدي قائلاً بلهجة حادة "خـُذ"، فأدركت بأنه يريدني أن أنصرف من أمام بسطته، فغادرت المكان على عجل، تاركاً الفول في يده. برجاء عدم ذمه لأن الرجل حاول أن يعطي ولو على طريقته الخاصة ولم أكن لأذكر الحادثة لولا ملاءمتها لسياق الموضوع.

بعد ذلك بفترة، وبينما كنت سائراً في أحد شوارع القرية قابلت رجلاً طيباً غدا مضرباً للمثل في الأريحية والسخاء هو الشيخ أبو يحي إبراهيم أبو صعب رحمة الله عليه، ومن غريب المصادفة أنه كان يحمل في جيبه فولاً أخضر، وقد رأيته من بعيد وهو يستخرج حبات الفول من القرون ويأكلها، وعندما اقتربنا من بعضنا تهلل وجهه وأخرج جميع قرون الفول التي في جيبه وكوّمها بين يديّ حتى قبل أن أبادره بإلقاء السلام ، قائلاً "خـُذ يا عمي خُذ".

شعرت على الفور بكرمه وطيبة نفسه، وها أنا أذكره بالخير بعد عشرات السنين.

والآن تفضلوا لنقرأ ما قاله الفلاسفة والمفكرون عن الهدايا والعطاء في موسوعة الأفكار:

تتوقف نوعية العطاء على نفسية العاطي، وأخلاق العاطي تظهر في كيفية العطاء.

هناك أناس يشبه عطاؤهم اللكمات والمطارق، وهناك كلمات هي سخاء بحد ذاتها.

يجب أن يعطي المرء بنفس الطريقة التي يتقبل فيها العطاء.. بسرعة وفرح وبدون تردد، لأنه لا بركة في منفعة تظل ملتصقة بأصابع اليد.

العطاء برضاء هو علامة من علامات الحب.

أعطِ أيها الإنسان على قدر إمكاناتك، وإلا سيجعل الله إمكاناتك على قدر عطائك.

إن نوع الهدية وقيمتها ومظهرها وما يرافقها من صمت أو مفاخرة وجعجعة.. والكيفية التي يتم بها تقديمها للآخر.. كل هذه تقرر نبل العاطي أو فظاظته.

ذوو النفوس الكبيرة لا ينظرون إلى عطاء المحب بل إلى محبة العاطي.

بعض الناس أبطال عندما يتعلق الأمر بإنفاقهم على أنفسهم، لكنهم عند العطاء يجبنون.

أفضل العطاء ما يدوم طويلاً وتعطر ذكراه النفوس على مر الأيام.

خير ما يمكن أن يمنحه المرء لعدوه الصفح..

ولغريمه الحلم ..

ولصديقه قلبه..

ولابنه القدوة الحسنة..

ولوالده الإكرام..

ولأمه التصرف الذي يبعث على الإعتزاز..

ولنفسه الإحترام..

وللناس المحبة والأماني الطيبة.

كل هدية مهما كانت ضئيلة هي في الواقع كبيرة

إن تم تقديمها بلطف ومودة.

من يعطي بزهو وخيلاء عطاؤه هو مجرد طمع في ما يمكن أن يحصل عليه في المقابل.

القلب المحب يجعل الهدية ثمينة وعظيمة الوقع في نفس المُهدى إليه.

 

سُئل أحد الحكماء عن تعريفه للأنانية فأجاب:

لا يُدعى الإنسان أنانياً

لأنه يعمل من أجل صالحه

بل لأنه يَعمد إلى تحقيق مصالحه

وتنفيذ مآربه على حساب الغير

وبتصرفه هذا

يزيح تربة التكافل الإجتماعي

من تحت قدميه

كما لو أنه يحفر قبره بيديه

وعاجلاً أم آجلاً

تتضافر قوى الكون وقوانينه العادلة

فتدفعه دفعاً إلى لَحده

وتطمّه بركام الألم والحسرة والمعاناة

التي سببها لغيره.

فمن ينتهج الأنانية سبيلاً

ويتهافت على الإمساك بكل ما تصل إليه يده

دون حسيب أو رقيب

سيفقد في النهاية كل شيء

ويُلفظ من هذه الدنيا

التي غالى بها وتكالب على حطامها

عارياً إلاّ من ثوب العار

مهجوراً من القريب والغريب

محروماً من الأحدوثة الطيبة

والثناء الحسن.

أحسن الله لكم ولنا

 

خميرة دون رتوش

--------------------

لا أقصدُ حشيشة الدينار

ولا خميرة العجين

بل غيرها .. قوية المفعول

تخمّر الأفكارَ والعقول

تسري إلى الكيان

من مصدر ٍ محجوب

تطعّم الوجدان

في الفرد والشعوب

فتبقى في الأجيال

وتـَظهرُ في القول والفعال

جلية ًدونَ رتوش.

نِعمَ الخميرة الصالحة

من مصدر ٍ كريم

ذاتية التجديد

تأثيرها عظيم

تعمل بانسجام

وعيشُها المباركُ

محبة مع سلام

 

كثيرة هي الأعياد

التي وإن اختلفت تسمياتها

لها مع ذلك في النفوس وقع العيد السعيد:

فالمحبة عيد..

وكذلك التفاهم الودي

والوفاق المجتمعي

والتعاطف الوجداني

والصداقة الصادقة

والإحترام المتبادل بين الأفراد والمجموعات

وتنقية الأجواء من الملوثات الفكرية

وبث واستقبال نوايا الخير

والتعاون على البر والتقوى

ونشر وتعزيز السلام

 

ذلك المصنع العجيب

-----------------------

هذه الطبيعة الخالدة تضم في قلبها أسراراً كثيرة في انتظار من ينقب عنها ويكتشف روعتها.

العلماء اكتشفوا وما زالوا يكتشفون الكثير من أسرارها العلمية، لكن أسرار قلبها لا تعطى إلا لمحبيها والمقتربين من محرابها القدسي بدهشة واحترام.

ماذا عسانا أن نجد في قلبها لو تمكنا من الوصول إلى ذلك القلب الزاخر بالكنوز؟

أول ما قد نبصره هو تلك الأفكار الإلهية التي هي البذور الأولية التي نثرها الزارع الكوني وما زالت تجدد ذاتها بديمومة سرمدية ودقة متناهية لا محل إطلاقاً فيها للخلل أو الخطل.

ثم نرى المظاهر الكونية معكوسة في ذلك القلب الكبير ...

وإن أصخنا السمع لترانيم ذلك القلب فقد نسمع أنغاماً من غير هذا العالم توحي باتصال الحياة على كافة المستويات.

وما من شك أيضا أن الطبيعة هي أبرع وأدق مترجم لعظمة الله ومجده. فمن يتفكر بأشجار السنديان ذات الإرادات الجبارة ودوالي أو (ديّارات) العنب في الكروم الكريمة، والمروج المزدانة بالزهور الناضرة والحقول المتماوجة بسنابل القمح المباركة يشعر أنه يتوحد معها وينطبع حسنها على صفحات قلبه.

لا حد لجمال الطبيعة الذي متى انتقل إلى النفوس المتناغمة يمنحها ليس الجمال وحسب بل الفرح والمحبة أيضاً وكذلك التفاؤل باستمرارية الحياة وتجددها المتواصل.

والنفوس التي تلامسها الإشعاعات الخفية المنبثقة من قلب الطبيعة تتوحد معها وتتغنى بأمجادها الكامنة أيضا في أعماق النفس.

ومن يسعفه الحظ ويتنقل بين الحقول الزاهرة والجداول المترنمة والأشجار الباسقة وتلامس وجنته النسائم العبقة المشبعة بشذى الزهر يحس بقربه من النبض الكوني الذي جسد هذه الروائع ووضع في كيان الإنسان ذائقة جمالية تتفاعل مع محاسن الطبيعة ويثملها سحر الإبداع وخصوبة العقل الإلهي.

وقد لا يقف البعض عند هذا الجمال الآسر بل تستحثهم هممهم للتعمق في التفكير بذلك المصنع الكوني العجيب الذي يخلق منتجات تامة الإتقان وغير خاضعة للنقد أو التقييم.

فالتقييم والنقد مصدرهما العقل البشري أما تلك الروائع المدهشة فمصدرها العقل الكوني الذي لا قدرة للعقل البشري على معرفة خفاياه إلا بالاتصال به والتوحد معه، والذين يحققون ذلك هم قلائل وقد لا يفصحون عن تجربتهم التي لا قدرة للغة البشر على استيعاب معانيها واحتواء أبعادها.

الطبيعة دائمة التجدد لأنها انبثقت عن فكر أبدي السكون ودائم الحركة في آن.. لا انقطاع لسكينته ولا توقف لحركته. وعندما يقف العقل على الحد الفاصل بين الظلمة والنور واليقظة والنوم والمادة والروح والمد والجزر والحرارة والضوء فقد يدرك أسرار الطبيعة ويا لها من أسرار يلفها الغموض وتغلفها الخفايا، إنما غير مستعصية على محبي الطبيعة وعشاقها.

 

الحاجة هي الحاسة السادسة

----------------------------------

بعض ما قاله الفلاسفة والمفكرون عن الفقر

-------------------------------------------------

الفقر لا يعيب المرء

لكنه يضايقه على نحو مربك..

وهو إغراء للشرير

وقفص للكريم

ولعنة للمتجبر

وقيدٌ للسوداوي الكئيب.

من يعترف بفقره دون وجل

يقضي على وخزاته الحادة

أما المتكبر المحتاج فهو الفقير حقاً.

الفقر ليس عيباً بحد ذاته ولكنه يصبح كذلك

عندما يكون نتيجة للتبذير والحماقة.

الحياة بقناعة يلزمها أقل بكثير من العيش المنعم المترف.

الحاجة هي الحاسة السادسة.

عندما لا يكون لدينا سوى القليل فيجب أن نقنع به، ولهذا السبب فإن الذين يتمتعون بالعيش هم الراضون بأقل ما يمكن تحصيله.

الفقر هو العبء الوحيد الذي كلما زاد ثقله كلما تعاون المحبون على تخفيفه.

من يملك القليل ليس فقيراً، بل الفقير هو الذي يرغب بالكثير.

وحدهم الفقراء هم من يشعرون بشعور المحتاجين.

لم يترك أعظم الفلاسفة التجريديين سبينوزا لأخته مالاً أو بيتاً أو أرضاً، بل ترك لها سريراً وقلماً فضياً صغيراً، لكن أفكاره أصبحت منارة لأعظم مفكري العالم.

ومسك الختام:

{ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}

ويزيدنا الإمام علي كرم الله وجهه حكمة بقوله:

النَفسُ تَجزَع أَن تَكونَ فَقيرَةً

وَالفَقرُ خَيرٌ مِن غِنىً يُطغيها

وَغِنى النَفوسِ هُوَ الكَفافُ وَإِن أَبَت

فَجَميعُ ما في الأَرضِ لا يَكفيها

 

معنى الحياة

--------------

 

مارك توين (1835-1910)، الذي كان يعمل صحفياً قبل أن يعتزل الصحافة ويتفرغ للكتابة والتأليف، كتب يقول عن السعادة التي وجدها أخيراً، وكيف وجدها، قال:

 

"كنت أعطي ولكنني كنت دائماً أتوقع أجراً على هذا العطاء، إلى أن ألمّ بي المرض وحملوني إلى المستشفى..

 

"وعلى الفراش الصغير في الغرفة التي احتواها الألم والسكون تعلمت أعظم درس في الحياة..

 

"كنت أرى الأيدي التي تمتد لتخفف عني آلامي، وكنت أرى العيون التي تنظر إليّ وقد امتلأت بالرفق والعظف والرحمة..

 

"لقد تعاون الجميع على علاجي وعلى إعادة الحياة إلى جسدي المتعب المنهوك..

 

"وشفيت، وقمت من فراشي لأدفع أجر هؤلاء الذين سهروا الليل وضحّوا براحتهم من أجلي.. بضع مئات من الدولارات!

 

"هل كانت أجراً حقاً على ما قدّمه لي هؤلاء؟ وأي أجر هذا الذي يمكن أن يعوضهم عما بذلوا من جهد من أجل شفائي؟ إنني لو قدمت ثروتي كلها لما استطعت أن أرد لهم بعض ما بذلوه من أجلي!

 

"يومها أحسست بأن العطاء لا ينتظر الجزاء.. ويومها شعرت بأنني أستطيع أيضاً أن أعطي دون أن أتوقع أجراً على هذا العطاء..

 

"يومها بلغت قمة النضوج الفكري والعاطفي.. ويومها اكتشفت أن أعظم شيء في الحياة أن يعثر المرء على شيء كبير يستثمر فيه كل جهده ووقته وفكره..

 

عندها فقط يبدأ إحساسه بالحياة ذاتها!"

 

والسلام عليكم

 

مجلة العربي – العدد 194 – يناير/كانون الثاني 1975 

 

فصاح بأعلى صوته "صفـّوا النوايا يا جماعة!"

-------------------------------------------------

تمتاز قريتي الرحى في جبل العرب بكروم العنب الفاخر الذي ذاعت شهرته في المنطقة منذ خمسينيات القرن الماضي، وكان يستقطب تجار العنب من محافظات سورية عدة بل ومن الأردن أيضاً.

كانت شاحنات نقل العنب العملاقة تأتي إلى القرية قبل بزوغ الفجر فتحدث جلبة جلية وتتلامح أضواؤها الساطعة في أرجاء القرية التي لم تكن قد وصلتها الكهرباء آنذاك.

ولمجرد إحساسنا بوجودها كنا ننهض على الفور فنرتدي ثياب العمل ونتوجه إلى المكان الموجودة فيه، نقف بجانبها أو نتجول حولها، فنمرر أكفنا على سطوحها اللامعة الملساء، مبدين إعجابنا بتصميمها الرائع وشكلها المهيب.

ومع انبثاق إشعاعات الفجر الأولى يكون قد تجمع حول الشاحنة العشرات من الشبان والرجال فتتأهب للإنطلاق إلى منطقة المُغر التي تقع على مبعدة حوالي الأربعة كيلومترات شرقي القرية.

كنا نتسلق الشاحنة ذات السطح المفتوح فنجلس فوق الصناديق، وأحياناً يقف بعضنا على جانبي جدرانها أو يجلس فوق مقصورة السائق، أو خلف الأضواء الأمامية الكبيرة، فتنطلق باتجاه الكروم في جو احتفالي، تقلّ - بالإضافة إلى الصناديق الفارغة التي ستعود بها معبأة بأشهى الأعناب - عشرات الأشخاص الذين سيقومون بقطف العنب ووضعه في صناديق ونقله على الأكتاف لمسافة مئات الأمتار أحياناً، من الكرم أو الكروم إلى الشاحنة، وتوضيب الصناديق داخلها.

كنا نعبر حرش السنديان، مستقبلين الصباح بأهازيج حماسية ونشاط وهمم عالية.

وكان طريق الشاحنات لا يزال بدائياً آنذاك، يمر عبر منعطفات ضيقة، لا سيما بمحاذاة هضبة تدعى (المرقب). فالطريق لم يكن معززاً وكانت تقع حوادث بين الحين والآخر، عند انزياح الشاحنة عن الطريق الضيق أو انزلاقها وبالتالي انكفائها في خليج صغير على أحد جانبي الطريق مما كان يستدعى جلب سيارات جيش صغيرة تدعى (الضفادع) لانتشالها من الوهدة التي سقطت فيها.

ذات مرة، ومع اقترابنا من ذلك المكان العسير، وبينما كنا نغني ويعزف أحدنا على الشبابة، شعرنا بميلان وانحرافٍ فجائي للشاحنة فأدركنا أننا في خطر وأن الشاحنة آيلة للسقوط، فما كان من أحد الرجال الوقورين، هو السيد حسن مصطفى أبوغازي أن صاح بصوت عالٍ وبإلحاح عفوي "صفّوا النوايا يا جماعة" وقد شع وجهه بإيمان عميق، فأصغينا إليه بكل جوارحنا، ولست أشك في أن الجميع امتثلوا لطلبه وأصبحت النوايا صافية كالبلور.

وشعرنا في تلك اللحظة الحرجة كما لو أن يداً جبارة أمسكت بالشاحنة ومنعتها من السقوط، حيث تمكن السائق بصعوبة من تعديل اتجاهها ومواصلة السير، فتنفسنا الصعداء ورحنا نتعجب مما حدث، وأدركنا أهمية النوايا الصافية في المواقف العصيبة.

حقاً أن النوايا الصافية تعمل كأسلاك موصلة، تنقل الدعوات والابتهالات إلى حيث تلقى قبولاً واستجابة من السميع المجيب.

 

مشغّل المصعد الذي أجمع الكل على محبته

-------------------------------------------------

عمل أحدهم في شركة كبيرة

ووظيفته كانت تشغيل أحد المصاعد.

المبنى كان يحتوي على ثلاثة مصاعد

لكن كل من عرفه كان يرغب باستخدام مصعده.

فكان يستقبل الجميع بلطف وابتسامة صادقة

تترجم ما يتحلى به من أدب وكرم أخلاق.

وقد قال مدير تلك الشركة عنه ذات مرة:

"هذا الرجل هو ثروة بالنسبة لنا، وأهميته

تضارع أهمية أكبر مسؤول في شركتنا

لأن كل زبائننا يحبونه."

وعندما سُئل الرجل عن سر ذلك أجاب:

"إنني أحب الناس وأحترمهم

وأبدي نحوهم مشاعر ودية

فيبادلونني المحبة والإحترام"

 

الصمت أول مظاهر التفكير والحياة والإنطلاق!

--------------------------------------------------

 

وليام هارفي William Harvey العالم الشهير ومكتشف الدورة الدموية الكبرى (1578-1657)، دعي يوماً لحضور مؤتمر علمي في كامبريدج بإنكلترا، ولكنه اعتذر عن حضور الإجتماع بسبب وعكة ألمّت به.

 

في المساء وعقب انتهاء المؤتمر، زاره بعض أصدقائه وتلاميذه في البيت للإطمئنان على صحته، وما كاد يستقبلهم في غرفة نومه حتى قال يسألهم في لهفة:

 

"حدثوني عن مؤتمركم ماذا دار فيه من مناقشات. هل نجح المؤتمر؟"

 

قالوا: "لقد تميّز المؤتمر بظاهرة غريبة.. كان الصمت يسوده في كثير من الأحيان.. وكان المجتمعون يجلسون في سكون وكأن على رؤوسهم الطير!"

 

وسأل العالم الكبير: "وهل انتهت اجتماعاتكم؟"

 

أجابوا: "لا.. بعد يومين سنجتمع مرة أخرى لمناقشة أحد البحوث المقدمة.. وسيعقد اجتماع ثالث في الأسبوع المقبل!"

 

فقال هارفي: "إذن فسوف ينجح المؤتمر!"

 

وذهل الحاضرون وقالوا متسائلين: "وهذا الصمت الذي خيم على المجتمعين في أولى جلسات المؤتمر، بماذا تفسره؟!"

 

قال: "أنتم تخطئون إذا تصورتم أن الصمت موت.. فالصمت حياة يا أصدقائي.. الصمت تأمل وتفكير.. إن الأفكار الجديدة لا تقفز إلى رأس صاحبها إلا عندما يسكت كل شيء من حوله.

 

"إن المشاعر كلها تتحفز للإنطلاق تماما كما يفعل المرء وهو يقف على أطراف أصابعه استعداداً للقيام بعمل كبير. الصمت يا أصدقائي أجراس تدق في أذني دقاً خافتاً أسمعه وحدي ويسمعه كل منكم على حدة. إنها الأجراس التي توقظ الذاكرة وتنشط الذهن فتعاونه على التفكير والإنتاج! لا تصفوا الموت بالصمت ولا تصِموا الصمت بالموت، فالصمت أول مظاهر التفكير والحياة والإنطلاق!" 

 

وقفة مع شاعر مميز: أنور العطار

------------------------------------

 

وُلد أنور العطار في دمشق عام 1908 على وجه التقريب من أسرة دمشقية عريقة ومعروفة بالتقوى، ونشأ في حجر والده إلى أن دخل مدرسة دار المعلمين الإبتدائية.. وفيها تخرج كل رجال العهد الماضي من وزراء وكتاب وصحفيين وشعراء.

 

كان أسمر ناعم الصوت، برّاق العينين في مَيل إلى الطول قليلا، رقيق الحديث، تشوب صوته بحة محببة، وتلمح على وجهه سيماء السذاجة والبساطة الذكية التي لا يخالطها دهاء مصطنع أو مكر مفتعل.

 

وكان طيب القلب، صافي السريرة، يحدثك بصراحة ويدلي برأيه واضحاً بيّناً لا يخفي منه شيئاً ولا يداري فيه إنساناً.

 

وظهر على أنور منذ نعومة أظفاره مَيلٌ طاغ إلى الأدب وحفظ الشعر، وكرهٌ ظاهر للرياضيات والعلوم وما يتفرع منها. وكانت هذه الصفة معروفة بين الأدباء المطبوعين البعيدين عن تعقيد الرياضيات والفيزياء، القريبين من الخيال الشعري والإحساس الفني. على أن العلم لا يقر هذا التفريق ولا يأخذ به. فإن الكثيرين من الشعراء والأدباء قد كانوا من الرياضيين المرموقين، وقد عرفنا من هذا الصنف نفراً من التلامذة نبغوا في العلم إلى جانب الأدب وتقدموا في الفن والفكر على السواء، يأخذون من كليهما بحظ كبير.

 

وبدأت تباشير شعره تظهر منذ كان في دار المعلمين، وأخذت الصحف الدمشقية تنشر له الأبيات بعد الأدبيات، وقرأ الناس لأنور شعراً أنيقاً نقي الألفاظ، صافي الديباجة، فوجدوا عنده نغمة حلوة، وقافية مطمئنة، وعرفوا أن في جلباب هذا الشاب شاعراً جديداً ستتحدث به الأوساط الأدبية، وسيكون له شأن مذكور في تاريخ الأدب العربي الحديث.

 

عمل أنور بمقتضى اختصاصه معلماً في مدرسته وأعجب به تلامذته في اللغة والأدب، وكان قوي الحافظة في الشعر مرهف الحس في انتقاء الأبيات، يدرك الهمسة الفنية ويشعر بالومضة اللفظية في البيت الواحد. ومن هنا كان يحتفظ في جعبته بعدد كبير من الأبيات النادرة الرائعة للشعراء الأعلام الذين أعجب بهم وأخذ عنهم..

 

لم يكن أنور غنياً، ولا موسّعاً عليه في رزقه، وهذا ما دفع به إلى الانتساب إلى دار المعلمين حتى يصل إلى المعاش بسرعة.. وكان رفاقه من نوابع الطلاب الذين أسهموا في الحركة الأدبية والعلمية والسياسية فيما بعد، ولكن أنور ظل في ميدانه، وكان الأديب الموهوب، لا يستطيع عمل شيء غير الأدب، فكانت آثاره لا تتعدى حدود القصائد القليلة ينشرها بين حين وآخر. وكان جهده مقصوراً على تلك الدروس يلقيها متبرماً، ضيق الصدر في قرية نائية من قرى دمشق هي قرين "منين".

 

كان الحياء سمة أنور العطار البارزة، فما عرف عنه أنه خاصم إنساناً أو تصدى لمخلوق إلا عن طريق الكلام. وكان يشكو من بعض أصدقائه نكرانهم للجميل وانحرافهم عن طريق الصدق والإخلاص.. كل ذلك بصوت خفيض وبحة تنم على ما كان يعتمل في صدره من أسى وحزن لأولئك الذين قدّم لهم صداقته فقدموا له النكث والخداع، وكثيراً ما كان يتمثل ببيت شوقي من رواية "قمبيز":

 

باعدت الأخلاقُ ما بيننا .. أينَ أخو العهدِ من الناكثِ

 

وانطلق شعر أنور العطار من دمشق ليصل إلى القاهرة، ونشرت مجلة الرسالة الشهيرة في تلك الأيام قصيدة لشاعرنا موشحة بالعنوان الآتي: لشاعر الشباب السوري أنور العطار.. كان ذلك في ثلاثينيات أو أربعينيات القرن الماضي.. واعتبر هذا النجاح كبيراً في الأوساط الأدبية، ورحنا نقرأ لأنور العطار شعراً إلى جانب ابراهيم ناجي وعلي محمود طه والزهاوي والرصافي وبدوي الجبل من شعراء ذلك العهد.

 

أما شعر أنور فكانت له نكهة خاصة. كان أصيلاً في لغته، صحيحاً في أسلوبه، بل لعله خير نموذج يمكن أن يحفظه التلامذة والشادون في الأدب، لأنه يقوّم أسلوبهم ويمكّن من لغتهم ويدربهم على اللهجة الصادقة التي كان ينطق بها العرب.

 

لم يكن أنور العطار متقعّراً في لغته ولا متكلفاً، بل كان كثير الحفظ، كما كان يحسن استعمال اللفظة الأصيلة في مكانها. ولست تلحظ في شعر أنور أثراً لشاعر معين من الشعراء، وكان تأثر الشاعر بمن سبقه موزعاً توزيعاً متناسباً بحيث لا ترى لأحد من أولئك السلف الصالح أثراً واضحاً يمتاز به عن غيره.

 

ولعل الأبيات التالية تنقل لمحة عن جمال أسلوبه الذي تميز به من بين شعراء عهده:

 

يا حبيبي أفق فقد ضحكَ الروضُ وأبدى جماله المحجوبا

طربَ القلبُ فانتشى وتغنى.. ومن الحب أن أعيشَ طروبا

وأنا الشاعرُ الذي يغمر الأرضَ ضحكاً وما أريم كئيبا

في فؤادي اللهيف داءٌ قد استعصى وجرحٌ يمضّني تعذيبا

 

رحل أنور العطار عن هذا العالم في الثالث والعشرين من تموز 1972 دون أن يحس به أحد. فإن مرضه كان كأسلوبه الشعري هادئاً بسيطاً.. انتقل مطمئناً كطبعه الخيّر وشعره الهادئ المطمئن.

 

أنور الجندي - مجلة العربي - العدد 189 – أغسطس/آب 1974 

 

ملاحظة: لقد شاهدت أنور العطار وسمعته ينشد كالبلبل الغريد عندما أتى ذات مرة إلى مدينة السويداء فلاقى حفاوة بالغة وارتجل شعراً رائعاً.. كما أنني لا زلت أحفظ أبياتاً من قصيدته الرقيقة التي تحث على الرفق بالحيوان ومطلعها:

عُد به للوطن الغالي وللأم الرؤوم .. وارحم اليتمَ فما أصعب عيشاً من يتيمْ 

م.ع.م

 

هل ضمّت بعثة لامب إلى التبت عربياً في الثلاثينيات؟

------------------------------------------------------------

بين يدي نسخة من كتاب بعنوان From the Faded Album of Yesterday ( من ألبوم الأمس المتلاشي) طبعة 1939، ماساتشوستس، الولايات المتحدة.

وقد اختار المؤلف أن يستعيض عن إسمه بالحرفين P.E لا غير.

هذا الكتاب طبع منه 200 نسخة فقط.

نسختي تحمل الرقم 94 وهناك نسخة أخرى من الكتاب متوفرة في مكتبة بوهيميان بوكورم بنيوجيرسي تحمل الرقم 38

الكتاب يحتوي على 95 صفحة ويضم مجموعة من الأشعار باللغة الإنكليزية، عن سور الصين العظيم والتأمل والليل والريح والرضى والتسليم، إضافة إلى ترجمة لقصيدة فوزي المعلوف على بساط الريح من العربية إلى الإنكليزية، وهذا بيت القصيد. والعنوان (على بساط الريح) مكتوب باللغة العربية.

وهناك إشارة إلى الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي الذي ترجم رباعيات الخيام إلى العربية نقلاً عن ترجمة إدوارد فيتزجيرالد الشهيرة.

وفي الصفحة 38، التي تضم قصيدة بعنوان (حكاية الريح) حاشية تفيد بأن القصيدة نـُظمت في لبنان.

في الصفحة 20 وتحت قصيدة (على سور الصين العظيم) معلومة تفيد بأن ناظم القصيدة، الذي هو مؤلف الكتاب، قد نظمها في مدينة كواغان في الصين وهو في طريقه إلى التبت عندما كان مسؤولاً عن الوحدة الطبية ضمن بعثة لامب إلى شمال التبت.

هذه البعثة قام بها أربعة رجال هم ريتشارد بوردسل وجاك يونغ الصيني الذي عمل دليل صيدٍ للرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت (في أفريقيا على ما أعتقد)، إضافة إلى شخصين آخرين هما آرثر أمنز و مور.

غادرت البعثة نيويورك في نوفمبر/ تشرين الثاني 1931 باتجاه أحد موانئ الصين، ولدى وصول أعضائها إلى وجهتهم انتقلوا بالباخرة عبر نهر يانغنتزي في رحلة ملحمية بطول حوالي الألفي كيلومتر، ثم استقلوا حافلة عبر سجشوان، وبعد ذلك ركبوا الجياد وحيوان الياك وأيضاً الثيران، قاصدين مينيا كونكا أعلى قمة في مقاطعة سيشوان.

حاولتُ معرفة المزيد عن مؤلف الكتاب لكن لا تتوفر معلومات عنه على الإنترنت باستثناء أنه مؤلف الكتاب المذكور.

فإن كانت المعلومة التي ذكرها في الكتاب صحيحة، بأنه بالفعل كان مسؤولاً عن الوحدة الطبية ضمن بعثة لامب إلى التبت في عام 1931، يمكننا عندئذ الإستنتاج أن عربياً ارتاد أعلى قمة في التبت في ثلاثينيات القرن الماضي.

 

"في طيّب القلب قد وجدتُ سماتي"

----------------------------------------

بعث إليه يقول:

يا صديقي

لكم تمر في بالي

فأجد نفسي متأملاً جبينك الوضاء

وقد التمعت فيه أقباس النبل

وشعّت منه كهرباء الإخلاص.

لقد عهدتك أصيلاً.. شريف المبدأ..

شعلة حية من مشاعر دافئة

وعرفتك نفساً كبيرة أبية .. ملء العين والقلب

فهنأت نفسي لعثوري

على أحد أنبل أبناء الحياة.

وتمر الأيام

فأبحث عنك

بين سفوح الذكريات ووهاد الحنين

لأعانقك بالروح

مستعيداً شعوراً لا يوصف

لدخولك عمقاً في كياني.

ولكم سمعت نبرات صوتك

تعيد تشكيل ذاتها

لتتحول إلى إيقاع عذب

ولحن أثير ومؤثـّر

تلذ لي نغماته الصامتة

السارية في حجرات القلب.

يا صديقي..

إن محراب الصداقة

الذي يخيم عليه جناح الصمت

قد احتفظت به نظيفاً مرتباً

وأضفيت عليه حلة من وهج الأشواق

وهو بانتظار ذلك الطيف اللطيف

وكأنني به يهمس:

"في طيّب القلب قد وجدتُ سماتي"

 

يصادف اليوم عيد ميلاد الرجل العظيم غاندي الذي ترك بصمة خالدة على ضمير الإنسانية.

 

سُئل ذات يوم عن الدرس الذي تعلمه من والدته فقال:

 

"عندما كنت صغيراً قالت لي أمي: يا بني إن كنت عطشاناً وسقاك أحدهم شربة ماء فكن وفياً مخلصاً له واحفظ جميله ما حييت، لأن من يحفظ الجميل يحفظه الله."

 

وفيما يلي بعض أقوال غاندي المأثورة كنت قد ترجمتها له:

----------------------------------------------------------------

 

الله واسع الرحمة وطويل الأناة لكن عقابه أكيد وشديد للسادرين في بغيهم، المتمادين في غيّهم. وهو أكثر المحاسبين دقة في هذا العالم وفي الآتي. وإنه يكيل لنا بنفس المكيال الذي نكيل به لبعضنا، دون زيادة أو نقصان. لقد منحنا العقل والضمير ويريدنا استخدامهما في كل ما نفكر به وما نفعله. وهو كريم إلى أقصى حدود الكرم لأنه يمنحنا الفرصة تلو الأخرى للتوبة وتقويم المسار.

 

كما يمنحنا حرية الإختيار ما بين الخير والشر. وهو ليس بعيداً عنا مع أن الحواس قاصرة كلياًً عن إدراكه كونه أكثر لطافة من قدرتها على تحسسه وملامسة وجوده. ومع ذلك يبقى بالإمكان الإحساس بحضوره فيما لو ابتعدنا عن المجال الحسي وتأملنا عليه في أعماقنا.

 

الله هو المربّي الأكبر الذي عرفته في هذا العالم. فهو يمتحننا بكل الوسائل والطرق. وعندما نشعر أن إيماننا آخذ في الضعف والتضعضع وأجسامنا فريسة للمرض والإعياء، وبأننا نتهاوى لانعدام السند والتعضيد يأتي لمساعدتنا بكيفية أو بأخرى.. مشجعاً، مواسياً، ومؤكداً لنا أنه دائم القرب والإستجابة، إنما بحسب شروطه هو لا شروطنا نحن. ولذلك يمكنني القول أنني لا أذكر مرة واحدة في حياتي لم يأتِ الله لنجدتي في اللحظة الأخيرة.

 

إن من يطلب العون من الله ينبغي أن يذهب إليه ويدنو منه عارياً وبدون تحفظ، وبلا خوف أو ارتياب. إشعاعات الهداية الإلهية تبزغ عندما يكون الأفق أكثر قتامة وأشد ظلمة. ويأتي العون الإلهي لطالبه عندما يتواضع ويشعر أنه أقل شأناً من التراب الذي يسير عليه.

 

عقول البشر كثيفة بحيث تعجز عن التقاط الرسائل الشفافة التي يرسلها الله بين الحين والآخر. فنحن بحاجة لطبول تـُقرع في آذاننا حتى نستيقظ من غيبوبتنا ونصغي للتنبيهات والتحذيرات ولندرك أن لا طريقة للعثور على أنفسنا إلا بفقدانها في الجميع.

 

لو كان الله مزاجياً متقلب الأطوار بدلا من كونه ثابتاً لا يتغيّر أبد الدهر لمحى ومحق بلحظة واحدة كل المجدّفين على إسمه، المتطاولين على نواميسه. إنه يفسح المجال للجميع من أجل الصلاح والإصلاح. أما من يصرّ على ظلمه وظلاميته ينسج حوله – بأفكاره وأفعاله – شباكاً دقيقة لكنها في غاية القوة تشد وثاقه وتقدمه مكبلاً مغلولاً لمواجهة نتائج أعماله ونواياه.

 

الله يسكن قلوب مريديه ويعرب عن ذاته من خلالهم. والمتناغمون معه يحسّون بحضوره كحقيقة تفوق كل ما يختبرونه عن طريق الحواس الخمس.

 

الله بالنسبة لي هو الحق والمحبة. وهو الآداب والأخلاق. وهو الجرأة التي لا تعرف الخوف وهو مصدر النور والحياة، ومع ذلك فهو أعظم من كل هذه مجتمعة. الله هو الضمير. إنه موجود حتى في إلحاد الملحدين، إذ بفضل حبه غير المحدود يسمح للملحدين بالحياة.

 

إنه فاحص القلوب.. ويعرفنا ويعرف قلوبنا أكثر مما نعرف أنفسنا. 


هل نتركها تغرق؟

-------------------

 

دانيال ديفو (1660-1731) كان أحد أعظم الكتاب والمؤلفين وواضع قصة "روبنسون كروزو" الشهيرة، كتب يصف حال الدنيا يوماً فقال:

 

"إننا ركاب في سفينة كبيرة تمخر بنا عباب الحياة.. حقيقة قد يشعر البعض منا بأنه لا يميل كثيراً أو قليلاً إلى ملاحي هذه السفينة، أو قد يكون بينه وبين بعض ركابها كراهية.. ولكن ماذا عسانا نفعل وقد ارتبطت مصائرنا بعضها ببعض؟!

 

"ماذا نصنع عندما تتعرض سفينتنا لعاصفة وهي في عرض البحر؟ هل نتركها تغرق؟

 

"أما عن نفسي فأقول: سوف أفعل كل ما في وسعي لإنقاذها حتى لو كنت أمقت كل من فيها ومن عليها."

مجلة العربي

 

الفتى الذي تعلم العوم

--------------------------

تملكت أحد الفتيان رغبة عارمة لتعلم السباحة فذهب إلى حاجز الميناء حيث شرح له أحد السباحين المهرة طريقة السباحة.

دخل صديقنا الماء وراح يخبط ويتخبط، لكنه اكتشف أنه كلما صارع كلما غاص تحت سطح الماء.

وهكذا ظل يصارع الماء حتى خارت قواه ولم تسعفه جهوده.

كان مدربه الطيب يراقبه عن كثب فهرع في تلك اللحظة إليه وقال له:

"يا بني، لا تصارع الماء، بل دع الماء يحملك. استرخِ ولا تكن متوتراً."

استجاب الفتى لنصيحة المدرب ودهش لأن يجد نفسه يعوم بسهولة فكاد يطير فرحاً.

وبالمثل فإننا نصارع كل الوقت في بحر الحياة..

نصارع الظروف ونكافح ضد المصائب

دون أن نعطي الفرصة لليد الكونية الرحيمة

كي تساعدنا وتجنبنا الغرق في لجج الصعاب والملمات.

عندما نبذل ما بوسعنا

وفي نفس الوقت نثق باليد الخفية

سيأتي العون ومعه الفرج بإذنه تعالى.

طيب الله أوقاتكم والسلام عليكم

 

(ملاحظة: هذا ليس درساً للسباحة التي ينبغي تعلمها حسب الأصول على يد مدرب في هذا المجال، ولذا اقتضى التنويه)

 

الإعتراف بالخطأ: قمة النضوج الفكري والعاطفي

-----------------------------------------------------

 

قال هيربرت جورج ولز H.G.Wells الكاتب الإنكليزي الشهير عندما سُئل يوماً عن رأيه في نفسه كإنسان:

 

"ربما كانت أحسن صفاتي أنني لا أتردد لحظة واحدة من أن أعتذر لمن أسأت إليهم.. ولكنني كنت أحرص دائماً على أن أعتذر وأنا واقف على قدميّ .. لم أركع يوماً على ركبتي لأنني لا أستجدي صفح الناس، وإنما أعترف أمامهم بأخطائي ثم أعتذر عن هذه الأخطاء ولكن بكرامة!"

 

ويقول الدكتور سمايلي بلانتون في كتابه (فن الحياة) وهو يحدثنا عن "الإعتراف بأخطائنا" وأثر هذا الإعتراف في حياتنا وفي علاقاتنا بالناس.. بهؤلاء الذين نعرفهم ونحبهم..

 

"إن الإعتذار هو أكثر من مجرد اعتراف بالخطأ .. إنه اعتراف بأن شيئاً ما في تصرفاتنا أو في أحاديثنا قد أساء إلى علاقاتنا بالآخرين.. وهو شعور باهتمامنا بإصلاح ما أفسده هذا التصرف، لكي تعود علاقتنا بهؤلاء الذين أسأنا إليهم إلى ما كانت عليه من ود وحب وصداقة.

 

"قد لا يكون من السهل على المرء أن يعترف بخطئه.. فالإعتراف بالخطأ قد يؤذي مشاعره.. وأصعب مرحلة يمر بها الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، هي تلك التي يخلو فيها إلى نفسه ويحاسبها. فإذا أحس بأنه أخطأ أقدم على هذه الخطوة التي لا بد له من أن يقدم عليها، فينسى كبرياءه ويتقدم بشجاعة ليقول "إني آسف!"

 

"الإعتذار ليس مذلة.. إنه أقصى مراتب النضوج الفكري والعاطفي.. فالعظماء وحدهم هم الذين يشعرون بأخطائهم ويعتذرون عنها قبل فوات الأوان. "

مجلة العربي

 

صاحب الصوت الذهبي وحافز النجاح

 

كان بنيامينو جيلي (1890-1957) من أشهر المغنين في إيطاليا، وكانوا يسمونه صاحب الصوت الذهبي، الذي احتل عرش الغناء في الأوبرا أعواماً طويلة ولم يستطع أحد أن يهز العرش من تحته إلى أن داهمه المرض وارتحل قبل أن يحتفل بعيد ميلاده السابع والسبعين.

 

كتب يقول:

 

"لقد علمتني الحياة أن الحرمان هو الحافز القوي الذي يدفع المرء إلى البحث عن نفسه، وعما يكمن فيها من مواهب يمكن صقلها. وقد اكتشفت في طفولتي أنني أعشق الموسيقى وأحب الغناء، ولكنني كنت فقيراً معدماً لا أملك ثمن أرخص آلة موسيقية يمكن أن أشبع بها هذه الهواية!

 

في روما، عندما كنت شاباً في العشرين من عمري، بدأت الحياة تبتسم لي لأول مرة عندما عثرت على وظيفة صغيرة في محل لتحضير العقاقير الطبية.. ولم يكن أجري يكفيني لمواجهة الحياة، فأرسل الله لي طباخاً طيب القلب، كان يعمل في أحد المطاعم الصغيرة، فكان يملأ لي طبقي من فضلات الطعام التي يجمعها من أطباق الزبائن ويقدمه لي من الباب الخلفي بدلاً من أن يلقي بها في صندوق القمامة!

 

ولكن الذي ترك أكبر الأثر في نفسي، حدث عندما دخلت الجيش، فقد كان قائد الفرقة التي أعمل فيها هو الذي شجعني على المضي في دراستي وممارسة هوايتي، وكان أول رجل يضع في جيبي أول مبلغ أكسبه من الغناء، عندما وقفت أغني "لأمي" التي فارقتها وفارقتني!" 

 

مجلة العربي

 

وفاء .. ووفاء

-------------

 

لورد بادن باول مؤسس الحركة العامة للكشافة في عام 1908، كان يحب الكلاب.. وكان من بين من اهتموا بتربية الكلاب الأصيلة واستخدامها في رحلاته، وقد كانت من قبل تُستخدم في رحلات الصيد التي يقوم بها الخيالة، فتنطلق أمامهم لترشدهم إلى مخابئ صيدهم السمين.

 

كما استُخدمت في الحراسة، وفي اقتفاء الأثر، وفي الحروب، وكانت دائماً صديقاً وفياً للإنسان أينما وُجد.

 

كتب بادن باول عندما تقدم به العمر، وحدثنا عن كلبه الذي لازمه في شيخوخته:

 

"لقد كان مرشدي في رحلاتي وأسفاري، وكنت لا أفترق عنه ولا يفترق عني إلا عندما أترك الأرض وأمتطي السماء!"

 

"ثم أصبح حارس بيتي وحارسي الأمين الذي لا ينام.. ولكنني اكتشفت بعد هذا أنه قد أصبح رفيقي الذي لا أحتمل فراقه لحظة واحدة.. فقد كنت أستمد من وجوده بجانبي الشعور بالأمن والطمأنينة..

 

"فالإنسان.. أي إنسان، عندما يتقدم به العمر ينتابه شعور غريب بالحاجة من وقت لآخر إلى من يذكّره بأن عروقه ما زالت تنبض بالحياة وأنه هو ذاته، لم يتغير!

 

"أليس غريباً أن يكون هذا الحيوان، هو الوحيد الذي يستطيع أن يعيد إليه ثقته بنفسه وشعوره بالحياة!"

 

مجلة العربي

 

العظيم في رأي حكيم الصين

--------------------------------

 

سئل الزعيم الصيني سان يات سن ذات مرة عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها الرجل العظيم، فقال:

 

"لا أجد أروع مما جاء على لسان معلمنا الكبير كونفوشيوس، فقد وصفه بقوله:

 

"إنه الرجل الذي لا يشعر بعظمته، وهو يتألم لقدرته المحدودة ولا يتألم عندما يجد أن الآخرين لا يعترفون له بقدرة!"

 

ويقول سان يات سن في الكونفشيوسية:

 

"لقد كنت أبشر بتعاليم هذا الرجل العظيم الذي ظهر قبل السيد المسيح بأكثر من أربعة قرون من الزمان.. فقد كانت تعاليمه هي "الناموس الخلقي" الذي سيطر على روح شعب الصين قروناً طويلة حتى بعد ثورتها الكبرى..

 

"إن كونفوشيوس المعلم والمصلح وأحكم حكماء الصين هو الرجل الذي زرع بيديه بذور الحركة التي ظلت تحمل إسمه حتى يومنا هذا.."

 

لقد مات كونفوشيوس، ولكن تعاليمه ما زالت تعيش بيننا، وقد كانت القاعدة الذهبية التي أرسى أسسها في مجتمعه القديم، عندما قال للذين جاءوا يشكون إليه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان:

 

"ما لا تحبه لنفسك لا تصنعه لغيرك!"

مجلة العربي


 October 2013

 ---------------


المرأة المثالية

----------------


سألوا وليام فولكنر (1897-1962)، الكاتب والمؤلف الأمريكي المعروف أن يصف لهم المرأة المثالية في نظره، فقال:

"إنني لا أستطيع أن أصفها بلون شعرها أو عينيها.. فهذه صفات يراها الرجل ويعجب بها إلى حين، ثم لا تلبث أن تختفي عن ناظره..

" إن المرأة المثالية في رأيي هي تلك التي تبقى صورتها في رأس كل رجل، وهي صورة تستطيع هي وحدها أن ترسمها لنفسها بكلمة جميلة أو رأي جديد يثير إعجابه وتقديره فتبقى كلماتها حية دائماً في مخيلته، كما لو كانت صورة رائعة لفنان مبدع.."

وربما كان أجمل وصف للمرأة هو الذي جاء على لسان تولستوي وهو يتحدث عن "أنا كارنينا" فقد قال عنها:

"نعم، لقد كانت جميلة، ولكن أجمل ما فيها بصيرة كادت بها أن ترى كل شيء من حولها ولو في الظلام!"

مجلة العربي – العدد 189 – أغسطس 1974 


باخ وبصيص النور القادم من بعيد

-----------------------------------


الموسيقار الألماني الشهير يوهان سباستيان باخ (1685-1750) كتب يصف حياته بعد أن فقد نور عينيه:

"كان صوت الطيور في الصباح هو الشيء الوحيد الذي يذكرني بأن الظلام قد انقشع. وكنت أقوم من فراشي وأتجه صوب نافذة غرفتي، وأقف وراءها فأحس بدفء الشمس وهي تتسلل في رفق إلى حيث كنت أمضي أيام الظلام!

"إنني لم أغادر هذه الغرفة منذ أن اختفى أمامي آخر خيط من الضوء.. فقد كنت لا أحتمل أن أمسك بيد تقودني.. لا أحتمل أن أشعر بالصمت الذي كان يحتوي المكان الذي أظهر فيه فجأة، فتتحول الضحكات إلى همس، وهي التي كانت تدوي منذ لحظات قبل وصولي إليه!

"لقد أحببت الحياة وأحببت الناس وأحببت الطبيعة وعشقت الموسيقى، ولكن الله شاء أن يحرمني من كل هذه الصور، ما عدا ذلك النغم الذي بقي يصل إلى أذني في الظلام..

" الشيء الوحيد الذي كان يذكرني بأنني ما زلت حياً هو صوت موسيقاي.. فكنت أحس كلما سمعت نغماً جديداً أن أبواب السماء تفتح لي ذراعيها لتستقبلني ولتخلصني من الألم الذي أعانيه على الأرض بعد أن كساها الظلام..."

وارتحل باخ عن هذا العالم بعد عام واحد من إصابته بالعمى! وكانت ليلة عاصفة ممطرة تلك التي مال فيها بجسمه إلى الوراء، وقال:

"إنني أرى بصيصاً من النور ولكنه قادم من بعيد.. قادم من السماء.. إنها تدعوني إليها!"

ثم سقط رأسه فوق صدره، ولأول مرة رأوا وجهه الحزين يشرق بابتسامة.

مجلة العربي – العدد 189 – أغسطس 1974

 

ولنا بمعيتكم مع الحكمة وقفة

----------------------------------

منبعها خزائن الحكيم العليم

وهي بمثابة خريطة تحوي أساسيات الملاحة في بحر الحياة

ودليل موثوق لتفادي الصخور البحرية

وانتهاج أقصر السبل إلى بر الأمان.

إنها بصيرة الروح من لدن البصير الخبير..

وتسلط ما يكفي من الضوء لاستبانة معالم الطريق

إلى واحة السلام والأمن والطمأنينة.

هي ليست رسالة لاهوتية

ولا لوائح وقوانين

وخطب ومواعظ..

بل منارة الفكر

والضرورة التي لا تستقيم بدونها الحياة.

إنها نافذة في سجن العالم الأرضي

منها نرنو إلى الأفلاك العليا.

وهي هداية وسط الحيرة

وراحة في قلب الضيق

ودعامة من السقوط

وتشجيع لعدم الإستسلام للقنوط.

لا تقوم على أفكار بشرية لأن منبتها سماوي

وهي مرساة وقارب نجاة

فيها شفاء القلوب

وراحة الضمائر

وتحرير النفوس.

هي للفقير ثروة

وللمريض عزاء

وللمحتضر يقين بديمومة الحياة.

تشع وسط الظلام نوراً

وتملأ النفس أنساً

ولمستها السحرية تخفف الآلام.

إن كانت درة واحدة من قاع البحر

تساوي كل حصى السيول والوديان

فالحكمة كلها جواهر ودرر

وامتلاكها لا تعادله ذخائر الدنيا ونفائسها.

{وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}

 

الصبر قوة مركّزة

-------------------

أصدقائي الأعزاء، ترجمت لكم هذه الأقوال عن الصبر، آمل أن تروق لكم وتجدون فيها بعض فائدة.

كل شيء سوف يأتي للمنتظر، فمن يمتلك الصبر يمكنه الحصول على ما يريد.

ليس من الضروري لكل الناس أن يكونوا ذوي أفعال عظيمة، يكفي أن يمتلكوا قوة الصبر التي هي أسمى إنجاز يمكن تحقيقه.

من يعرف كيف ينتظر يمتلك أعظم أسرار النجاح.

الصبر لا يعني اللامبالاة. يمكننا أن نعمل ونثق وننتظر، ولكن يجب أن لا نركن للتهاون أو الإهمال أثناء انتظارنا.

صعبة هي شروط الحياة بحيث يتعين أحياناً وضع كل موهبة عزيزة وثمينة.. وكل فضيلة.. ومعها الحب والأمل والفرح والفطنة والنشاط والنزعة إلى الخير في بوتقة الحياة لاستقطار إكسير الصبر.

الصبر ليس ميزة سلبية بل إيجابية. إنه قوة مركّزة.

هناك شكل من أشكال الأمل لا يخلو من الحكمة ولا يتضاءل بازدياد المعرفة. أما إسم ذلك الشكل فهو الصبر.

حتى أحكم الحكماء يعترفون بأن الصبر والتسليم هما دعائم رجل السلام على هذه الأرض.

دعوا شجرة الصبر المباركة تنمو وتترسخ جذورها لتثمر أشهى وأنفع الثمر.

الحكيم يمتلك قوتين لا يمتلكهما غيره: الصبر والتحمل.

الصبر مفتاح القناعة.

لا يوجد إنجاز واحد إلا وهو نتيجة للصبر والعمل والإنتظار.

الصبر والزمن أفعل من القوة والأهواء الجامحة.

لا تظنوا أبداً أن تأخر استجابة الله تعني الحرمان. اصبروا وثابروا واعلموا أن الصابرين عباقرة.

ما أروع الصبر وما أنبله! فمن بين كل الفضائل هو الأقرب إلى السماء، ويضفي على أصحابه مسحة ملائكية.

الصبر مرّ إنما ثماره حلوة.

هناك فارق كبير بين الصبر الحقيقي والتحمل المتجهم، كالفرق بين ابتسامة الحب وصرير الأسنان الكيدي الحقود.

هناك وقت لا يطلب فيه الله من عباده سوى الصبر والإيمان والتسليم لحكمة لا يعلمها إلا هو.

الصبر هو شجاعة الظافر وقوة الإنسان وثباته إزاء لطمات القدر.

والسلام عليكم

المصدر: موسوعة الأفكار

 

عيد ميلاد أوسكار وايلد

--------------------------

 

يروى عن الكاتب الإيرلندي المشهور أوسكار وايلد أن جدته كانت تهديه كتاباً جديداً في كل عيد من أعياد ميلاده منذ أن بلغ السابعة.

 

وكان يجد متعة كبيرة في قراءة هذه الكتب، إلى أن بلغ الحادية والعشرين من عمره..

 

وراح ينتظر الكتاب الجديد الذي ستهديه إليه جدته هذه المرة، لكنه لم يتلق كتاباً، وإنما رسالة قصيرة فضها فإذا بها تقول:

 

"عزيزي أوسكار.. لعلك تساءلت أين الكتاب الذي تعودت أن أهديك إياه في أعياد ميلادك السابقة؟

 

لا لن تكون هناك كتب تختارها جدتك لتقرأها أنت.. لقد كبرت الآن يا بني ولن تجد في كتبي المتعة التي كنت تجدها في الماضي..

 

اذهب إلى المكتبة واشتر ما يروقك من الكتب وسأتولى أنا دفع ثمنها."

 

ويقول أوسكار وايلد أن هذا اليوم كان بداية انطلاقته كقارئ وكاتب معاً! 

مجلة العربي

 

بين ابن ووالده

-----------------

 

كان الكاتب والمؤلف المسرحي الفرنسي ألكسندر دوماس الإبن دائم الشجار مع والده، لأن الأب كان دائماً ينتقد سلوك ابنه وتصرفاته ويقول له:

 

"ليتك كنت في مثل أخلاق والدك! ولكن هكذا شاء القدر، فلا حيلة لي إلا أن أبتهل إلى الله أن يصلحك!"

 

وفي أثناء معركة من هذه المعارك الكلامية التي كانت كثيراً ما تنشب بين الأب والإبن كتب دوماس تمثيلية للمسرح ولكنه رفض لأول مرة أن يوجه الدعوة لأبيه لحضور حفل الافتتاح.

 

وعلم الأب بما حدث، فما كان منه إلا أن توجه إلى الحفل واشترى تذكرة ودخل المسرح ليرى المسرحية الجديدة!

 

ولاقت مسرحية الإبن إعجاب واستحسان الأب، فأراد أن يبعث إليه برسالة تهنئة بشرط أن تحفظ الرسالة للأب كرامته، وتظهر إعجابه بابنه في آن واحد، فكتب لابنه يقول:

 

"سيدي العزيز.. لقد شاهدت مسرحيتك الجديدة وأشهد أنني أعجبت بها كل الإعجاب. أرجو لك التقدم دائماً!"

 

وقرأ الإبن الرسالة فكتب إلى أبيه يقول:

 

"صدقني يا سيدي عندما أقول أن رسالتك إليّ كانت شرفاً عظيماً لا أستحقه، لأنها صادرة من رجل طالما سمعت أبي يتحدث عنه بإجلال واحترام!"

 

ومنذ ذلك اليوم لم يتشاجر الأب مع ابنه أبداً. 

مجلة العربي

 

ولنا مع الصلاة وقفة

---------------------

ما هي الصلاة؟

إنها حديث الروح الجاد والمباشر مع الله.

والرغبة الصادقة والمتعاظمة المندفعة نحوه.

إنها أنفاس نفس حديثة اليقظة وضرورة لا تستقيم الحياة بدونها.

الصلاة الصادقة هي إسم آخر لمحبة الله. أنها مناجاة رائعة، إنما روعتها لا تكمن في كثرة الكلام لأن الله يعرف حاجتنا قبل أن نسأله تحقيقها.

الصلاة الحقيقية تنبع من القلب، والقلب لا يسأل سوى حاجته. فالصلاة تعني الرغبة، إنما الرغبة فيما يريدنا الله أن نرغب فيه.

الحياة التي تعطرها الصلاة هي حياة مزهرة أبداً ومزدهرة بأفعال المحبة والخدمة ونوايا الخير والأماني الطيبة.

العبادة هي إجراء أرضي بواسطته يدرك الإنسان أن روحه خالدة وأنها وثيقة الصلة بخالقها.. وهي تدريب على أدبيات الملأ الأعلى في حضرة العلي القدير.

الصلاة هي أنباض النفس المشتاقة لمصدرها، والإمساك بيد القدرة الكلية والاعتصام بحبل الله المتين.

وهي فصل النفس عن إحراجات الحواس والطبيعة البشرية الضعيفة والإرتقاء بها إلى المستوى اللائق بالنفوس المؤمنة والعاملة بإيمانها.

الصلاة آلة جبارة ومن يحسن استخدام مفاتيحها يفتح الله عليه ويحسن إليه.

الصلاة ليست بلاغة بل توجّه جاد.. وليست تعريفاً للحاجة إلى العون الإلهي بل الإحساس به.. وليست كلمات تقال بل إحساسات تـُختبر في أعمق أعماق النفس.

إن الله يرش عطور الجنة على الضارعين المتضرعين.. حقاً أن الصلاة بوابة السماء.

القلب الذي يتوجه إلى الله لساعة واحدة يشعر بفرح غامر وشبع روحي لا تقدر كل مآدب الأرض وولائمها على تقديمه للنفوس الجائعة لخبز السماء.

إن ضراعة الإنسان المؤمن ترتفع من زنزانة القنوط المظلمة إلى قلب الفردوس المضيء وتستدر بركات كثيرة وغزيرة.

الصلاة تحرّك اليد التي تحرّك العالم.

 

إنك تقرأها على الحجر بالخط الهيروغليفي على قبور القدماء من المصريين.

وإنك تقرأها على جلود الماعز فيما تخلّف من معابد قدامى الهنود.

وإنك واجدها على لسان كل حكيم، في كل أمة، وكل عصر، وكل دين.

إنك تفتح "كتاب الموتى" الكتاب المصري القديم، فتقرأ فيه: "إن هذه الروح طلبت في الحياة الدنيا لغيرها مثل ما طلبته لنفسها، فاسمح لها بدخول الجنة.

وأنك لتقرأ في أسفار الهندوس القديمة: "إن أصدق قانون للحياة أن ترعى الناس، وترعى أشياءهم كما ترعى نفسك وترعى أشياءك."

والفرس قالوا: "اصنع لغيرك وبغيرك، ما تصنع لنفسك".

وحكماء الإغريق قالوا: "لا تصنع بجارك ما تكره أن يصنعه جارك بك".

والرومان قالوا: "إن القانون المنقوش في كل قلب أن يحب الفرد في المجتمع كل فرد".

وعلّم بوذا: "يجب على الإنسان أن يطلب للإنسان من السعادة ما يطلبه لنفسه".

والمسيحية قالت: "اعمل لغيرك من الناس كل ما تود أن يعمله الناس لك".

والإسلام قال: "حب لأخيك ما تحب لنفسك".

مقالات.. إن اختلفت لفظا فقد اتحدت معنىً.

قاعدة.. لو عمل بها الناس أفراداً لسعدوا.

وقاعدة، لو عمل بها الناس أمماً وشعوباً لساد لأول مرة في الأرض السلام.

 

الكنز الذي لا يفنى

--------------------

 

توماس أرنولد Thomas Arnold 1795-1842 ناظر مدرسة رغبي Rugby الشهيرة في إنكلترا، بقي في هذا المنصب مدة تزيد على الأربعة عشر عاماً منذ عام 1828، إلى أن وافته المنية.. واستطاع خلال هذه السنوات الطويلة أن يجعل من هذه المدرسة واحدة من أعظم مدارس بريطانيا الخاصة.. فقد كان توماس آرنولد مربياً فاضلاً يتمتع بروحانية دافقة، وبشخصية فرضت احترامها على كل تلاميذ ومدرّسي مدرسته.

 

سألوه يوماً عن أفضل نصيحة يتوجه بها إلى الآباء والأبناء على السواء، فقال:

 

"إن الأب السعيد هو الذي يعرف كيف يترك لابنه أو ابنته كنزاً لا يقدر بمال.. أما الكنز الذي أعني فهو السعادة.. فالفقر أو الغنى لا يهم كثيراً، ولو أننا يجب ألا نخدع أنفسنا، لأنه لو وجد المال مع السعادة، لكان هذا أفضل بطبيعة الحال.. ولكن إذا كان لا بد لنا أن نختار بين الفقر مع السعادة وبين الغنى مع التعاسة، فلا شك أننا سوف ننظر بعين الحسد إلى أطفال "الزمّار" وهم يجرون وراء أبيهم، وضحكاتهم تنطلق فتختلط مع أنغام موسيقاه!

 

إن هؤلاء الصغار السعداء سوف يكبرون، وهم يرون الحياة من حولهم حلوة طيبة، وسوف يشعرون بالدفء الذي تشيعه الشمس في صدورهم، والود الذي يملأ قلوب الناس تجاههم.. سوف يحبون هؤلاء الناس لأنهم بشر مثلهم، وسوف يدركون في النهاية المتعة التي يجدها المرء في الحياة.. وبهذا الشعور يستطيع الأبناء أن يحققوا أي شيء تصبو إليه نفوسهم!

 

" هذا هو الكنز الذي تركه أبواي، وأريد أن أتركه بدوري لكل أبنائي في هذه المدرسة!"

مجلة العربي

 

خـُذ الفرّارَ والطلقة : أحجية تبحث عن حلْ

----------------------------------------------

هذا العنوان الطريف هو مقدمة لأحجية منظومة ألقاها علينا في المرحلة الإبتدائية الأستاذ محمد دنورة، وهذه هي الأبيات كاملة :

خـُذ الفرّارَ والطلقة ْ

وشيئاً يشبهُ البَرقا

إذا أشبعتها سحقا

ملكتَ الغربَ والشرقا

لم يحلّ لنا الأستاذ محمد "الحزورة" ولم يعطنا إضاءات نستهدي بها. ولا أدري إن كان هو مبتكرها أو ناقلها، أو إن كان تأمل معانيها وحاول حلها.

ظلت تلك الأبيات منقوشة في الذاكرة وغالباً ما ردّدتها بيني وبين نفسي وقلبتها على أوجه عدة لعل وعسى أجد الحل لتلك الأحجية المعضلة، إلى أن توصلت أخيراً إلى الإستنتاج التالي:

إن كانت تلك الأبيات مبنية على حقيقة عرفها المؤلف ولم يشأ الإفصاح عنها إلا رمزاً فقد يكون المقصود هو عنصر لا مادي، وأغلب الظن أن ذلك العنصر هو الفكر لاستحالة جمع تلك العناصر دفعة واحدة والوفاء بالشروط المحددة.

فالفرّار هو الزئبق الذي يصعب الإمساك به، وما فهمته من الطلقة هو تلك اللمحة النارية الخاطفة المصاحبة لإطلاق عيار ناري وهو بحد ذاته شيء يشبه البرق.

الجائزة تبدو كبيرة بحجم العالم ولكن لا بد قبل حصدها من تحقيق ذلك الشرط الإعجازي المتمثل في تجميع تلك المكونات شبه السديمية وليس سحقها فحسب، بل إشباعها سحقا وهنا يكمن التحدي الأكبر.

ولكن لدى التدقيق في العناصر والأحجية يبدو أنها وثيقة الصلة بالفكر الذي يصعب الإمساك به إنما ذلك ليس مستحيلا. وبما أن الشرق والغرب والأرض وما عليها والكون وما فيه.. كلها مجتمعة لا يمكن إدراكها أو الإحساس بها بدون الفكر فقد يكون لضبط الفكر انعكاس مباشر على كل ما يُدرك بالحواس الخمس. ونحن نعلم أن حالة الشخص النفسية أو الفكرية تنعكس سلباً أو إيجاباً على الأشياء والناس من حوله. فالغاضب يرى الغضب حيثما نظر والمحب ينعكس حبه على كل شيء حوله.. وقس على ذلك.

هذا الفكر المنطلق بسرعة تفوق سرعة الضوء والذي لا يكف ولا يهدأ إبان ساعات اليقظة هو مستودع جبار من الطاقة المشتتة في كل اتجاه. فلو توصل المرء إلى تجميع تلك الطاقة في نقطة واحدة فلربما أصبحت قوية كأشعة الشمس الشديدة التركيز. ولو استطاع التحكم بعقله أو فكره لتلك الدرجة لتمكن من حرق مصاعبه على اختلافها ولأصبح سيد نفسه ومالكها. ومن يملك نفسه يمتلك العالم بأسره، لأن درجة التملك هي – طال عمركم - نسبية.

وفي هذا السياق يقول أحد الحكماء:

ربما تمكنتَ من الإمساك بفيل هائج وإخضاعه

واستطعت أن تسد (بيديك) أفواه الدببة

وقد تتمكن من الركوب على ظهور النمور

ومن اللعب مع الكوبرا السامة

ومن العيش بتسخير أساليب الكيمياء لإرادتك

والتنقل في الكون متخفياً دون أن يكشف هويتك أحدٌ

وقد تستطيع جعل الآلهة عبيداً لك

والاحتفاظ بشباب دائم مدى الحياة

والمشي على صفحة الماء

والعيش وسط النيران الحارقة

لكن ضبط العقل والتحكم بالأفكار

أفضل إنما أصعب بكثير من كل هذه!

 

September, 2013

 

لا حاجة للمناداة: "تعالوا يا ناس وانظروا"

--------------------------------------------

 

عندما فرغ أحدهم من خدمة قام بها نحو غيره

سجّلها في دفتره كمعروف أسداه.

 

شخص آخر لم يكن مستعداً للتفكير على هذا النحو

لكن بينه وبين نفسه اعتبر بأنه مدان للشخص

الذي قدم له تلك الخدمة وبذلك سدد ما عليه من دَين.

 

شخص ثالث لا يعرف ما قدّمه

وهو بذلك يشبه الكرمة التي أنتجت عنباً

دون أن تطلب شيئاً في المقابل.

 

كالجواد عندما يجري

والنحلة عندما تجمع العسل

هكذا ينبغي للإنسان الذي أسدى صنيعاً لغيره

ألا ينادي بأعلى صوته

كي يأتي الآخرون ليشهدوا له ولمأثرته

بل ينتقل إلى عمل آخر

مثلما تواصل الكرمة إنتاج العناقيد

في موسم آخر.

 

هل يجدر بالإنسان التشبه بهؤلاء

بحيث يعمل دون ملاحظة ما يعمله

ولا يدلل على ما قام به؟

 

بالتأكيد نعم!

 

فما الذي يريده الإنسان

بعد تقديم خدمة للآخرين؟

 

ألا يكفيه أنه فعل شيئاً

ترتاح له طبيعته

ويرضى عنه ضميره!

 

أم أنه يطمع بأجر من وراء ذلك

كما لو أن العين تطلب تعويضاً عن البصر

والقدم تعويضاً عن المشي؟

 

ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius 

 

إنسانيات: شهامة فنان

--------------------------

طاف الرسام الفرنسي رينوار (1841-1919) بدول أوروبا كلها بحثاً عن الجمال ليسجله بريشته، ورسم عشرات اللوحات الفنية الشهيرة التي تقف اليوم شاهداً على قدرة هذا الفنان، ولكنه لم يكن راضياَ أبداً عن إنتاجه.

إلى أن جاء يوم كان يزور فيه ضاحية صغيرة من ضواحي مدينة ميونيخ بألمانيا، فشاهد امرأة عجوزاً تجلس وحدها على مقعد متحرك وسط حديقة جفّت أشجارها وتساقطت أوراقها.. وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة تحمل كل معاني الحزن العميق.

فاقترب منها ليتحدث إليها، فقالت له: "لقد كانت أمنيتي طوال حياتي أن أمتلك بيتاً صغيراً تحيط به حديقة جميلة أقضي بين زهورها بقية أيام عمري، وقد أصبح لي بيت وحديقة، ولكنني أصبحت عجوزاً لا أقوى على الوقوف والعناية بأزهارها، فجفت وماتت!"

دبّت النخوة في رأس رينوار وبلا تردد راح يزرع ويسقي الأشجار ذات الزهور الجافة.. وانقضت أربعة أسابيع والرسام الكبير يزور حديقة السيدة كل يوم ويمضي فيها جزءاً كبيراً من يومه..

وفي أحد الأيام جاء رينوار كعادته ليعمل في الحديقة فاذا بها قد امتلأت بالزهور الجميلة.. وإذا بالسيدة العجوز تجلس على مقعدها وتتطلع فيما حولها، وقد امتلأت عيناها بالدموع..

وهزه هذا المنظر فجلس يسجله بريشته، وعندما انتهى منه ذهب إليها يودعها.. بعد أن تحققت أمنيتها.. فإذا به يجدها جثة هامدة لا حياة فيها!

قال رينوار وهو يحمل لوحته عائداً إلى باريس: " لقد كانت هذه أعظم لوحة رسمتها في حياتي!"

 

مجلة العربي

 

روح الشيخ مارتن - للشاعر الشاب جويس كيلمر

-------------------------------------------------------

 

في صبيحة هذا اليوم فكرت بترجمة قصيدة، فتناولت أحد مجلدات موسوعة الشعر العالمي وفتحته على قصيدة بعنوان "مارتن" فراقت لي وقررت ترجمتها، قبل أن أتذكر أن آخر موضوع نشرته كان - من قبيل المصادفة - عن مارتن لوثر كنغ.

 

آمل أن تستمتعوا بقراءتها.. كما أود أن أوجه التحية لكل الأصدقاء الذين لم يتسن لي الرد على تعليقاتهم أو التعليق على منشوراتهم. أنتم في البال أيها الأعزاء ولكل منكم في القلب مكان ومكانة.

 

من ردهات العالم البعيد..

وما وراء البحر الأرجواني الذي لا ساحل له

تبزغ روح الشيخ مارتن

لتقف بجواري وتتحدث إليّ.

 

ما زال هو ذاته

بوجهه النحيل الذي تعلوه مسحة من شحوب

وبسمته الرقيقة الملغزة

وخديه بتجاعيدهما الشبيهة بالخيوط الرفيعة

وبعينيه الوادعتين اللتين يشع منهما بريق البهجة والفرح

وربطة عنقه ذات الألوان الزاهية

وبذلته "الشببلكية" المنسجمة مع لون شعره الرمادي

وعصاه وقبعته

وشخصه المتفائل المرح.. وكياسته المعهودة..

 

البعض يقول: "يا له من حظ عاثر

ذاك الذي جعل من حياة مارتن قصة محزنة!"

 

لكن حياة مارتن كانت قصة حب جميل

فارتدى المجدَ معطفاً

وكان شعاع شمس على الدروب.

 

كان يندهش لمرأى حصان

أو كتاب

أو طفلة تعلو وجهها بسمة الحبور.

 

أجل.. تلك المشاهدات البسيطة وغيرها

جعلت لحظات عمره عذبة مستملحة.

 

لقد كان في الحياة زينة وبهجة

فهل ينبغي لنا أن نهزأ به

لأننا لم نمتلك قدرته على الإعجاب والتقدير؟

 

لقد امتلك وأعطى حباً غنياً وفرحاً غامراً

وكان قلبه مشرقاً كملابسه الزاهية

فانثروا على ترابه أوراق الغار

ذاك الذي لم يكن بحاجة لإحراز النجاح

لأنه كان النجاح نفسه.

 

Joyce Kilmer

RE-1-22 

 

زهور الوداع

-------------

روت أرملة الزعيم الأمريكي الأسود مارتن لوثر كينغ قصة غريبة حدثت بينه وبينها قبل أن يلقى مصرعه بأيام معدودة، قالت:

"كان الوقت مساء عندما طرق باب بيتي رسول يحمل باقة من الزهور بمناسبة عيد زواجنا، وقرأت البطاقة فإذا بها من زوجي الذي كان قد سافر إلى مدينة ممفيس ليخطب في اجتماع عقده السود...

"وكانت زهوراً جميلة حقاً، ولكنني ما كدت أقرّبها من أنفي حتى اكتشفت أنها زهور اصطناعية لا رائحة فيها! وكانت مفاجأة لي، فلم يحدث أبداً أن أهداني زوجي زهوراً اصطناعية طوال سني زواجنا..

وحملت الزهور لأضعها في آنية، ثم رحت أنتظر عودته إلى أن وصل أخيراً. وما كدت ألقاه حتى شكرته على هديته وقلت:

"إنها زهور جميلة، ولكنها اصطناعية!"

وقال مارتن: "نعم يا حبيبتي، فقد أردت أن أعطيكِ شيئاً تحتفظين به دائما!"

ولم تكد تنقضي بضعة أيام حتى لقي زوجي مصرعه.. أما الزهور فما زالت باقية لم تذبل في المكان الذي أراده لها تحت صورتنا في لباس العرس حتى اليوم!"

مجلة العربي

 

قانون المحبة - ليو تولستوي

------------------------------------

 

إنني لأعجب من الذين يؤمنون بضرورة العنف، إذ لدي قناعة راسخة بأنني عكس ذلك.

 

ليس الجدل هو ما يقنعني ويقنع الآخرين بالحقيقة، فالذي يقرر اعتقادي هو طبيعة الإنسان الروحية، والحب هو أحد مظاهر تلك الطبيعة، وفي اعتقادي أن ذلك الحب يلغي أية إمكانية للعنف.

 

لا أعرف، ولا يمكن لأحد أن يعرف، ما إذا كان استخدام العنف أو الاستسلام عند التهديد بالشر أمراً مفيداً أم عقيماً، ضاراً أم لا ضرر منه. ما أعرفه وما يعرفه الجميع أن الحب أمرٌ حسن. رائع عندما يحس الناس بمحبة نحوي، وأروع من ذلك هو عندما أشعر بحب نحو الجميع، ليس فقط نحو الذين يحبونني بل نحو الذين يكرهونني ويسببون لي الأذى.

 

هذا قد يبدو غريباً لمن لم يختبر هذا الشعور، ولكنه مع ذلك شعور صادق بالنسبة لي، وكلما تأملت عليه كلما تعجبت لعدم إحساسي به من قبل.

 

الحب الحقيقي القائم على نكران الذات والارتباط الوجداني مع الآخرين يشبه يقظة الروح في مستوى أرقى من مستويات الحياة الشاملة.

 

هذا الحب حقيقي ويزخر بخيرات كثيرة عندما يكون مجرداً عن الأغراض والأهواء – أي حب متحرر من كل المنافع الشخصية.

 

...النفس تتألم عندما تقاوم الشر وتشعر بأعظم سعادة عندما تقابل الإساءة بالإحسان.

 

The Law of Love

By Leo Tolstoy

 

سيدة تروي قصتها مع "فنان" أحب الحياة

----------------------------------------------

 

في الربيع بدأت الحياة تعود إلى الأشجار التي جفت تحت صقيع الشتاء.. وجاء البستاني، كما تعود أن يفعل في مثل هذا الوقت من كل عام، ليعاون الشجيرات الصغيرة على الاستمرار في رحلتها الجديدة مع الحياة.

 

وخطر للسيدة صاحبة البيت الصغير أن تخرج إلى حديقتها لترقب البستاني العجوز وهو يعمل.. في البداية لم يحس بنظراتها وهي ترمقه عن بعد، كان يعلم أنها هناك، فقد بادلها تحية الصباح، ولكنه ما لبث أن شُغل بعمله عنها.. لقد أمضى لحظات يتأمل الجفاف الذي أصاب الأرض التي جاء ليعيد إليها الحياة.. ثم ما لبث أن أخرج الأدوات الصغيرة التي كان يضعها في كيس يحمله على كتفه وبدأ يعمل.

 

وفجأة اختفى الرجل العجوز الذي كان منذ دقائق قصيرة يقف حائراً لا يدري من اين يبدأ. لقد تحول إلى شاب صغير!

 

في ساعديه القويتين وعينيه النافذتين عزم وتصميم! ماذا حدث له؟ إنه ذلك الحب الذي يحمله في قلبه للأرض التي أمضى حياته يعمل فيها، وللعمل الذي أصبح كل شيء في عالمه الصغير، وسط الزهور والورود التي يزرعها بيديه، ثم يمضي أيامه يرقبها وهو يرى شجيراتها الصغيرة تنمو وبراعمها تتفتح.. تماما كما لو كانت طفلا يرعاه ويعني به.. إذا أعوزها الماء قدمه لها.. وإذا شحّ الغذاء حمله إليها وراح ينثره على الأرض الطيبة.

 

ومضى البستاني يعمل في هدوء.. يقلب الرض بفأسه ويجمع الأوراق الجافة، ويشق جداول الماء ويصفّ شجيرات الزهور الصغيرة في الأرض بشكل هندسي جميل.. ثم لا تلبث المياه أن تنساب في هذه الطرق الصغيرة لتروي التراب الذي جف تحت الصقيع والثلوج.

 

ووجدت السيدة نفسها، دون أن تدري، تمضي معه في رحلة عمله التي استوعبت كل اهتمامه، حتى لم يعد يشعر بوجودها.. وقالت تحدث نفسها: "مسكين هذا الرجل. تُرى هل وقف لحظة واحدة طوال هذه السنين التي قضاها مع عمله في الأرض ليفكر في أنه لن يصل إلى أكثر مما وصل إليه؟ تُرى كم يكسب من عمله هذا، وهل يكفيه مكسبه في أن يوفر ضرورات الحياة له ولبقية أفراد أسرته؟

 

تُرى هل تمنى يوما أن يكون غير ما كان، وأن يجمع مالاً أكثر؟!

 

ولم تشأ أن تسأله أو أن تذكر له شيئاً مما كان يدور في رأسها في تلك اللحظة.. وهمّت بالدخول إلى البيت، إلا أنها ما كادت تفعل حتى سمعت صوتاً يشدها إلى العودة مرة أخرى، إلى حيث كانت تقف تحت ظلال شجرتها الكبيرة.. لقد كان البستاني يغني.. وكان غناؤه كله للأرض والزرع والطيور والشمس التي بدأت تبعث بدفئها بعد شتاء طويل..

 

وغردت الطيور.. وسكت عن الغناء، ليطلق صفيراً متقطعاً جميلاً، وكأنه يحدثها بلغتها.. وتجمّع أطفال الجيران، ورآهم قادمين فاقترب منهم وراح يحدثهم من وراء سور الحديقة، وأعجبهم حديثه فطلبوا إليه أن يسمح لهم بالدخول، ودخلوا وجلسوا من حوله يرقبونه، ثم ما لبثوا أن بدأوا يمدون أيديهم الصغيرة إلى التراب ليساعدوه فيما يفعل.. وراحوا جميعاً يغطون جذور الشجيرات الصغيرة التي ثبتها في الأرض ويملأون الحفر بما استطاعت أيديهم أن تحمله من التراب والسماد..

 

وساد الحديقة جو غريب من الجمال والسلام.. ولأول مرة منذ شهور طويلة جاءت الفراشات وراحت تنتقل بين الشجيرات الصغيرة معلنة مولد حياة جديدة في الأرض التي كان يكسوها الجفاف.

 

وبدأ يجمل معدّاته وأدواته في كيسه الصغير الذي يحمله فوق كتفه، وهنا فقط تنبه إليّ عندما ذهبت إليه أشكره وأودعه وأسأله متى تعود؟

 

قال وهو يغلق باب الحديقة وراءه ويبتعد في خطوات بطيئة: " قبل أن تجف الأرض يا سيدتي.. لا تقلقي فسوف تنمو شجيراتك وستنعمين بزهور جميلة هذا الربيع!"

 

وتركها وذهب إلى بيت آخر.. إلى حديقة أخرى ليعيد إلى زهورها الحياة!

 

ماذا علّمنا هذا الرجل؟ لقد قدم لنا باقة جميلة من الزهور التي يزرعها.. كل زهرة منها تحكي قصة.. إنها قصص من الحياة التي نعيشها ولا نحس بها في كثير من الأحيان.. لقد علمنا هذا البستاني العجوز القناعة.. وعلمنا كيف نحب عملنا ونتمتع بكل لحظة فيه، بنفس القوة التي نشعر فيها بالانتصار عندما نبتكر شيئا جديداً لخير كل البشر!

 

يقول المشتغلون بعلم النفس إن قبول المرء لنفسه وتقبله لحظّه في الحياة بلا خجل وبلا قلق، والعمل بعد هذا داخل إطار شخصيته وقدرته على الخلق والابتكار.. كل هذه العوامل من شأنها أن تسعدنا وتقضي على أي شعور قد ينتابنا بالخوف من المستقبل..

 

والسلام عليكم

 

مجلة العربي – العدد 329 - 1986 



بين إنسان الغابة والإنسان المعاصر

 

هنري فارمان (1874-1958) أحد رواد الطيران في فرنسا، ممن قادوا وصمموا وشيّدوا الطائرات، قال في كتابه La Vie Ce Jour "الحياة اليوم":

 

"لم يكن أجدادنا مخلوقات فذة.. كانوا مخلوقات ضعيفة إذا قورنوا بالوحوش الهائلة التي كانت تشاركهم حياتهم في الغابات.. ولم يكن لديهم مخالب قوية ولا أنياب ضخمة ولا أجنحة يطيرون بها، ولكنهم مع ضعفهم هذا كانوا يتمتعون بقدرة عجيبة على تكييف أنفسهم وتكييف حياتهم، وفقاً لظروف العيش القاسية في تلك الحقبة البعيدة من حياة الإنسان على الأرض.

 

"واليوم ننظر حولنا فماذا نجد؟ نجد أننا قد روضنا الطبيعة وطوعناها.. غزونا الأرض ومشينا في الفضاء.. أصبحنا سادة في هذا الكوكب، ولكن مع هذا التقدم الهائل الذي حققه الإنسان، ما زال يقف عاجزاً ضعيفاً، وكأنه قزم أمام عملاق الإنسان الأول.. إنسان الغابة الذي سبقنا منذ مئات الألوف من السنين.. لقد عجزنا حتى اليوم عن أن نرث عن أجدادنا تلك القدرة العجيبة التي كانوا يتمتعون بها في تكييف أنفسهم وحياتهم.. فقد أصبحنا عبيداً للروتين. يكفي أن يتغير شيء طفيف في نظام حياتنا فنضطرب ونفقد القدرة على التفكير والقدرة على الخلق والابتكار..

 

"تحية لهؤلاء الأجداد الذين قهروا الوحوش بأيديهم، ثم حفروا الأرض بأظافرهم!"

مجلة العربي

 

هنا وهناك.. تعيش مجموعة من البشر تصنع الحياة في أجمل صورها.

من هم أصحاب الموهبة الذين استطاعوا بالكلمة والعمل أن يعلمونا المعنى الحقيقي للحاية؟

يقول أمرسون: "إنهم هؤلاء الذين يرسمون كل يوم.. كل ساعة.. أروع صور الحياة. إنها ليست لوحات على القماش والورق.. ولا هي تماثيل كتلك التي تعودنا أن نراها ونقف أمامها مبهورين بدقة صُنعها ومهارة أصحابها.. ولا هي أيضاً قصائد خالدة نحفظها وتعيش معنا في الكتب. إنها موهبة الحياة ذاتها.."

ولقد حاول العلماء أن يروا ما رآه أمرسون من قبلهم، وما كادوا يبدأون محاولاتهم حتى وقفوا يسخرون من أنفسهم، فقد وجدوا ما كانوا يبحثون عنه في نفس المكان الذي بدأوا منه. أليس غريباً أن يكون أمامهم وهم لا يدرون؟!

من هم إذن هؤلاء الفنانون؟ إنهم كل رجل يعرف معنى الحياة.. وكل امرأة تعلمت فن الحياة.. هؤلاء جميعاً هم الذين نجد في كل ما يقولون، وفي كل ما يفعلون، تلك المعاني الخفية التي ترفع من روحنا المعنوية.. إنهم هؤلاء الذين عرفوا كيف يَنفذون من تلك الخيوط المضيئة الرفيعة، فتراهم معك في لحظات اليأس والمرض والوحدة.. حتى لو كانوا بعيدين عنك..

أين هذه الصور الرائعة التي صنعها هؤلاء الفنانون، الذين يؤدون عملهم في هدوء دون أن ينظروا أجراً، أو حتى مجرد كلمة شكر على ما قاموا ويقومون به؟! فهذا واجبهم وهو عملهم.. ولكن هناك يكمن الفارق الكبير، بين من يؤدي عملاً لمجرد الرزق، وبين من يؤدي نفس العمل بكل ما وهبه الله له من حب وإخلاص وشعور بالمتعة الحقيقية، وهو عاكف على تأدية نفس هذا العمل..

 

مجلة العربي

 

ضريبة النجاح والتقدم

------------------------

الحياة العملية طريق محفوف بالشوك، وندر أن يوجد شخص نجح نجاحاً كبيراً في الحياة العملية دون أن يكون قد ذاق مرارة وقسوة الفشل.

ولكن الشخص الذي يريد نجاحاً لنفسه في الحياة العملية يجب ألا يجزع لفشله، ولا يجلس ويبكي على اللبن المسكوب، فهذا الجزع وهذا البكاء لن يفيد إلا في استنزاف جهد صاحبه ودفع اليأس إلى قلبه.

وإذا درسنا حياة الكثير من رجال المال والأعمال الكبار، نجد الكثيرين منهم ذاقوا مرارة الفشل والفقر والحرمان، ولكنهم خرجوا من كل هذا منتصرين يشقون طريقهم إلى المجد وإلى القمة.

ومع نصيحتنا للفرد بألا يجزع من الفشل، فإننا نطلب منه أن يدرس أسباب فشله عله يجد في ذلك عظة أو عبرة تباعد بينه وبين الفشل مستقبلا أو الوقوع في نفس الأخطاء. وليضع المرء نصب عينيه أن الفشل هو ضريبة النجاح والتقدم.

اجعل يوم دخولك إلى الحياة العملية بداية تعلم طويل وشاق.

فالتعلم داخل المدرسة وداخل الفصول الدراسية شيء والتعلم من الحياة شيء آخر. ومن المهم أن تؤمن بأن التعلم عملية متصلة طوال مراحل الحياة، والتعلم قد يكون من خلال القراءة الحرة والإطلاع المستمر. واكتساب الخبرة والتعلم قد يكون من خلال الاحتكاك بالخبرة في الحياة العملية.

وعلى الفرد أن يدعم شخصيته برصيد كبير من الخبرات يمكّنه من التعامل بحكمة وبصيرة مع مختلف المواقف والأفراد. ويجب على الفرد أن يتأكد من أنه لا توجد سن معينة للتعلم، فحتى في سن الشيخوخة يستطيع الفرد أن يمضي في تعلم واكتساب خبرات ومهارات جديدة، ومن المهم أن يضع الفرد علمه في خدمة مجتمعه وفي خدمة الناس، لأنه لا خير في علم لا ينفع الناس.

مجلة العربي

August, 2013


هكذا كانت حياتها في البيت الصغير

---------------------------------------

في مدينة صغيرة، عاشت سيدة وجدت نفسها فجأة وسط مجتمع يضم مجموعة من الزوجات العاملات.. كل صديقاتها وجاراتها يعملن، وكانت هي الوحيدة بينهن التي تفرغت لبيتها وأطفالها. فهي لم تتلق من التعليم إلا القدر اليسير الذي لا يؤهلها لشغل أية وظيفة.. ولكنها قانعة بحياتها.. يخرج زوجها إلى عمله في الصباح ويذهب طفلاها إلى مدرستهما، وتبقي هي في البيت الذي كان عملها فيه يستغرق كل وقتها..

وكانت جاراتها يشفقن عليها من الوحدة التي كانت تعيش فيها وراء جدران بيتها بعد أن يذهب أهل الحي كلهم رجالاً ونساء إلى أعمالهم، ويتركونها وراءهم.

أما هي فقد كانت تنعم بكل لحظة من تلك الساعات الطويلة التي تقضيها في هذه الوحدة.. فهي لم تكن وحيدة أبداً كما كانوا يتخيلون.. كان عملها في البيت يستوعب كل وقتها، وكانت رحلاتها القصيرة إلى السوق القريبة هي نزهتها المفضلة، كما كانت تجد نفسها في الجمعيات التي تعمل للخير، فتشارك فيها كلما وجدت فراغاً في يومها المليء.. هكذا كانت حياتها في البيت الصغير الذي حولته إلى مملكة خاصة بها، تضم أحب الناس إلى قلبها، وهكذا أيضاً كانت حياتها خارج البيت مع الناس الذين أحبوها وأحبتهم.

وكانت حيرة جيرانها تزداد كلما رأوها في صباح كل يوم تقف أمام باب البيت الخارجي تودع زوجها وطفليها وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة تحمل كل معاني الرضا والسعادة، بينما ارتفعت يدها تلوح لهم من بعيد...

وتمضي الأيام، ويجيء اليوم الذي تحتفل فيه الجارة كل عام بعيد زواجها من الرجل الذي أعطته كل حياتها.. وأسرعت الزوجة الأم تدعو الأصدقاء والجيران إلى الحفل الصغير الذي ستقيمه لمشاركتها – هي وزوجها – هذه المناسبة السعيدة!

وجاءوا جميعاً.. وفي عيونهم نظرة إشفاق على الجارة التي تعيش في هذا الفراغ.. وكانت المرة الأولى التي يرونها فيها.. كم تمنوا أن يروا بيتها من الداخل.. تُرى ماذا سيجدون فيه؟ وماذا أعدت لهم في هذه المناسبة السعيدة؟

وكانت المفاجأة عندما وقفوا جميعاً في وسط القاعة الصغيرة يتمنون لسيدة البيت وزوجها عيداً سعيداً. لقد كانوا يحدثونها ولكن عيونهم كانت في جولة بعيدة عن صاحبة البيت.. لقد كانت تنتقل بسرعة بين كل ما يحيط بهم في كل ركن، في كل مكان تستطيع أن تصل إليه.

لقد أذهلهم ما رأوا! فقد كان كل شيء في البيت الصغير ينم عن ذوق رقيق.. هل يمكن أن تكون هي وحدها التي صنعت هذا كله؟ الفستان الجميل الذي ارتدته خصيصاً لهذه المناسبة السعيدة، التي ما زالت ذكراها تعيش في رأسها وقلبها.. اللوحات الرائعة التي تزين جدران البيت.. الأواني الفضية والنحاسية التي وضعتها صاحبتها في رشاقة حيث يجب أن تكون.. المفارش المطرزة التي تغطي الموائد الصغيرة بين المقاعد الوثيرة..

وفجأة وجدت المدعوات أنفسهن يتحدثن عن أصالة هذه السيدة البسيطة، وعن عبقريتها وعن قدرتها على الإبتكار والتجميل!

وسمعت هي طرفاً من حديثهن فقالت في خجل شديد: "إنها هوايتي، ثم هو عملي الذي أعطيته كل وقتي!"

ودعتهم إلى المأدبة التي حفلت بكل الأطباق الشهية.. وحدث ما يحدث دائما أمام كل طعام لذيذ.. فقد بدأ الحديث يخف لأن الأفواه مشغولة بما هو أهم من الحديث.. وتركزت الأنظار على ألوان الطعام التي امتلأت بها المائدة!

وأكل الجميع حتى امتلأوا.. وكان الرجال من المدعون أكثر تأثراً بما قدمته لهم مضيفتهم من الأطباق الشهية.. ولكن قصتهم مع هذه الأطباق وما حوته من طعام لذيذ لم تنته، فقد كان لها بقية مع زوجاتهم عندما انتهى الحفل وعادوا إلى بيوتهم: "إننا لم نتذوق طبقاً واحداً شهياً من تلك الأطباق التي امتلأت بها مائدة جارتنا منذ زواجنا!"

قالوها في صدق وصراحة...

أما هي.. صاحبة الحفل، فلم تسكرها المجاملة، فقد كانت تقول دائماً في بساطة وتواضع، كلما عاد الحديث عن الحفل وعن الأطباق الشهية خلال زيارات جيرانها التي لم تنقطع أبدا: "لا تنسوا أنني زوجة متفرغة لبيتي.. وهو أيضاً عمل، بل هو أهم عمل للمرأة في رأيي.. إن صنع طبق من الطعام اللذيذ لا يختلف كثيراً عن إعداد بحث في تاريخ الحياة على الأرض.. ومسح دمعة على وجه حزين هو أروع ما يمكن أن يصنعه الإنسان، إذا أراد أن يشعر بقيمة الحياة.

والسلام عليكم

مجلة العربي – العدد 329 – 1986

 

 

صور الحياة .. أجمل اللوحات

------------------------------

يروى عن الرسام الروسي مارك شاجال أنه لم يكن يقنع أبداً برأي الناس في فنه، وكم من مرة حمل لوحاته التي أثارت إعجاب كل من رآها وعاد بها إلى مرسمه الصغير في بيته، حيث كان يجلس أمامها ساعات طويلة يتأملها، وقد امتلأت نفسه بالشك في صدق ما قاله المعجبون بفنه!

إلى أن جاءه يوماً صديق زائر، يعمل أستاذاً للعلوم الطبيعية. وأحس الصديق بحيرة صديقه الفنان الذي يريد أن يتأكد بنفسه من جمال لوحاته التي وضع فيها كل جهده.

وجلس الصديق يفكر، ثم ما لبث أن قفز من مقعده وقال:

"إن لوحة الحياة يا صديقي هي أروع اللوحات

وأنت تستطيع أن ترسم صوراً من الحياة في كل شيء من حولك..

في فرع شجرة خضراء وارفة

أو في زهرة تفتحت أوراقها

أو في وجه جميل لطفلة صغيرة..

حاول أن تأتي بصورة من هذه الصور

وضعها بجوار لوحتك الجديدة

ثم قف أمام الاثنتين وتأملهما

فإذا وجدت أن لوحتك قد نجحت في أن تثبت وجودها

بجانب هذه الصورة الحية التي تعجز يد الإنسان عن صنعها

فاعلم أنها لوحة ناجحة."

مجلة العربي

 

المتحدث .. والمستمع

 

الكاتب والمؤرخ الإنكليزي الشهير سير لزلي ستيفن (1832-1904) سألوه يوماً:

من هو المتحدث اللبق؟

فقال: "إنه المحدّث الذي يلقى مستمعاً لبقاً".

فعادوا يسألونه: "ومن هو المستمع اللبق؟"

فقال: "الشخص الذي يظهر ميلاً ووداً نحو محدثه. فالاستماع بعطف وود يشجع المتحدث على الاستفاضة في شرح وجه نظره بحرارة دافئة ويساعد المستمع نفسه على إقناع محدثه برأيه حتى لو كان يناقضه على طول الخط.

يجب ألا ننسى أبداً أن المتحدث لا يستطيع أن يشرح ما يريد أن يقوله لغير أذن متعاطفه، حتى لو كان عبقرياً أو موهوباً.

مجلة العربي

 

الراعي المليونير

-------------------

هل يغير المال حياة الناس؟ وإذا تغير أسلوب حياتهم، فهل تتغير معه نفوسهم؟ هذه قصة فلاح بسيط قضى عمره يرعى الأغنام في أرضه التي ورثها عن أبيه بجزيرة ساردينيا، وفجأة أصبح الراعي مليونيراً!

فقد شاءت الصدفة وحدها أن يختار آغاخان قطعة أرض في الجزيرة تجاور أرض الراعي مباشرة، ليقيم عليها قصراً، وارتفع ثمن الأرض التي كانت ترعى فيها الأغنام، واستطاع بعض الأصدقاء أن يقنعوا الراعي ببيع الأفدنة الخمسة التي تجاور حديقة القصر مباشرة، بمبلغ يوازي نصف مليون جنيه استرليني، أودعوها باسمه في البنك.

ولكن صاحب الأرض والأغنام مضى يعيش حياته كما تعود أن يفعل، فقد كان الراعي ويدعى إيفزيو كاشيولي الذي اقترب من عامه الخمسين يجد في صحبة أغنامه متعة وهو يمشي معها فوق التلال، ويقف يتأملها وهي تبحث عن عذائها في الأرض. فقد كانت أغنامه هي كل حياته.. كان يرى فيها أطفاله الصغار الذين لا يحتمل أن يبتعد عنهم لحظة واحدة، فقد بقي طوال هذه الأعوام بلا زواج.

وتمر الأيام وإيفزيو يخرج مع أغنامه في الصباح ولا يعود إلى كوخه الصغير إلا مع الغروب.. ولكنه كان يصحو فجأة على نظرات الإشمئزاز التي كان أهل القرية يستقبلونها بها كلما ذهب إلى السوق ليشتري شيئاً.. فقد كانت ملابسة الريفية تحمل رائحة أغنامه التي يعيش وسطها.

وتذكر أنه يمتلك "بعض المال" في البنك، فلماذا لا يسحب مبلغاً صغيراً يشتري به ملابس جديدة، يضع فيها جسمه النحيل قبل أن يذهب إلى السوق.. حتى يجنب نفسه نظرات الإزدراء والإشمئزاز؟

وقصد إلى البنك.. لكنه ما كاد يخطو بضع خطوات إلى الداخل حتى فوجئ بحرس البنك يستوقفونه ثم يطلبون منه الخروج بسرعة، فليس هذا مكان استجداء المال من الناس، فقد تصوروا أن الراعي صاحب أكبر رصيد في البنك الصغير، متسول جاء يطلب إحساناً..

وعبثاً حاول الرجل أن يشرح لهم لماذا جاء، وانه ليس متسولاً كما يتصورون.

عاود الكرة، لكنهم كانوا في كل مرة يزدادون خشونه في معاملته.

وأخيراً لم يجد مفراً من الذهاب إلى جيرانه الجدد، الذين اشتروا قطعة الأرض وأودعوا ثمنها باسمه في البنك.

وحملوه معهم في سيارتهم الفارهة.. وشاهده حرس البنك وهو يهبط من السيارة، والسائق ينحني له في احترام شديد، فحيوه وأفسحوا له الطريق.

وسأل مدير البنك الراعي المليونير، بعد أن قدم له اعتذاره بالنيابة عن جميع العاملين: "كم جنيهاً تريد يا سيدي.. ألفاً أو ألفين؟"

وقال الرجل: لا يا سيدي.. أريد خمسين جنيهاً فقط لأشتري بدلية جديدة!"

والسلام عليكم

مجلة العربي

 

صحوة الضمير

----------------

عندما اقتحم اللص بيت السيدة العجوز التي اقتربت من عامها التسعين، شعر لأول مرة بأن القدر قد أراد أن يعوضه عن الحرمان الذي عاش فيه طفولته التعسة، فقد كانت الثروة التي خرج بها من مغامرته تربو على المليون دراخما يونانية، أي ما يوازي عشرة آلاف دولار أمريكي تقريباً.

وكانت المشكلة الوحيدة التي واجهت اللص أوديسوس فومفاس (19 سنة) هي أين يخفي هذه الثروة حتى تهدأ العاصفة، ولم يجد أمامه إلا أن يضعها في لفافة يريح عليها رأسه، في ظلال شجرة بإحدى الحدائق العامة في أثينا.

ونام أوديسوس فوق الكنز الذي يحمله دون أن يشعر بأي عطف على السيدة العجوز التي جردها من كل ما تملك، فقد كانت أيام معاناته من الفقر والوحدة تعيش معه، وهو يرى مظاهر الثراء التي تمر أمامه في موكب الحياة مع صباح كل يوم.

ولكن ما كادت شمس النهار تشرق في اليوم التالي حتى كان أوديسوس يجلس تحت شجرته يبكي.. فقد أحس وهو يقرأ صحف الصباح التي كانت تحمل نبأ السرقة بأنه ارتكب أبشع جريمة يمكن أن يقدم عليها بشر.

كان قد قرر أن ينعم بوجبه غنية في أحد مطاعم المدينة، وأن يشتري لنفسه بدلة جديدة، ثم يخرج في نزهة بحرية يزور فيها جزر اليونان التي كان يتمنى أن يراها وهو صبي صغير فقير.. ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا. فقد بقي في مكانه حتى غابت الشمس، ثم حمل اللفافة التي تحوي النقود وأسرع إلى بيت العجوز التي سرق منها أموالها، ووضعها هناك فوق الدرج، ثم راح ينتظر في الظلام بعيداً عن البيت، حتى إذا ما رأى الباب يفتح، ويد العجوز تمتد إلى اللفافة وتفتحها ثم تعود بها إلى الداخل، أسرع يبتعد عن البيت بهدوء دون أن يشعر به أحد.

ماذا حدث؟ ماذا قرأ اللص في الصحيفة؟ كيف استيقظ ضميره فجأة؟

قال أوديسوس لرجال الشرطة الذين تمكنوا من إلقاء القبض عليه بعد أن اطلعوا على رسالة الاعتذار التي بعث بها إلى صاحبة المليون دراخما:

"أحسست برأسي يدور عندما قرأت في الصحيفة أن هذا المبلغ كان من المقرر أن تنقله السيدة العجوز إلى أحد ملاجئ الأيتام في المدينة.. وقرأت اسم الملجأ فإذا بي أكتشف أنه نفس الملجأ الذي دخلته طفلاً صغيراً منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، عندما قتل والداي في حادث سيارة، ولم يقبل أحد من أسرتي أن يؤويني ويرعاني.. لقد كان هذا الملجأ بيتي الذي وجدت فيه الدفء والحنان وسط مئات الأطفال من أمثالي.. ولم أحتمل مجرد التفكير في حرمانهم من مال كان من الممكن أن أنعم به معهم".

وقدم أدويسوس للمحاكمة واطلع القاضي على اعترافاته كاملة، ثم انتقل ببصره إلى حيث كان اللص التائب يقف في قفص الاتهام، وقد تهلل وجهه بابتسامة تحمل كل معاني الرضا والارتياح، وقال القضاء كلمته: "إن صحوة ضميرك يا بني قد شفعت لك، ولذلك سوف نعاقبك لمدة ستة أشهر، ولكن مع وقف التنفيذ".

وفي الخارج، كانت مديرة الملجأ تنتظر أوديسوس لتعرض عليه وظيفة سكرتير للملجأ الذي دخله طفلاً جائعاً يتيماً.

والسلام عليكم

مجلة العربي

 

حبه لابنه حوله إلى عملاق

------------------------------

كان يحرص على إصلاح سيارة والده القديمة بنفسه كلما أصابها عطل. وفي أحد الأيام اضطر لارس لنج الشاب الذي لم يكن قد بلغ بعد عامه الثامن عشر إلى التمدد تحت عجلات السيارة ليفحص العطب الذي عطلها عن السير.

واعتمد الشاب على الرافعة التي ساعدته على أن يستلقي بجسمه كله تحت السيارة. وانقضت بضع لحظات، وفجأة هبطت الرافعة ونزلت السيارة إلى المستوي الذي كانت عليه فوق الأرض.. نزلت بكل ثقلها على جسم الشاب الذي صرخ متألماً يطلب النجدة.

واستمر الشاب يصرخ. في البداية كان صراخه قوياً ثم بدأ صوته يضعف ويضعف إلى أن ذهب في غيبوبة لم يعد يشعر معها بالضغط الذي كان يحطم عظامه.

ومرت ساعتان وحان موعد العشاء، وخرجت الأم تنادي ابنها، لكنها لم تسمع جواباً، وخطر لها أن تتجه إلى مكان السيارة.. ووجدته هناك مستلقياً تحتها بلا حراك، فراحت تصرخ في هلع، ووصل صراخها إلى أذني الأب الذي كان يجلس إلى المائدة في انتظار مجيء ابنه، فقفز من مقعده في هلع وأسرع مهرولاً إلى الخارج.

كان الأب أولاف الذي يعيش في مدينة ستوكهولم عاصمة السويد قد اقترب من عامه الخمسين، وكان يمشي بصعوبة بعد الجراحة الأخيرة التي أجريت له في العمود الفقري، وكان نحيفاً متهالكاً يتحرك بصعوبة.. لكنه لا يدري كيف استطاع في تلك اللحظة أن ينسى آلام ظهره. لقد انطلق حيث كانت تقف زوجته، وقد استبد بها الرعب، ولم يكن في حاجة إلى الانتظار لتشرح له ما حدث، فقد أدرك على الفور أن حياة ابنه في خطر وأن عليه أن يعمل بسرعة أي شيء لانقاذه من موت محقق.

ولم يتوقف ليفكر، بل اتجه بسرعة إلى مقدمة السيارة وراح يرفع هذا الحمل الثقيل عن جسم الشاب الذي كان يلتقط أنفاسه بصعوبة وهو مغمى عليه.

وارتفعت السيارة بالقدر الذي سمح للأم بأن تجر ابنها من تحتها.. ونقل لارس إلى المستشفى لإسعافه بالعلاج.

وقال الأطباء الذين تولوا علاج الإبن، وكانوا يعلمون بالجراحة الخطيرة التي أجريت للأب منذ بضعة أسابيع: "لقد كنا في قلق شديد عليه، فهو رجل ضعيف البنية وقد تركته العملية الجراحية التي أجريت له شبه عاجز عن القيام بأي مجهود جسماني. لقد حاول مراراً أن يرفع السيارة أمامنا، كما فعل عندما كان ابنه يقترب من الاختناق تحتها، ولكنه لم يستطع أن يحركها من مكانها. إنه الحب.. حب الأب لابنه.. لقد حرّك هذا الحب في داخله قوة هائلة أنسته مرضه وحولته إلى عملاق."

مجلة العربي

 

وفاءٌ متبادل: عصفورا الكناري وصاحبتهما تريزا

--------------------------------------------------

 

عندما فقدت تريزا جيو شيلي توازنها وسقطت على الأرض في مطبخ البيت الصغير الذي تعيش فيه مع الوحدة وآلام الشيخوخة بمدينة ميلانو، أدركت على الفور أنها لن تستطيع الوقوف على قدميها مرة أخرى، فقد تقدم بها العمر وأصابها الوهن والضعف.. إذ كانت قد جاوزت الثمانين!

 

ولكنها لم تنس في تلك اللحظة صديقيها اللذين بقيا يؤنسانها في وحدتها.. إنهما كارلا و بولا العصفوران الصغيران الكناريان اللذان كانا يملآن البيت بصفيرهما.

 

وقالت تريزا العجوز تحدث نفسها: "ترى ماذا سيكون مصيرهما وأنا راقدة في مكاني غير قادرة على الحركة أو حتى الاستغاثة؟"

 

كانت تعلم أن أحداً لم يسمعها حتى لو استطاعت أن ترفع صوتها طالبة النجدة.. ولم يكن في البيت جهاز تليفون أو أقارب أو أصدقاء قريبون منها.. وأدركت أن رحلتها مع الحياة سوف تنتهي في هذا المكان الذي سقطت فيه، لكنها لم تستسلم رغم الآلام الشديدة التي كانت تحتوي جسدها الضعيف العجوز.

 

راحت تزحف بكل جسمها المنهك في اتجاه القفص الصغير الذي يعيش فيه صديقاها كارلا و بولا، وكانت تريد أن تفتح لهما باب القفص ليخرجا منه لأنها لا تريد لهما أن يموتا معها من الجوع والعطش!

 

ووصلت إليهما أخيراً وخرج الصديقان، وانطلقا عبر نافذة المطبخ الصغيرة، ثم أغمي عليها!

 

ولكن الصديقين لم يتركا صاحبتهما.. لقد كان في وسعهما أن ينعما بالطيران في الحرية التي أعادتها إليهما صاحبتهما ولكنهما لم يفعلا.. لقد بقيا هناك فوق سور شرفة البيت المطلة على الشارع، وراحا يصفران ويملآن الدنيا بغنائهما الجميل!

 

ولفت هذا المنظر غير المألوف أنظار الجيران.. فقد تعودوا أن يروا العصفورين الصغيرين، ولكن داخل القفص، أما هكذا وهما خارجه وفي مكانهما لا يبرحانه فهذا الشيء الجديد الغريب!!

 

وأشفق الجيران على العصفورين من الضياع وسط هذه البيئة التي لم يألفاها، فأسرعوا إلى البيت يطرقون الباب، ولكن أحداً لم يجب، فقد كانت صاحبته العجوز ما تزال في غيبوبتها!

 

واستنجدوا بالشرطة وفـُتح الباب أخيراً.. ووجدوا صاحبته ملقاة على الأرض وقد أصيبت بكسور في ساقها.. ونقلوها إلى المستشفى للعلاج، وعلى فراشها الصغير قالت وهي تتطلع إلى عصفوريها الجميلين، كنت أعرف أنهما كل ما تبقى لي في هذه الدنيا.. لقد أنقذا حياتي!

 

قال رجال الشرطة وهم يتطلعون في إعجاب إلى هذا الوفاء:

 

"هل تعرفين يا سيدتي أن صديقيك قد عادا إلى القفص عندما أدركا أنك لم تعودي وحدك! إننا ما كدنا نصل إليكِ ونحملك في طريقنا إلى المستشفى، حتى فوجئنا بهما يعودان إلى بيتهما الصغير، فعدنا نغلق الباب عليهما، وحملناهما إليكِ ليكونا بجوارك عندما تفتحين عينيكِ مرة أخرى على الحياة التي تصورتِ أنها قد انتهت!"

مجلة العربي

 

أبحث عنك وعن المنديل: هدية العام الجديد

-------------------------------------------------

أراد أن يستقبل العام الجديد بعمل طيب يبقى حياً في ذاكرته هو على الأقل طوال أشهر السنة.

كان يريد أن يسعد قلباً أو يسهم في إزالة همّ عن أسرة فقيرة يعوزها المال. ولكن مشكلة كانت تكمن في كثرة عدد الفقراء بمدينة رانجون في بورما، وفي الأعداد الكبيرة التي تضع أجسامها في الأسمال البالية وتندس بين الفقراء وهي لا تمت إليهم بصلة... هو نفسه كان رجلاً متوسط الحال ولا يستطيع أن يقدم الكثير، ويكفيه أن يسعد إنساناً واحداً، ولكن كيف يجده وسط الزحام الكبير من أصحاب الأيدي الممدودة؟!

وفي مساء أحد الأيام خرج كعادته كل يوم يبحث عن الفقير الذي سيقدم له هديته الصغيرة بمناسبة مولد العام الجديد.. وامتد به الوقت، وطال بحثه عن ضالته ولكن على غير جدوى.

وأخيراً قرر أن يعود على أن يستأنف رحلته مع مجيء اليوم الجديد.. ولكنه وجد نفسه يتوقف فجأة عندما لمح شبح رجل يرتدي ملابس نظيفة.. رجل جاوز رحلة منتصف العمر، ووقف يرقبه وهو لا يدري لماذا اختاره هو دون سائر الناس الذين كانوا يمشون في الشارع بعد أن غابت الشمس.. ووجد الرجل يخرج من جيبه منديلاً أبيض كبيرا ويلقي به على الأرض.. ثم رآه يتلفت يميناً ويساراً قبل أن ينحني ويلتقط المنديل مرة أخرى، ولكن المنديل بدا أضخم وأثقل من حجمه وكأنه يحمل شيئاً في داخله.

ومشى الرجل (أبو المنديل) في طريقه دون أن ينظر وراءه.. وقرر الرجل الآخر الذي يبحث عن الراحة في العطاء أن يتبعه.. وفعل حتى إذا ما رآه يدخل بيته الصغير المتهالك في هذا الحي الفقير الذي يعيش فيه، أسرع يطرق الباب.

وفتحه الرجل صاحب المنديل.. وما كاد يراه حتى أجفل وأحس بالفزع.. وقال في صوت خفيض ذليل: "هل من خدمة أؤديها لك.. هل تبحث عن أحد هنا في حيّنا؟"

قال: "أبحث عنك وعن المنديل الذي كنت تحمله."

أجاب: "أنا لم أسرق أحداً يا سيدي، إنها دجاجة ميتة سوف آتيك بها لتراها.. إن زوجتي تحتاج لغذاء خاص لا أملك ثمن شرائه، لأنها ترضع الصغير الذي رزقنا به منذ أسبوع.. ووجدت الدجاجة فجئت بها إلى البيت!!"

وأسرع الرجل يخرج كل ما في جيبه ويقدمه له ويقول وهو يودعه ويتمنى له عاماً سعيداً: "أنت رجل فقير يا سيدي، ولكنك غني بخلقك وكرامتك".

والسلام عليكم

مجلة العربي

 

أطياف الأحبة...

-----------------

قصائدٌ من تموجات الصدى

ورقة وصفاء الندى

وعبارات من أرقى طبقات الكلام

تجسّد روعة الإخلاص

وجمال الوفاء.

وصورٌ معنوية

تبهج النواظر والخواطر

وفوحُ عبيرٍ

وطلاقة تعبيرٍ

عن أبهى تجليات الفكر والشعور..

وذخيرة وجدانية

من بهجة وإيناس

وعمق إحساس

ونهرٌ من خلجات القلوب

ورياضٌ عابقة بالطيوب

ومنظومة بسيطة من العفوية

والود الخالي من التكلف

وبسمة مضيئة في دجنة الليالي

وإطلالة بهية مع افترارة الفجر

واكتمالٌ سعيد لرحلة العمر.

فتحية للأحبة

ولأطيافهم الأثيرة

هنا.. أو في الأثير.

محمود

 

بمعيتكم...

------------

في محاضرة لأحد الأساتذة عن أهمية إشراك الآخرين في تجاربنا الحلوة الشيقة، قال:

"إن ذهبنا إلى مكان جميل بمفردنا، لا نتمتع بذلك الجمال كما لو كنا بصحبة أصدقائنا وأحبتنا، وغالبا ما نفكر قائلين:

"يا ليتهم معنا الآن حتى نستمتع سوية بهذه المناظر الخلابة."

تصورتكم معي أيها الأصدقاء في رحلة

لا أقول افتراضية، بل وجدانية

على دروب خالية من العوائق والعراقيل..

مفضية إلى مروج مترامية

يعمّها ويغمرها السلام

وتترقرق فيها جداول باردة

تفعم مياهَها الضاحكة

تياراتٌ من البهجة والإيناس.

هنا قد تقع أبصارنا على زهور نادرة

جذلى.. بديعة التكوين

يختلج في قلبها عُرف طيّب..

تغترف جاذبيتها من روح الوئام

وتهمس بتلاتها "ما أعذب الوفاق"!

أو قد تداعب وجناتِنا نسماتٌ طرية

محمّلة بنفحات عطرية

توقظ أحاسيس عميقة

من الفهم الودي والتعاطف والصفاء..

تنقل إلينا من بُعد آخر

انطباعاتٍ مضيئة

تجتليها الخواطر

وتعانقها النفوس.

وقد نمرّ بأناس يخطرون براحةٍ وأمان

دون همومٍ تبهظ كاهلهم

أو ضغائن تكبل مشاعرهم

بل يشع من عيونهم وهج الإيمان

ولسان حالهم يقول:

سبحان من يفتقد الواثقين به

الراجين عونه في السراء والضراء

ويجود عليهم بسكينة النفس.

أو قد نلمح عند خط الأفق

سلسلة من جبال زمردية ذات رسوخ

تبعث في القلب الطمأنينة

وتغرس في الروح القناعة

بأن الحياة تزينها الشمم ويتوجها الشموخ

مهما اشرأبت الصغائر وكثرت الأحافير

وأن قدَر الإنسان النهوضُ والإرتقاء

والزحفُ نحو السماء..

 

إلى قلب كبير

----------------

أيها القلب..

ما أرقـّك تفيض دعة وعذوبة..

وما أصلبك لا تقوى على اعتصارك يد القنوط

ولا تصدّعك أحداث العمر!

ما أخفك تنطلق برشاقة متناهية

لتجوب الأصقاع النائية

وتقطع المسافات البعيدة كلمح البصر..

ما أسطع توهجك في الظلام

مثل كواكب الليالي..

وما أقدركَ على حمل الجميل والذكريات

طوال عمرك الزاخر بالحب النابض.

وما أبهج زهور الشوق

متفتحة في رياضك

دائمة الخضرة والنضرة!

أيها القلب..

مهما الزمانُ تنمّرَ وتغيّرَ

والجو أمسى قاتماً ومعكرا

والفكرُ تاهَ بين أشتات الرؤى

والودُ شحّ نبعُهُ بين الورى

تبقى سخياً دائماً بعطائكَ

وتظلُ أغراسُكَ دوماً مثمرة

 

أيها الوجه...

-------------

يا من تكتنف

قسماتك الأسرار

وتختزن ملامحك

آلاف المعاني..

أرى ألق الجمال

ندياً وردياً في تضاعيف بشرتك

وصبيب الشوق

يغسل، كدموع الفجر، سحنتك

فيتضوع منك

عبق غريب

شبيه بشذى الأدغال.

أتأمل تقاطيعك المتناهية

فأبصر فيها هياكل سكينة

ومحاريب إنشاد

ولياليَ راقدة

وعهوداً باقية

وعواطفَ راقية..

وأصيخ السمع

لهمسك العميق

فأسمع أناشيد ذكرى

وأهازيج تفاؤل

وفصاحة ثبات

وهديرَ حنان

وألحانَ ديمومة

أقوى من التلاشي.

فتحية لك أيها الوجه

ولكل وجه فيه منك شبه.

 

عندما بكى الرئيس الفرنسي بومبيدو

------------------------------------------

بكى جورج بومبيدو رئيس جمهورية فرنسا الأسبق عندما جاءوا إليه يوماً في عام 1947 يقولون له: "لقد مات صديقك بيير بونارد Pierre Bonnard"

وقال : "لقد كان فناناً أصيلاَ"

ثم جلس بومبيدو بعد ذلك يروي قصة ذلك اليوم الذي اقتادوا فيه هذا الرسام الكبير إلى مركز الشرطة في باريس عندما وجدوه يحوم حول إحدى لوحاته المعروضه في متحف جرينوبل.

قال بومبيدو: "لقذ شاهد حارس المتحف رجلاً ضئيلاً رث الثياب يرتدي معطفاً ملطخاً بالألوان ويقف على مقربة من إحدى اللوحات النادرة، وقد حمل فرشاته وألوانه في يده. وراح يعبث بها في أحد أركان هذه اللوحة النادرة!"

"وأمسك الحارس بتلابيب الرجل الذي حاول جاهداً أن يؤكد له أنه ليس هناك ما يدعو إلى الإزعاج وأن كل ما في الأمر أنه اكتشف أن لوحته في حاجة إلى إعادة طلاء بعض أجزائها!

"ولكن الحارس رفض أن يصدق أن هذا "الصعلوك" هو بونارد، ونادى الشرطي فأخذه إلى أقرب مركز للشرطة.

ولم ينقذ بونارد من المبيت ليلة على الأقل رهن الإحتجاز سوى زوجته، إذ طلب من الشرطة أن تدعوها.. فجاءت الزوجة، وما كادت ترى زوجها حتى ارتمت بين ذراعيه.

"ولم يغضب برنارد ولم يحتج، وكان كل ما فعله أن قال للضابط وهو يودعه: "الآن فقط تأكدت من أن لوحاتي في أيد أمينة!"

مجلة العربي

 

مع موم و برنارد شو

------------------------

كان سومرست موم المؤلف الإنكليزي الشهير (1874-1965) يعاني من اللعثمة منذ طفولته. سألوه يوماً: ما هو الحادث الذي ترك أثره في حياتك أكثر من غيره؟ فقال:

"كنت أعالج أحد المرضى عندما كنت طبيباً شاباً في الثلاثين، وكان مريضي هذا أستاذاً بالجامعة. وما كدت أنتهي من الكشف عليه حتى جلست أشرح له مرضه وأصف له الدواء. ولكنني لا أدري لماذا وجدت صعوبة كبيرة في الكلام في هذا اليوم. حقيقة كنت أعاني دائماً من اللعثمة، ولكنني أحسست يومها أن مقاطع الكلمات قد توقفت تماماً على لساني، وأحسست بالعرق يتصبب على جبيني، وحرت ماذا أفعل.

"وأخيراً أمسكت بقلمي ورحت أكتب له كل شيء عن هذا الداء الذي أصابه، وتاريخ إصابته به ووسائل علاجه وطرق الوقاية منه.

وأمسك الأستاذ المريض بما كتبت وراح يقرأ.. وفجأة توقف عن القراءة، وقال لي وهو يبتسم:

"أنت لست بطبيب يا مستر موم. أنت رجل أديب.. أنصحك يا بني بأن تتجه إلى الكتابة، فالقلم صناعتك!"

"وفي تلك الليلة عدت إلى بيتي لأكتب أول مقال عن قصتي مع الأستاذ.. تلك التي غيرت مجرى حياتي!"

تطلعات برنارد شو في عامه التسعين

-------------------------------------------

قال برنارد شو فيلسوف الإنكليز الساخر (1856-1950) في عيد ميلاده التسعين:

"تذكروا دوماً أن تصرفاتنا ومسلكنا في الحياة لا تتأثر بالتجارب التي ممرنا (ونمر) بها، وإنما بالتطلعات التي نصبو إليها!"

سألوه: "وما هي تطلعاتك وأنت تخطو نحو عامك الحادي والتسعين؟"

قال: "أن أفرغ من وضع كتابي الجديد قبل أن أودّع هذه الدنيا!"


حكمة صينية:

--------------

من صفات الزعيم أنه يستطيع أن يدفع الناس إلى وضع ثقتهم فيه.. ولكن الزعيم العظيم هو ذلك الذي يستطيع أن يعيد للناس ثقتهم بأنفسهم.


وقال فيلسوف الألمان الأشهر غوتيه:

كثيرون هم هؤلاء الذين يعيشون حياتهم كما لو كانوا يهربون من شيء.. ولكن العقلاء وحدهم هم الذين يتوقفون ليبحثوا عن هذا الشيء الذي يهربون منه، وعندما يفعلون، لا يجدون له أثراً!


مجلة العربي - نوفمبر/تشرين الثاني 1970

 

عظمة القائد و ابن الرئيس

-----------------------------

عظمة القائد

--------------

عظمة القائد هي في قدرته على الاستعانة برجاله دون أن يستسلم لهم، ولكنها أيضاً في ثقته بهؤلاء الرجال الذين يتمتعون بقدر كافٍ من الشجاعة يمكّنهم من أن يقولوا له "أنت مخطئ!"

الإمبراطورة كاترين الثانية – ملكة روسيا 1729 - 1796

-------------------

كان أصغر أبناء الرئيس الأمريكي السادس والعشرين ثيودور روزفلت (1858-1919) يقود سيارته في أحد الأيام بسرعة جنونية، وفجأة أفلتت عجلة القيادة من يده واصطدم بشجرة كبيرة وكاد يتسبب في مصرع طفلين صغيرين كانا يسيران وحدهما على الطريق.

وقبض رجل البوليس على الشاب الطائش وقدمه للمحاكمة، لكن قبل أن ينطق القاضي بالحكم، وهو يقضي بحبسه شهراً وتغريمه مبلغ ألف دولار، طلب الإبن أن يتصل بأبيه في البيت الأبيض لإعفائه من عقوبة الحبس والإكتفاء بتغريمه.

ووافق القاضي وتم الإتصال بين الإبن ووالده رئيس الجمهورية في ذلك الوقت. وراح الأب ينصت حتى انتهى الإبن من حديثه، ثم قال له اعطني القاضي لأحدثه، وتكلم الأب قال:

"اسمع يا سيدي.. لقد حكمت على ابني بالسجن شهراً وبغرامة ألف دولار.. وحيث أنه لا يملك من هذه الألف سنتاً واحداً.. ونظراً لأنني غير مستعد على الإطلاق لدفع هذا المبلغ بالنيابة عنه، لذا أقترح أن يدفعه هو شهوراً أخرى يقضيها في السجن!"

وانتهى الحديث.. وابتسم القاضي ابتسامة عريضة، وقال للإبن الذي كان يقف وقد بدت على وجهه علامات الإرتياح الشديد:

"إسمع يا بني.. لقد أعفاك والدك من دفع الغرامة.. ولذلك فسوف تقضي في السجن ثلاثة أشهر بدلاً من شهر واحد!"

مجلة العربي

 

مع باسترناك و أديسون و تشيخوف

---------------------------------------

الكاتب الروسي الشهير الدكتور بوريس باسترناك، مؤلف قصة الدكتور جيفاغو، تساءل يوماً:

"هل يستطيع الإنسان أن يحدد مصيره ومستقبله؟"

ثم قال مجيباً على تساؤله:

"نعم يستطيع. فبالرغم من شكل نظام الحكم القائم في بلادهم، استطاع الكثيرون من الرجال في مختلف أنحاء الدنيا أن يغيّروا مستقبل بلادهم بصورة ما، ولكن المهم دائماً أن نمارس الحرية التي كفلها لنا قانون حقوق الإنسان.

"فما نفعله اليوم هو الذي سيحدد معالم الطريق الذي سيسير عليه عالم الغد".

"إن أحداً لا يستطيع أن يعرف الآن شكل هذا الطريق، ولكن يجب ألا ندع اليأس يتطرق إلى قلوبنا لحظة واحدة مهما كانت قسوة الظروف التي نعيش في ظلها.. يجب أن ننتهز كل فرصة من أجل مساعدة بلادنا ومساعدة العالم من حولنا من أجل تحقيق السلام والحرية والإخاء للجميع!"

-----------------------------------

احترقت معامل أديسون الهائلة في مدينة نيوجرسي الأمريكية في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1914، وهكذا فقدَ العالم الكبير توماس أديسون في ليلة واحدة معدات وآلات قدر ثمنها آنذاك بأكثر من مليوني دولار، إلى جانب المعلومات العلمية الهامة التي قضى حياته كلها في البحث عنها.

وقد روى تشارلز ابن أديسون قصة تلك الليلة الرهيبة، قال:

"وقفت أمام ألسنة الدخان المتصاعدة أبحث عن أبي وسط الناس الذين ازدحموا حول مكان الحريق، وأخيراً وجدته يقف وحده يتأمل النيران في هدوء وهي تلتهم ثمرة كده وكفاحه.. ووقعت عيناه عليّ أخيراً، فصاح بي قائلاً "أين أمك؟ نادها بسرعة، فهي لن ترى منظراً كهذا طول حياتها!"

"وفي صباح اليوم التالي جئنا – أبي وأمي وأنا – ورحنا نسير وسط حطام آمال وأحلام والدي،، وفجأة توقفنا عن السير، وقال والدي: "حقيقة كارثة، ولكنها لا تخلو من نفع.. لقد التهم الحريق جهدي ومالي، ولكنه خلصني أيضاً من أخطائي.. شكراً لله، فنحن نستطيع الآن أن نبدأ من جديد بلا أخطاء!!"

------------------------------

ما هي الحياة؟

يقول الكاتب المسرحي الروسي الكبير أنطون تشيخوف:

إنها حفل كبير.. يصل إليه البعض متأخراً ويتركه البعض قبل أن ينتهي، بينما يبقى البعض الآخر حتى بعد انصراف غالبية المدعويين..

وفي الحفل تتركز الأضواء على بعض النجوم، بينما نجد الكثيرين ينزوون بعيداً عن عيون الناس، فلا يشعرون بأحد ولا يشعر بوجودهم أحد..

ولكن الكل يستوون عندما تطفأ الأنوار وتهدأ الموسيقى وينصرف الجميع عائدين من حيث أتوا!".

والسلام عليكم

مجلة العربي – العدد 136

 

تولستوي و السلحفاة و هوغو و القطة

-----------------------------------------

كان ليو تولستوي كاتب روسيا الشهير قليل الإنتاج، بطيء القراءة والكتابة.

قال يوماً يشرح طبيعة نفسه في اجتماع عقده أدباء روسيا:

"إنني لا أقرأ وإنما أنا أدرس وأبحث وأتأمل في كل سطر أقرأه.

لقد استغرقت أكثر من ثلاثة أشهر كاملة في قراءة كتاب لأحد فلاسفة الهند!

أما عندما أجلس لأكتب، فإنني أحرص دائماً على أن أكتب الفقرة الواحد أربع مرات. في المرة الأولى أضع المعنى الذي أقصده، وفي المرة الثانية أضيف إليه ما كنت قد استبعدته عن فكري. وفي المرة الثالثة أستبعد ما قد أراه غير ملائم وغير ضروري، وفي المرة الرابعة والأخيرة أضع العبارة في صيغتها النهائية وكأنني قد كتبتها لتوي!"

وصفوه يوما بالسلحفاة، فقال وهو يبتسم:

"ربما كنت مثلها حقا! ولكن إياكم أن تنسوا سباقها مع الأرنب. لقد سخر منها في غرور فإذا بها تصل قبله إلى نهاية الشوط!"

بين هوغو وقطته!

-------------------

فيكتور هوغو كاتب فرنسا الكبير ومؤلف قصة البؤساء الخالدة، فوجئ يوماً بخادمته العجوز تقتحم غرفة نومه وقد استبد بها ذعر هائل، وهي تقول في هلع:

"هل أنت بخير يا سيدي؟"

- كل الخير، ولكن ما الذي دفعك إلى الظن بأنني لست بخير؟

- أرجوك أن تصفح عني يا سيدي.

- ولكن ماذا حدث؟

- لقد أخطأت ووضع لك طبق اللحم المسلوق والحساء الذي أعددته للقطة، بينما وضعت طبقك أنت لهذه القطة... سامحني يا سيدي؟

- وماذا كان الفرق بين الطبقين؟

- لا شيء أكثر من أنني وضعت قطع اللحم في طبقك الذي أكلته القطة، بينما ملأت طبقها الذي أكلته أنت بالشحم والجلد!

وهنا ابتسم الكاتب الكبير وقد ارتسمت على وجهه اتبسامة عريضة:

"تستطيعين أن ترتاحي بالاً يا سيدتي، فقد كان طبق الحساء الذي تناولته بالأمس ألذ طبق أكلته في حياتي!"

------------------------

قال برتراند راسل:

الحياة أقصر من أن نقضيها في تسجيل الأخطاء التي ارتكبها غيرنا في حقنا، وفي تغذية روح العداء بين الناس.

وقال: هـ. ج. ولز:

نخطئ عندما نحاول أن نكشف كل مساوئ هؤلاء الذين سنقضي معهم كل أيام حياتنا.. أفضل لنا بكثير أن نعرف أقل ما يمكن معرفته من هذه المساوئ حتى لا نحيل حياتنا إلى جحيم.

طاب يومكم والسلام عليكم

مجلة العربي – العدد 148

 

أخلاق العلماء

---------------

 

يروى عن سير ألكسندر فلمنغ Alexander Fleming مكتشف البنسلين أنه ذهب يبحث عن غرفة خالية في أحد فنادق ستوكهولم، عاصمة السويد، عندما سافر إليها في عام 1945 ليتسلم جائزة نوبل. وكان العالم الإنكليزي الكبير قد فضل ألا يعلن عن موعد وصوله.

 

أخيراً توقفت به السيارة التي كان يستقلها من المطار أمام أحد الفنادق الكبرى، فنزل واقترب من السيدة التي كانت تقف أمام مكتب استقبال النزلاء وسألها عما إذا كانت لديها غرفة خالية!

 

لكن السيدة سرعان ما اعتذرت قائلة أن جميع الغرف محجوزة للعلماء والوفود الذين سيحضرون للإحتفال بتوزيع جوائز نوبل!

 

وكانت إحدى الفتيات العاملات بالفندق تستمع إلى هذا الحديث، وقد راحت تتأمل وجه الرجل الذي كان قد استدار في طريقه إلى الخارج وتقارنه بالصورة التي حملتها صحف الصباح للعالم الفائز بجائزة نوبل.

 

وعندما تأكدت من شخصيته اقتربت من زميلتها وهمست في أذنها بإسمه!

 

وفجأة تركت السيدة مكتبها وهرولت وراء سير ألكسندر وهي تعتذر بشدة عما بدر منها وتقول:

 

"لم أكن أدري أنك شخصية لها أهميتها يا سيدي. سأعمل فوراً على إيجاد جناح خاص لك!"

 

وتوقف العالم الكبير للحظة، ثم نظر إلى محدثته وقال: "شكراً لكِ، ولكن يجب أن تعلمي أن لكل إنسان يا سيدتي شخصيته. وأنا لا أريد جناحاً وإنما أريد غرفة، وسوف أجدها في فندق آخر، إلى اللقاء!!"

 

مجلة العربي العدد 163- 

RE 5-22

 

الفلاح الأديب

---------------

 

الكاتب الروسي الكبير شولوخوف 1905-1984 ، الحائز على جائزة نوبل للأدب على قصته نهر الدون الهادئ، قال أن أعظم شيء يفخر به أنه عاش طول حياته فلاحاً.

 

ولد الكاتب الشهير في بيت ريفي صغير لأم فلاحة من قبائل القوزاق وأب كان يعمل صياداً للسمك، فورث عن أبيه هواية الصيد وتعلق بالأرض التي حفرتها أمه بأظافرها!

 

وذاق شولوخوف مرارة البؤس والحرمان، فكان يزرع ويحرث ويرعى الغنم على ضفاف النهر الذي عشقه وصوره في قصته الخالدة.

 

سأله الصحفيون في ستوكهولم عاصمة السويد عندما سافر إليها ليتسلم قيمة الجائزة: "ما هي انطباعاتك عن مدينتنا؟"

 

فأجاب الفلاح الأديب: "إن بلادكم جميلة، ولكنني افتقدت فيها قاربي الصغير الذي أخرج فيه لأصطاد السمك، وافتقدت الأرض التي علمتني أمي كيف تخرج الأرض من جوفها، وافتقدت أخيراً الغابة التي أذهب إليها لأتعلم..

 

إن هذه الأعمال الصغيرة، وتلك الرحلات القصيرة التي أقوم بها في قريتي هي التي علمتني الحياة.. إنها تزخر بصور وأشياء لا يمكن أن أجدها في الكتب!"

 

مجلة العربي - العدد 160 

 

July 2013

 

----------------------


ألا ليتَ الشباب...

--------------------

لا أظن أن أحداً يجهل بيت أبي العتاهية الذي أصبح من أكثر الأبيات حفظاً واستحضاراً

وبذلك أقصد:

ألا لَيْتَ الشبابَ يَعُودُ يَوماً .. فاُخْبِرَهُ بما فَعَلَ المَشيبُ

وهذا البيت تابع لبيت آخر هو:

بَكَيْتُ على الشباب بدَمعِ عَيْني .. فلَمْ يُغنِ البُكاءُ ولا النحيبُ

على مدى قرون اكتسب بيت (ألا ليت الشباب) شعبية واسعة وبات على لسان الصغير والكبير، وكأنه تحفة أدبية أبدية لم يجد الدهر بمثلها، مع أننا لو وقفنا عنده وقفة متمعنة وتساءلنا عن السر من ذلك التحسّر من جانب الشاعر فلربما استنتجنا أن هذا البيت كان وبالاً على الإرادات والهمم، وإن كانت له خاصية فريدة فهي في تقديري لا تتعدى بساطة الكلمات وسلاسة الألفاظ وتسطيح المعنى.

هل نظم الشاعر هذا البيت إثر عجز جسماني ألمّ به فسلبه قواه ومنعه من الحركة بحرية والإلمام بشؤونه الخاصة؟

أم أنه كان على درجة معقولة ومقبولة من النشاط، بالرغم من استحالة لون شعره من الأسود إلى الفضي أو الأبيض مما زرع في نفسه الخوف من فقدان امتيازات؟

واضح أنه قرنَ الشيب بالوهن والشباب بالقوة الجسدية لأنه كان قوياً نفسياً، وشاهدنا تمكنه من نظم القصيدة التي ورد فيها البيت الذي نحن بصدده.

من المفارقة أن أبا العتاهية كان شاعر زهد بامتياز، ومع ذلك لا نلمس في بيته هذا زهداً بالحياة، لإن نفسه الأمّارة بالزهد الظاهري كانت تتحرق على ما يبدو إلى مباهج لم يرتو منها أو تجارب تخطاه قطارها أو أشياء أخرى راحت عليه وظل مع ذلك يلهج بذكرها ويتشوق لعزها.

كنت أتمنى لو أن شاعرنا أشاد بالشباب الوردي بما يستحقه، واحتفى في نفس الوقت بسني العمر الغنية التي تكتنز فصولها ذخائر ومخبآت قد لا يعرف عنها الشباب كثيراً.

هنيئاً للشباب آمالهم ونشاطهم وأحلامهم وطاقاتهم الفوارة

فهم بهجة الحياة وورود طبيعتها الضاحكة.. ولا يمكن تصور العالم بدونهم..

وهنيئاً لهم كلما طووا مرحلة من مراحل العمر واكتسبوا تجارب جديدة ومعارف مفيدة..

وهنيئاً لهم يستمرئون الكفاح العذب والارتباطات الصحية والطموحات الكبيرة..

وهنيئاً لهم ينطلقون على أجنحة الأمل ويخوضون أنهار الخواطر الصافية والعواطف الصادقة..

وهنيئاً لهم يبذلون المجهود الصحيح ويبسطون دائرة تطلعاتهم على مساحات قريبة وبعيدة، لا قيود فيها ولا حدود لها..

وهنيئاً لهم يجمعون تبر تجارب الحياة ليحولوه فيما بعد إلى سبائك ذهبية من الحكمة والمعرفة عندما تنقلهم الحياة إلى طور جديد دعاه أبو العتاهية (المشيب)

حيث جواهر القناعة

وأزاهير الذكريات العذبة

وسحر التفكير الناضج والرؤية السديدة

وطمأنينة النفس الشبيهة براحة المسافر بعد رحلة طويلة ممتعة..

وإن تمنوا آنذاك عودة بواكير العمر

فلربما حرّفوا البيت قليلاً ليصبح:

ألا لَيْتَ الشبابَ يَعُودُ يَوماً .. لاُخْبِرَهُ بما اكتنزَ المَشيبُ



وتجدد الحياة ذاتها

--------------------



تحية طيبة أصدقائي الأعزاء:


كنت قد أخبرتكم في منشور سابق عن طائر أو عصفور (أبو الحن) ووضعت صورة للأم وهي تحضن البيض في العش. خلاصة القول أن العش أثمر فرخاً واحداً لقي كل العناية والحماية من أبويه وقد خرج اليوم من عشه إيذاناً بانطلاقة قريبة نحو الحرية.


في الموضوع السابق ذكرت كم هو مسالم هذا الطائر نظراً لسعة حيلته وقناعته بما تيسره له الحياة فلا يزاحم غيره من الطيور على رزق. لقد راقبت تصرفاته عن كثب، فكان الأب والأم يتناوبان على حضانة البيض. وما أن فقس فلذة كبدهما حتى كثفا من جهود العناية والمراقبة تحسباً لأي طارئ، وأظهرا جرأة عجيبة في حماية صغيرهما.


كانا بالمرصاد لكل طائر أو سنجاب يحاول الإقتراب من العش، فينقض أحدهما عليه كالسهم ويبعده خارج المنطقة المحرمة. وذات مرة تعاونا معاً على درء الخطر، إذ ما أن أتى سرب من الزرازير إلى الحديقة حتى انقلبا نسرين في منتهى الهمة والقوة، فهاجما الزرازير وبددا شملها مع أنها أكبر حجماً من أبي الحن.


وبالرغم من خروج الفرخ من العش، لكن أبويه لا يزالان يراقبانه من شجرة أخرى وبين الحين والآخر يجلب أحدهما له طعاماً ولسان حالهما يقول "لست وحيداً يا وحيدنا". 


غانديات: وهذا درس جديد تعلمته

-------------------------------------

 

إن قوة المحبة هي نفس قوة الروح أو الحقيقة، ولدينا البرهان على عملها في كل خطوة على الطريق. ولولا تلك القوة لامّحى الكون من سجل الوجود.

 

***

 

لا يقهر الباطل غير الحق. الحب يقهر الغضب

والتألم الذاتي يخمد العنف.

 

الناموس الأزلي ليس للأولياء والصالحين وحسب بل للجميع.

الذين يسيّرون حياتهم وفقاً لذلك القانون ربما هم قلائل، لكنهم ملح الأرض.

هؤلاء هم الذي يحفظون المجتمعات متماسكة

وليس الذين يأثمون ضد النور والحق.

 

***

 

أتكلم بقناعة كاملة وبتواضع تام بأنني أسعى لأن أعبّر عن الحب في كل ذرة من كياني، وشوقي عظيم للتعرف على خالقي الذي بالنسبة لي هو روح الحق وجوهر الحقيقة. وقد أدركت في بدايات حياتي العملية أن معرفتي للحقيقة تتوقف على مدى امتثالي لقانون المحبة حتى على حساب حياتي.

 

***

 

التضحية هي قمة الإنجازات وفيها أفراح عظيمة. الإنغماس في الدنيويات يقود إلى دمار العنصر الروحي في الإنسان ويجعله زاهداً في الباقيات الخالدات.

 

***

 

ضبط النفس والإنضباط ضروريان قبل أن نتمكن من تحصيل أي شيء عظيم ودائم. ذلك الإنضباط لن يأتي من خلال المناظرات الأكاديمية والحوارات العقلانية المنطقية، بل هو درس نتعلمه في مدرسة المصائب والشدائد، ولا أرى أملاً ببلوغ الخلاص دون تضحية وانضباط وسيادة ذاتية.

 

***

 

يجب أن نسعى دوماً لبلوغ التوافق التام

بين الفكر والقول والفعل.

ونعمل جاهدين على تنقية الفكر من الرواسب والشوائب

عندئذ ستسير الأمور على ما يرام.

لا يوجد ما هو أقوى من الفكر. فالكون هو نتاج فكر جبار

وحيثما كان الفكر نظيفاً وقوياً ستكون النتائج دائماً رائعة ونقية.

 

***

 

وهذا درس جديد تعلمته:

 

المستحيل بالنسبة للإنسان هو أمرٌ في غاية السهولة بالنسبة لله

فإن امتلكنا إيماناً بالعناية الإلهية

التي ترعى مصير حتى أصغر الكائنات وأقلها شأناً

فليس لديّ أدنى شك بأن كل الأشياء ممكنة.

في ذلك الأمل أعيش

وأمضي أيامي

وأسعى للإمتثال لإرادة خالقي.

 

المهاتما غاندي

 

سلة أفكار: التحكم بالعواطف الضارة

----------------------------------------

 

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} – قرآن كريم

 

إن كل كلمة باطلة يتكلم بها الناس

سوف يؤدون عنها الحساب في يوم الدينونة

فإنك بكلامك تبرر، وبكلامك تدان.

- السيد المسيح

 

للجحيم ثلاث بوابات

تفضي إلى الدمار والإنهيار

إنها بوابة الشهوة

وبوابة الغضب

وبوابة الجشع

فليتجنب الإنسان هذه البوابات

- السيد كريشنا

 

الكلمات التي يتلفظ بها المرء

إن كانت قاسية ومتهورة

وغير لائقة وغير ضرورية

هي زلات ومزالق تلحق بصاحبها الضرر

وتتحول على شفتيه إلى سم زعاف.

- البانشاتانترا

 

الحذر غير المسيطر عليه يتحول إلى خجل

والجرأة التي تعوزها الضوابط تتحول إلى طيش

والصراحة غير المنضبطة تتحول إلى تحدٍ وإهانة للآخر.

- كونفشيوس

 

عِد الأيام التي لم تغضب بها.

كنتُ أغضب كل يوم

ثم مرة يوماً بعد يوم

ثم مرة كل ثالث يوم، ورابع يوم..

فإن لم تغضب لثلاثين يوماً

اعتبرها نعمة واشكر ربك عليها.

- أبيكتاتوس

 

القادر على التحكم بعواطفه.. صاحب التآلف الذاتي

لأحكم من الضليع في تأليف الكتب والمجلدات.

- بنجامين فرانكلين

 

مستحيل أن يكون عبد الشهوات حراً.

- فيثاغورس

 

قصب السبق ليس من نصيب السريع

ولا الغلبة للقوي المنيع

بل لذوي الأقدام المتعثرة

الذين يثابرون حتى بلوغ الهدف.

ومن يواصل السير وسط ظلام الدنيا وظلمها

هو على موعد مع إشراقة شمس الروح.

- هنري فاندايك

 

من يتفهم الآخرين عاقل

ومن يعرف نفسه متنور.

القادر على قهر الآخرين يمتلك قوة

لكن من يمتلك القدرة على ضبط نفسه هو جبار

والراضي بالقناعة موسر.

- لاوتسو

 

لكل داء دواء:

فدواء الجهل المعرفة

ودواء الولع عدم التعلق

بما في ذلك التخلي عن المعتقدات الناشئة عن الجهل

ودواء الغضب اللطف والمحبة

والإمتناع عن إلحاق الأذى بالآخرين.

- ماركو باليس

 

ما يبعث على الأمل هو أن طباعنا مؤقتة..

فعندما نكون مرهقين تصبح كل وخزة دبوس طعنة سكين

لكن من الطبيعي أن نختبر حالات من الإكتئاب

ويجب أن نتذكر أن تلك الحالات غير دائمة

وعما قريب سنعاين النور ثانية ونشعر بالراحة والهدوء.

نحن بنو البشر أقوياء، شديدو مراس

وقادرون على تحمّل خضات وهزات عنيفة.

الدموع التي نذرفها لا تجعلنا ضعفاء

والمآسي التي نمر بها لا توهن عزيمتنا.

فإن اختبرنا الكآبة ليوم أو لشهر

فيجب أن لا نعتبرها حالة دائمة وغير قابلة للتغيير.

- الدكتور ليبمان

 

مجلة East-West 

 

(لا تكره سوى البغضاء)

 

وليام بكنز William Pickens 1954-1881 من الأفارقة الأمريكيين، كان خطيباً وصحفياً وكاتب مقالة، وقد ألف سيرتيّ حياة له، الأولى بعنوان (سليل العبيد) والثانية (تكسير الأصفاد)، وله مقولة تضارع في شهرتها بيت أبي القاسم الشابي:

 

(إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر)

 

وهي:

 

Hate only hate, fear only Cowardice

 

والتي أترجمها هنا إلى:

 

لا تكره سوى البغضاء .. وغير الجبن لا ترهبْ 4.23

 

المقالة التالية له أترجمها عن مجلة Inner Culture، عدد يوليو/تموز 1940.

 

يقول السيد بكنز:

 

هذا البيت كتبته عندما كنت طالباً في الصف الثاني الثانوي وعمري آنذاك خمسة عشرة سنة (أي في سنة 1896)، وكان البيت الأخير من سوناتة في خطاب (أعددته لإحدى المناسبات)، وهذا البيت هو كل ما أتذكره من تلك القصيدة؛ لكنني، وعلى مدى أربعين سنة، لم أنسَ مرة واحدة صدق وعزيمة تلك الروح (التي ألهمت ذلك البيت).

 

ما الذي تعلمته خلال هذه السنوات الأربعين، منذ أن نظمت تلك القصيدة؟

 

تعلمتُ أنه من الأفضل أن يكرهني الناس من أن أكرههم.

 

وأنه من الأفضل أن أحب الآخرين بدلاً من أن يحبونني.

 

ومن الأفضل أن أحصل على الشر بدلاً من أن أعطي الشر.

 

ومن الأفضل أن يُكذَب عليّ بدلاً من أن أكذب.

 

وأن مخادعة الآخرين لي أقل عاراً من أن أغش الآخرين وأخدعهم.

 

وأن تعرّضي للسرقة أقل خسارة من قيامي بالسلب والنهب.

 

وأن لذة القتال العلني غير موجودة في دهاليز الغدر والخيانة.

 

وأن الإعتماد على الأمانة أفضل بما لا يقاس من الإعتماد على الفطنة والذكاء (وحسب).

 

وأن الصفح أفضل من الأخذ بالثأر.

 

وأن الأصدقاء أفضل من الأشياء، والصداقة هي المكسب الأعظم.

 

وأن قيمة الدولار المالية هي مائة سنتاً ولكن السنت الواحد في ميزان القيم الأخرى يساوي أكثر من مائة من الدولارات غير النظيفة.

 

وأنه بالرغم من كون المال أحد وسائل الحياة، هناك وسائل أخرى أكثر أهمية وأعظم قيمة في الحياة، وكم أتمنى لو تم تلقينها للصغار بوضوح وفي سن مبكرة!

 

وأن في الفكر جحيمه ونعيمه – وأنه ينبغي أن يُخشى الفكر أكثر من نار جهنم وأن يُجل ويُبجل أكثر من الجنة.

 

ونسعدُ يوماً بقرب المِثالْ

----------------------------

 

هلمَّ .. هلمَّ.. نشدّ الرحالْ

 

إلى حيثما يستحيل المحال

 

ويبزغُ فجرٌ جديد الرؤى

 

ويسطعُ نورٌ بهيّ السنا

 

ونرتاد بالروح بحرَ الوصالْ.

 

هلمّ إلى ما وراء البروق

 

ووهج الأصيلِ ولون الشروق

 

فنبعثُ نبضاً بقلب الشعور

 

لتذكو الصبابه ْ ويصحو العبير

 

ونبتهجُ بمرائي الجمالْ.

 

هلمَّ نعانق طيفَ السكونْ

 

وننسى الهمومَ وظلَ الشجونْ

 

ونرشق قلبَ الظلام ِ بسهمٍ

 

ونرشف سر الحياة بفهم ٍ

 

ونسعدُ يوماً بقرب المِثالْ

محمود

 

هل لجأ الخيام إلى الرمز ودلالة الحس؟

--------------------------------------------

 

ووجودي عليّ كان مصاباً ... وعزائي الجميلُ كان الحبابا

 

هذا البيت هو من رباعيات الخيام ترجمة وديع البستاني. ويُعتقد أن البستاني ترجم رباعيات الخيام عن الرباعيات التي ترجمها إلى الإنكليزية إدوارد فتزجيرالد بعد أن اكتسبت شهرة عالمية واسعة نظراً لتراكيبها اللغوية البارعة وقربها من الرباعيات الأصلية.

 

نلمس في هذا البيت تذمّر الخيام من وجوده الذي يعتبره مصاباً، وأما العزاء الجميل فهو "الحباب" أي الراح أو الخمر.

 

ونعلم أن عمر الخيام كان فيلسوفاً وعالماً وشاعراً بعيد الرؤية وعميق الإيمان بالله، مما يجعلنا نعتقد أن هذا "الحباب" كان رمزاً لراح الروح أو لغبطة نشوانية كان يتذوقها ولم يكن الوعي الجمعي في عصره نامياً وشفافاً لدرجة تسمح له بالتحدث عن تجربته الذاتية دون الحاجة إلى الرمز والتلميح.

 

وفي اعتقادي أن المصاب الذي عانى منه الخيام كان عدم – أو ندرة وجود - من يفهمه ويشاركه تجربته العميقة التي تخطت الخطوط التقليدية إلى آفاق من الحرية لا تخضع للتقييد لأنها أكبر وأقوى من القيود.

 

وأظن أنه عاش في وحدة، إذ لم يكن من السهل أو المستطاع الإفصاح عما كان يختبره والتحدث عن الحالات التي كانت تُعرض له أو يمر بها، فلجأ إلى رموز ذات دلالات حسية، ولعله كان يدرك أن الأيام ستكشف عن حقيقة أشعاره التي اكتنفها الغموض وخضعت لكثير من التأويلات غير الدقيقة على مدى قرون.

 

لقد كان هذا الشاعر العالمي شخصية غير اعتيادية مما استقطب اهتمام فلاسفة ومفكري وشعراء العالم الذين ما زالوا يغوصون في رباعياته محاولين معرفة منابع ثقافته وحقيقة مراميه ، وهو القائل:

 

رُبَّ كهفٍ تؤويهِ نفسُ أبيٍّ

 فاقَ قـَصرًا طالت ذراهُ السحابا 

 

سعد زغلول والناقد

----------------------

 

قرأت فيما قرأت هذه الحادثة الطريفة فعلقت في ذاكرتي لندرتها ولما توحي به من سعة الصدر ومكارم الأخلاق:

 

في عشرينيات القرن الماضي، عندما كان الزعيم الوطني سعد زغلول رئيساً لحزب الوفد المصري ورئيساً للوزراء، تقصّد أحد الكتاب انتقاده بمناسبة وبدون مناسبة إلى أن أصبح الجميع يعرف أن ذلك الكاتب يحمل ضغينة متأصلة للرجل العظيم.

 

ذات مرة جمعت الإثنين مناسبة، فقال سعد للكاتب:

 

لماذا تكتب عني ما تكتبه؟

 

فأجاب الكاتب:

 

- يا باشا إن لم نصعد على أكتافك فعلى أكتاف من سنصعد؟

 

فما كان من الزعيم الوطني إلا أن ضمّه إلى صدره وقبـّله.

 

وهكذا فلتكن الأخلاق.

 

وهكذا فليكن الزعماء. 

 

حزمة خواطر

--------------

 

ما أنبل الإصرار على مبدأ لا قيمة للحياة بدونه!

 

وما أبلغ صمت الحب الذي لا يسمح للكلام بأن يفقده معناه!

 

وما أصلب صخر الثبات الذي عليه تتكسر أمواج التقلبات!

 

وما أروع العزة بالإنتماء للإنسانية والفخار بأخوة البشر!

 

وما أصفى مياه النوايا الطيبة تطفئ الظمأ للوفاء وتخمد نيران الضغائن!

 

وما أطيب حياة البساطة الهادئة الهانئة!

 

وما أحلى الإبتسامة تترجم مشاعر صادقة لا يخالطها رياء!

 

وما أعذب الذكريات الجميلة ينعش ابتعاثها الفكرَ ويجدد قواه!

 

و ما أرخم الصوت المشبع برنة الإخلاص!

 

وما أحكم النفوس تفتح نوافذها وأبوابها لإشعاعات الخير!

 

وما أجمل السير مع الطيبين على دروب المحبة والثقة المتبادلة!

 

تصدّق بخاتم زوجته!

-----------------------

من طريف ما قرأت قصة أوجزها وأترجمها على النحو التالي:

قصد أحد المتسولين منزلا وقرع بابه

ففتح صاحب المنزل الباب وسأله عن حاجته

فقال له المتسول:

"عابر سبيل أطلب صدقة لوجه الله."

لم تكن ربة المنزل في البيت

ولم يكن مع صاحب البيت أي نقود لينفحه بها

فأسقط في يده ولم يشأ أن يعتذر للرجل

بل قال له "تمهل قليلاً"

وتوجه تواً إلى خزانة زوجته

ففتح بابها ورأى خاتمها الجميل

فأخذه وأعطاه للمتسول وقال له بما معناه

"عالميسور" أي هذا هو المتاح.

فتلقف صاحبنا الخاتم ومضى في حال سبيله

ولسان حاله يقول "وهكذا فليكن العطاء!"

بعد ذلك بقليل عادت الزوجة إلى البيت

فوجدت باب الخزانة مفتوحاً.

بحثت على الخاتم وإذ به قد اختفى..

سألت زوجها عنه فأخبرها بما حدث، فقالت له:

"أعطيته خاتمي الذي ثمنه خمسمائة دينار؟

إلحق بالرجل قبل أن يذهب بعيداً وأعد لي الخاتم على الفور."

امتثلَ الزوج لطلب الزوجة وانطلق يعدو إلى أن أدرك المتسول

فاستوقفه وقال له:

"إسمع يا رجل، هذا الخاتم الذي أعطيته لك يساوي خمسمائة دينار

فلا تدع أحداً "يضحك عليك" ويدفع لك أقل من ذلك!"

 

قصيدة عتيقة تحتفي بالمرأة العريقة

-----------------------------------------

 

أمامي الآن قصيدة باللغة الإنكليزية نظمها الراهب والمؤرخ روبرت ماننغ أوف برون منذ حوالي سبعمائة سنة. غني عن القول أن لغة هذه القصيدة تختلف عن اللغة الإنكليزية المعاصرة، لا سيما من حيث تهجئة العديد من مفرداتها التي تبدو وكأنها تنتمي إلى لغة أخرى، وقد أوردت الأصل مع الترجمة، آمل أن تستمتعوا بقراءتها.

القصيدة بعنوان Praise of Women أي:

الثناء على النساء

--------------------

لا يوجد ما هو أحب إلى الرجل

من حب امرأة كريمة الخلق حسنة السيرة

فالمرأة الصالحة حبها صادق وراسخ

وتجلب بركات كثيرة

ولا من عزاء تحت السماء

يمكن لأي رجل أن يذكره

أو يبتهج به

كامرأة مخلصة في حبها

ولا يوجد بين جماعة الله من هو أعز عليه

من امرأة عفيفة النفس عذبة الكلام.

 

Robert Mannyng of Brunne

 

No thing ys to man so dere

As wommanys love in gode manere

A gode woman is mannys blys

There here love right and stedfast ys

There ys no solas under hevene

Of alle that a man may nevene

That shulde a man so moche glew

As a gode woman that loveth true

Ne derer is none in Goddis hurde

Than a chaste woman with lovely worde

 

شاعر فرنسي وخبزه المر

------------------------------

 

أصدقائي الأعزاء:

 

أود أن أعرفكم اليوم على شاعر فرنسي عاش في القرن الخامس عشر هو فرانسوا فيلون 1431-1489 جمع الكثير من المتناقضات في شخصه، إذ كان شاعراً ولصاً وبلطجياً وصعلوكاً متشرداً، ويقال أنه قتل رجل دين دفاعاً عن النفس وهي مفارقة غريبة حقاً!

 

ومع كل ذلك ترك بصمة على الأدب الفرنسي وخصصت له موسوعة الشعر مساحة تفوق ما خصصته لغيره من الشعراء الأكثر شهرة.

 

هذه القصيدة بعنوان Arbor Amoris تحكي تجربته المريرة مع الحب. ويقال بأنه بالرغم من حياته الشبيهة بالإعصار كان صادقاً مع أحاسيسه فأتت كتاباته ترجمة دقيقة لما كان يعتمل في ذاته التي قال بأنها الشيء الوحيد الذي عجز عن فهمه.. فتفضلوا إلى قراءة القصيدة:

 

عندي شجرة

مطعّمة بالحب

تجذرت في قلبي

وأنبتت براعمَ حزن

وزهور كآبة.

 

أما فاكهتها

فطعمها المرير

تمازجه نكهة الأسى..

 

مذ كانت شجرتي نبتة غضة

امتد ظلها لمساحات واسعة

بحيث قضى على كل الأفراح تحتها

فذهبت أيامي السعيدة أدراج الرياح.

ولم يكن بمقدوري القضاء على تلك الشجرة

أو استبدالها بغيرها.

 

لسنين طويلة

سقا دمعي المدرار جذور شجرتي

وبالرغم من كون ثمارها فجة، حرّيفة

لم أبحث عن غلة غيرها

بل جمعت تلك الثمار

لتكون خبزي المر

الذي تغتذي عليه حياتي

التي أنهكها الضجر

وأرهقها الإعياء.

 

يا ليت التربة التي تنبت مثل تلك الأشجار

لم تُحرث ولم تُغرس أبداً

لكن إرادة الحب لن تزرع شجرة أخرى

سوى هذه الشجرة بالذات.

 

ولكم تمنيت لو أن أوراقها وزهورها

تتحول في فصل الربيع إلى غرس جديد

لعل الحب يساعدني على تقليم الفروع

التي أثمرت لفصول عديدة

ثمراً أشد مرارة من الصبر

ولعلني أطعّم تلك الفروع

بأغصان جديدة

تنبت زهوراً سعيدة ..

بيضاء وحمراء

كي تعوضني عن الآلام التي تجرعتها

لكن الحب لن يقضي على شجرتي هذه

ولن يستبدلها بسواها.

 

Francois Villon- Arbor Amoris

الترجمة عن الأصل الفرنسي: آندرو لانغ

ترجمها عن الإنكليزية: محمود عباس مسعود

 

آنابالي Annabel Lee وشطحة الحسد

 

تعتبر هذه القصيدة للشاعر إدغار آلان بو من أكثر أشعاره رومانسية واحتفاء بالحب والوفاء بالرغم من شطحة الغيرة والحسد التي ضمّنها القصيدة، حيث اعتبر الشاعر أن الملائكة حسدته على حبه وكان لذلك الحسد تبعات مؤسفة، وكأن الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب استوحى أغنيته (حسدوني وباين في عينيهم) من هذه القصيدة التي أترجمها هنا ليس بالضرورة لقيمتها الأدبية، فهي تنطوي على مغالاة ومبالغات، إنما للتعريف بثقافة ونتاج الآخر، لا سيما أن هذه القصيدة نالت شهرة واسعة وأصبح عنوانها إسماً لمنتجات ومقاصف ومحلات واستوديوهات وغيرها.. آمل أن تستمتعوا بقراءتها، مع التمنيات للجميع بيوم مشرق.

--------------

 

منذ سنين عديدة

في مملكة بعيدة

على شاطئ البحر

عاشت فتاة بتول

إسمها أنابالي

وكان هاجسها الأوحد في الحياة

أن تحبني وأن تكون محبوبة مني.

 

كنت طفلاً وكانت طفلة آنذاك

في تلك المملكة بالقرب من البحر

لكننا أحببنا بعضنا بإحساس يفوق الحب

بحيث حسدتنا الملائكة والسيرافيم

على حبنا العظيم.

 

لهذا السبب

منذ زمن بعيد

في تلك المملكة المجاورة للبحر المديد

هبت رياح باردة من وسط الغيوم

فجمّدت حبيبتي آنابالي

وجاء أقرباؤها الرفيعو المحتد

ذوو الأصل النبيل

وحملوها بعيداً عني

ووضعوها داخل ضريح

في المملكة بمحاذاة البحر الفسيح.

 

لم يذق الملائكة في جنانهم

نصف الحب الذي تمتعنا به

فصوبوا نحونا سهام الغيرة

وفي ليلة ليلاء

وثبت من الغيوم رياح قارسة

فقضى الزمهرير المرير

على حبيبتي آنابالي.

 

لكن حبنا كان أعظم بما لا يقاس

من حب الذين كانوا أكبر منا سنا

وأكثر منا فهماً وحكمة.

 

ولن يتمكن الملائكة في فردوسهم

ولا الشياطين ما تحت البحر

من فصل روحي عن روح

حبيبتي آنابالي.

 

لا يرسل القمر أشعته

إلا ويأتي لي بأحلام

عن حبيبتي آنابالي

ولا تشرق النجوم مرة

إلا وأشعر بعينيّ غاليتي آنابالي

 

ولهذا أمضي الليل بطوله

ممدداً بالقرب من محبوبتي

وحياتي.. وعروستي

المسجاة في رمسها الصغير

بجانب البحر ذي الهدير

Edgar Allan Poe

 

هكذا احتفى بأصدقائه الكتب!

--------------------------------

 

أيامي أصرفها بين الراحلين

وحيثما أجلت نظري

أبصر من حولي

عقول الجبابرة السالفين.

 

هؤلاء هم أصدقائي الذين لا يخذلونني

والذين معهم أتجاذب أطراف الحديث

في كل يوم من أيام حياتي.

 

بهم أبتهج وأتعزى

في السراء والضراء

وإذ أحصل جراء صحبتهم

على فهم حصيف وإحساس رهيف

تغمرني مشاعر العرفان نحوهم

ولكم تبللت وجناتي

بدمع التقدير والجميل الغزيرّ!

 

أفكاري هي مع الراحلين

فمعهم أحيا في السنين الخوالي

أحب فضائلهم وأشجب رذائلهم

أقاسمهم آمالهم ومخاوفهم

وبتواضع ٍ أتعلم من تجاربهم أنفع الدروس.

 

آمالي تحيا مع الراحلين

وسيكون مكاني بيننهم

ومعهم سأمضي وأبقى أحقابا مديدة

مخلفاً ورائي إسماً

لن يقوى على محوه تراب الزمن.

Robert Southey

 

الضرير وحلم موت الشمس

-------------------------------

 

عند منتصف الليل، بدا لي في الحلم

أن إشارة أرسلت عبر الفضاء النجمي السحيق

تنعي موت الشمس

وأن الخليقة بأسرها سمعت بالنبأ المفجع

فلم يصدر صوت واحد

ولم يغرد طير

ولم يُسمع خوار بقرة

وتسلق سكان المدينة

إلى سطوح منازلهم.

لم تغمض عين لإنسان

وراح التجار والعبيد والأمراء والكتبة والكهنة

يتطلعون بتوجس ولهفة صوب الشرق

بوجوه واجمة شاحبة.

لم تمر عربة واحدة محملة بالبضائع

ولم تُسمع نداءات الحراس قرب القلعة

ولم تقرع نواقيس في الأبراج

ولم تلح صارية واحدة في الميناء

وفجأة مزق السكون عويلٌ عميق

واجتازت تنهدة طويلة البحر واليابسة

عندما بزغ من بين النجوم

جسم الشمس قاتماً مكفهرا

وأعقبت التنهدة الكوكبية صمت رهيب.. رهيب

وفي تلك اللحظة

خلتُ أنني سمعت صرخة مولود جديد

وعند بوابة المدينة المفتوحة على مصراعيها

جلس رجل ضرير ماداً "قبعته" وسط الظلام

ومنادياً بصوت يهز القلوب:

"حسنة لوجه الله يا محسنين!"

توماس والش

 

شاعرٌ تعمّق في رأيه ورؤيته

-------------------------------

 

رائعٌ جمال الزهور والأطفال

لكن ما يوحي به ذلك الجمال أجمل وأروع!

 

نادرة هي إطلالة الفجر الوردي

لكن الأسرار التي انبثق الفجر من قلبها أكثر ندرة!

 

عذبة هي نغمات الأغاني وإيقاعاتها

لكن معانيها أكثر عذوبة من أي إيقاع ونغم.

 

لم تتفتح أقحوانة واحدة

إلا ومن وراء تفتحها غوامض الحياة.

 

ولم يجر نهر إلا ويقبع جلالٌ خلف انسيابه.

 

لم يُحلـّق عبقري كشكسبير في سماء الفكر

إلا وهناك عبقرية أعظم منه، أنجبته وأبرزته للوجود.

 

خلف قماشة اللوحة المشرقة بالمعاني

رسامٌ محتجب تشير إليه الخيوط

وتدل عليه الخطوط.

 

وتحت الفرح النابض مشاعر لا متناهية، أكثر زخماً!

 

عظيمة هي رموز الوجود

لكن ما ترمز إليه أعظم.

 

رحبة وواسعة هي الرؤى

لكن الرائي أرحب منها وأوسع.

 

خلف الصوت روعة السكون.

 

وخلف العطاء سخاء العاطي.

 

الفضاء لا شيء مقارنة بامتداد الروح.

 

والدافع وراء العمل أهم من الإنجاز.

 

دافئ ورقيق هو قلب المحب

لكن الحب أرق وأكثر دفئاً!

 

Richard Realf

 

أبو الحن وعشه

------------------

من بين أشجار حديقة المنزل شجرة كرز صغيرة اختار طائر أبو الحن أن يبني عشه فيها هذا الموسم ليساهم في تجديد الحياة بالقدر الذي أهلته له الطبيعة.

هذا الطائر الجميل يألف الحديقة لأن آباءه وأجداده عاشوا وعششوا فيها منذ زمن، فتراه نادراً ما يفارقها، وإن غاب قليلاً يعود إليها فهي بالنسبة له نزل ومنزل.

ومن ميزة هذا الطائر قدرته على تحديد مواضع الديدان تحت التربة، فهو يتنقل فوق الحشائش والأعشاب ويترصد مواقع ديدان الأرض المحجوبة تماماً عن النظر، فيحصر انتباهه لبرهة ثم يعمل منقاره الطويل نسبياً في التربة وما هي إلا لحظات قليلة حتى يستخرج صيداً ثميناً بالنسبة له.

وصديقنا أبو الحن طائر دؤوب وقنوع، لم أره يزاحم طيوراً أخرى على طعام أو يتعدى عليها مثلما تفعل طيور أبو زريق والزرازير والبواشق. وعندما لا يكون باحثاً عن قوت يومه يجثم على غصن شجرة ويطلق ألحاناً في غاية الإنسجام والروعة وكأنه يحتفي بالحياة ويمجد خالقها.

 

June, 2013

 

 

أفرست: مجد الوصول ومأساة الأفول

 

صادف يوم أمس الذكرى الستين لأول تسلق ناجح لقمة أفرست في عام 1953

 

لا شك أن بلوغ "قمة العالم" يصحبها الكثير من الفخر والشعور بإنجاز استثنائي، وكل من سعى لارتياد تلك القمة العصية وتكللت مساعيه بالنجاح يستحق التهنئة على ما بذله من جهد وما تحلى به من إصرار، مع أنني لا أرى سبباً منطقياً لتلك المغامرة المحفوفة بالمخاطر وغير مأمونة العواقب.

 

لي نظرة خاصة بهذا الشأن، وهي لو أن الطبيعة الأم أرادت لبنيها البشر أن يبلغوا تلك القمة الشاهقة لجعلتها سهلة المرتقى وليسرت سبلاً بسيطة تمكّن الجميع من الوصول إليها بجهد معقول ومقبول.

 

و عندما تشير الإحصاءات الموثقة إلى أن أكثر من مائتي شخص من بلدان مختلفة من العالم لاقوا حتفهم في محاولة تسلقهم قمة أفرست بسبب الانهيارات الثلجية أو سقوطهم في شقوق عميقة وانكفاء بعضهم من جرف هارٍ أو الإصابة بأمراض ذات صلة بتلك المرتفعات الشاهقة، يصبح ذلك الإنجاز موضع تساؤل ويستحق تقييماً منصفاً.

 

كثيرون اختفوا في تلك المرتفعات واكتشفت جثامين بعضهم بعد مضي أكثر من سبعين عاماً على اختفائهم. وبعضهم فقد تماسكه عندما أدرك جسامة الورطة التي وضع نفسه فيها وراح يصرخ "أنقذوني" قبل أن يسارع الموت إلى اختطاف أنفاسه ومعها كل الأحلام والإمكانات والرؤى.

 

هناك من يظنون أنهم بتسلقهم الجبال العالية يقهرونها، ولا أدري كيف لبشر ذي إقامة موقوتة على هذه الأرض وقدرات مفعّلة محدودة أن يقهر جبلاً راسخاً منذ ملايين السنين وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله!

 

ألا يكفي أن يذهب الراغبون إلى سفوح الهملايا ويتمتعوا بمنظر القمة أو القمم ويسبحون الله على قدرته وعبقريته الكونية التي تعصى على التقليد؟

 

ألا توجد مرتفعات وذرىً شامخة في داخل الإنسان تسلُّقها أجدى نفعاً وأروع تحقيقاً من بلوغ قمة مادية يتربص الموت في كل خطوة ومنعطف ومنحدر فيها؟

 

لو كان التسلق إنقاذاً لحياة أو صداً لهجوم مدمر لاستحق أن يعتبر بطولة وأن تكتب أسماء الذين يقضون جراء جرأتهم بحروف من نور في سجل الخالدين.

 

أما كونها إرضاء لطموح ذاتي ليس أكثر، فنتمنى للمحاولين السلامة وعدم إغفال استكشاف وتسلق مرتفعات ذاتية في انتظار الترحيب بروادها على قلتهم.

 

وصدق من قال:

 

قدّر لرجلكَ قبل الخطو موضعها

فمن علا زلقا عن غرةِ زلجا

 

نقّار الخشب

--------------

في حديقة بيتي أنواع مختلفة وعديدة من الأشجار

بعضها دائم الخضرة وبعضها يبدّل أثوابه الورقية الخضراء مرة في العام

بعد أن يكسوه الخريف حللاً من ألوان زاهية تبهج النظر.

بين الحين والآخر أسمع صوتاً لنقر متسارع آتياً من أعالي الأشجار

يصعب التصديق أنه صوت طبيعي.

في البداية ظننت أن ما أسمعه صادر عن أدوات أو أجهزة كهربائية

نظراً لاتساق الصوت وسرعته الشبيهة بالآلية.

ولكن ذات مرة حدث أن الصوت كان صادراً عن إحدى الأشجار الباسقة

التي كنت أجلس تحتها، فتعقبت مصدره وإذ بي أبصر طائراً صغيراً

بديع الألوان يهتز رأسه جيئة وذهاباً بسرعة مذهلة

فعلمت أنه نقار الخشب الذي يحفر ثقباً له في أعالي الشجر

ليضع فيه عشه في مأمن من الطيور وغيرها من الحيوانات.

رأيته يعمل على نحو متواصل ودأب بكيفية تبعث على الإعجاب.

ولو أن شخصاً حاول أن يحتفر بسكين حاد ثقباً يماثل الفجوة التي

يحدثها نقار الخشب بمنقاره لعرف مدى الجهد الكبير

الذي يبذله طائرنا الصغير

الذي هيأته الحياة وأهلته لما يتعين عليه عمله

وكأنني به يقول أثناء عمله الموصول "أنا لها!"

وبين الحين والآخر أرى فراخه البديعة تتقافز بين الأغصان

محاولة التدرب على ما ستقوم به في الآتي من الفصول.

هذا النقار الصبور يعلمنا الجد والمثابرة

والإحتفار في صميم العوائق والعقبات

حتى تحقيق الأمل الموعود

والوصول إلى الهدف المنشود.

 

أنفاسٌ عاطرة

---------------

 

هذا التعبير المجازي

 

له إيحاءات رمزية ودلالات حكمية..

 

وينطوي على ظـُرف وترجمة ذكية لتجربة واقعية.

 

وقد يكون قيل في زمن استخدام سواك الأراك الطيب الرائحة

 

الذي كان ينظف الأسنان ويعطر الأنفاس في آن.

 

أما المقصود من العنوان

 

فيتعدى العطور الطبيعية

 

إلى النفحات النفسية.

 

هذه الأنفاس العاطرة - حفظكم الله

 

هي ذات أصل اهتزازي شفاف إنما نفّاذ

 

نحس بها..

 

نتفاعل معها..

 

نمّيزها..

 

ونعرف ماهيتها.

 

أنفاس لها صفات ملموسة

 

وآثار محسوسة

 

إذ تبدو في العيون رقة جاذبة أو خشونة منفرة

 

وتمتزج مع انعطافات الصوت

 

فتسري في النفس راحة وانسجاماً

 

أو تهوي كالمطارق وتقطع كالمشارط..

 

ونلمسها في يد تحركها المحبة

 

فنحس بانتعاش لانتقالها إلينا من نفس كريمة

 

وثيقة الصلة بالأنس.. تميس بأثواب الجمال

 

ونراها هالاتٍ تحيط بوجوه تشع نبلاً وأصالة ومبادئ

 

ونفرح أيما فرح بلقاء ذوي تلك الأنفاس

 

الذين لا يأتينا منهم إلا الخير

 

فكراً وقولاً وفعلاً

 

كثر الله من أمثالهم وأمثالكم أصدقائي

 

وعطر أنفاسكم ونفوسكم بالطيب والطيبة

 

من الأرشيف:

 

سمعنا عن البلورة السحرية وقدرتها على التقاط صور بعيدة و قريبة، والإنباء بأمور عجيبة، وقد تكون هي نفسها مرآة القلب التي عندما يصبح سطحها نقياً من الغبار الكثيف، ساكناً لا يهزه الإرتجاج العنيف، تظهر الكثير.. الكثير.. تعكس الأشياء على حقيقتها.. وتلتقط المنظور والمستور ومن هنا القول المأثور: "قلبي دليلي!"

 

أجل، هذه المرآة دليل أمين وشاهد عدل لا يزوّر الحقيقة بل يخبر بما يعرف دون زيادة أو نقصان. وقدرة هذه المرآة تتوقف على نظافتها وصفائها. فإن خلا سطحها من غبار النوايا المبيتة ولم تحجبه لطخات الأنانية تـُظهر بكل جلاء نجومَ محبة مشعشعة، ووردَ دوافع نبيلة، وأغوارَ ثقة عميقة، وأنوارَ صداقة وثيقة، وأخلاقاً فاضلة، ومستوياتٍ راقية، وفوارق دقيقة، ومشاعر رقيقة، وأشياء أخرى متوارية في مجاهل النفس تظهرها مرآة القلب. 

 

شجرة الصداقة

-----------------

 

لا أظن أنني أخبرتك أو أخبرت أحداً

 

عن شجرة الصداقة

 

التي غرستها منذ سنين

 

وأطلقت عليها إسماً جميلاً.

 

ولقد كانت وما زالت

 

تعني الكثير.. الكثير بالنسبة لي

 

كونها تليدة الأصل

 

عريقة الجذور

 

وأوراقها الغضة على شكل قلب.

 

هذه الشجرة يا صديقي تذكرني بك

 

إذ غالباً ما ألمح طيفك بين غصونها والأوراق

 

تجسّده قوة الإحساس

 

ويدنيه زخم التصور

 

فتتقلص المسافات

 

وتستحيل السنون لحظات عابرة

 

ويتحرر الشوق من كل قيد

 

فيغمرني ارتياح عميق

 

وتسري في نفسي طمأنينة من غير هذا العالم.

 

شجرة الصداقة..

 

لم أستنبتها في قفر صامت كئيب

 

بل اخترت لها تربة خصبة.. غنية

 

ومساحة مشمسة.. دافئة

 

وغرستها بالقرب من ساقية صافية دائمة الجريان

 

بمحاذاة تلة أمينة تقيها هبات الرياح العاتية

 

فهي أبداً نامية.. متسامية

 

تتراقص أغصانها بهجة

 

ويتدفق في عروقها نسغ الحياة.

 

شجرة الصداقة..

 

عربون المحبة الخالدة التي جمعت ما بيننا

 

غرستها في تربة القلب

 

تحت شمس الذكرى

 

ترويها ساقية الود الأكيد

 

وتقيها تلة الوفاء من رياح النسيان

 

وهي ما زالت بخير

 

وتسلم عليك يا صديقي. 

 

فيهمس همسته الأخيرة.. جلية صافية

-------------------------------------------

 

الحياة كما يقول روبرت إنغرسول

ليست سوى وادٍ ضيق بين قمتي الأبدية الباردتين القاحلتين.

نحاول استشراف الأفق ما وراء القمم البعيدة..

فيرتفع صوتنا بالبكاء ولا من مجيب سوى صدى النشيج.

ومن شفاه المفارقين الصامتة لا نسمع جواباً.

لكن في أعماق الليل يبصر الأملُ نجماً

ويسمع الحبُ حفيف أجنحة.

وكأن الراحل يعتبر دنو الأجل

عودة العافية إليه على عجل..

فيهمس همسته الأخيرة، جلية صافية:

"لقد رُدّت إليّ روحي واستعدت عافيتي!"

 

أما جون لوكي مكريري الذي نترجم هنا كلماته – وكلمات غيره من شعراء الروح وربما أحاسيسهم أيضاً –فيؤكد لنا – مثلما يؤكدون – ديمومة الحياة بعد الموت إذ يقول:

 

ليسَ في الوجودِ من موتٍ ولا فيهِ فناءْ

فالنجومُ تأفلُ لتبزغ من جديدْ

في فضاءات سحيقة وعميقة

فنراها تتألقْ كالدررْ عند المساءْ

وترصّع صفحة الأفقِ وتيجان السماءْ.

 

والغبارُ تحتَ أقدام البشرْ

إذ يمازجهُ المطرْ.. يتحوّلْ

لحبوبٍ ذهبية.. لثمراتٍ شهية

ولزهورٍ ندية..

ذاتَ ألوانٍ بهيجة وبهية.

 

والصخورُ الصلبة ُ إذ تتفتتْ

تهبُ الطحلبَ ما يحتاجهُ

من غذاءٍ للنماءْ

وكذا الأوراقُ.. أوراق الشجرْ

تأخذ الأقوات من قلب الهواءْ

 

ليسَ من موتٍ، فقد يهوي الورق

والزهور تذبلُ ثم تزولْ

إنما تهجعُ في فصل الصقيعْ

بانتظار الدفءِ مع شمس الربيع.

 

ليسَ من موتٍ بل الموتُ ملاكْ

يأتي للأرضِ لينقل للسماءْ

أنفساً تسكنُ منا في الفؤادْ

فنقولُ فارقونا للأبدْ!

 

ويغادرْ ليخلـّف وحشة ً

بعد أن يقطفَ زهرات القلوبْ

ليزيّن فيها مرجَ الأبدِ

فتخلـَّدْ.. وتتحدى الذبولْ

 

وطيورٌ أبهجتْ هذا المكانْ

بأناشيد المحبة ْ والفرحْ

تشدو جذلانة بدنياها الجديدة

بين أغصان الجنانْ

وسْط َ أجواء الأمانْ.

 

كلما أبصرَ بسمة ْ نيّرة ْ

أو رأى نفساً نقية ْ طاهرة ْ

يأمرُ بنقلها إلى السماءْ

حيث أنوار السعادة ساطعة

والمباهجْ أبداً دونَ انتهاءْ

 

فالنفوسُ الخالداتُ لا تموتْ

إن تفارقنا فللفردوسِ ترجعْ

فنظل نتوجعْ

إنما لو نحنُ أدركنا مصيرَ الغائبينْ

لفرحنا كونهم في الله يحيوا خالدين.

 

قطار الزمن

 

هذا القطار الدائم التوقف والإنطلاق عبر محطات العمر الكثيرة. يحمل على متنه البشرية جمعاء، لكن لكل واحد تجربته وظروفه وأحداث حياته الخاصة التي تختلف عن أحداث وظروف وتجارب الآخرين بالرغم من تشابه الخطوط العريضة وتلاقي النقاط الذاتية والجماعية التي كثيراً ما تتقاطع، ويا له من تعقيد ويا له من تشابك!

 

هذا القطار هو كناية عن مسيرة النفس على دروب الحياة وأيضاً على دروب الأبدية. فالمسيرة التي تبدأ بالولادة على هذه الأرض تنتهي بالعودة إلى لانهائية الكون حيث تتواصل في أقطار وقطارات وظروف أخرى تختلف عما اختبرته النفس في هذا العالم ذي الحدود والأبعاد.

 

النفوس المرهفة على هذه الأرض تحس بشوق دفين إلى شيء قريب بعيد لا تعرف ماهيته إنما تحس بوجوده مع أنها لا تراه وتشعر بصلتها الوثيقة به بالرغم من عدم تحديدها لهويته.

 

إنه شيء حقيقي بالنسبة لها ولا يمكن لأحد أن يقنعها بخلاف ذلك. تحاول سماع صوته الصادر من هوة المجهول فلا تكاد تلتقط حتى رجع صداه.. وتحاول مشاهدة صورته فتعجز عن لمح حتى طيفه الشارد.. ومع ذلك تبقى موقنة بوجوده وعلاقتها الأبدية به.

 

تواصل مسيرتها في الحياة.. تكابد ما تكابد من صعوبات عيش وأوجاع قلب.. تتأوه وتتنهد متساءلة بينها وبين نفسها عن السر من كل هذا وذاك.. تبحث عن ضالتها في واحة الفكر التي هي قطعة من رياض الأبد حيث أطياف السعادة دائمة التماوج في عوالم الأثير وحيث الأشواق الحية ذات الوثبات البعيدة في سماء النفس ومراميها السحيقة.

 

من أجمل ما قال الشاعر الياس فرحات:

 

لا تخاليني لصيقاً بالثرى .. لا تمس الأرضَ إلي قدميّا

إن في الإنسان من فطرتهِ ..للثرى شيئاً وشيئاً للثريـا!

 

ربما أحس شاعرنا بما نتحدث عنه هنا فراح يؤكد لحبيبته – التي ربما كانت نفسه ذاتها – بأنه شبه متحرر من الأرض التي هو عليها. وراح يعزي نفسه أنه بالرغم من وجوده في دنيا الواقع ذات الكثافة والجاذبية التي تشده إلى هذه الكتلة المادية وتقيده بألف رباط منظور وغير منظور.. ما زال مع ذلك متحرراً بفكره وأشواقه وطموحاته إلى مستويات بعيدة بعد الثريا عن الثرى.

 

ويواصل قطار الزمن رحلته.. فيتوقف ثم يعاود الإنطلاق.. وتكاد الرحلة تبدو لا متناهية. لكن سنصل ذات يوم إلى المحطة الأخيرة في رحلتنا الجماعية وتبدأ رحلتنا الفردية فنودع رفاق الدرب وداعاً قد يبدو لا لقاء بعده.. لكن الله أكرم من أن يفرّق المحبين فراقاً أبدياً، إذ لا بد لهم من لقاء سواء في هذه الدنيا أم في مستوى آخر من عوالم الله التي تفوق عدّاً نجوم الليل التي تحدثنا عنها في إحدى الإنطلاقات.

 

إن لم تخاطبني

 

فسأملأ قلبي بصمتك.

 

سأبقى ساكناً ساكتاً كالليل

 

بنجومه الساهرة

 

وبهامته المنحنية بصبر وأناة.

 

لا بد من أن الفجر سيبزغ

 

وستتلاشى العتمة

 

عندئذ سينسكب صوتك

 

شآبيبَ ذهبية

 

عبر طيات السماء.

 

وستنهض كلماتك

 

على أجنحة طيور ألحاني

 

وتنبثق أنغامك

 

من ورود رياضي

 

ورياحين بساتيني.

 

أناشيد الروح - رابندرانات طاغور 

 

المقعد الخالي

-----------------

 

صاح بأعلى صوته:

 

"وقّف يا عربجي

 

أرى مقعداً خالياً في العربة"

 

أجابه:

 

"غلطان! لا يوجد في العربة مقعد واحد خالٍ"

 

وهمز جياده فضاعفت سرعتها.

 

ثم التفت إلى المقعد الذي احتفظ به خالياً بقربه وقال:

 

"يظنون أن القبر قد احتواكِ

 

لكنكِ ما زلتِ معي يا حبيبتي!"

 

وتهامس الركاب قائلين:

 

"في هذا المقعد كانت زوجته تجلس دائماً

 

وترافقه في كل رحلاته

 

ومنذ رحيلها قبل سنين عديدة

 

لم يجلس أحد أبداً في ذلك المقعد."

 

Thomas Hardy 

 

سيكون من الأسهل لي أن أحبك...

-------------------------------------------

 

ما يميز الشعر عن باقي الفنون والآداب الأخرى

هو لا محدودية نفاذه إلى فضاءات سحيقة

وغوصه في أغوار عميقة

والآن.. تغلغله في قلب التربة

حيث الحب أسهل

للأسباب التي ستقرؤنها في هذه القصيدة

التي ترجمتها لكم أصدقائي لغرابتها وأصالتها..

آمل أن تلقي بعض الضوء

على شطحات الشعراء وأفكارهم وأحاسيسهم غير التقليدية..

مع المودة للجميع.

 

سيكون من الأسهل لي أن أحبك

 

عندما يطويني الردى

 

محجوبة عن الضوء

 

بعيدة عن الأصوات

 

في مكان ما تحت الأرض

 

لا تمتد إليه حتى جذور الأشجار والنبات البري

 

حيث لا شيء يتغير

 

ولا حاجة لمزيد من الكلام.

 

عندها.. كل شيء سيكون مطبقاً – بأكثر من معنى

 

إذ لن تمتد يد الإخفاق نحوك أو نحوي

 

وسأجد عندها السكينة التي تعشقها روحي

 

لتلفني وتغلفني

 

فأحلم كما أريد

 

بينما تواصل السنون من فوقي سيرها الحثيث.

 

أما الآن.. فالحياة تعصف حولي كبحر هائج

 

وتلسعني كلهب حارق

 

وتدوّي كقصف الرعود في مسمعي

 

وحيث لا وقت للغناء

 

ولا مجال للدموع

 

وقد هجرتني كل الرؤى..

 

ففي عالم تهزه الزلازل

 

وتصعقه البروق

 

ما أصعب الحب يا صديقي !

 

Muna Lee 

 

أغنية عشق بدوية

----------------------

 

بينما كنت أتصفح أحد أجزاء موسوعة الشعر الإنكليزي، وقعت عيناي على قصيدة للشاعر Francis Thompson فرنسيس تومبسون (1859-1907) بعنوان (أغنية عشق بدوية Arab Love-Song) ولا أذكر أنني كنت قد قرأتها من قبل، فرغبت في ترجمتها.

أسلوب هذا الشاعر عويص وتكتنفه مسحة من غموض، بحيث غالباً ما يجد القارئ صعوبة في معرفة ما يرمي إليه، وكان من هذه الناحية شبيهاً بأمرسون Emerson وبالشاعر إي إي كمنز E.E. Cummings وقد تصرفت ببعض مقاطع الأغنية لإبرازها على نحو معقول ومقبول، آمل أن تنال إعجابكم.

وترجمتي لهذه الأغنية هي من قبيل التعريف بالشعراء الغربيين الذين أبدوا اهتماماً بالثقافة العربية.

أطل البدر على الواحة في هدأة الليل

فبانت الجِمال ذات الظهور المحدودبة

وهي تعب الماء عبّاُ

عما قليل ستتبّدى عذراء الليل

وتسري بين نجوم السماء

تقتطفها كالزهور و تنشد أعذب أغانيها.

أيا نور ظلامي ويا دم قلبي..

ها قد أرخى الظلام سدوله حول حبنا

فتعالي إليّ..

وسيحبس الليل أنفاسه

ولن ينبس ببنت شفة..

اتركي أباكِ وأمك وأخاكِ

واهجري خيامك السوداء

وودعي عشيرتك..

ألستُ أباك

وأخاكِ

وأمكِ؟

وما حاجتك لخيمتك السوداء

ما دام صوّان قلبي الأحمر لك مسكنا؟!

 

وردة البستان

 

أطلّت وردة البستان من برعمها ذات صباح

وضحكت يغمرها الاعتزاز

بدم الشباب يسري في عروقها.

 

وعندما فكرتْ بالبستاني القريب منها قالت لنفسها:

 

"مسكين البستاني، لقد بلغ من العمر عتيا

وعما قريب سيفارق هذه الدنيا!"

 

وفتّح دفءُ حزيران بتلاتها الواحدة تلو الأخرى

فتمددت إلى أقصى مداها

حتى بانَ قلبُ الوردة مجرداً..

 

وما أن سمعت وقع أقدام البستاني

حتى أغرقت في الضحك من جديد

وقالت بكل تأكيد:

 

"هو الآن أكبر سناً مما عهدته

وعما قريب سيتقلص ظله الممدود

ويختفي من هذا الوجود!"

 

لكن ما أن هبّت نسمات الأسحار

حتى نثرت أوراق الوردة على الأرض.

 

وعند الظهيرة أتى البستاني العجوز

فجمع أوراق الوردة التي اعتراها الذبول

وبرفقٍ وسّدها الثرى.

 

نسجتُ هذه المقطوعة تذكرة لذوي الفطن

فالوردة هي الجمال.. والبستاني هو الزمن.

 

Austin Dobson

A Fancy from Fontenelle

 

(لآتِ بما لم تستطعه الأوائل): وقفة تحليلية

----------------------------------------------------

هذه الكلمات هي لرهين المحبسين أبي العلاء المعري، والبيت الكامل هو:

(وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه .. لآتِ بما لم تستطعه الأوائلُ)

الكثير منا يتندر برد الغلام الذي قال للمعري:

" الأوائل صنعوا أبجدية من ثمانية وعشرين حرفاً فهل لك أن تأتينا بحرف زيادة عنها؟"

هنا تنتهي الرواية وكأن رد الغلام كان مسك الختام وأنه أفحمَ ببديهته الحاضرة شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء.

الصبي كان ولا شك ذكياً ولا نعلم إن كان القول قوله أو أن أحداً طلب منه أن يسأل الشاعر ذلك السؤال الذي ينطوي على حذق ودهاء.

لكن في تقديري، وبقطع النظر عن الجواب على سؤال الصبي، فقد بلغ المعري أعلى مراتب الإبداع الفكري والفني. قد لا نتفق معه في كل ما أتى به وأعرب عنه من آراء ومعتقدات شخصية، لكن هذا يجب ألا يبخسه حقه كأحد ألمع كواكب الفكر الإنساني في الشرق والغرب.

ولا بد هنا أن أنوّه بجهود فيلسوف الفريكة أمين الريحاني الذي ترجم مقتطفات من اللزوميات، وليس اللزوميات كلها، مع أن هذا هو الإنطباع السائد؛ إذ لديّ نسخة من الطبعة الأولى الإنكليزية (1903) التي اجتهد الريحاني أن يلبسها حلة غربية شبيهة إلى حد كبير بترجمة رباعيات الخيام لفتزجيرالد. ولا بد أن الريحاني كان متأثراً بترجمة فيتزجيرالد لأنه استعمل نفس الإيقاع والروي والموسيقى الشعرية التي يطالعها القارئ للرباعيات.

ومع أن الريحاني أبدع في نقل الفكرة أحياناً لكنه لم يتمكن في أحيان أخرى من تجسيد الرؤية كاملة حسبما بدت للمعري وذلك قد يعود إلى التزام أوزان تماثل ما ألزم به الشاعر نفسه عندما نظم اللزوميات.

وبالرغم من ذلك فإن قارئ اللزوميات باللغة الإنكليزية يشعر بنفس المتعة التي يشعر بها القارئ لها بالعربية، وهذا إنجاز ضخم للريحاني يحسب له ويشكر عليه.

وبالعودة إلى (لآتِ بما لم تستطعه الأوائلُ)

فالمعري تمتع باستقلالية الرأي وعدم التكسب بأشعاره بخلاف ما كان عليه معظم الشعراء الأمويين قبله والعباسيين في عصره.

وكان رائداً في تفكيره، لا يحب السيطرة على الآخرين ولا يسمح لأحد بالسيطرة عليه..

وكان ذا اكتفاء ذاتي، قانعاً بما تيسر له من العيش، غير لاهث وراء الأمجاد التي سارعت هي بالسعي إليه، ولعل السبب في ذلك يعود إلى ثقته بنفسه وجرأته في إبداء رأيه وعناده في الثبات على نهجه، وعدم مباينة السبيل الذي اختطه لنفسه.

لم يُعرف عنه أنه آذى أحداً، بل كان شديد الحدب على المخلوقات التي شعر أن لها الحق مثله في الحياة.

وأعتقد أن قوله الذي نحن بصدده نابع عن يقينه بأن عالم الفكر لا حد ولا انتهاء له، وأن كل مفكر جاد لا بد أن يتمكن من الحصول على نصيبه من أفكار وأقوال وتعابير جديدة لم يسبقه إليها أحد.

إن كانت لا توجد حبتا رملٍ في العالم بنفس الشكل والحجم والوزن..

وإن كان لا يوجد عقلان بنفس التفكير والنظرة للأمور بغض النظر عن بعض التشابه في وجهات النظر والرؤى..

وإن كان فكر الإنسان بحاجة ماسة إلى التطوير والإبداع لمواكبة مسيرة الحياة..

فما العجب في أن يأتي أحدهم بما لم تستطعه الأوائل؟

مجرد وجهة نظر


 

أصدقائي الأعزاء

تحية طيبة

مع أنني لم أنشر في الآونة الأخيرة

في صفحتي على الفيسبوك

لظروف تتعلق بالعمل

والإشراف على صفحات أخرى

لكنني أفكر بكم وأبعث لكم عبر هذه الكلمات

بفيض من المودة والتقدير لكم ولمشاعركم الكريمة.

عدم التواصل المنتظم

لا يعني عدم الإكتراث والإغفال

فأنتم في البال..

وكأني أسمع صدى صداقتكم

في نجوى الأنغام القديمة

وأرى أطيافها تستقل أثير الروح

المترنحة أمواجُه

على شواطئ الإرادة الطيبة..

فتهتز الخوالج استجابة

ويلهج لسان القلب بطيبة وروعة المحبين.

دمتم يا أصدقائي بحفظ الله ورعايته

ولكم المحبة وعليكم السلام

 

May, 2013


المدينة الفاضلة: وجهة نظر

------------------------------

رد على استفهام

أخي ...

المدينة الفاضلة ليست وهماً ولا سراباً لأن الذين تحدثوا عنها ونادوا بها كانوا على درجة عالية من التفتح والمعرفة الإنسانية وربما التجربة الصوفية أيضا. وأعتقد أنهم كانوا من سكان تلك المدينة التي كانت بالنسبة لهم حقيقة راسخة لا ضرباً من الخيال.

وكما استعمل الصوفيون رموزاً وكلاماً يفهمه البشر للتعبير عن تجربتهم الماورائية التي لا يمكن الإفصاح عنها بالكلام، الذي هو منتج العقل الحسي المقيد بالحواس التي لها حدود لا تتخطاها، هكذا لجأ الفلاسفة الروحيون إلى مصطلحات يمكن للبشر تصورها. فالناس يعرفون ماهية المدينة ويعرفون المعنى الضمنى لكلمة فاضل ولا يجدون صعوبة في فهم مصطلح (المدينة الفاضلة).

هذه المدينة بتقديري المتواضع – وقد يكون سبقني البعض إلى الفكرة – هي حالة نفسية وليست موقعاً جغرافيا في مكان ما من الأرض. الفكرة مثالية بكل تأكيد، إنما لكي تتحقق واقعاً ملموساً يجب أن يكون مستوى وعي سكان تلك المدينة متقارباً وعلى درجة عالية من الرقي والتفتح الروحي. وهذا مستحيل في العصر المادي.. ومستحيل ما دام يوجد تفاوت كبير في درجات الوعي. ومستحيل أيضاً ما دامت قوى الشر بما فيها من أنانية وسلطوية وافتئات على الحقوق تسرح وتمرح في تلك المدينة.

لعل لهذه المدينة وجوداً حسياً في العصر الذهبي الذي يقول الحكماء أن المعارف تكون فيه بالغة التطور والطبيعة الروحية في مراحل متقدمة من نمو الإنسان.

ما عدا ذلك فهذه المدينة موجودة في مملكة الوعي وباستطاعة كل المتشوقين إلى ارتياد الآفاق العليا، المتأملين بعظمة الخالق وميراث الإنسانية الروحي ارتيادها.

ولعل الشاعر الإيطالي دانتي قد عنى تلك المدينة بالذات عندما قال:

"كنت في تلك السماء ذات الإنارة الفائقة، بنور صادر من الله. ورأيت أشياء لا يستطيع العائد من ذلك المكان وصفها لعدم توفر القدرة على الوصف وعجز اللغة عن استيعاب تلك المعاني العلوية. فعندما تقترب عقولنا من غاية أشواقها يطغى ذلك الكيان الأسمى عليها فلا يمكنها أن تسلك السبيل ثانية إلى ذلك الفردوس. ولكن كل ما أبصرته في تلك المملكة المقدسة وكل ما باستطاعة ذاكرتي أن تعيه سيبقى شغلي الشاغل وتفكيري الدائم حتى آخر لحظات عمري."

شكراً على طرح الموضوع

وتقبل تحياتي

 

(يسع الورى ويظللُ الأحياءَ)

---------------------------------

بينما كنت أتصفح أحد دفاتري وقعت عيناي على عجز البيت أعلاه

الذي كنت قد دونته على عجل دون أن أقرنه باسم الشاعر.

وأظنه ورد في قصيدة امتدح بها الشاعر أميراً أو وزيراً أو جوّاداً أو ذا شأن،

وأردت أن أقف وقفة تحليلية قصيرة عند هذه الكلمات.

ما لم تكن هذه الكلمات قيلت في الذات الإلهية فمن الواضح أن الشاعر قد تجاوز في مدحه حد المعقول، ولا بد أنه كان يدرك ذلك.. وقد يكون فكره عاتبه أو ضميره أنبه على هذا الشطط ومع ذلك "رصع" قصيدته بتلك الكلمات وليدة قريحةٍ بعيدة مرمى الخيال ونفسٍ مُحبة للنوال.

ولو سألنا الشاعرَ عن ذاك الذي يسع الورى فلا أظن أنه كان سيقنعنا بحجته

مهما كانت قوية، لأن من يسع الورى أي الخلق يجب أن يكون أكبر من ذلك الورى، ومن يظلل الأحياء يجب أن يكون أكبر من الكرة الأرضية ولذلك فهو ليس بشراً سويا لأن الأرض لا تتسع له.

وهذا قريب من شطر بيت آخر ربما للمتني، هو:

"قريبٌ عليك كلُ ناءٍ عن الورى"

وبيت مماثل لابن هانئ الأندلسي، هو:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ

فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ

هؤلاء الشعراء كانوا مفكري الأمة وفنانيها ومبدعيها، لكن القليل منهم كان

مستقلاً برأيه، متحرراً من سطوة الشهرة والمال والنفوذ والتزلف، ولذلك نلمح بين

الحين والآخر هناتٍ تشي بأن الشاعر الذي كان يطاول الجوزاء ولا يقنع بما دون النجوم، كان أيضاً محكوماً باعتباراتٍ شتى تسللت إلى أشعاره واقترنت بنتاجه الأدبي.

ومع ذلك فإن الشاعر الأصيل يبقى شاعراً بصرف النظر عن بيت أو أبيات مجانبة للصواب أو بعيدة عن الواقع بعد الثريا عن الثرى.

 

يا صديقي...

--------------

الصداقة التي جمعت ما بيننا

لم تقم يوماً على منفعة مشتركة

ولم تشترط تواصلاً متصلاً

أو تنحصر في مكان أو زمان

ولذلك بقيت قوية نقية

جميلة جليلة

نابضة في القلب

وامضة في سجل ذاكرة

غير قابل للمحو.

لم أرَ شخصك النبيل منذ زمن بعيد

ومع ذلك فغالباً ما ألمح تعبيرات تذكرني به..

وكأنني أحس بك متوهجاً في نضارة العاطفة

باسماً مع شعاع الفجر يفتّح جفون البراعم

أو منتشياً في العشب الخضيل

أو مرتسماً في أفق الأصيل..

وهذه الصداقة التي رصّعنا سماءها

بفراقد الإخلاص المخلدة

وأشدنا لها على صخر الثبات هيكلا

وغرسنا في حدائقها سنديان الوفاء

وزيّنا برياحين الغبطة رباها والوهاد..

ما زالت مصدر فرح وإلهام

وستبقى هكذا يا صديقي.

محمود

 

ساحة القلب

--------------

في جنبات قلبكِ

أرجاءٌ وأجواء

وفصولٌ وأملٌ موصول

وأخاديد ومطبات

وصدوع وفلوات

وحقائق باهرة

وإبداعات زاهرة

ورياح عاتية

ورمال سافية.

في رياضك

زنابق مكللة بالندى

تتنفس عطراً مسكراً..

وفي صحاريك فحيحٌ يعطب

وصفيحٌ ملتهب.

فيكِ مواكب وكواكب

وسحر غريب..

وأعاصير ثائرة

واكفهرار كئيب.

ساحة القلب..

فلتزخري دوماً

بإشراقة البهجة

وصفاء البراءة

ولتحتشد في مغانيكِ

أعذب الأماني

وأجمل الرؤى..

يا ساحة القلب!

 

سقراط وأغاني التُم

---------------------

التُم المعروف أيضاً بالإوز العراقي الأبيض يتميز بعنقه الطويل وصوته الذي يشبه صوت النفير، وتدور حوله أساطير كثيرة.

بعدما صدر الحكم بالموت على سقراط بجريمة "إفساد أخلاق الشباب وتجاهل الآلهة التي كانت أثينا تعبدها، وممارسة ضروب مستهجنة من الديانات" تحدث من زنزانة سجنه إلى أصدقائه الذين ذهبوا لزيارته ووداعه، فقال:

"لا أظن أنني سأقنع الآخرين بأنني لا أعتبر حالتي الراهنة بلاءً ومصيبة. ولا يمكنني إقناعكم بأنني لست أسوأ حالاً الآن من أي وقت آخر في حياتي.

ألا تصدقون بأن روح التنبؤ التي أمتلكها لا تقل عن تلك التي يمتلكها التُم؟ فهذه الطيور التي تمضي حياتها تصدح بالغناء، عندما تشعر بدنو أجلها يرتفع ويشتد غناؤها أكثر من ذي قبل، مبتهجة للعودة إلى إلهها الذي هي رسل له.

لكن الناس، الذين هم أنفسهم يرهبون الموت، يؤكدون افتراءً بأن التم يغني أغنيته الأخيرة تأبيناً ورثاءً لنفسه، غير عالمين أنه ما من طير واحد يغني عندما يشعر بالبرد أو الجوع أو الألم، ولا حتى الكروان أو الهدهد أو السنونو الذي يقال أنه يغرد حزناً.

لكن بما أن طيور التم مقدسة للإله أبولو فهي موهوبة بحاسة التنبؤ، وتتوقع أشياء طيبة في العالم الآخر حيث تغني وتفرح في ذلك اليوم أكثر من أي يوم مضى.

وأنا كذلك، إذ أعتقد بأنني مكرس كالتم لخدمة نفس الإله، أشعر بأنني حصلت من إلهي على حاسة التنبؤ التي لا تقل رهافة عن حاسة طيور التم، ولا يليق بي مغادرة الحياة بفرح يقل عن فرحها."

Phaedo - Self-Realization

 

بين سؤال وجواب

-------------------

قال: ما هي في نظرك أفضل التجارب؟

أجاب: ليس من تنعم في الحياة مثل مودة الأحبة.

قال: وهل صحيح أن من غاب عن العين سلاه القلب؟

أجاب: هذا صحيح بالنسبة لمن لا ذاكرة لقلوبهم.

قال: ما هي أوقع الدروس في النفوس؟

أجاب: صراع الخير والشر داخل الذات وعلى الأرض.

قال: ولمن ستكون الغلبة؟

أجاب: دولة الحق حتى قيام الساعة.

قال: ما سر الحياة؟

أجاب: الجواب فور اختفاء "الأنا".

قال: هل من مقارنة بين الحياة والموت؟

أجاب: في عالم الثنائية لا وجود لأحدهما دون الآخر.

قال: هل من المستطاع تحقيق السعادة في الحياة؟

أجاب: المتعة يحققها الناس ولها مصدر نقي إسمه السعادة يعثر

عليه غير القانعين باليسير.

قال: ألا تعتقد أن الكراهية أسهل من المحبة؟

أجل: نعم، لكن المحبة خالية من السموم.

قال: ما رأيك بالقول "نأكل لنعيش"

أجاب: قول صائب، ما دام لحياتنا معنى ونواكب فصولها المتجددة.

قال: ماذا تستشف من هذا الدعاء من صديق لصديقه:

"جعل الله يا صديقي أسعد أيام ماضيك أتعس أيام مستقبلك"؟

أجاب: يتمنى لصديقه مستقبلاً لا تقل سعادة كل يوم فيه عن أسعد

الأيام التي اختبرها في ماضيه.

قال: لماذا تجمد العبرات أحياناً في مآقي الشوق؟

أجاب: لأن الحرارة تكون مركّزة في القلب.

قال: وهل سمعت بجسر التنهدات؟

أجاب: لعلك تقصد الجسر الواصل بين أودية الحنين الصامت؟!

 

وعدٌ .. بل وعود

----------------

في العقول المفكرة

الباحثة عن حلول لمسائل عادية

وغوامض مستغلقة..

وفي الوجوه الصافية

تطفح بشراً وعافية..

وفي النفوس الزكية

والعيون الذكية

المبتهجة بنور الصبح

والمفتشة عن الحُسن وسط القبح..

وفي القلوب الحساسة للجمال

المنتعشة بأنفاس الآمال..

وفي النظرة المتفائلة

تستشف في الدمعة بسمة

وتمسك في الملمات بيد اليقين..

وفي نار الفكر تحرق المستحيل

وتضيء السبيل..

وفي الصوت الواثق الجريء

يُلهم الثقة ويبدد الشكوك

وفي ملكات التخيل

مدفوعة بصدق الإحساس

وعدٌ.. بل وعود

بأن الحياة باقية ببقاء الخير

متجددة بتجدد العطاء والإبداع.

 

إضاءات أساسية للتعامل مع الحساسية

 

قال: هل من طريقة للتعامل مع الحساسية؟

أجاب: التغلب على الحساسية هو من الفنون الدقيقة، والتحكم بسرعة التأثر أمرٌ مهم من أجل تنمية شخصية وازنة متوازنة.

قال: وما هي في تقديرك أسباب ومسببات الحساسية؟

أجاب: إنها تنجم عن سوء الفهم وعقدة النقص، وعن الكبرياء المنتفخة و (الأنا) المضخمة.

قال: وما الذي يحدث بالضبط؟

أجاب: عندما يفكر الشخص بأن مشاعره قد تعرضت للرضّ تسري تلك الفكرة في عقله فتثير أعصابه التي تتوفز بدورها وتتمرد.. فتشتعل نيران الغضب في قلبه بسبب المشاعر المرضوضة، ومع ذلك هناك أشخاص لهم القدرة على التحكم بانفعالاتهم فلا تظهر أعراضها بالرغم من احتدام الغيظ في داخلهم. آخرون يظهرون انفعالهم من خلال ردود فعل فورية تبدو في عضلات العينين وقسمات الوجه، ومن خلال ردود لفظية قاطعة كالشفرة.

قال: وما هي أضرار سرعة التأثر هذه التي وصفتها؟

أجاب: للتأثر المفرط مضاعفات خطيرة، فهي تزيد الموقف تعقيداً وتخلق اهتزازاً غير مستحب يؤثر سلباً على الآخرين.

قال: لقد وصفت الداء فما الدواء؟

أجاب: بذل المجهود لضبط النفس والتحكم بالأعصاب، ونشر هالة من الفهم والتفاهم تشحن الجو بالسلام بدل الإحتدام وتبدد منه أبخرة التوتر. ومن يفعل ذلك يكون سيد نفسه وسيكافئه الآخرون من حوله بالتقدير والإحترام.

قال: لكن ليس من السهل دوماً التعامل مع العواطف على هذا النحو.

أجاب: صحيح، فالحساسية المفرطة ميزة يشترك فيها معظم الناس، وعندما تثور هذه العاطفة غير المنطقية فإنها تعمي البصيرة وتسمل عينيّ الحكمة. والأدهى من ذلك، فإن صديقنا السريع التأثر يظن أنه يفكر ويشعر ويتصرف على نحو سليم لا غبار عليه، مع أن سلوكه قد يكون مغلوطاً جملة وتفصيلا!

قال: ولكن بعض الناس يرتاحون للإعراب من مشاعرهم بأية طريقة.

أجاب: كثير من الناس يعتقدون أنه يتعين عليهم الإشفاق على أنفسهم عندما يوجه لهم النقد، وذلك التعاطف الذاتي يجلب لهم بعض التنفيس. لكن مثل هؤلاء كمدمني المخدرات، كلما تعاطوا جرعة جديدة كلما زاد إدمانهم. إن الشخص سريع التأثر غالباً ما يتألم دون طائل. وفي معظم الأحيان لا أحد يعرف سبب معاناته أو طبيعة تظلمه، فيزداد صاحبنا حسرة في عزلته الداخلية التي يفرضها على نفسه بنفسه. لا يمكن تحقيق شيء بالاجترار الصامت لما يعتبره الشخص إساءة تعرّض لها أو نقداً وُجّه إليه.

قال: وبماذا تنصح؟

أجاب: من الأفضل التخلص من مسببات تلك الحساسية المفرطة بتفعيل ضبط النفس. لهذا النوع من الحساسية غير الصحية أضرار بالغة، فهي تلتهم القلب كالنار وتدمر أنسجة السلام، ولذلك يتوجب التعاطي معها بحكمة ومنطق وإرادة حازمة.

والله الموفق والسلام عليكم

محاضرات في معرفة الذات

 

وقفة حية مع الموت

 

{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

 

يقول دانيال وبستر:

قد يعيش المرء كقائد أو كفاتح أو كملك أو كمشرّع، لكنه سيموت كإنسان.

ويقول كيتدريدج:

يا صديقي، سيأتي ذات يوم إلى الإنسان رسولٌ لا يمكن تجاهله أو التعامل معه باستخفاف. سيقول له "تعالَ معي" ولن تجدي معه نفعاً توسلات ذلك الشخص بخصوص ما لديه من ارتباطات عمل وغراميات واهتمامات كثيرة. ولمجرد لمسة يده الباردة ستسقط من يد الإنسان مرة وإلى الأبد مفاتيح الخزائن، وسيقوده الرسول بعيداً عن استثماراته ومشاريعه ومخططاته وعن أمواله وعقاره، وسيأخذه إلى محكمة العدل الرباني حيث الميزان دقيق وحيث العمل الصالح هو الشفيع والصديق.

ويقول الشاعر تنيسون: لمسه إصبع الله فنام نوماً أبدياً.

ويقول السر والتر رالي:

يا أيها الموت البليغ والعادل والقهار! يا من لا قدرة لأحد على وعظه! لقد أقنعتَ من لم يقدر أحد على إقناعه، وفعلت ما عجز عنه الآخرون، واحتقرت من أطنب العالم في مديحه دون استحقاق، وجمعت أوهام العظمة وصلف الكبرياء ووحشية القسوة وكل مطامح الإنسان ولخصتها بكلمتين هما "هنا يرقد".

ويقول باترشال:

يا لها من قوة يمتلكها الموت، إذ له القدرة على إخماد الأنفاس وإسكات الأصوات. نقف أمامه مذهولين وننظر بتعجب إلى ذلك الصمت المطبق الذي يغلف به حياة الإنسان. لا يمكننا عندئذٍ سوى النظر وخفض الرأس وترديد بعض آيات وصلواتٍ والدعاء بالرحمة للمفارقين والتمني لهم بالرضى والرضوان.

ويقول بايك:

فلننظر إلى أبعد بقليل من رؤيتنا المحدودة.. إلى وقت تتوقف فيه المشاغل وضوضاء العمل وكل الإلتزامات، حيث ستطوى صفحة حياتنا من سِفر هذا العالم.

ويقول جيمس هاملتون:

سنكون في خضم عمل عظيم عندما ستنفلت الأدوات من بين أصابعنا المرتخية، ولن نعمل بعدها.. وسنكون في طور التخطيط لمشروع ضخم، أو لبناء بيت أو للشروع بعمل تجاري فيه ربح وفير، عندما ستتلاشى كل أفكارنا وتتبدد كل مطامحنا.. لكن الحياة ستتواصل على مستوىً آخر والسعداء هم الذين يكونون مستعدين للإنتقال إلى الأبدية وكلهم فرح لملاقاة ربهم الذي سكن قلوبهم وسمعوا صوته هامساً في ضمائرهم إبان تجسدهم الأرضي.

ويفيدنا الإمام عمر من القول حكمة إذ يقول:

"كل عملٍ كرهتَ من أجلهِ الموت فاتركهُ، ثم لا يضرّك متى متَّ."

موسوعة الأفكار 

 

شاعر تحدى الموت!

----------------------

 

وليام بتلر ييتس الشاعر الإنكيزي الشهير (1865- 1929) [الذي أهدى له طاغور كتابه غيتانجالي الذي نال عليه جائزة نوبل] يروون عنه، أنه عاد يوماً إلى مدينة دبلن قادماً من إجازة قصيرة أمضاها في أسبانيا، وقد حمل معه تقريراً خاصاً من أحد كبار أطباء القلب الأسبان إلى طبيبه أوليفر جوجارتي.

 

كان الشاعر الكبير يشكو من مرض القلب في شيخوخته، فما كاد يصل إلى بيته في دبلن حتى عاوده طبيبه، فأخرج ييتس التقرير، وسلمه إليه، وقال وهو يبتسم: "أنا أعرف ما في هذا التقرير، إنه حكمٌ عليّ بالإعدام!"

 

وقرأ الطبيب تقرير زميله الطبيب الأسباني فاكفهر وجهه. ثم ما لبث أن طلب إلى الشاعر المريض أن يستلقي ليسمع بأذنه ما طرأ على قلبه.

 

وما كاد ينتهي من الكشف عليه حتى نظر إليه وقال في توسل: "لن أستطيع أن أتركك وحدك في هذا البيت، لا بد من أن أحملك معي إلى المستشفى. ستأتي السيارة في ساعة مبكرة من صباح الغد وأرجو أن تكون مستعداً للذهاب معي!"

 

وقال ييتس ضاحكاً: "ولماذا ننتظر إلى الغد؟ لماذا لا أذهب معك الآن، ألا يحتمل أن يتوقف قلبي خلال الساعات الأربع والعشرين القادمة!؟"

 

وخرج الطبيب ليُحضر سيارة الإسعاف من المستشفى. وبعد ساعة واحدة كان يطرق باب بيت صديقه الشاعر.. ولكنه لم يجد أحداً.

 

لقد ترك ييتس فراشه وجمع كتبه وأوراقه وترك البيت إلى حيث لم يعرف أحد المكان الذي اختاره ليقضي فيه آخر أيامه.

 

وفي بيت ريفي صغير في ضواحي دبلن. عاش ييتس أربع سنوات كاملة كتب فيها أروع أعماله قبل أن يودع هذه الدنيا. وكتب يقول في ديوان شعره: (القصائد الأخيرة):

 

"لم أكن مستعداً للموت، فرحلَ عني.

 

وقلبي المريض، عاد ينبض بقوة.

 

عندما أمسكت بالقلم لأصور الحياة وما فيها من جمال..

 

وقد ظل القلب ينبض

 

إلى أن أحسست أن القلم قد جف مداده

 

فكان لا بد لي من الذهاب.

 

مجلة العربي عدد 161 أبريل (نيسان) 1972 

 

روائع الحب

------------

قرأت قبل قليل هاتين الكلمتين ضمن عنوان فأردتهما مدخلاً لموضوع متواضع.

بكل تأكيد الحب رائع نظراً لما يحسّه المحب من غبطة تنقله من أجواء ضيقة محدودة إلى فضاء رحب يشعر فيه بتمدد في وعيه وإرهاف في أحاسيسه، ويحس بتواصل مع مكونات جديدة من كيانه، حية متوهجة، ربما لم يكن يعرف بوجودها أو يختبرها من قبل.

وهو رائع من حيث تخفيف أعباء الحياة، لأن المحب يصبح أكثر تماهياً مع ذلك العنصر اللطيف وأقل تحققاً مع متطلبات العيش التي لا تعود أولوية مطلقة بالنسبة لمدركاته التي تتجه نحو حقيقة جديدة أكثر استقطاباً لفكره ومشاعره واهتمامه.

هناك من قالوا أن العيش مع الحبيب يكفيهم حتى دون أكل أو شرب..

ومنهم من كان أكثر واقعية واقتنع بالبساطة.. خبز وزيتون للغداء، والبطاطا للعشاء!

وهناك من يحنّ ويجنّ أو يكاد (ثبت الله العقول) والسبب هو طغيان العاطفة على العقل لدرجة الطمس..

وهناك من يفقد النوم أو يصرف لياليه مسهداً يعد النجوم أو يناجي طيف الحبيب.. والليل نسيمه عليل..

وهناك من قارب حبه البشري العبادة، ومنهم شاعرنا الكبير أحمد شوقي عندما قال:

ويقول تكادُ تُجنُّ بهِ ... فأقولُ وأوشكُ أعبدهُ

وهناك من هو مستعد للتضحية بنفسه في سبيل الحب والحبيبة (إما قاتل أو مقتول)..

وهناك من شبّه الحبيب بالملاك الحاني ومحقق الأماني..

ويقال أن عاشقاً ضحّى بأحد أسنانه إكراماً لحبيبته التي طلبت منه ذلك التذكار الثمين، وما أن حصلت عليه حتى أضافته إلى صندوق صغير مليء بالأسنان!

لا خلاف على روعة الحب

وأروعه أعمقه

وأصدقه أكثره ثباتاً

وأقلّه حظاً من العمق والديمومة اقترانه بحب التملك.

لهذا الحب محكّ ولا أدري كم من المحبين يصمد له..

فلو علم المحب الولهان

والعاشق المفتون

والمغرم الغارق في بحر الهيام

أن من يختصه بذلك الوله والولع

والوجد والشغف

يحب شخصاً آخر

فهل سيبقى على حبه بنفس الإحساس والحماس؟

دام الحب نابضاً في قلوبكم، مرفرفاً في سماء حياتكم أصدقائي

 

وبقيت رسالتها تنبض بالحياة

-------------------------------

 

كتبت في مذكراتها يوماً تقول:

 

"اليوم بلغت الحادية والثلاثين من عمري، ولكنني لا أجد شيئاً أشتهيه في هذه الحياة الجوفاء من حولي، إلا الموت... لقد حاولت أن أملأ حياتي، ركبت البحر، وزرت بلاداً غريبة، والتقيت بأناس طيبي القلب، ولم أترك فرصة تمر دون أن أنتهزها لأجعل لحياتي طعماً في يوم من الأيام. يا إلهي أرشدني.. إنني في حيرة فأنا لا أدري ماذا أصنع بنفسي!"

 

بهذه الكلمات وصفت فلورنس نايتنجيل (1820-1910) الفتاة الإنجليزية الثرية أحاسيسها ومشاعرها عندما بلغت الثلاثين من عمرها في عام 1850، وهي ترى نفسها سجينة المجتمع الفاسد المنحل من حولها.

 

ولم تكن تدري الفتاة وهي تخط هذه الكلمات أنها استطاعت أن تشعل ثورة في هذا المجتمع الذي حقدت عليه، فلم تكد تنقضي خمس سنوات حتى أصبح أسم "فلورنس" على كل الشفاه، لقد كانت أول امرأة وضعت أسس فن التمريض الحديث...

 

لقد عاشت فلورنس وماتت من أجل التخفيف عن آلام الجرحى والمرضى والفقراء الذين كانوا كلهم أبناءها!

 

ولما بدأت تفقد نور عينيها عندما بلغت التسعين، منحوها وسام الجدارة، فحملته وجلست فوق فراشها تبكي. ثم عادت إلى مذكراتها وطلبت من إحدى صديقاتها أن تكتب على لسانها:

 

"أليس غريباً أن أشعر اليوم بعد أن بلغت التسعين بأنني لا أريد أن أفترق عن هذه الحياة الجميلة التي ساهمت في صنعها!"

 

وماتت فلورنس، ولكن رسالتها بقيت تنبض بالحياة حتى يومنا هذا! 

مجلة العربي

 

مقابلة بين رحالة عربي وتوماس أديسون

---------------------------------------------

 

بقلم العالم والرحالة حنا خباز 1871 ـ 1955

 

الكلام لحنا خباز:

 

الثلاثاء ظهراً في 26 سبتمبر سنة 1920 كان كاتب هذه السطور وإثنان من تلامذته السابقين في أوتومبيل يقلهم من باترسن بولاية نيوجرزي إلى إيست أورانج في نفس الولاية.

 

كان الطقس بديعاً، عليل الهواء، صافي الجَلـَد، تجلى فيه جمال الطبيعة وجلال العمران. إلى اليمين هضاب تكسوها الأشجار، وإلى اليسار رحاب تغطيها الأزهار، وقد نثرت في جنباتها المروج نثر الدراري في القبة الخضراء. تارة تخترق البيوت المروج، وأخرى تخترق هذه تلك. وطوراً تحيط الأشجار بالبنية، وآخر تحيط هذه بتلك.

 

فدارت بين الثلاثة الأصحاب الأحاديث التالية:

 

- أترى كيف نرى أديسون الآن؟

- إنه أكبر علماء الأرض

- وأعظم المخترعين

- أتدرون عدد اختراعاته؟

- من يعلم؟

- مئات بل ألوف

- أظن أنه أعظم من كل الملوك

- بل من أعظم عظماء الأرض

- سأراه وأخرج من حضرته وأنا غير مصدق عينيّ أنني رأيته، لأنني أعلم فرط أشغاله وضيق أوقاته.

 

على التليفون

---------------

 

الشاعر أسعد رستم يخاطب إدارة أديسون:

 

- هلو

 

- هلو. من المتكلم؟

 

- أسعد رستم

 

- وماذا تريد؟

 

- هنا رئيس كلية حمص الوطنية حنا خباز من سورية يروم مقابلة أديسون

 

- وما شأن (ومن هو) حنا خباز؟

 

- إنه رحالة طاف حول الأرض، وقابل عظماء الدنيا في كل صقع، وألـّف كتبه حول الكرة الأرضية، فيروم إتمام اختباراته في الولايات المتحدة بمقابلة توماس أديسون.

 

- ولكن أديسون مشغول جداً قلما يتمكن من مقابلة الناس.

 

- وحنا خباز مشغول أيضاً، وقد ضنّ على الأميرال طوغو ببضع دقائق يقابله بها، وإنما لأجل أديسون تخلف عن القطار البارحة واليوم.

 

- أهلا وسهلا بكم وإنما لا نقدر أن نضمن لكم مقابلة أديسون...

 

- لا بأس في ذلك فسنأتي في الوقت الذي تعينونه.

 

- غداً الساعة الثانية مساءً (بعد الظهر).

 

في الوقت المعيّن

--------------------

 

نزل الثلاثة المذكورون آنفاً أمام معمل أديسون، ودخلوا غرفة الخفر في سور المعمل، فقيدوا أسماءهم، وأنبأوا بغرضهم من مقابلة أديسون. وبعد هنيهة أتى رجل وصحبهم إلى الداخل – إلى بناية كبيرة ضمن السور. وهناك قابلهم شيخ لطيف إسمه وليم هـ. مدوروف مساعد أديسون وصاحبه منذ أربعين سنة. فأخبرهم أن مدة الزيارة يجب أن تكون قصيرة بالنظر إلى أهمية أوقات أديسون. وسمع الأسئلة التي يرغب الخباز في عرضها على أديسون.

 

ثم قادهم إلى القاعة الكبيرة إلى يمين المدخل، حيث الأجهزة وعمال عديدون. وفي نصفها الداخلي، إلى يسار الداخلين مكتب كبير وعلى كرسي أمامه المخترع (أديسون).

 

فلما دخل الزائرون وقف أديسون على الأقدام وصافحهم أفراداً، ووليم مدوروف يسميهم بصوت عالٍ وفمه على أذن أديسون.

 

أمام أديسون

--------------

 

وقف حنا خباز ورفع عينيه إلى الرجل الذي سكب الله بواسطة دماغه أثمن البركات على البشر، وتأمله ملياً.

 

طويل القامة، ضخم الجثة، أشقر اللون، لجيني السهام، حاد العينين، غليظ الحاجبين، عالي الجبهة، ثقيل السمع، بسيط المظهر، عادم التكلف، خفيف الروح، يتكلم كالأطفال، وليس على محياه غضون الاختبارات المُرة، ولا شيء من مظاهر الدهاء والاحتساب، لقلة ما يعاشر الناس، أو يحصل على سوء معاملة منهم. فهو كملاك الله سلامة نية ونقاء سريرة. فإنه يقضي أكثر أوقاته يدرس الله بأعماله وتنكشف له نواميس الطبيعة، فيستخدم الكشف لخير البشرية.

 

فقد والى الإكتشاف والإستنباط مدة اثنتين وأربعين سنة، ولا يزال يتعمق ويتقدم، ولا حد في دنيا الله للمكتشفين. فهو أعظم مخترع في بني حواء.

 

وقد لاحظ أسعد رستم أن شريطة حذائه منحلة، وبنطلونه متجعد... هو قلما يجتمع بالناس ويعيش بين السماء والأرض في فلك وحده.

 

الحديث

---------

 

خباز: أيصادق أديسون على ما نشره بعضهم أنه بالإمكان الغذاء بالكهرباء بدل الطعام؟

 

أديسون (يهز رأسه هزة الإنكار): كلا البتة.

 

خباز: هل صحيح أنك تؤمل أن تعيش مائتين وخمسين سنة، وتعتقد أنه يمكن لكل إنسان أن يعيش كذلك؟

 

أديسون: ليس كذلك بل مئة سنة كما عاش جدي جون وعمي صموئيل.

 

خباز: وما رأيك بمخاطبة الأرواح باللاسلكي العتيد؟

 

أديسون: ذلك من أسرار العلم التي يتوجب عليّ كل الصمت وعدم إباحتها الآن.

 

خباز: والسير إلى المريخ بالسهم الكهربائي؟

 

أديسون: لا أعتقد بإمكان ذلك على الإطلاق.

 

خباز: ما أحب اختراعاتك إليك وأنفعها للناس؟

 

أديسون: أولا المحرك الكهربائي الذي يسيّر "الكار" ويدير الآلات، ثانياً التنوير بالكهرباء، ثالثاً الفونوغراف، رابعاً الصور المتحركة.

 

خباز: ما أفضل الوسائل لسعادة البشر؟

 

أديسون (يفرك جبينه): العمل.

 

خباز: فإذاً سأعيدك حالاً إلى سعادتك وذلك بتوديعك لتعود إلى "العمل". فضحك أديسون وضحك الجميع.

 

خباز: أتتكرم بكتابة اسمك في هذا الدفتر الذي أصحبه حول الأرض؟

فجلس أديسون يكتب حالا ثم سأل: كيف وجدتم شاستر الذي أرسله ولسن؟

 

أسعد رستم: شاستر ليس في بلدنا بل في العجم.

 

أديسون: فأين أنتم؟

 

رستم: في سورية

 

أديسون (يشير إلى صدره): قوقازيون مثلي؟

 

خباز: نعم

 

أديسون: وماذا عملتم بفيص – فيس – فصل (يفهم القارئ أنه يريد الأمير فيصل)

 

رستم: ترك سوريا

 

أديسون: أليس هو ملككم؟

 

رستم: تملّك مدة ثم ابتعد عن سوريا.

 

خباز: أيتكرم عليّ أديسون برسمه الأخير؟

 

رستم: وعليّ أيضاً

 

فأمر لهما أديسون باثنين من أبدع رسومه. وكتب تحت كل منهما اسمه بخط يده وقدم له خباز رسمه ورسم كلية حمص الوطنية. وفتح له رستم كتابه "حول الكرة الأرضية". فنظر في الجميع بسرور كالطفل ودهش أديسون لما رأى جداول الأرقام وسأل:

 

ما هذا؟

 

رستم: أرقام حسابية

 

خباز: جداول صادرات الهند ووارداتها.

 

عندئذ صافحهم جميعاً كما في الأول وعاد إلى مكتبه للعمل.

 

وأمر المساعد مدوروف أحد الشبان بلف الرسوم بالورق، فأطاع الشاب وهو يقول: إنكم لسعداء! فلي هنا سنون عديدة ولم أحظ برسم أديسون.

 

وخرج الجميع مشيعين بالإكرام ومرموقين بالأنظار، ففهم خباز بذلك ندرة الزائرين لتلك القاعة التي هي صلة الأرض بالسماء.

 

حنا خباز

مجلة الهلال – أول ديسمبر (كانون أول) 1920

 

الفاتيكان: جولة تعريفية

-------------------------

الفاتيكان هو من أعظم قصور الدنيا وأروعها تصميماً. وبالإضافة إلى كونه المقر البابوي فإنه يشتمل على مكتبة قيّمة ومجموعة ضخمة من الأعمال الفنية وعلى متاحف عديدة تضم قطعاً أثرية ثمينة ونادرة.

الإسم مشتق من الكلمة اليونانية فاتيكانوس مونس أي تلة الفاتيكان. يقع القصر في الجزء الشمالي الغربي من مدينة روما بمحاذاة ساحة وكنيسة القديس بطرس حيث يعتقد بأنه نفس الموضع الذي صُلب ودفن فيه. ونظراً لاقتران المكان باستشهاد الحواري الكبير فقد أصبح قِبلة الحجاج الكاثوليك من كافة أنحاء العالم، ومن الطبيعي اختيار ذات الموضع ليكون مقراً لسكن البابا.

بُدئ العمل بتشييد الفاتيكان في القرن الثاني عشر. وعلى مدى قرون قام العديد من الباباوات بتوسيعه وزخرفته بروائع الفن والتحف النادرة. لكنه لم يكرّس مقرّاً باباوياً إلى بعد عودة البابا من أفيغنون في نهاية القرن الرابع عشر.

يتميز القصر بشكله الطويل وبنائه غير المتناسق الذي تغطي مساحته قرابة الأربعة عشر فداناً، بما في ذلك الباحات والساحات المفتوحة التي تغطي حوالي ستة أفدنة وتشتمل على كنائس صغيرة ومكاتب وشقق سكن ومتاحف وغرف من كل الأنواع. أما مسكن البابا فيقع في الجزء الجنوبي الشرقي من المبنى.

المجالس الكنسية تعقد في الفاتيكان وانتخاب الباباوات يتم في كنيسة سيستين وهي من أجمل الحجرات التي تشتمل على أروع ما أنتجه الفنان العالمي الأشهر مايكل أنجلو من أعمال فنية فذة وفريدة.

كما يشتمل بهو الإستقبال البابوي على نماذج من أعمال عباقرة آخرين من أمثال رافاييل ودا فينشي وتيتيان.

أما المتاحف فتشتمل على أروع التماثيل وأشهرها كتمثال أبولو بلفدير الذي يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد والمصنوع من الرخام الأبيض، وكذلك تمثال الكاهن الطروادي لاكون مع ولديه وهو يصارع أفاعي البحر.

كما تشتمل مكتبة الفاتيكان الكبرى التي يعود تأسيسها إلى القرن الخامس عشر على قرابة النصف مليون مجلد وعلى ما لا يقل عن 50 ألف مخطوطة بعضها يعود إلى القرن الرابع الميلادي. وهناك أيضاً نسختان من مخطوطة الإنيادة لأشهر شعراء الرومان فيرجيل، تعودان إلى القرنين الرابع والخامس الميلاديين. كما توجد أيضاً نسخة من كتاب الجمهورية لأعظم خطباء روما القديمة الفيلسوف الأشهر شيشرون.

وتشتمل المكتبة أيضاً على الأرشيف الباباوي وعلى محاضر للجلسات الباباوية منذ ألف عام ونيف.

بعد توحيد إيطاليا فقدت الباباوية كل سلطاتها الدنيوية التي كان الباباوات يتمتعون بها. ولغاية سنة 1929 كان البابا لا يخرج إطلاقاً من حاضرة الفاتيكان وأصبحت سلطته مقتصرة على الأمور الروحية لا غير. بعد ذلك تم عقد اتفاقية بين البابا بيوس الحادي عشر والحكومة الإيطالية خولت بموجبها البابا بعض الصلاحيات المدنية إضافة إلى الدينية.

الفاتيكان يشرف على حمايته الحرس السويسري البابوي (إذ جميع أعضائه سويسريون) وهو تقليد متبع منذ قرون. أفراد الحرس يرتدون ثياباً مزخرفة فاخرة قام بتصميمها في الأصل مايكل أنجلو نفسه.

 

المصدر: موسوعات

 

ماذا في أرض الله؟

----------------------

 

هذه الأرض المباركة التي وهبها الله لنا

ويريدنا أن نستمتع بمحاسنها

ونحافظ عليها

ونعتبرها نعمة لا ينبغي التفريط بها أو الإساءة إليها

فيها الكثير.. الكثير من العجائب والبدائع!

 

قمم تعلوها قمم

وطبقات فوقها طبقات

وسهول وسهوب

وبحار وأنهار

وغابات وأحراش

وصحاري تمتد إلى ما لا انتهاء في كل اتجاه.

 

إنها مسرح كوني

حيث تهجع الهضاب

وترقد الجروف الثلجية

وتشرئب الأشجار السامقة بأعناقها

وتستعيد المرتفعات الجرداء عهد الخضرة والنضرة

وتنطبع آثار الزمن في الصخور العملاقة.

 

من له القدرة على إعطاء المشاهد الأخاذة

والمرائي الباهرة لأرض الله هذه حقها من الوصف؟!

 

إنها تفعم القلب فرحاً

وتلهب الفكر بألف خيال

للتعبير عن ذلك الذي يعصى على الوصف!

 

إن التأمل بمحاسن الأرض يجعل إيمان المتأمل

يتجاوز قوانين الطبيعة إلى مشارف الوعي الأسمى

حيث الإبداعات لا تنتهي

ولا تقف عند حد

ولا تعرف النفاد.

 

ذات مرة قال أحد الأطفال:

"لا أعرف معنى أن يشعر الشخص بأنه لا شيء"

 

وهذا ما يحسه الناظر إلى عجائب الله

التي لا نظير لها، في أجزاء مختلفة من هذا العالم.

ومع ذلك يظن الإنسان أنه كل شيء..

الألف والياء

والبداية والنهاية

والقامة التي لا تعلوها قمة.

 

هناك مرتفعات تبعث على الدهشة

وأعماق تثير في النفس الرهبة

واتساع يذوب فيه الكيان

ووفرة كضوء النهار

ونيّرات تستحث المرء للنظر إلى أعلى

 

فيا ليت الإنسان يمتلك عيناً شاملة

ترى في كل اتجاه

ليدرك ما يحيط به من روائع الإبداع

المنتشرة كالدر المنثور

في أرض الله الواسعة لقوم يتأملون.

 

حقاً أن كل ما أبدعه الخالق يثير في النفس الدهشة

ويبعث على الإلهام.

 

والسلام عليكم أصدقائي

 

East-West Magazine

 

March 2013

 ---------------


من الحركة الدافعة إلى تحريك الدوافع

------------------------------------------

لا أظن أن الحركة توقفت لثانية واحدة على هذا الكوكب الأرضي منذ أن أتت الكائنات الحية الأولى إلى الوجود وحتى هذه اللحظة.

بوسعنا الإستنتاج أن الحياة على هذه البسيطة مشروطة بوجود الشمس، وأن حركة الشمس – المصدر لم تتوقف أبداً لأن عملية التفاعل والإنصهار والإطلاق والإنطلاق تعني التغيير والإنتقال من حالة إلى أخرى، وبالتالي الحركة المتواصلة.

فالحركة إذاً عنصر أساسي لنمو الكائنات وبقائها. وعندما تكف عناصرها التكوينية عن التفاعل تتوقف الحركة ومعها الحياة – أو مظهرها– في الكائن الحي، سواء كان مجهرياً أم بشرياً.

طبعاً هناك بعض حالات استثنائية تتعلق بالتحكم الإرادي بالحركة داخل الجسم، لكننا لن نركز عليها في وقفتنا هذه.

معلوم أن الكائنات تتحرك – سعياً في مناكبها – بحثاً عن القوت والمأوى وعن حاجيات أخرى. وبالنسبة للإنسان فقد تطورت وسائل وأساليب السعي وتضاعفت الحاجة الأساسية لديه ومعها تضاعفت الجهود الفكرية والجسدية لتحقيقها بعد أن تحولت من حاجة بسيطة إلى مركبة ثم مضاعفة.. إلى ما لا انتهاء.

قانون الحركة هذا ينطبق على الإنسان كما ينطبق على غيره من الكائنات الحية. ولكن الفرق هو أن الإنسان أكثر تطوراً من سواه وأن كيانه لا يقتصر على الجانب المادي وحسب بل يتعداه إلى المجال العقلي والأفق الروحي.. بالنسبة للمؤمنين بالروح.

وبالعودة إلى العنوان (من الحركة الدافعة إلى تحريك الدوافع) أود التركيز على الجانب المعنوي من الإنسان، الذي لا قيمة ولا أهمية للجانب المادي بدونه.

هذا السؤال ليس انتقاداً بقدر ما هو تدقيق في واقع. إذ لعلنا من خلال التدقيق في الطبيعة الإنسانية نفتح قنوات تفضي إلى أبعاد فكرية جديدة، وتلك هي الغاية من هذه الطروحات.

لدى إلقاء نظرة فاحصة على رغبات الإنسان نرى أن رغبة التملك هي الأقوى على الإطلاق، سواء الرغبة في امتلاك الأشياء أو السلطة أو القوة أو الجاه أو الأتباع أو العلم أو غير ذلك.

هذه الرغبة موجودة في الجميع تقريباً مع أنها تتفاوت من شخص إلى آخر. ففي حين يطمح البعض لأن يكون فوق الجميع في كل حال ومجال ومهما كلف الثمن نرى آخرين يمتلكون تلك الرغبة كحق طبيعي فيستخدموها لخدمة أنفسهم ومنفعة غيرهم.

الأول يريد فرض سلطانه وهيبته على الغير فرضاً بأية وسيلة كانت مع أنه لا قوة له ولا اعتبار أو وقار ولا سلطان لولا قوى الآخرين التي يستولي عليها بطريقة أو بأخرى ويحتكرها لنفسه دون سواه.

أما الثاني فبالرغم من امتلاكه للقوة ومشتقاتها لكنه لا يستأثر بها بل يفعل ما بوسعه لمقاسمتها الآخرين لأنه يدرك أن حياته متصلة بحياتهم وأن استغلال الغير يعني فقدان الإنسان لمقومات الشخصية السوية المتمثلة في احترام النفس وخدمة الآخرين بدل استخدامهم.

إن إطلاق الإنسان لقواه غير المنضبطة وغرائزه غير الملجمة سيؤدي حتماً إلى فوضى اجتماعية ومضاعفات سيكولوجية خطيرة، في حين التحكم الواعي والمنطقي بتلك الدوافع لا بد أن يثمر سلاماً ووئاماً وتفتحاً وانفتاحاً على أكثر من صعيد.

إضافة إلى تحكم الإنسان بميوله وتوجيهها في قنوات بناءة فإن إيقاظ الخاصيات الإيجابية في داخله سيساعده على امتلاك شخصية توافقية ومزدهرة تعمل كل ميزة من ميزاتها كدرجة تفضي إلى ما فوقها من درجات ومراتب على سلم الإرتقاء والتطور الذاتي.

ومع مواصلة النهج الإيجابي بالرغم من كل المشتتات والتحديات يمتلك الإنسان القدرة على اتخاذ قرارات متوازنة ومواجهة تحديات صعبة برؤية جلية وعزيمة لا تلين، إنما مرنة لا تعرف الإنكسار.


جواهر مخبوءة

----------------

لا نعرف ماهية الكنوز

التي تكمن في داخلنا حتى نفتش عنها.

الناس يغوصون بحثاً عن اللؤلؤ

الذي لا يمكن العثور عليه على الشطآن.

وسفوح التلال التي تبدو جرداء قاتمة وغير واعدة

تختزن أحياناً عروق التبر في باطنها.

ألا ليتك تغوص عميقاً

في بحر فكرك الشاسع الواسع

إلى ما تحت الأمواج الصاخبة

إلى سكينة الأعماق

لعلك تعثر هناك

على الدر المكنون وكهوف المرجان.

احتفر نفقاً عميقاً في أرضية الفكر الصلبة

اعمل بصبر وأناة كالباحثين عن الذهب

وستعثر تحت الصخور والركام

على ما قد يجلب لك ثراءً لم تحلم به.

حقاً أن العقل البشري

الذي هو انعكاس للعقل الكوني اللامتناهي

يحوي في طبقاته

بالرغم من التراكمات الأرضية الكثيفة

جواهرَ ودرراً من الجمال والنور

هي من نصيب الباحثين عنها

في مناجم الفكر الغنية بنفائس الكنوز.

Ella Wheeler Wilcox



ماذا نقرأ في مرايا الوجوه؟

----------------------------

الوجوه.. تلك الصحائف البادية للعيان، التي تنطوي صفحاتها على ما تنطوي عليه من أسرار وانطباعات وأفكار وانفعالات وقصص وحكايات وفصول وآيات لا تكاد تعرف بداية أو نهاية. فهي دائمة الظهور والتعاقب على تلك المرآة البشرية السحرية التي تلتقط وتبرز ما تعجز عن التقاطه وإبرازه أدق آلات وأجهزة التصوير، حتى الديجيتال منها!

هناك وجوه تسبح الخالق وتشيع البهجة في نفس من يراها

ووجوه لا يحبذ أحد رؤيتها.

هناك وجوه تشع لطفاً وطيبة ومحبة، تبعث على الراحة والثقة والطمأنينة

ووجوه تـُحدِثُ رؤيتها شعوراً قويا من الإرتياب وعدم الإرتياح.

هناك وجوه تقرأ فيها معانيَ النبل والسمو والشهامة

ووجوه تنبئ عما يتحلى به أصحابها من مخاتلة ولؤم وخداع.

هناك وجوه لا تشبع من النظر إليها ووجوه لا تطيق رؤيتها ثانية.

هناك وجوه تؤكد لك صدق أصحابها ووجوه تقول بفصاحة أن حظ أصحابها من المصداقية قليل وهزيل.

هناك وجوه تحمل على جباهها عبارة "موضع ثقة"

ووجوه يقول محياها لمن يحسن قراءتها "خذ حذرك ولا تقترب!"

هناك وجوه هي بذاتها تسبيحة ودعاء وبركة من السماء

ووجوه تطلق تقاطيعها الشتائم في كل موقع وموقف.

هناك وجوه تراها لأول مرة فتشعر بانعطاف قوي نحوها وتود لو تديم النظر فيها

ووجوه كذلك تراها لأول مرة فتنقبض أساريرك لانبعاث كهرباء خفية منها غير مرئية لكنها محسوسة وملموسة دون أدنى شك.

هناك وجوه حلوة كالفاكهة الناضجة

ووجوه فجة كالحصرم أو أشد حموضة.

هناك وجوه كالشمس عند إشراقها أو قبيل غروبها

ووجوه كالحة كالدخان الكثيف أو أكثر قتامة.

هناك وجوه تحتفي بك وتهش للقياك

ووجوه أنشف من رمل الصحاري في أيام الصيف القائظ.

هناك وجوه تقرأ قلوب أصحابها من خلال النظر إليها

ووجوه مستترة ومغلفة بألف حجاب.

هناك وجوه كالورد الجوري حسناً وعطرا ورواءً

ووجوه كالأشواك الحادة أو الأعشاب المتطفلة.

هناك وجوه كالكتاب المفتوح ووجوه كالطلاسم الغامضة.

هناك وجوه كالربيع الزاهر ووجوه كالشتاء الكئيب.

هناك وجوه كالبدر عند اكتماله ووجوه كالقمر عند خسوفه.

هناك وجوه كغيث الخير ووجوه كالبَرَد المدمر.

هناك وجوه تقول تقاطيعها "إبشر، قريباً دعوتَ"

ووجوه لا تكف عن التفكير في ما يمكنها تحصيله منك بأية طريقة.

هناك وجوه رؤيتها كالبلسم الشافي ووجوه مرآها يستدعي الاستعاذة بالله.

وليس آخرا، هناك وجوه كالمجرّة في اتساع أفقها وعمقها وأسرارها

ووجوه كزوبعة ولكن في فنجان.

كرّم الله وجوهكم أصدقائي والسلام عليكم

المصدر: موسوعة الأفكار



التوازن وسط المتغيرات

-------------------------

قال: ما هو تعريفك للتوازن؟

أجاب: هو مَثلٌ أعلى يجمع الإعتبارات المادية والنفسية والعاطفية والروحية في وحدة متناغمة، وهو ذو طابع عملي يستحث التفكير الخلاق ويشجع على العمل المثمر.

قال: بسّط وأوضح.

أجاب: كل واحد منا يريد أن يمتلك جسماً سليماً معافىً ومتحرراً من كل العوائق وضروب الوهن. كما نرغب في أن تكون عقولنا يقظة وأن تعمل عواطفنا ومشاعرنا لصالحنا وليس ضدنا، ونريدها أن تساهم في جعل علاقاتنا مع الذين حولنا توافقية ومُرضية، مثلما نريد أن نكون أيضاً على تواصل مع الجانب الروحي لكياننا.

قال: لكن الظروف صعبة للتعامل مع هذه المسائل.

أجاب: صحيح، هذه أوقات عصيبة، فالضغوطات كثيرة والتوترات متزايدة، ولتحقيق ذلك يتعين على الراغبين في تحقيق التوازن الإستثمار في قدر من الطاقة والوقت والإنتباه. فالتوازن لا يحدث بفعل التمني، بل يجب تحقيقه من خلال التخطيط الفعلي والمجهود الجاد.

قال: وما الذي يحتاج إلى توازن؟

أجاب: هناك عناصر كثيرة في حياتنا تحتاج إلى توازن، والكثير منها يبدو غير منسجم مع بعضه البعض. على سبيل المثال المسؤوليات تجاه الأسرة، كسب لقمة العيش، المحافظة على الصحة، مراعاة المبادئ الأدبية والخلقية، التعامل مع الكم الهائل من المعلومات الضرورية لتسيير شؤون العالم، والواجب تجاه المجتمع إضافة إلى التزامات عديدة أخرى تتطلب منا الوقت والطاقة.

قال: لكن الوقت أضيق من أن يستوعب كل هذا.

أجاب: هذا صحيح، فالوقت ضيق بالنسبة لنا جميعاً، لكن يتعين علينا تبسيط حياتنا لتقليل مشكلاتنا. فكم من الوقت الثمين يُصرف في البحث عن أمور مادية نعتبرها أفضل لأنها جديدة ولا يمكن الإستغناء عنها.

لكن لهذا الهوس ثمناً عبّر عنه بوذا بالقول "من يرغب بامتلاك الأبقار عليه أن يهتم بشؤونها".

ولو حللنا حياتنا لوجدنا أننا نهتم بالكثير من "الدمى" التي أقنعتنا وسائل الإعلام والإعلانات التجارية أنها حتمية لراحتنا وسعادتنا.

ومن المفارقة أن ما تُدعى مبتكرات لتوفير الوقت قد سلبت الإنسان العصري ما كان يتمتع به من وقت حر في الماضي.

قال: والحل؟

أجاب: لكي نتمكن من موازنة العناصر المتنافرة في حياتنا نحتاج إلى نقطة ارتكاز ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان والظروف.

فكلما ازدادت الحياة تعقيداً كلما احتجنا إلى الإدراك بأن المرتكز الوحيد الذي يمكن التمسك به والركون إليه هو الله القدير والكامن خلف الحياة بكل ظواهرها ومظاهرها. فهو قارب النجاة وسط بحر الحياة الهائج المائج والملاذ الآمن من لطمات الحياة وضرباتها الموجعة.

قال: وهل من وسيلة أخرى؟

أجاب: لم أعثر عليها بعد.

والسلام عليكم

Self-Realization Magazine



وقفة مع الحُب

----------------

كتبنا في أمور شتى وتطرقنا إلى أفكار قديمة وجديدة وتأملنا أقوال لفلاسفة ومفكرين وشعراء وذوي تجارب، وقد آن الأوان لوقفة مع الحب.

الحب واقع أكيد لا يمكن نكرانه وهو ليس من صنع الإنسان بل عنصر معنوي قائم بذاته له خواصه وقوانينه، مثلما له أغراضه وغاياته.

هناك أنواع عديدة ودرجات متفاوتة من الحب، مثل حب الآباء والأمهات لأبنائهم وحب أبنائهم لهم، وحب الأصدقاء لبعضهم، وحب الوطن وحب الهوايات والقائمة تطول. لكنني سأتطرق هنا إلى الحب بين الرجل والمرأة، إذ لهذا الحب غاية نبيلة وهي تقريب نفسين من بعضهما وخلق ذلك التجاذب بينهما لغاية واحدة هي الزواج، لأن الحياة يجب أن تستمر والزواج هو تلك الوسيلة لاستمرارية الحياة ومواصلة النسل.

تبدأ إرهاصات هذا الحب أول ما تبدأ في سن الشباب وهي الفترة التي تقوم الطبيعة فيها بالإعداد والتحضير لمرحلة قادمة عندما يقوى التجاذب بين الشاب والفتاة ويتعمق الحب بحيث يصبح الإتحاد بينهما قاب قوسين أو أدنى. ولحسن الحظ هناك ضوابط اجتماعية في البلدان المحافظة تتحكم بسير هذه المراحل مما يجنب الإثنين عواقب ومحاذير كثيراً ما تكون آثارها السلبية مدمرة على المستويين الشخصي والاجتماعي.

إذاً الحياة أو الطبيعة أو القوة الإلهية تغرس ذلك الشعور القوي الجامح الذي يصعب مقاومته في قلب الشاب والفتاة تحضيرا لعلاقة مشروعة ستثمر ثماراً بشرية وتلك هي غاية الحياة المباشرة من الحب.

فمن هذه الناحية الحب جميل ومشروع ورائع ونقي ونظيف ويكون استجابة تلقائية لنداء الحياة وله لذة يعرفها المحبون أو الأحباب إن شئتم. وهذا الحب الذي يكون على أشده في المراحل الأولى قد لا يستمر بنفس القوة والزخم، لكن هناك طرقاً ووسائل تساعد على المحافظة عليه وتنميته بين الزوج والزوجة ونقله فيما بعد إلى الأولاد. فالزواج المبني على المحبة والإحترام لا بد أن تكون ثمرته أبناء أصحاء نفسيا وجسديا فيلعبون دورا فاعلا في المجتمع وبذلك يؤدون رسالة نبيلة في الحياة.

ها قد وضعنا المقدمة للحب التلقائي النقي، النظيف الشريف العفيف، ولننتقل الآن إلى الأقوال التي ترجمتها عن الحب الذي أرجو أن يـُنظر إليه على أساس ما تقدم:

يأتي وقت يذوب فيه الرجال والنساء حباً وشوقاً لتلك الوجدانيات التي هي جزء لا يتجزأ من كيانهم وكينونتهم.

الحب الحقيقي مؤسس على الإحترام المتبادل بين الرجل والمرأة.

إن أحببت حبيبك أو حبيبتك محبة صافية نقية فستحب الجميع بذلك الحب. فالقلب في هذا النعيم هو كالشمس في أجواز الفضاء لا تترك شيئا إلا وتغمره بالدفء والضياء.

الحب يعطي ذاته فلا يباع ولا يشرى.

لم يكن الحب بالنسبة لروحه الوالهة مجرد جزء من كيانه وحسب بل كان كيانه بأسره وأنفاسه ونبضات قلبه.

لست من ناكري الحب من أول نظرة، ولكني أحب إعادة النظر.

قد تكون العاطفة عمياء، لكن الحب مبصر فلا يضل السبيل.

الحب الحقيقي هو أن نقنع أنفسنا بأن ما من أحد شعر بالحب الذي نحس به في قلوبنا ولن يشعر أحد بنفس ذلك الحب من بعدنا.

الحب لا يـُفقد أبداً. فإن لم يـُبادل بمثله يعود إلى القلب فينقيه ويرققه.

إن تمكن أبسط الرجال من إقناع المرأة بأنه يحبها فعلا من أعماقه يكون قد تفوق بذلك على رجل غني عجز عن مثل ذلك الإقناع. فالمرأة بحاجة كي تطمئن بأن الرجل الذي ستعيش معه سيبقى بجانبها دوما وسيكون الصدر الحنون لهمومها واليد الأمينة التي تعمل على إسعادها.

الحب بالنسبة للرجل جزء من حياته، أما بالنسبة للمرأة فحياتها كلها.

الحب الذي هو فصل من فصول التاريخ بالنسبة للرجل هو التاريخ بأسره بالنسبة للمرأة.

روح المرأة تعيش في الحب.

ليكن الحب غير مشروط بين المحبين وليكن الصخرة التي تتكسر عليها مصائب وهموم الحياة، وليكن بدون غايات شخصية وإلا عاجلا أو آجلا سيذهب مع الريح ولن يبقى ملازما للروح.

الحب هو صورة الله وليس تمثالا لا حياة فيه. إنه الجوهر الحي للطبيعة المقدسة التي تشرق بالطيبة والصلاح.

شعار ذوي الشهامة والشرف هو شعار الحكماء: تخدم وتحترم الجميع ولكن تحتفظ بقلبك لشخص واحد.

الرجل الذي تحبه امرأة عفيفة وشريفة يحمل تميمة مباركة في أعماقه توقيه شرور العالم وعثرات الحياة.

لقد استمتعتُ بمباهج الحياة، لأنني عشتُ وأحببتُ.

ما من شيء أعظم من الحب الصادق الصافي بين قلبين.

الحب المتبادل هو تتويج لكل أفراح الحياة.

من الأفضل أن يحب الإنسان ويخسر ذلك الحب من أن لا يحب على الإطلاق.

يا لها من خيوط حب رقيقة ودقيقة تلك التي تقرّب القلوب من بعضها.

الكنوز المخبأة بالنسبة للرجل ليست أثمن من الحب الأكيد الذي يحمله له قلب المرأة التي يحبها.

الحب لا يعرف الحساب بل يعطي بدون حساب كالمسرف الذي لا يخشى عواقب التبذير، ويظل مع ذلك غير مقتنع بأنه أعطى بما فيه الكفاية.

لم أتمكن يوما من تعليل السبب لحبي.

الحب العظيم هو الذي يحافظ على زخمه وولائه حتى النفس الأخير.

الأيام تـَقـْصـُر والليالي تطول، وشواهد القبور تتكاثر من حولنا والحياة تكتنفها الأحزان، لكن الحب يزداد قوة في قلوب الذين يبقون معا يدا بيد، قلبا وقالبا حتى نهاية العمر.

الحب هو كالزهرة التي قد لا ألمسها لكنها تعطر جو الحديقة وتزيده بهجة.

الحب ينظر من خلال التلسكوب والغيرة من خلال الميكروسكوب. (إي الحب ينظر نظرات بعيدة واسعة والغيرة تدقق في الصغائر)

الحب هو فضيلة المرأة.

الحب جميل عندما يسعى الإنسان في طلبه، ولكنه أجمل عندما يـُعطى دون طلب.

أعظم سعادة في الحياة هي قناعتنا بأننا محبوبون بالرغم من كل شوائبنا واستحقاقاتنا.

ما من كبل أو حبل – مهما كان متينا – له القدرة على تقريب القلوب من بعضها كما يفعل خيط الحب الرفيع!

دامت قلوبكم أصدقائي عامرة بالحب والأمان والبهجة

والسلام عليكم



ميزان العدل الكوني: نظرة تحليلية

-------------------------------------

هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العالم لا بد أن لها جذوراً عميقة متأصلة في تربة الوعي البشري. وما لم يتم استئصال تلك الجذور فستظل ترسل فروعها إلى ما فوق التربة بين الحين والآخر، مهما قُلّمت وشُذّبت الأجزاء العليا من ذلك النبت الضارب جذوره عميقاً في الأرض.

ليس من السهل التخلص من نبت النجيل المعروف بشروشه العميقة والمتشعبة، ولا توجد غير طريقة واحدة لعمل ذلك وهي استئصال جذوره وإلا فسيبقى يفرّخ إلى ما لا انتهاء. وهذا النبات شبيه من حيث المجاز بما هو موجود على درجات متفاوتة في تربة النفس البشرية من سموم متراكمة على مدى سنين طويلة محسوبة من عمر الإنسان.

إن تنقيبَ النجيل ِ من حقول ٍ وكرومْ

أسهلُ من غسل ِ ما في القلبِ من غث السمومْ

القانون الإلهي هو ميزان العدل الكوني الذي يوازن المعادلات ويعطي كل ذي حق حقه مهما طال الزمان. فالله هو القوة الكونية العظمى، وهو أعدل العادلين وأرحم الراحمين، وحاشاه أن ينسى الحيف أو يتغاضى عن الضيم مهما كان صغيرا. ولقد أدرك الحكماء هذه الحقيقة منذ القدم وعبّروا عنها خير تعبير بالقول "أن الله يمهل ولا يهمل".

للباطل جولة وربما جولات، ولكنه لن يكسب المعركة في نهاية المطاف، لأنه غير مسنود ولا يحظى بالتشجيع من قوى الحق التي لا دوام لقوة أرضية بدونها، ولذلك لا بد أن يستنفد الباطل قواه المحدودة ويحرق مراكبه ويدمّر جسوره مهما تمادى في غيه وصال وجال وعربد على هذه الأرض التي هي لله أولا وقبل كل شيء.

إن الله الذي خلق الإنسان على صورته يتوقع منه أن يعمل بما يتناسب وكرامة تلك الصورة، وأن يتذكر منشأه الإلهي ويعتبر البشر إخوة له حتى يتمكن من العيش بسلام والتمتع بثمار الأمن والطمأنينة مع أخيه الإنسان.

ومن منظور ميتافيزيقي فإن أي إنسان - مهما علا كعبه وارتفعت منزلته في عيون البشر فمن المستحيل – إن كانت نواياه مظلمة وأفعاله ظالمة - أن يتمكن من مخادعة القانون الكوني أو الإفلات من عقابه الصارم الذي هو أكثر دقة من أدق الموازين البشرية بمليارات المرات.

ونظراً لعدم شمولية الرؤية واكتمالها لدى الإنسان، يبدو الظلم ضارباً بأطنابه على هذه الأرض، ولكن إلى حين. فالذي خلق كل شيء وأتقن صنعه، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، ويحيط علما بكل شيء، هو حاضر أيضاً في كل مكان ويعرف كل ما يجري. وعاجلا أم آجلا سيعطي كل ذي حق حقه لأن الله لا يظلم الناس شيئا.

إن القوة العظمى في الكون تعرف كيف تحط المتكبرين المتجبرين وتقتص من سالبي الناس حقوقهم، كل ذلك تفعله تلك القوة الإلهية بطريقتها الخاصة وبتوقيتها الصحيح، بعيداً عن الحسابات البشرية التي كثيراً ما تكون إما مغلوطة أو متعجلة للنتائج.

مهما اشتد الظلام فالفجر قريب والشمس ستعاود إشراقها لأنها تعمل بموجب نظام لا يعرف العوج أو الخلل. ونفس هذا النظام يسيّر حياة البشر، وعين الله ساهرة لا تنام، وهو سبحانه الحق بالذات ويعرف كيف يصفي الحسابات بحسب إرادته الحكيمة وعدله المعصوم.

{ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}



بين الرأس والقلب

-------------------

الرأس رجل دولة

والقلب شاعر

وكلاهما له دور يلعبه:

أحدهما في عالم المادة

والآخر في عالم الروح.

الرأس يخطو بحذر

يفكر مرتين

ويجادل ويقلّب الأمور

والقلب يحلـّق عالياً

تحدوه وتستحثه الأشواق

دون تحفظ أو احتراس.

الرأس يؤمن بإعادة التفكير

يصقل الأفكار ويلمّعها

والقلب يؤمن بأول فكرة

وتلقائيٌ فيما يمضي إليه ويقدم عليه.

الرأس متمرس بمراعاة الأدب والتهذيب في المجتمع

والقلب يستلهم الفطرة كمعتزل في غابة.

الرأس يرتدي ثياباً أنيقة ومطابقة للزي العصري

والقلب يبدو مجرداً من الثياب.

الرأس يحكم ويسيطر

والقلب يتغلب وينتصر.

الرأس ناقد صدّاع

والقلب دأبه الإبداع.

الرأس صلبٌ قاسٍ، نادراً ما يهتم بالآخرين

والقلب يطفح عاطفة ويذوب تعاطفاً مع الآخر.

الرأس عالِمٌ

والقلب فنان.

الرأس يعيش على الأفكار

والقلب يغتذي على الأحاسيس.

الرأس يرتاب لأنه مفعمٌ بالشكوك

والقلب يؤمن وتأكيده قاطع.

الرأس يحارب في أرض المعركة

والقلب يداوي الجرحى

ويعتني بالمصابين.

تحية من القلب أصدقائي



دولاب الخير

-------------


ربما لم تسمعوا بهذا التعبير من قبل، ولم يخطر ببالي إلا قبل لحظات، فراقَ لي وقلت ها قد بزغ العنوان ولم يبقَ سوى الموضوع! فما عسى أن يكون هذا الموضوع؟


لهذا الدولاب شعاعات – شعّت حياتكم بالأنوار – فلنطلق على كل شعاع إسماً ولننطلق على بركة الله..


ولنبدأ بشعاع الثقة.. ذلك المبدأ الإنساني النبيل الذي هو أوثق رباط بين الناس، إذ يشد القلوب إلى بعضها بأسلاك متينة ويستنهض أنبل الخلال في النفوس التي تقدّر الثقة حق قدرها وتشعر أنها جديرة بها.. أليست الثقة إحدى مرتكزات السعادة التي لا يمكن أن يتمتع بها إلا أخو ثقة؟


ولنتوقف قليلاً عند شعاع الإخلاص الذي له القدرة على منح صاحبه عناصرَ من العظمة والبساطة ترفعه إلى مستوى يليق بالنبلاء.


ولنمضِ لحظات عند شعاع الأمانة ذات المنزلة الأثيرة في النفوس الكبيرة، والتي اعتبرها المشرّع الروماني الأشهر شيشرون من أكثر الصفات قدسية وواسطة عِقد الهبات السنية للنفس البشرية.


ولا بد لنا أيضاً من وقفة عند شعاع الصفح الذي بالرغم من اتساع قلب صاحبه يبقى أضيق من أن يحمل ضغينة أو يختزن في حجراته عداوة. حقاً إن الصفح الجميل قارب نجاة في بحر هائج متلاطم الأمواج.. و "لا يستطيب العيشَ إلا المسامحُ".


ولا ننسى شعاع الحرية التي تستدر الطاقات وتوسع المدركات وتمسك بأطياف الإبداع المتماوجة في فضاء الفكر العنيد المتحرر من الوصاية والقيود.


وكذلك شعاع الإيمان الذي يفتح البصائر على حقائق الوجود ويزيل غبار الشك عن مرايا القلوب.


ولنا وقفة قصيرة أيضاً مع شعاع العمل النافع الذي أراد الله للإنسان أن يزاوله بمحبة وامتنان وفرح لأنه يساهم في خدمة الأسرة العالمية الشاملة التي تحتاج إلى تضافر جهود بنيها الخيرة.. أما الأعمال التي لا تخدم الناس في معيشتهم وسعادتهم، أو تصدهم عن ممارسة حياتهم الكريمة كما أرادها لهم خالقهم، فهي أعمال غير مبرورة أو مباركة وعاجلاً أم آجلاً تقضي على نفسها بنفسها، غير مأسوف عليها.


ومسك الختام محطتنا الأخيرة عند شعاع المحبة التي تحوّل القلوب التي تحويها إلى جنائن نعيم ومنابع أفراح.


دامت المحبة متوهجة في قلوبكم أصدقائي الأعزاء


وجعل الله دولاب الخير ذا حركة أمامية دائمة في عربة حياتكم 


سيد قـَدره وربان سفينة روحه

---------------------------------


هذه إحدى أشهر القصائد في الأدب الإنكليزي

لا سيما أن مؤلف القصيدة الشاعر والناقد والناشر وليام إرنست هنلي كان قد عانى الكثير من الأمراض الخطيرة ومن بتر الساق، ومع ذلك تذكر المصادر أنه كان ذا حضور طاغٍ وطاقات لم يعهدها معاصروه بشخص آخر سواه. وكان ذا أفكار متجددة وآراء مغايرة للمألوف. وامتلك إرادة فولاذية وتميز بالإصرار والعناد، وهذا يبدو في صورته

التي تعود إلى العام 1849. والبيتان الأخيران من القصيدة


أنا سيد قـَدري

وربان سفينة روحي


I am the master of my fate

I am the captain of my soul


أصبحا مثلاً شائعاً يردده الصغار والكبار.


* * *


من أعماق الليل الذي يلفني ويغلفني

بظلامه الدامس من القطب إلى القطب

أتوجه للآلهة بالشكر

لامتلاكي نفساً لا تـُقهر.


ففي قبضة الظروف العاتية التي لا ترحم

لم أتظلم يوماً ولم أستصرخ أحداً

وضربات الأحداث الموجعة

التي أدمت رأسي

لم تقوَ على إحناء هامتي.


ما وراء هذه الدنيا.. دنيا الغضب والدموع

تتبختر أشباح العتمة الرهيبة

لكن السنين المتبقية من عمري

وما تحمله من مخاطر

ستجدني غير هيّاب من المستقبل المجهول.


ومهما كانت البوابة ضيقة

وزخرت صفحات كتابي بالعقاب

أبقى مع ذلك سيد قـَدري

وربان سفينة روحي.

William Ernest Henley 



لماذا يتألم الناس.. أو سر الحبوط والقنوط

-------------------------------------------------

قال: هل هناك من فوارق جوهرية بين أبناء الإنسانية الواحدة؟

أجاب: ظاهرياً، البشر يختلفون عن بعضهم من حيث تكوينهم النفسي والعاطفي، ومن حيث الأدوار التي يؤدونها في الحياة، وما يقومون به من أعمال ويعتمل في نفوسهم من رغبات. لكن تحت كل هذه الفوارق يوجد شيئان اثنان يرغب فيهما كل الناس – دون استثناء – بل ويشعرون بالحاجة إليهما.

قال وما هما:

أجاب: التحرر من كل أشكال المعاناة والعوز، والسعادة الدائمة غير المقيدة بشروط؛ أو الرضاء التام الذي يشمل السلام والحب والحكمة والفرح. ولن يرتاح للناس بال قبل تحقيق ذلك الرضاء الذي تشتاقه قلوبهم ويسعون إليه بشتى الوسائل والطرق. وهذه نقطة محورية في فهم الحالة البشرية.

قال: وهل البشرية تعرف كيف وأين تبحث عن الرضاء؟

أجاب. للأسف الناس يبحثون عنه في غير مظانه فيخفقون في العثور عليه.

قال: أوضح.

أجاب: إنهم يبحثون عنه في الدنيا والأشياء الدنيوية.. في الممتلكات والظروف الخارجية وفي علاقات غير قائمة على فهم سليم وأسس متينة. ونتيجة لذلك فمن المستحيل أن يحصل الإنسان على السعادة النقية من أي ظرف أو من أي شخص في هذا العالم نظراً لطبيعة الخليقة نفسها.

قال: وما معنى ذلك؟

أجاب: الخليقة قائمة على مبدأ الازدواجية. فعلى سبيل المثال لا يمكنك الحصول على صورة بلون واحد فقط، بل تحتاج إلى التباين أو المغايرة. وبالمثل، مستحيل أن تنعدم الثنائيات من هذا العالم.

قال: وماذا تعني هذه المقاربة؟

أجاب: بالنظر إلى رغبات الإنسان، كل واحد منا يرغب في الحصول فقط على الأشياء الحسنة – الأشياء الممتعة والجميلة والإيجابية – دون الحاجة إلى التعامل مع النفايات والإزعاجات والأمور الأخرى غير المستحبة.. لكن ذلك مستحيل. ففي هذا العالم ذي الطبيعة الثنائية لا وجود لمتعة دون ألم أو لنور دون ظلام، أو لخير دون شر، أو لحياة دون موت. ولا يمكنك الحصول على جانب واحد من قطعة نقود معدنية دون الجانب الآخر. فالذي نتشوق إليه في أعمق أعماقنا لا يمكن العثور عليه في أي شيء يمكن أن يمنحه لنا العالم.

قال: وما العمل؟

أجاب: الخيار يعود إلى الإنسان. هل سيواصل بحثه عن ضالته في المكان الخطأ ويختبر الإحباط تلو الإحباط؟

الناس يبحثون بكل ما أوتوا من قوة ورغبة، لكنهم لا يعثرون على مطلبهم وذلك يفضي إلى الحبوط والقنوط . بل وأكثر من ذلك يؤدي إلى استياء متزايد وهذا بدوره يتحول إلى غضب عارم وبالتالي إلى أعمال عنف. ولذلك فطريقة البحث المغلوطة لا توصل إلى السعادة المنشودة.

قال: لكن هذا يبعث على التشائم.

أجاب: ليس بالضرورة إن نحن أدركنا السر من ذلك كله والحكمة الكامنة خلف الخطة الكونية.

فالمدبر الأعظم يريد لنا سعادة غير منقوصة لا يمكن العثور عليها إلا في أعماق النفس. ولذلك فقد خلق الله هذا الكون بحيث لا شيء فيه يرضي قلب الإنسان ويحقق أشواقه إلا عند توجهه إلى مصدر السعادة والنعيم والرضا.. والذي هو أيضاً منبعه ومصدره.

حقاً أن مملكة السماء داخل الإنسان.

والسلام عليكم

محاضرات في معرفة الذات

Self-Realization


الهبة الأثمن من الذهب

--------------------------


ذات يوم، بينما كان أحد النساك يتجول وسط الجبال، توقف ليشرب من جدول صغير، فوقعت عيناه على كتلة صلبة من الذهب الطبيعي الخالص تلمع تحت مياه الجدول الصافية، فملأ وعاءه بالماء ووضع قطعة الذهب في كيسه ثم جلس بجانب الطريق ليستريح.


في تلك اللحظة ظهر على الطريق شابٌ يلهث من شدة الإعياء، فدنا من الناسك وقال له: " لم أتناول طعاماً هذا اليوم وأمامي رحلة طويلة، فهل عندك كسرة خبز تطعمها لرفيق دربك؟"


أجابه الناسك: "حباً وكرامة ويسعدني أن أقاسمك أرغفة الخبز التي معي" ثم أشار إلى الكيس وقال له "تفضل على الموجود".


وبينما كان الشاب يخرج الخبز من الكيس سقط حجر الذهب فأمسك به الناسك ووضعه جانباً.


أثناء تناولهما الطعام راح الشاب يحدق في الذهب ويتحدث بإعجاب عنه ويهنئ الناسك على حظه السعيد وعلى ما يوفره له حجره الأصفر من أمان وضمان واطمئنان.


وعندما نهض الشاب لينطلق في حال سبيله تبسم الناسك ووضع الحجر في يده.


أصيب الشاب بذهول كبير لهذه الثروة المفاجأة التي وقعت في يده، فانطلق ببهجة عارمة لا يكاد يلوي على شيء.


لكن بالرغم من ذلك لازمته أفكارٌ غريبة وراحت تلحّ عليه وتضايقه فلم يتمكن من إسكاتها أو التخلص منها. وفجأة غيّر اتجاهه وعاد إلى الناسك فوضع كنزه أمام المحسن إليه وقال له بعد أن حياه بانحناءة ملؤها التقدير والإكبار:


"إنني أعرف جيداً كم هو ثمين هذا الحجر الذي وهبته لي، لكنني أحس أن لديكَ ما هو أثمن من هذا الذهب، وأناشدك بالله أن تجود عليّ بذلك الشيء الذي تحمله في نفسك الغنية.. والذي مكنّك من أن تمنحني هذا الذهب!"


Self-Realization Magazine

 

آثار الإيثار والاستئثار

-----------------------

كلنا يرغب في أشياء لنفسه، نعمل على تحصيلها ونبتهج بامتلاكها ونجدد فرحنا بها، لا سيما إن كنا قد تعبنا في سبيل الحصول عليها، فتصبح جزءاً من حياتنا، نرتاح لمعاينتها وللشعور بأنها لنا. وقد نختار أن نشارك الآخرين بها فنفرح أيضاً بقدرتنا على تلك المشاركة، وعلى الأخص إن كانت تدخل الرضى إلى نفوس الغير فنشعر أننا قدمنا شيئاً ذا بال وأسدينا خدمة في محلها، ومن هنا القول المأثور:

( مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ) وكذلك الآية الكريمة { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وهذا هو الإيثار ذو الآثار الحميدة.

أما الإستئثار فهو أيضاً رغبة في الحصول على أشياء مادية أو معنوية للنفس فقط، دون الرغبة في مقاسمتها الآخرين. لكن هذا الأسلوب مخالف لناموس الحياة الذي يقوم على العطاء قبل الأخذ، أو العطاء أولاً حتى يصبح الأخذ استحقاقاً.

الشمس تعطي نوراً ودفئاً لجعل الحياة ممكنة على هذه الأرض، والريح تعطي إذ تنقل حبوب اللواقح وتدفع السحاب الماطر ليهطل غيث خيرٍ على الأرض العطشى، والنجوم تعطي وكذلك القمر والغابات والفصول والتربة.. والأثير أيضاً يعطي اتصالاً وتواصلاً، والقائمة تطول.

إن كان هذا هو قانون الحياة فإن عدم العطاء هو مخالفة لذلك القانون الكوني الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير أو تبديل لأنه منبثق عن رؤية عليمة وإرادة حكيمة.

ومهما خالفه المخالفون أو تحداه الإستئثاريون، يواصل عمله الدقيق ومن يحاول خرقه كمن يناطحُ صخرة ً ليوهنها.

قال أحدهم: أرني شخصاً واحداً يرغب دخول الجنة بمفرده وسأثبت لك بالحجة القاطعة أنه لن يُسمح له بالدخول.

للإيثار ثمار طيبة، أما ثمار الإستئثار فهي فجة غير ناضجة، وإن حاول آكلوها تحليتها لتسهيل ابتلاعها لكنها تبقى مع ذلك صعبة القضم، عسيرة الهضم.

الإيثار والإستئثار كلاهما منبعه الفكر. فإن كان الفكر متناغماً مع قوانين الخير يصبح من السهل توجيهه في المسار الصحيح وبالتالي جعل محبته للعطاء لا تقل عن رغبته في الأخذ.

الإيثار يستقطب لذاته قوىً وفرصاً وصداقاتٍ وانعطافات وتعاطفات

أما الإستئثار فيجلب لنفسه ضيقاً يحسبه سعة ً، ووصولين يظنهم خلصاء، وفقراً مدقعاً يعتبره ثراءً عريضاً.

للإيثار خاصية مغناطيسية تجعل المكونات المادية والعناصر غير المرئية تنجذب إليه تلقائياً وتعمل لخدمته ولصالحه.

وللإستئثار أيضاً قدرة على الجذب، لكنها قدرة غير نظيفة، وبالتالي فهي تجذب أموراً لا ديمومة لها على المدى الطويل. ولأنها مكاسب هزيلة فلن تعود بالنفع على أصحابها بل لها نتائج عكسية نظراً لتركيبتها الخاطئة وتوظيفها المغلوط.

الإيثار يبني على أسس صخرية ثابتة

أما الإستئثار فيشيد صروحاً على رمال متحركة.

الإيثار ينظر إلى الأمام وإلى الأعلى استبشاراً وتيمناً فيتمدد ويتجدد،

أما الإستئثار فلا تتعدى رؤيته الأقدام ولذلك تبقى ضيقة محدودة وإمكاناته موؤودة.

الإيثار باعه طويل، يعمل لنفسه وللآخرين فيستفيد ويفيد

أما الإستئثار فيده مغلولة وإرادته الطيبة مشلولة، فيأخذ دون عطاء ويعطي ما لا يستحق الأخذ.

الإيثار يهتم بسواه فيزداد خيراً وبراً وبركة

أما الإستئثار فلا هم له إلا ذاته ولذاته فيُسقط نفسه بنفسه من حساب الحياة وتكون صفقته خاسرة.

جعل الله أصدقائي تجارتكم رابحة ناجحة

 

الشمعة

--------

كانت وما زالت رمزاً للتنوير والتضحية والرجاء.

 

إذ بالرغم من جسمها النحيل وضوئها الضئيل وسط العتمة الكثيفة

تقوم مع ذلك بدورها المتواضع في تبديد بعض الظلام ومساعدة

المستضيئين بنورها على تلمس سبيلهم والوصول

إلى ما يحتاجونه من أشياء.

 

والعالم بحاجة دائمة إلى شموع إنسانية..

 

إلى أفكار مضيئة

ووجوه وضيئة

ونفوس كبيرة

وقلوب يعمُرهما الإيمان

وتغمرها المحبة

 

مثلما يحتاج إلى أيادٍ تزرع وتبني

وتمهّد الدروب

وتقتلع الأشواك

وتكفكف الدموع

وتسبّح الخالق صلاة ً وعملاً وعطاءً.

أضاء الله حياتكم أصدقائي بشموع الخير والمحبة والأمل 

 

وقفة مع العقيدة

 

لقد خلق الله الإنسان ومنحه - إضافة إلى الآلة الجسدية التي من خلالها يتنقل ويعمل:

نفساً تميّز

وعقلاً يفكر

وضميراً يقيّم ويحاسب

وإرادة تنفذ.

وبهذه الملكات التي امتن بها الله على الإنسان يكون قد وهبه سبحانه كل ما يحتاج إليه إبان إقامته الموقوتة على هذه الأرض، ونعمى من يقدّر قيمة هذه الملكات حق قدرها ويستثمرها على أحسن وجه فيستفيد ويفيد ويعمل بتناغم وانسجام مع الإرادة العليا التي هي المرجع الأوحد والأخير في الوجود.

ونظراً لميزة الفردية المستقلة التي اختص الله بها كل نفس فمن الطبيعي أن تكون العقول مختلفة وبالتالي التفكير والتوجه والرؤية، على درجات متفاوتة.

وكون الإنسان يحتاج إلى غيره من البشر لكي يحصل على ما يعوزه ولا يقدر على تحصيله بمفرده، فإنه يعمد إلى مد الجسور بينه وبين أفراد آخرين في بيئته قصد التعاون على تحصيل لقمة العيش ودرء الأخطار والحصول على أساسيات المعيشة.

وفي كل مجموعة أو مجتمع غالباً ما يبرز بعض أشخاص ناشطين أكثر من سواهم على المستوى الفكري، وإلى ذلك يمتلكون قوة إقناع تساعدهم على نشر أفكارهم والإيحاء بصوابيتها وجدواها.

ونظراً لعدم انهماك الآخرين بالتفكير والإبتكار كهؤلاء الناشطين فكرياً فإنهم يستسهلون تقبل الأفكار نظراً لعدم قدرتهم على تمحيصها والوصول إلى منابعها وجذورها لمعرفة مدى ملاءمتها لنهج حياتهم.

ومع تزايد عدد المقتنعين بتلك الأفكار تترسخ تدريجياً في الوعي الجمعي وتتحول مع الأيام إلى مبدأ أو عقيدة أو مذهب، فيتم وضعها ضمن أطر أيديولوجية وتوضع لها قواعد وقوانين وتدخل في عمق الثقافة المجتمعية فتؤثر تأثيراً مباشراً على الفهم والمفاهيم.

هذا حسن ومفيد ما دام أصحاب تلك الأفكار يتمتعون بعقول راجحة وبصائر متفتحة ورؤىً بعيدة وضمائر حية وإرادات طيبة تريد للغير ما تريده لنفسها من خير وتقدم ورفاه.

أما إن كانت مصادر تلك الأفكار غير سليمة ومدفوعة باعتبارات ذاتية وحسابات شخصية، فهنا مكمن الخطر، لأن الأفكار إن كانت مغلوطة وتم تطبيقها على أرض الواقع فمن المؤكد أن النتائج ستكون مغلوطة بنفس المقدار وتأثيرها قد يكون واسع النطاق، بعيد الأثر تماماً كظاهرة الدومينو.

الفرد الذي لا يُتعب نفسه بالتفكير يطمئن للإنتماء وهذا أمر طبيعي، لكن غالباً ما يجد نفسه – دون وعي منه أو إرادة – منجرفاً مع التيار، مردداً للهتاف، مدافعاً عن أفكار هي ليست له في الأصل، متسبباً بأضرار للآخرين ودافعاً في بعض الأحيان ثمناً غالياً نتيجة انخراطه في دوامات لا قدرة له على مقاومتها أو الإبتعاد عنها.

العقيدة السليمة هي ضرورة اجتماعية لا غنىً عنها في أداء الواجبات والوفاء بالمسؤوليات، تعم فائدتها الأفراد والمجموعات على حد سواء. ومن هنا فإن المجتمعات القائمة على تلك المبادئ تنعم بقدر معقول ومقبول من العدل الإجتماعي واحترام لباقي أفراد المجتمع مهما كانت انتماءاتهم وممارساتهم ما دامت لا تؤذي الآخرين ولا تخل بالنظام أو الصالح العام.

إن الذي وهب الإنسان عقلاً أراده أن يستخدمه للتفكير النبيل والتواصل مع أفكار أخرى ليست بالضرورة لأفراد من فئته أو مجتمعه أو عقيدته أو مجموعته، فالفكر في مظهره النقي هو كونيّ الجذور، عالمي الإنتشار، إنساني النزعة وخيريّ الهدف.

عندما ترشد العقيدة أتباعَها إلى دروب مأمونة وتفضي بهم إلى غاية سامية تكون منارة يُستهدى بها وقارب نجاة يأخذ المتخبطين في بحر الأوهام إلى بر الأمان.

العقيدة السديدة هي إطار الحياة وهيكل الحقيقة والعروة الوثقى والحبل المتين الذي يشد الإنسان إلى بارئه فلا تقوى عليه بوابات الجحيم.

أما العقائد التي لا تمت للحقيقة بصلة والإيديولوجيات المبنية على رمال الإعتبارات النسبية المتحركة فلن تصمد لمحك الزمن الذي يُسقط من غرباله سَقط المتاع ويبقي على الصالح الأصلح.

فطوبى لمن سار على هدي من ربه وعَقـُلَ بقلبه وأدرك ببصيرته.

 

الإنتقام والعرجون

------------------

قال: ما رأيك في الإنتقام؟

أجاب: إنه كالعرجون.

قال: وما هو هذا العرجون؟

أجاب: إنه قطعة من خشب ذات انحناء، تُرمى بعيداً لاصطياد الطيور فترتد إلى راميها إن أخطأت الهدف.

قال: وما وجه الشبه؟

أجاب: الأفكار أو الأفعال الإنتقامية تعود بالضرر على صاحبها. الصفح من شيم الكرام، والتعاليم السماوية تحض عليه {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} فالإنتقام مغاير لطبيعة الإنسان كما أرادها له الله، وهو وثيق الصلة بالغرائز غير المنضبطة، في حين أن الصفح ميزة النبلاء الذين يثمّنون الرقي الأدبي ويعملون على النهوض بالوعي الذاتي والإجتماعي إلى مستويات أكثر ملاءمة للنفس الشريفة.

قال: لكن من الصعب أحياناً مقاومة الرغبة في الإنتقام.

أجاب: هذا صحيح، وهناك الكثير من الرغبات غير السليمة التي يصعب مقاومتها، لكن من واجب الإنسان أن يكون سيد الموقف ولا يدع الأهواء الجامحة تتحكم به وتستبد بقراره.

قال: وماذا يحدث لمحب الإنتقام؟

أجاب: محب الإنتقام يسمم نفسه بنفسه ويطعن روحه بيده، فإن لم تتحقق رغبته في الإنتقام تقض تلك الرغبة مضجعه وتفري قلب سلامه وسلام قلبه.. أما إن تحققت فلا بد أن تمزق روحه تمزيقاً في عالم الشهادة الذي لا تحابي قوانينه أحداً، وحيث كل واحد سيحاسب حساباً إفرادياً عادلاً على ما جنت يداه.

قال: وما هي أنسب السبل لكبح الإنتقام؟

أجاب: العقلاء يعملون ما بوسعهم لدرء المخاطر ولتلافي وقوع الضرر والتحكم قدر الإمكان بآثاره، وفي حال وقوعه لا يعمدون إلى الإنتقام. وكما قال أحد الفلاسفة فإن من يقدر على الإنتقام ولا يلجأ إليه هو شخص عظيم، إذ لا يفرح بالإنتقام إلاّ ذوو العقول الخفيفة والطبائع الكثيفة. من ينتقم يهبط إلى مستوى عدوه، ومن يتجاوز عن الإنتقام يرتقي بأخلاقه ويسمو بمبادئه.

قال: ولكن البعض يقولون أن للإنتقام حلاوة.

أجاب: أجل، لكنها حلاوة لا تدوم بل تنقلب إلى نكهة جهنمية لا تقارن بها مرارة العلقم عندما يرتد الفعل على صاحبه ليلدغ ضميره كالثعبان وينهش طمأنينته كالكواسر الجائعة.

قال: وبماذا تنصح محبي الإنتقام؟

أجاب: أقول لهم دعوا الله يتولى الأمور لأنه الأدرى بتصحيحها وبإعطاء كل ذي حق حقه، وهو وحده القادر على أخذ المعتدين أخذ عزيز مقتدر.

 

ستة شعراء والقمر

---------------------

 

ستة شعراء نظروا إلى القمر

فرأى كل واحد منهم شيئاً مختلفاً تمام الإختلاف!

 

أحدهم رأى وجهَ ملكٍ حفرت فيه الأيام أخاديد عميقة

وآخر رأى خاتماً من الفضة في منتهى الدقة والإتقان.

 

ورأى أحدهم أرضاً شبيهة بالمنطقة القطبية الشمالية

تزخر بقلاع وحصون جليدية ناصعة البياض

في حين عاين آخرٌ شحاذاً يتلفع أسمالاً بالية

ويسير هائماً على وجهه على ضوء فانوس.

 

شاعر آخر رأى فتاة ضاحكة

ترقص على دوامة من السُحب الثلجية

في حين تعقّب آخرٌ سفينة مرصعة بالجواهر

ومندفعة في خضم المياه الإستوائية.

 

ستة شعراء رنوا بأبصارهم إلى القمر

وكل منهم رأى شيئاً مختلفاً عما عاينه الآخرون.

 

ستة شعراء نظموا ست قصائد غنائية مختلفة

وكل منهم انطلق محلقاً على جناح سحري.

 

وما أريد معرفته هو الآتي:

 

عندما يختلف ستة شعراء متميزين

فكيف يتسنى لنا أن نعرف

ما إذا كانت الأشياء كما تبدو لنا؟

 

أم هل من الأفضل أن يرى كل منا الأشياء

من منظوره الشخصي

تماماً كما فعل الشعراء؟

 

فلو كان القمر قمراً ليس أكثر

لما احتفى به الشعراء

ولما نظموا فيه أجمل قصائدهم.

Morris Abel Beer

 

خطوة إلى الداخل

----------------------

نسمع عن "خطوة إلى الأمام" و "خطوة إلى الوراء" و "خطوة جانبية" و "خطوة نوعية" و "رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة" وأود أن أختصر هذه الخطوات بخطوة إلى الداخل إذ قد تكون تعزيزاً لخطوات وتصويباً لاتجاهات.

هذه الخطوة هي بمثابة وقفة فاحصة ووقف مؤقت للطاقات الذاتية التي دأبها الإندفاع إلى الخارج الذي يناديها بل يستحثها للإمتزاج في تياراته المتضاربة وقواه المضطربة وجريانه الحثيث وغير المنتظم في كل اتجاه.

الداخل والخارج عالمان قائمان بذاتهما، ولكل منهما أفقه وطاقاته ومرتكزاته وإنجازاته، وغالباً ما يطغى الخارج على الداخل فيمتص قواه ويبعثر مرتكزاته ويحجب أفقه ويخفف أو يلغي إنجازاته.

هذا يحدث عند الإنبهار بالخارج والركض خلف حافلاته التي لا تتوقف ولا يراعي سائقوها وسائل الأمن والسلامة، فيلهث الراكضون وغالباً ما يعفرهم الغبار.. ويفقد البعض بوصلته فيضل الطريق.. ويظن آخرون أنهم وصلوا وحصلوا على المبتغى المنشود ليجدوا أن المغنم منقوص ودون المأمول بكثير.

وتتواصل المسيرة وتزداد الدروب تشعباً والتواءً ولا تختلف النتائج عما ذكرناه لأن هناك سبلاً مطروقة غالباً ما تفضي إلى نقاط مسدودة تحتم العودة إلى الوراء.

وهنا تكمن الحاجة لاتخاذ خطوة إلى الداخل للتفكير بأمر الخارج ومعرفة الطريقة الأنسب للسير بأمان وجدوى في متاهاته التي لا تنتهي.

الخطوة إلى الداخل هي وقفة تمحيصية لاكتساب فهم أكبر لذلك الخارج - الساحر الذي لا يمكن معرفة أسرار مهنته والإفلات من هيمنته إلا بتركيز الذهن على ألاعيبه والإنتباه الدقيق لفنونه التي يعتمد فيها الإبهام والإيهام فتجوز الحيلة على كثيرين ويقتنعون بأن ما يعرضه الساحر هو الحق الصراح وعين الصواب.

والخطوة إلى الداخل قد تكون استثماراً ناجحاً في باقي الخطوات التي ستتحاشى - بفضل خطوة الداخل - الإستهداء بخطى الراكضين أو الإصغاء لنصيحة الأدلاء التائهين.

خطوة موفقة أتمناها لكم أصدقائي

 

الأمانة رأس الديانة

--------------------

وللأمانة أقول أن العنوان ورد في ردٍ للأستاذ وجدي طي على إحدى مشاركاتي، فعندما قرأت هذه العبارة قلت أنها تصلح عنواناً لموضوع.

الأمانة هي في تقديري أنبل خلة يمكن أن يتحلى بها الإنسان.

المأثور أن النبي عليه السلام كان أميناً في تعامله مع الناس ولذلك عُرف بالأمين.

الأمانة صكٌ غير قابل للتزوير وعهد مضاد للنكث وقطع ذهبية تحتفظ بقيمتها وتصلح للتداول في كل زمان ومكان، وهي كما يقال أنسب سياسة أي أفضل طريقة للعمل والتعامل.

لقد اعتبرها قدامى الرومانيين ميزة عظيمة بحيث أن كلمة (الأمانة) كانت أيضاً تعني في لغتهم الشرف.

ولم يغفل شكسبير تعريفها أو التدليل على أهميتها عندما قال في مسرحية هاملت ما معناه أن من بين كل عشرة آلاف رجل يوجد رجل أمين واحد. ومقارنة بعدد سكان اليوم قياساً على عددهم في عصر شكسبير فالعشرة آلاف ربما تعني مئات الآلاف في عصرنا هذا.

ولكن هذه لا ينبغي أن تكون قاعدة ثابتة، إذ كل إنسان قادر على الأمانة لأنها أكثر ملاءمة لملكات الإنسان الطبيعية.

أذكر ذات مرة أنني ذهبت مع المرحوم والدي إلى دمشق، وكانت في حوزة والدي حوالة مصرفية فذهبنا إلى أحد الصيارفة في سوق الحميدية وبعد أن وقّع والدي على الحوالة وناولها للصراف، راح الصراف يناول والدي النقود المستحقة. وحدث أن شُغل الصراف للحظة بأمر ما فظن والدي أنه تسلم منه كامل المبلغ وهمّ بالخروج، فما كان من الصراف – الله يذكره بالخير – إلا أن ناداه قائلاً "يا شيخ.. يا شيخ تمهل قليلاً إذ لم أعطك الحساب بالكامل" وفعلاً قام بتسليمه المبلغ المتبقي. كنت طفلاً آنذاك وقد انطبعت أمانة ذلك الرجل الأمين في ذهني وها أنا أرويها الآن بعد مضي عشرات السنين.

عاش سقراط أميناً وكان يقول إن أقصر الطرق للعيش بكرامة في العالم هو أن نعيش تماماً مثلما نريد أن نبدو للآخرين، وأن الفضائل تتعزز بمراعاتها وتتضاعف بممارستها.

ويذهب أحدهم إلى القول بأن من يكتسب علماً وتعوزه الأمانة يكون علمه عليه وبالاً.

وقد اعتبر بعض الفلاسفة أن الأمانة هي أسمى منزلة يمكن أن يطمح إليها الإنسان ويقترن إسمه بها، إذا لا توجد تركة يمكن أن يخلفها الإنسان تبز الأمانة قيمة وروعة.

ويقول أحدهم أن من يمتدح ما يريد شراءه ويعدد عيوب ما يريد بيعه هو وثيق الصلة بالأمانة.

{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} - المؤمنون

وفي الحديث الشريف (لا إيمان لمن لا أمانة له)

ويفيدنا كعب المُزني من الشعر بيتاً في هذا السياق إذ يقول:

أرعى الأمانة َ لا أخونُ أمانتي

إن الخؤونَ على الطريقِ الأنكبِ

 

ذلك المعجون العجيب!

-------------------------

قال: الفكر غير منظور فبماذا يمكن تشبيهه؟

أجاب: الأفكار هي كقطع المعجون التي يمكن تشكيلها إما على هيئة الزهر أو أفاعي البحر، إنما بصلابة الصوان!

قال: وهل من مثال على ذلك؟

أجاب: بمقدور كل إنسان أن يكون نقـّاش حياته ونحّات قدَره. فليأخذ حفنة من هذا المعجون العجيب وليصنع منه تحفة فنية رائعة وسيحصل على فيض من السعادة.

قال: لكن مستحيل تركيز الفكر على هذا النحو.

أجاب: البرق المتلامح في أرجاء الفضاء صعب تركيزه ووضعه في أسلاك تنير البيوت والشوارع لكن ذلك تم تحقيقه.

وليس من السهل استدعاء قوى الكون غير المنظورة وتركيزها في منظومة تقي الإنسان العثرات وتحميه من الشرور، لكن ذلك ممكن.

قال: وماذا تقول عن الشر؟

أجاب: بالرغم من وجود الشر وقوته، لكن النور موجود أيضاً والخير أقوى من الشر وأكثر ديمومة لأنه مدعوم من الحق الدائم الباقي والذي هو أقوى قوة في الكون والغلبة له في نهاية المطاف.

قال: وماذا عن التفكير الإيجابي؟

أجاب: التركيز على الأفكار الإيجابية الخيّرة يعني استحداث ربط فعال أو شق قناة سالكة بين الفكر ومصدر الإيجابية الكونية التي هي الخير بالذات. وعلى قدر التفكير بالخير يتم استجلاب اهتزازاته إلى الفكر والجسم. وهذه الإهتزازات لها القدرة على تعديل الكثير من الحالات النفسية والجسدية، وهي من القوة بمكان بحيث تطرد تلقائياً الإهتزازات الناشزة غير المنسجمة مع الخارطة النفسية والجسدية للإنسان.

قال: زد إيضاحاً.

أجاب: عندما يقول الشخص (أنا تعبان) تصبح فكرة التعب قوية نظراً للإعتراف بها وبالتالي تقيّد النشاط وتسد منافذ الطاقة. أما إن قال (بحاجة إلى راحة) فإنه يجعل نفسه متقبلاً لتيارات حيوية تنعش الفكر والجسم معاً، وقد يتمكن من الشعور بفيض من النشاط خلال فترة قصيرة من الراحة.

قال: وماذا بخصوص الإحباط؟

أجاب: الإحباط الذي يسبب حالة نفسية مزعجة يمكن تفاديه بعدم التركيز عليه واستذكار تجربة ممتعة أو التفكير بأشخاص تحبهم وتثق بهم وترتاح لهم، مع التيقن بأن الإحباط غيمة صيف إلى زوال مهما بدت كثيفة ربداء.

قال: وما هي الطريقة الأنسب للتعامل مع الظروف الصعبة؟

أجاب: بداية لا ينبغي تجاهل الظروف الصعبة التي تمر بالإنسان ويمر بها أو التقليل من شأنها، إنما يتعين التعامل بقدر من الواقعية والحنكة مع تلك الظروف من خلال البحث عن وسيلة ناجعة لإرخاء قبضتها وتخفيف آثارها.

قال: وماذا يعني هذا من الناحية الصحية؟

أجاب: هذا لا يعني الإستغناء عن أخصائيي العلاج الذين يقدمون خدمات جمة وجليلة من خلال خبراتهم وأساليبهم العلمية المتطورة، بل أن التفكير الإيجابي يساعد على غرس بذرة الشفاء في الجسم وبالتالي يصبح أحد وسائل العلاج.

وبالمثل، بدلاً من القول "أنا مريض" يجب أن يكون التركيز على الحاجة إلى الشفاء، وهذا التوجه بحد ذاته يجعل الفكر والجسم أكثر تقبلاً لأساليب العلاج وطاقة الشفاء، بل أنه يفتح المسامات أو القنوات التي تحتاجها تلك الطاقة للإنسياب إلى الخلايا والأنسجة وتصليح الأوضاع غير الصحية وغير الصحيحة، وإعادة معايرة الآلة الجسدية الدقيقة. وهكذا فإن الشخص المتعود على نوبات متواترة من الضعف والإعياء سيجد مع مرور الوقت أن التفكير الإيجابي يساعد على تقليص عدد تلك النوبات وبالتالي الإحساس بتجدد في القوى وبفيض من العافية بعونه تعالى الشافي من كل علة ومرض.

عافاكم الله أصدقائي

والسلام عليكم

محاضرات في معرفة الذات

 

تأثير الأفكار على الأجسام!

-------------------------------

كثيرون منا يتعلمون أن قلوبنا تتحكم بأجسادنا

بعد ذلك تتملكنا قناعة بأنه يجب أن تتحكم عقولنا بقلوبنا، أي بمشاعرنا.

عندما يسقط الطفل ويتأذى، تحاول أمه تحويل انتباهه من ألمه إلى خشخيشة أو إلى إحدى ألعابه.

الطبيب ينصح مريضه بأن يتخلى قبل كل شيء عن همومه ومخاوفه وأن يوجه فكره إلى قنوات تبعث في النفس السكينة والطمأنينة.

وهكذا، نقتنع منذ الطفولة - ولو قناعة جزئية - بأن للأفكار تأثيراً على الجسم. لكننا لا نحاول معرفة مدى ذلك التأثير، تماماً كما لو كان لدينا كديش جرّ دون اختبار قوته بما فيه الكفاية لمعرفة ما إذا كان قادراً على سحب عربة أطفال أم حافلة ركاب. الفارق الوحيد في هذه المقارنة هو أننا نرى الكديش ولا نرى أفكارنا.

غالباً ما نميل إلى التعامل مع اللامنظور بشيء من عدم الإكتراث وقلة الإحترام، غير أننا نستثني من ذلك قلوبنا وأعصابنا غير المنظورة ونختصها باحترام كبير.

لو تسنى لنا أن نرى بعيوننا ما يحدثه الفكر المشحون بالقلق أو الغضب في الجسم لحاولنا على الفور تخليص الجسم من الأفكار المدمرة. لكننا لا نرى آثار تلك الأفكار بالعين المجردة ولذلك لا نحسب لها حساباً ولا نتهيب تبعاتها لأننا لسنا على دراية بالأضرار التي تتمخض عنها.

لكن هنا وهناك يكتشف بعض طلاب الماورائيات هذه الحقائق ويحاولون نقل معرفتهم إلى غير المتأكدين من العلاقة الوثيقة بين العقل والجسم.

نسير على دروب الحياة ومعنا أفكارنا

وهذه الأفكار قادرة على إنتاج المشاعر والتعبير عنها

وغالباً ما تتحكم بنا المشاعر بل وتطغى علينا.

قد نستطيع التحكم بأفعالنا، أما التحكم بمشاعرنا

فهو أمرٌ أقرب إلى المستحيل

ولكن..

لو بدأنا من أسفل السلّم وثبّتنا قدمنا على الدرجة الأولى

قبل الإنتقال إلى الدرجة التالية

فسنرى كيف يمكننا تغيير مشاعرنا على نحو تدريجي.

وعندما نصل إلى هذه النقطة

نكون قد بدأنا بفهم كيفية تحكم الفكر بالجسم والمشاعر.

وإلى لقاء جديد في خطوة تالية بعونه تعالى.

دمتم بصحة ومودة

Why Be Nervous

 

في سالف الأزمان...

-------------------------

في سالف الأزمان عاش ملك من ملوك العجم

نـُقشت على خاتمه الملكي عبارة كانت بمثابة

مذكـّر دائم له وتصلح لكل الظروف والأحوال

التي تمر على الإنسان ويمر بها.

تلك العبارة كانت عبارة عن أربع كلمات هي:

(دوام الحال من المحال!)

وكانت قوافل الجمال تأتي له عبر الصحاري الرملية الشاسعة

بالجواهر والدرر من سمرقند

والسفن تمخر عباب البحار لتجلب له اللؤلؤ المكنون

لكنه لم يلق بالاً لتلك المجلوبات الثمينة

بل كان يقول عند النظر إليها:

"ما قيمة الثراء ودوام الحال من المحال؟"

وفي بلاطه المهيب كانت الأفراح تتواصل ليل نهار

وعندما كان زائروه يغدقون عبارات الإعجاب دون حساب

وتلتهب أكفهم من شدة التصفيق

كان يقول لهم وسط صواني الفاكهة وأباريق الخمر:

"يا صحبي الكرام، المباهج تأتي لكنها لا تلازمنا أبدا لأن

دوام الحال من المحال"

وذات يوم بينما كان يحارب الأعداء في معركة حامية الوطيس

اخترق رمحٌ ترسَه وأصابه في خاصرته

فهرع إليه الجنود وحملوه إلى خيمته

وقد علت أصواتهم بالتفجع والنحيب،

وإذ كان يئن ويتألم من الجرح الدامي صاح قائلا:

"ما أصعب تحمّل الألم! ولكن مع الصبر الجميل ستزول الشدة لأن دوام الحال من المحال."

أما تمثاله المصنوع من الحجر فقد كان يزين الساحة العامة

ويرتفع شامخاً في الفضاء. وذات يوم تخفـّى الملك ووقف بجانب إسمه المنحوت على الصخر وقال متأملاً: "ما قيمة الشهرة وهي ستتلاشى مع الأيام إذ دوام الحال من المحال؟!"

وعندما بلغ من العمر عتياً أصيب بالشلل وأصبح جسمه مهدوداً متهدما فراح ينتظر فراقه في أية لحظة. وبينما كان يلفظ أنحابه الأخيرة قال: "لقد انتهت الحياة بالنسبة لي، إنما ما هو الموت؟"

وفي تلك اللحظة سقط شعاع الشمس على خاتمه فظهرت العبارة التي اتخذها شعارا له في الحياة وأدرك أن الموت أيضا لا دوام له لأن دوام الحال من المحال!

والسلام عليكم

This Too Shall Pass

 

February, 2013

 

---------------

 

عندما يبدد الكلام زخم الأفكار: نظرة معمقة

------------------------------------------------

الأشياء التي نراها ونلمسها هي أفكار مجسّدة، إما سماوية أو أرضية. فالشجرة، على سبيل المثال لا بد أنها كانت فكرة في عالم المُثل قبل تجسيدها شكلاً في أرض الواقع. والأشياء التي من صنع الإنسان كانت في الأصل أفكاراً في ذهنه قبل أن تنتقل إلى طور التشكيل وتصبح حقيقة ملموسة بالنسبة للحواس.

البذرة تحتضنها التربة

والجنين يحتضنه الرحم

والثمار والأزهار تختزن عناصرَها الجذورُ

إلى أن تنمو البذرة وتتحول إلى نبتة

ويولد الجنين

وتتفتح الأزهار

ويعقد الثمر

ولكل من هذه أجلٌ معلوم

ينتقل فيه من طور الضمور

إلى طور الظهور.

بتلات الوردة تكون متماسكة في البرعم وتتفتح على نحو بطيء وتدريجي حتى يكتمل تفتحها طبيعياً. ولو حاولنا تفتيح تلك البتلات قبل أوانها لماتت ولقضينا على البرعم دون أن نتمكن من التمتع برؤية الوردة واستنشاق أريجها.

ما أود أن أخلص إليه هنا هو أن المخلوق يمر بمراحل محددة للنمو لا يمكن تجاوزها، باستثناء ما يقوم به بعض علماء الزراعة الذين تمكنوا من تسريع نمو بعض الأشجار مثلما فعل العالم الشهير لوثر بربانك.

والآن لنعد إلى عنوان الموضوع. فالفكرة هي بذرة مشروعٍ تحتاج إلى حضانة ورعاية قبل أن تنضج وتنتقل من طور الهجوع المرحلي إلى مرحلة الظهور العلني. هذه الفكرة تلائمها بيئة هادئة ساكنة كي تؤهل ذاتها لتقمّص القوالب الشكلية عند اكتمالها. وكلما مُنحت الفرصة لتلائم ذاتها مع الأشكال المزمع تقمصها في العالم الظاهري كلما أصبحت أكثر استعداداً وملاءمة للغرض الذي في انتظارها.

أما إن تم استعجالها وإخراجها من حاضنة الوعي إلى حيّز الفعل قبل نضوجها فستأتي مبتسرة وغير صالحة لتجسيد المشروع المقرر القيام به. وإن تم بالرغم من ذلك توظيفها فهناك احتمال كبير بأن المشروع سيفشل لأن عناصر الفكرة الأصلية منقوصة الإكتمال.

وإخراج الفكرة قبل أوانها يكون بطريقتين: إما بالتسرع في إلباسها ثوب التحقيق أو إخراجها من مكمن الكمون عن طريق التحدث عنها لأن الكلام يشتت تركيزها ويوهن طاقاتها ويبدد مفعولها تبديدا.

وصدق من قال:

في العجلة الندامة وفي التأني السلامة..

و استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.

 

الزجالون: عبقرية ساطعة ومواهب ضائعة

---------------------------------------------

أحب الإستماع للزجالين ومشاهدة لقطات من محاوراتهم الذكية. وما من شك أنهم يتمتعون بقدر كبير من الفطنة وسعة الإطلاع والبديهة الحاضرة. وبالرغم من نظمهم للشعر الشعبي لكنه شعر على أية حال، ولو تُرجمت أقوالهم إلى لغة أخرى لتعذر معرفة ما إذا كانت قد تُرجمت عن لغة فصحى أو عامية.

بعض هؤلاء الزجالين يُعتبرون عمالقة بكل المقاييس، إذ يتم اختيار الموضوعات لهم من قبل لجنة مستقلة ويُطلب منهم القول، فيشرعون في النظم على الفور وعفو الخاطر.. يغوصون في دنيا المعاني فيبتكرون صوراً ذهنية لم تخطر على بال ويضعونها في قوالب من الكلام المنتقى بعناية بحيث تحصل مناغمة ظريفة بين الفكرة والكلمة بكيفية تبعث على الإعجاب.

ولهؤلاء الزجالين تأثير واضح على السامعين، بحيث ينسجم معهم الحاضرون بكل جوارحهم، وتراهم أحياناً – أي الحاضرين - يتمايلون طرباً ويصفقون ابتهاجاً ويهتفون حماسا..ً وكل يشجع فريقه.

لكن ما يؤسَف له هو أن هذا الفن الفعال يُساء استخدامه ويوظف لمسائل غير جوهرية بل ولربما كان أحياناً ضررها أكثر من نفعها. فهناك جوقات والمبارات تحصل بين جوقة تضم بضعة زجالين وأخرى مماثلة لها. وغالباً ما ينصبّ الإهتمام على التعريض بأفراد الجوقة الأخرى لدرجة تصل أحياناً إلى استخدام تعابير قاسية وتهكم لاذع وتقزيم للآخر والحط من قدره ومن قدراته.

وما أن يأتي الدور إلى الفريق الآخر حتى ينبري أعضاؤه لعمل نفس الشيء أو أكثر، فيخرج كل واحد من جعبته ما تيسر له من إبر ومسلات ومخارز وسهام غير منظورة لكنها مسموعة وحادة، ويطلقها على فرد أو أفراد من الفريق الآخر وجمهوره منتشٍ بإحرازه النقاط وفوزه المبين.

وتتواصل التنديدات وربما التهديدات وكل واحد يريد أن يثبت بالبرهان القاطع أنه الأذكى والأقدر والأجدر وأنه سيد المنابر الذي تنحني له الشمس وتُسخر له الريح.

ولكن...

في تقديري المتواضع أن هذا أسلوب مغلوط لأنه لا يساعد على تقريب وجهات النظر بين الناس بل يباعدها، ولا يهدم الحواجز المفتعلة بينهم بل يكرّسها، فضلاً عن تبديد للطاقات وهدر للذكاء وإضاعة للوقت وشحنٍ لا طائل من ورائه ولا مبرر له.

تصوروا يا أصدقاء لو أن هؤلاء الزجالين الحاذقين يتعاونون معاً، فيجمعون كلمتهم ويركزون في نظمهم على معالجة قضية اجتماعية أو بث روح الوفاق والإحترام المتبادل بين الأفراد أو يحصرون نظمهم في استنهاض الهمم للسير في دروب صحيحة والإبتعاد عن الإعتداد بالنفس ومباينة الترهات ونبذ التركيز على المعايب والمثالب.. أقول لو فعلوا ذلك لانتقل تأثيرهم تلقائياً إلى المجتمع ولربما كان الناس أكثر احتراماً وتقديراً لبعضهم وأكثر بُعداً عن المكابرة والمهاترة والتنابذ والخلاف.. بل ولربما كان المجتمع أكثر رقياً ووعياً عما هو عليه.

 

تفادي الوباء الوبال

-------------------

قال: العالم يضج ويعج بالعواصف الطبيعية والبشرية فما هي الطريقة الأنسب للتعامل معها؟

أجاب: الله هو الدرع الحصين والملاذ الآمن من عواصف هذا العالم وأعاصيره وشروره. فحيثما وُجد الله لا وجود للخوف أو الأحزان. والمؤمن الحق يقف راسخاً وشامخاً في معركة الحياة ومصطرع الأحداث موقناً أن الله معه يرد عنه الأذى ولا يتخلى عنه لحظة واحدة، فينعدم الخوف من قلبه ويحل اليقين بحماية لا تُقحم.

قال: وما تفسيرك لعدم الخوف؟

أجاب: إنه الإيمان بالله وبحمايته، والإيمان بعدله وحكمته ورحمته وحبه وحضوره الكلي.

قال: وماذا يفعل الخوف في الإنسان؟

أجاب: الخوف يسلب الإنسان قواه النفسية ويشوش على العقل ويعيق ويعرقل وظائف القلب التوافقية. كما أن الخوف يخلق اضطرابات جسدية ويتسبب بأمراض نفسية.

قال: وما الطريقة لتفادي هذا الوباء الوبال؟

أجاب: بدلاً من الإستكانة للقلق والحصر النفسي يجب أن يؤكد الشخص لذاته بأنه آمن في حمى الله البصير السميع، مطمئن في حصنه المنيع، مشمول برحمته ورعايته. وسواء كان الشخص في أدغال أفريقيا أو في ساحة الحرب أو يعاني من المرض أو الفقر يجب أن يقنع نفسه بأن يد الله أقوى من الخطر وقادرة على حماية المستجيرين به. لا توجد من طريقة أخرى للحماية. طبعاً يجب أن يستخدم المرء المنطق في تعامله مع الأحداث وفي نفس الوقت يثق ثقة تامة بالعون الإلهي. والإيمان لا يعني أبداً أن يكون الإنسان متهوراً ولا يتعامل بحكمة مع الظروف، إنما بغض النظر عما يحدث يجب أن يؤكد الشخص لذاته أن الله وحده قادر على مساعدته في الظروف الصعبة والعصيبة إن هو توجه إليه بقلبه وروحه وأحاسيسه جميعاً.

قال: وما هي الطريقة الأنسب لحل المشكلات؟

أجاب: إسأل الله كي يساعدك في العثور على حلول لها. عندما تنهال عليك المصاعب كالتيهور أي الانهيار الثلجي، لا تسمح لها بأن تشل إرادتك وتحجب رؤيتك الدقيقة للأمور والتعامل معها بحنكة ومنطق، بل يجب الإحتفاظ بالإيمان بالله وبالإحساس الباطني البديهي، محاولاً العثور على مخرج للنجاة وستعثر عليه بعونه تعالى. و ستنصلح الأمور في نهاية المطاف لأن قوى الله وعجائبه محتجبة خلف تناقضات الحياة البشرية، ومن لا يقتنع بحتمية الأوضاع ويحاول النفاذ بعقله وإيمانه إلى ما وراء الحجاب سيُفتح له الباب الذي بكل يدٍ مؤمنةٍ يُدقُ.

قال: في الحياة ظلام دامس وأحياناً تتعثر الأقدام وتحجم عن الإقدام.

أجاب: اجعل نور الله مصباحك الكشاف أثناء سيرك على دروب الحياة المظلمة. فهو بدر التمام في ليالي الجهل والظلام.. وهو شمس الإشراق في ساعات اليقظة، ومنارة الإرشاد ونجم القطب لعابري بحور ظلمات الوجود الأرضي الموقوت.

قال: وهل ستتغير أوضاع العالم؟

أجاب: المشاكل ستتواصل في العالم، فإلى أين يمكن التوجه طلباً للإرشاد والهداية؟ أفكار المرء المستوحاة من عاداته وتحامله وأحكامه المسبقة وتعصبه لا تجدي نفعاً، ومؤثرات بيئته وعائلته وبلده أو عالمه لا قدرة لها على التوجيه الصحيح.

قال: وما العمل؟

أجاب: الإسترشاد بكتاب الله والإصغاء للصوت الهادئ الهادي الصادر من أعماق النفس المتناغمة مع الحق.

 

محاضرات في معرفة الذات

 

رؤية الإخلاص والإنسجام مع الذات

 

قال: سمعت أن بعض الناس يتخلصون من مشاكلهم بالإبتسام، فهل هذا ممكن؟

أجاب: التخلص من المشاكل بالإبتسام يلزمه ضمير نقي لا يأوي رياءً ولا مكان فيه للمخادعة.

قال: وهل يمكن رؤية الإخلاص؟

أجاب: نعم. عندما يتعامل المرء بصدق مع نفسه ومع الآخرين ويتصرف بنبل وشهامة تصفو عيناه فينبثق منهما شعاع فريد هو بريق الإخلاص الذي لا يمكن أن تخطؤه العين.

قال: وماذا عن الصراحة؟ فبعض الناس يتلفظون بأشياء كثيرة باسم الصراحة.

أجاب: لا يمكن التحدث بكل شيء لكل إنسان. فعندما تقدم النصح والإرشاد للبعض يسيؤون فهم كلماتك ولا يستفيدون شيئاً مما تقوله، وهذا جهد ضائع وسعي غير مشكور – شكر الله سعيك - والسكوت في مثل هذه الحالات هو من ذهب، إنما هذا لا يعني بأي حال السكوت عن الخطأ.

قال: وماذا عن الإنسجام مع الذات؟

أجاب: الإنسجام مع الذات أمر في منتهى الروعة. معظم الناس يعلمون كم هو من الصعب الإنسجام مع الآخرين، ولكن هل فكرت يوماً بالإنسجام مع نفسك؟ ذلك صعب للغاية.

قال: زدني إيضاحاً.

أجاب: إن حللت نفسك لوجدت أنك في خصام دائم مع ذاتك. والكلام في سرك إن لم تحب نفسك فلن تحب أحداً. وإن لم يعش المرء بانسجام مع نفسه فكيف يمكنه أن ينسجم مع غيره؟ الإنسجام مع الذات هو عنصر حيوي للإنسجام مع العالم. لذلك من الأهمية بمكان أن تقدّر نفسك حق قدرها وتحبها لأنها تستحق منك الحب.

قال: أليست هذه أنانية؟

أجاب: إطلاقاً! فالمقصود هنا ليس الأنانية أو الوصولية أو الكبرياء. يجب أن يحب الإنسان نفسه لأن الله خلقه وأنعم عليه بإمكانات سامية. ومحبة تلك النفس المعنوية أو ذلك الجوهر الزاخر بكل الخلال الكريمة هو ما يلهم المسلك النبيل وينقي الفكر من الشوائب والقلب من الضغائن والأحقاد. لا يمكن أن يخادع المرء ضميره أو يبرر تصرفاته الخاطئة أو يفلت من تبعات سلوكه المغلوط حتى ولو أتيح له الإنتقال إلى كوكب آخر، فنتائج أفعاله تلازمه ويتعين عليه تصحيح مساره ومعايرة بوصلته الأدبية لتتجه دوماً نحو القطب الصحيح.

قال: وهل للظروف اعتبار في الإنسجام الذاتي؟

أجاب: بعض الناس يعيشون في أسوأ الظروف ومع ذلك فهم في توافق رائع مع أنفسهم، وآخرون يمتلكون كل الفرص ولديهم كل ما يحتاجون إليه ومع ذلك هم في خصام مستدام مع أنفسهم. ولذلك يجب أن لا ينتظر المرء الظروف كي تتغير (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ). أقنع نفسك أنك بخير بالرغم من بيئتك التي قد تكون مغايرة لما تتمناه. ومن يضع نفسه تحت رحمة الظروف وينتظر حتى تتغير فسيطول انتظاره وقد ينتهي به المطاف إلى العودة بخفي حنين، أو كما يقول المثل الشعبي (سيطلع من المونة بلا حمّص).

قال: هل من مثال على ذلك؟

أجاب: يحكى أن شخصاً كان يتقن ثماني عشرة لغة ومع ذلك كان فقيراً للغاية بحيث لم يقدر على شراء مصباح يقرأ على ضوئه. فكان يذهب إلى إحدى الزوايا ويجلس تحت ضوء الشارع ليقرأ.

حقاً أن الإرادة تبتكر الوسائل

وتخلق الفرص

وتجدد الآمال

وتنجز الأعمال

وتحقق الأماني والأحلام.

والسلام عليكم

 

محاضرات في معرفة الذات

 

المفكر والصبي على الشاطئ

 

ذات مرة، كان أحد كبار المفكرين يتمشى على شاطئ المحيط، وفي نفس الوقت كان يغوص بفكره في بحر التفكير محاولاً النفاذ إلى أسرار الكون واستقصاء خفايا الوجود، فاسترعى انتباهه صبي صغير يلعب بصدفة ملونة. كان الصبي الذي حفر حفرة في الرمل يذهب إلى الأمواج فيملأ صَدَفته بالماء ويعود ليسكبها في الحفرة.

 

سأله المفكر قائلاً: ما الذي تفعله يا صديقي الصغير؟

 

أجاب الصبي: أريد أن أسكب المحيط في هذه الحفرة.

 

فقال المفكر: وهذا ما أحاول أن أفعله أنا أيضاً: أقف أمام محيط الكون اللامتناهي محاولاً استيعابه بعقلي المحدود. 

 

واجب الكبار نحو تنشئة الصغار

----------------------------------

قال: ما هي أكثر كلمة يكررها الناس في حياتهم اليومية؟

أجاب: كلمة "أنا"

قال: وهل هناك استثناء لهذه القاعدة؟

أجاب: نعم.. الغيريون يفكرون في الآخرين مثلما يفكرون بأنفسهم.

قال: وهل في الجعبة شيء عن الصغار؟

أجاب: نعم. يجب غرس حب الواجب واحترام الإلتزامات في نفوسهم وذاكرتهم الغضة واللاقطة، وتبصيرهم بأن كسب المال يجب أن يتم بطرق مشروعة ويقترن بخدمة مفيدة يقدمها الإنسان لمجتمعه.

غالباً ما يتم تنشئة الصغار في بيئة مغلوطة حيث تحصيل المال بأية وسيلة هو المعيار، وهكذا يتلقون دروساً خاطئة ويحصلون على تربية غير سليمة، وعندما يكبرون ينحصر همهم في "اللطش والهبش" والإغتناء السريع بأية طريقة كانت.

قال: والحل؟

أجاب: من مسؤولية كبار اليوم رفع مستوى وعي مواطني الغد من خلال تعليم الصغار التوازن في الحياة. فما دام الكبار قانعين بالجانب المادي من الحياة فإن الصغار سيترسمون خطاهم ويقتدون بهم.

ولإنقاذ مستقبل العالم من خلال إنقاذ الأطفال، يتعين على الكبار أن يصحوا ويصححوا المسار ويحيوا حياة يسودها التوازن بين المبادئ الأدبية والعادات المادية.

قال: وما هي أنسب طريقة لتحقيق ذلك؟

أجاب: بأن يبدأ الفرد بالتفكير "من واجبي إسعاد الآخرين" وأن يخطط للعمل بكيفية تجلب النفع للآخرين ويبتكر طرقاً لتحقيق تلك الأهداف.

قال: وما هي فلسفة الخدمة؟

أجاب: لكي يقدم الإنسان خدمة للآخرين ينبغي أن يمتلك الموارد الضرورية. من يريد حلب البقرة عليه إطعامها. ومن يخدم الآخرين يخدم نفسه بنفس المقدار، فتتبارك حياته وتأتيه الخيرات من حيث يدري ولا يدري. ومن يقدم خدمة طيبة للآخرين سيحصل على خدمة مماثلة في المقابل حتى ولو لم يتوقعها. وعندما يحصل على مردود جيد يستطيع تحسين مستوى معيشته وتقديم خدمة أكبر للآخرين. هكذا تعمل قوانين الحياة والفرص متاحة لكل راغب في التناغم معها والإستفادة من عملها الذي يعمل بدقة الرياضيات.

قال: وهل يتعين إعطاء كل شيء للآخرين؟

أجاب: هذا غير ممكن، لكن يجب التفكير بهم بتعاطف فعلي وودي وتقديم ما يمكن تقديمه لهم. وتذكر أن محب العطاء يفرح مرتين: مرة عندما يحصل على ما يريده وأيضاً عندما يعطي ما يقدر عليه.

قال: وهل من طريقة لتحسين أوضاع الشخص؟

أجاب: نعم. وكما أسلفنا، من يشارك الغير في خيراته يجلب لنفسه الوفرة والرخاء حيثما ذهب.

من يساعد الغير يجد أن الله معه دائماً لا يتركه ولا يحرمه مما هو بحاجة إليه.

والسلام عليكم

محاضرات في معرفة الذات

مستقاة من تعاليم المعلم برمهنسا يوغانندا

 

خاطرة ... عندما

-----------------

عندما ينطلق الخيال من عقاله

ليرتاد فضاء الحرية

ويستيقظ الوعي من أحلام القيود المكبلة

وتنتشي النفس بألحان المحبة

وتتشبع بإكسير المعرفة

ويتخطى الفهم حدود الغموض والإستغلاق

ويمتلئ القلب بما يبتغيه من أمن وسلام

يحدث التوازن ويتحقق الوئام

وتتجدد الطاقات وتشع الخلايا بنور الصحة والحيوية..

وعندما تسير الأفكار في مسالك الخير

وتصبح المشاعر الإنسانية أسخى وأصدق

وتترعرع الملكات وتنمو

في محيط الإرادة الطيبة والجمال

وتتولى الأحاسيس الراقية صنع القرار

وتجتلي الخواطر المعاني الرفيعة

ويتجدد الأمل وتمتلئ بالثقة النفوس

وتطارد عناصر النور فلول الظلام

حيثما ثقفتها في أعماق الذات

ستستعيد النفس آنذاك جبلتها الفطرية

وستتناغم من جديد مع نبض الكون

وإيقاع الوجود.

 

في بلقع الصحراء

------------------

قال: هل في الجعبة تشبيهات عن الحياة؟

أجاب: فيها تشبيهات ومقاربات.

قال: هات أخبرنا.

أجاب: الحياة هي كالمطحنة التي تطحن الحبوب لتصنع منها خبز الحياة. وهي كطريق متعرج، على جانبيه أزهار ناضرة وفراشات زاهية، وأشجار على أغصانها ثمار شهية، ومع ذلك نادراً ما نتوقف لنستمتع بمنظرها وتذوق عذوبتها، بل غالباً ما نكون على أحر من الجمر للوصول إلى مساحات أوسع نظن أن فيها مناظر أكثر بهجة مما رأيناه. لكن مع ابتعادنا التدريجي عن الدروب المزهرة المثمرة نجد أشجاراً فيها من القتامة أكثر مما فيها من النضرة، بعدها تختفي الزهور ومعها الفراشات وأيضاً الفواكه، لنجد أنفسنا بعد ذلك في بلقع الصحراء.

قال: وهل من تشبيهات أخرى؟

أجاب: حياة الإنسان هي كمياه البحار التي تتنقى وتصبح عذبة فقط عندما تصعد إلى الأجواء العليا. وهي كحلم الصباح تزداد إشراقاً مع تقدم سني العمر، والسبب هو أن الأشياء تبدو عندئذ أكثر وضوحاً وصفاءً.

قال: سمعت أن الحياة شبيهة برحلة، فما معنى ذلك؟

أجاب: هي كالرحلة من حيث تغيّر المناظر مع قطع المسافات، ثم تتغير نفس المناظر كلما اقتربنا منها.

قال: وكيف ينظر الحكماء إلى الحياة؟

أجاب: الحياة – طال عمرك - لا تخيّب أمل الحكماء، إذ يتعاملون معها بحنكة ويستمتعون بها دون السماح لها بالإستحواذ عليهم وسلبهم حريتهم. فهم على سبيل المثال يستمتعون بالماء، يشربونه ويغتسلون به، لكن لا يسمحون لأنفسهم بالغرق فيه. وهم يستمتعون بالملابس التي تروق لهم دون تقيد زائد بالرسميات والشكليات التي تعتبر من السطحيات. ويتلذذون بتناول الطعام دون السماح للشـَره بأن يأكلهم.

قال: وكيف يأكل الشره الإنسان؟

أجاب: هناك أناس بتعبير أبي بحر الجاحظ يقضمون قضم النعاج ويخضمون خضم البراذين فيعيشون ليأكلوا ويصبحون عبيد البطون، يظنون أنهم يأكلون في حين ينهك الإفراط قواهم وينهش مدركاتهم ويفتك بها فتكاً ذريعاً.

قال: المعنى؟

أجاب: المعنى، تمتع ما شئت بالحياة إنما لا تنهك الحواس بالإنغماس.

 

فولاذ الحكمة والأمراض الثلاثية

----------------------------------

قال: هل تؤمن بالنمو الذاتي؟

أجاب: نعم أؤمن.

قال: وكيف ننمو؟

أجاب: ننمو من خلال كل تجربة نمر بها ما دمنا ندرك أن بمقدورنا استخلاص دروس نافعة منها. فلكل ما نختبره من ألم ومعاناة معنىً وغاية. وبالرغم من قسوة التجارب، لكنها كالنار التي تصهر خام الحديد إلى فولاذ جميل المنظر، قوي التحمّل ومتعدد الإستخدامات.

قال: وماذا تعني هذه المقارنة؟

أجاب: إن فولاذ الحكمة الذي نستخرجه بفعل نيران التجارب الحارقة هو شيء رائع. فالحياة تطهرنا بتحويل معادننا الخسيسة إلى عناصر نفيسة بحيث يمكننا أن نعيش في هذه الحياة كنفوس نقية بنقاء الجواهر، صلبة بصلابة الفولاذ، وفي نفس الوقت مرنة وقابلة للإنحناء دون التعرض للإنقصام تحت ضغوطات المحن والتجارب الصعبة.

قال: وهل للحزن والجروح النفسية من مغزىً أيضاً؟

أجاب: إنها ترقق الأحاسيس وتقرب الإنسان من خالقه.

قال: أرى أحياناً وجوهاً كالحة لا تضحك حتى للرغيف السخن.

أجاب: عندما نرى وجوهاً مشوهة بالغضب، ممسوخة بالوحشية يجعلنا منظرها نرغب بطرد البشاعة من النفس التي لا يدنسها شيء كنوايا الشر والأحقاد الدفينة التي تحجب صورة النفس المباركة في الإنسان مثلما يلوث السخام صفحة المرآة. فتصرفات الآخرين المؤلمة يجب أن توقظ بنا الرغبة لتحسين تصرفنا وضبط أنفسنا كي نكون سادة لأهوائنا الجامحة لا عبيدا لها.

قال: وهل من كلمة عن الكلام؟

أجاب: الكلام العذب ترياق عجيب للعديد من الأمراض وفيه قوة سحرية ومغناطيسية جبارة تجلب الكثير من الخيرات والبركات لصاحبه. فالذي يستخدم الكلام العذب المهدّئ للخواطر يشعر بتيار خفي ينساب من خلاله دون انقطاع ويمتلئ كيانه بفيض من الطمأنينة لأن ذلك التيار متصل بمصدره الأعلى الدائم التدفق والجريان إلى النفوس المتناغمة مع ذلك المصدر، وسيتمكن من نقل سيّال السعادة إلى النفوس المتعطشة للسلام.

قال: وهل في الجعبة شيء عن المرايا؟

أجاب: نعم. كل يوم ينظر الإنسان في المرآة لرؤية وجهه لأنه يريد أن يظهر على أحسن ما يرام أمام الآخرين، فكم بالحري أن يقف يومياً مع ذاته ويحدّق في مرآة التحليل الباطني لمعرفة ما يكمن خلف المظاهر السطحية البراقة! فكل ما هو جذاب ظاهرياً يستمد جاذبيته من نفس الإنسان الباطنية. وما من شيء يلطخ مرآة النفس النقية كالتشوهات النفسية المتمثلة في الغضب والحقد والحسد والكراهية والهلع من لطمات الزمان. ومن يحاول تحرير نفسه من هذه المركّبات الغريبة على طبيعة الروح سيشع نور الجمال الباطني من داخله وسيتذوق ما يحس به صاحب النفس المطئنة.

قال: وهل نكتشف غير ذلك بالتحليل؟

أجاب: بالتحليل نكتشف أن مشاكل الإنسان هي ثلاثية: فهناك مشاكل واضطرابات تهاجم جسم الإنسان وأخرى تهاجم عقله وهناك صنف ثالث يسد منافذ الروح.

قال: أوضح.

أجاب: المرض والشيخوخة والموت هي الصعوبات التي يتعرض لها الجسد والعقبات التي تعترضه. أما الأمراض النفسانية فتغزو العقل عن طريق الحزن والخوف والغضب والرغبات المكبوتة والتذمر والكراهية والوساوس العاطفية وحمّى الهيجان العصبي والسرطان النفسي الذي يشل القوى العقلية. أما المرض الأخطر فهو مرض الروح الذي يتمثل في الجهل الذي عنه تنبثق ومنه تنسرب باقي الأمراض.

عافانا وإياكم الله من كل الأمراض

والسلام عليكم

 

محاضرات في معرفة الذات

 

بين الحجرات

--------------

لكم بدا العالم غريباً

من حول الشاعر واتسون

(كما بدا من حول صاحب

"أغاني الدرويش" و "هي الدنيا": رشيد أيوب)

إذ لم تألفه نفسه

ولم تُرفع الكلفة ما بينهما

فهو ظل يطالعه بمفاجآت غير سارة

ولازم مخيلته كوجه غلفه الغموض

دون أن يتسنى له معرفته حق المعرفة.

وجد نفسه في هذا البيت الأرضي

ذي القبة المرصعة بالنجوم الدراري

والأرض الممهدة بالسهول

والبحار القريبة الشبه بالزمرد والياقوت.

أما كان يستحق أن يشعر بأنه في بيته

لتقر عينه وينام ملء الجفون؟

رأى نفسه متنقلاً بين حجرات

هذه الدار الرحبة

لكنه لم يلمح المضيف

فشعر كأنه وحيد في الدار

وعاش عمره لا يعرف

ما إذا كان ضيفاً أم أسيرا.

وهكذا... بين القبة السماوية المكوكبة

والأصقاع الشاسعة والمحيطات

لم يشعر شاعرنا أنه في بيته

ولم تكتحل عيناه بنور الهناء

فارتحل وارتحلت معه أحلامه

التي لم يُكتب لها التحقيق

في هذه الدنيا.

Sir William Watson

 

ولنا مع السبحات وقفة .. وربما اكتشاف جديد

 

سأستخدم هنا المسميين الشائعين (مسبحة) و (مسابح) إشارة إلى السبحة والسبحات.

 

جميلة المنظر.. ناعمة الملمس.. متعددة الأشكال والأحجام والألوان والتصاميم.. رفيقة الشاب والكهل والشيخ.. لا يكاد يخلو منها بيت ويصعب تصور حياة اجتماعية شرقية بدونها.

 

ما أن يجتمع الأصحاب حتى يُخرج كل منهم أو معظمهم أو بعضهم مسبحته فيمرر حبّاتها بين أصابعه مراراً وتكراراً.. طرداً وعكساً.. دون ملل، بل لعل هذه الممارسة تدفع الملل في انعدام العمل.

 

ولكن هل حللتم هذه الظاهرة وتساءلتم لماذا يستخدم الناس - لا سيما الشرقيون منهم - المسابح؟

 

لعل هذه المسألة لم تخطر لكم على بال من قبل، لكنها أثارت اهتمامي كباحث وتوصلت إلى نتائح أود أن أطلعكم عليها.

 

ما اتضح لي أن سر المسبحة لا يكمن في المسبحة ذاتها كحبات خرز بديعة الصياغة واللون، ينتظمها خيط أو سلك، ولها شرّابة، أحياناً من الماس أو الذهب أو الفضة أو الحرير.. الأمر يتعدى المظهر إلى الملمس، وهنا بيت القصيد.

 

لملامسة المسبحة متعة خاصة وهنا تكمن قيمتها وسرها. ومتعة الملامسة هذه لا تتأتى من كون حبّات المسبحة مشدودة إلى بعضها في خيط لسهولة تناولها. فلو قُطع الخيط ووضع صاحب المسبحة حبّاتها السائبة في يده وتحسسها بأطراف أصابعه لاختبر نفس الشعور الذي يتولد لدى تناول المسبحة ذات الحبات المنتظمة.

 

بل ويمكنني الذهاب إلى أكثر من ذلك لأقول أنه لو وضع مدمن أو محب المسابح في كفه كريات صغيرة من خرز غير خرز المسابح، أو بعض حبات من الفول أو الحمص اليابس أو البلوط أو قطع ملساء من الحصى الناعم أو الودع وتحسسها لانتابه نفس الشعور الذي يختبره أثناء "التسبيح" والسبب هو الآتي:

 

هذا الشعور الممتع الذي يولّده "على ما يبدو" استخدام المسبحة لا يكمن في المسبحة نفسها بل في ملامسة أطراف الأعصاب في الأصابع لشيء ما. هذا الشيء قد يكون مسبحة أو قلم حبر أو أي شيء آخر ناعم الملمس وسهل التناول.

 

ونفس هذا الشعور يمكن استحداثه أيضاً بمجرد ملامسة الإبهام لأطراف الأصابع دون أي وسيط آخر. إذ باستطاعة الشخص الذي ليس لديه مسبحة أن يحصل على نفس متعة "التسبيح" بمجرد تمرير طرف الإبهام - برفق ودون تسليط أي ضغط - على أطراف أصابعه.

 

الإحساس الممتع المتولد من ملامسة أطراف أعصاب الأصابع اكتشفه باحثون شرقيون قدامى واستخدموه كوسيلة لتهدئة الفكر وإراحة الأعصاب والتخلص من التوتر والقلق. وبما أن الأشياء المادية المحسوسة لها وقع في النفس فأعتقد أنه تم ابتكار المسبحة لهذا الغرض بالذات. جدير بالذكر أن الإسم الإنكليزي للمسبحة هو (ووري بيدز أي خرزات تبديد القلق).

 

بدد الله المخاوف والقلق من النفوس 

 

فرص ذهبية

--------------

قال: ما رأيك في الحياة؟

أجاب: الحياة تستحق أن تُحيا.

قال: وهل هذا كل ما لديك أن تقوله؟

أجاب: لا.. ففي الجعبة مزيد.

قال: زدنا مما في الجعبة؟

أجاب: فليكن. الحياة تمنح فرصاً ذهبية لمعرفة الإنسان ذاته وتجديد وعيه وتحديد موقعه على خارطة الوجود والعمل على تحقيق الغرض من كينونته.

قال: وما نفع هذه المعرفة؟

أجاب: هذه المعرفة تشحن الفكر بالحماس والجسم بالنشاط وتملأ القلب بفيض من الحيوية فيطفح فرحاً ويطفر ابتهاجاً، وهذا ما يريده خالق الإنسان للإنسان.

قال: لكن الحياة فيها ما فيها من الملل والسأم وكثير من الناس يتبرمون ضجراً.

أجاب: الضجر يعني فقدان الإنسان للصلة والإتصال بغرفة عمليات الحياة. ولكي تصبح الحياة ممتعة، على الإنسان أن يزيح ويزيل المعوقات التي تحول بينه وبين وحدته العضوية مع الحياة. ولو عدت بأفكارك إلى عهد الطفولة فلربما تذكرت أنك كنت آنذاك، ما شاء الله عليك، مليئاً بالنشاط والفرح المتجدد ولسان حالك يقول "يا أرض اشتدي وما حدا قدي!" وكانت لديك رغبة قوية في الحركة والنط واللعب وعمل أشياء كثيرة.

قال: وما سر ذلك؟

أجاب: كنتَ آنذاك حديث الوفادة من العالم الأثيري و على صلة مباشرة بقلب الحياة، وكانت أسلاك التواصل بينك وبين الحياة عال العال أو كما يُقال (برنجي) أي على أحس ما يرام من الأداء السلس والفعال، إذ جلبتَ معكَ وعي البساطة والفرح والغبطة ونضارة الروح. وعندما بلغت سن الرشد فقدتَ قسطاً لا بأس به من تلك الطاقات والأحاسيس، لكن بين الحين والآخر تتوارد إليك خواطر مألوفة وتهب عليك نسائم الشوق فتعيد لذاكرتك بعض ومضات من الماضي البعيد. وحتى عندما تستيقظ صباحاً من نوم هادئ وعميق تشعر براحة وسرور إلى أن تهجم عليك مشتتات الحياة اليومية فتحتل القسم الأكبر من وعيك وتصبح أكثر حقيقة وإلحاحاً من سواها.

قال: وهل في الجعبة شيء عن الزواج؟

أجاب: موجود.

قال: هات من الموجود.

أجاب: عندما يقع الشباب والصبايا في الحب، ما يحدث أولاً هو أن شعاعاً ينطلق من العين فتقابله العين.. وتتكرر النظرات تتبعها الإبتسامات فتتحول إلى رعشات، وأول ما يعرفونه هو وقوعهم في الحب أحبك الله وبالتالي الزواج. إنها مشيئة القدير أن تستمر مسرحية الحياة إلى ما شاء الله. ولكن ما لم ينظر شركاء الحياة إلى الزواج على أنه مسؤولية مشتركة لمساعدة وإسعاد بعضهم البعض تحدث ظروف وربما صروف تحول دون طمأنينة النفس وهناءة العيش. بل وقد يفقدون ما اختبروه من بهجة وأماني عذاب قبل الزواج.

قال: هناك تناقضات كثيرة في الحياة، فما هي الطريقة الناجعة للتعامل معها؟

أجاب: بالرغم من كل الصعوبات والتناقضات والإحباطات يجب أن يعمل الشخص على التواصل مع ذاته الغنية بكنوز لا حصر لها، وهذا ما يجعل الحياة سعيدة ومجيدة.

قال: وهل من أفكار أو أفعال يتعين تلافيها؟

أجاب: يجب على الإنسان تحاشي الأفكار والأفعال الرخيصة وعدم الإنغماس في تفاهات الحياة الدنيوية لأنها ما أن تتمركز في الوعي و(تكبّش) أي تتشبث في خلايا الدماغ حتى تطرد من النفس السلام والإنسجام ومعهما الأفكار الراقية والرؤى النقية. ولذلك يجدر التخلص من تلك الطاقات اللاتوافقية من الفكر واطرّاح المشاعر غير الودية من القلب حتى تسري إليهما إشعاعات النور وتيارات الصحة وشحنات الحيوية والبركة.

بارك الله بكم والسلام عليكم

محاضرات في معرفة الذات

 

ويستمر الحوار... رغبات كالجواد الأصيل

 

أجدد التحية للأصدقاء المتابعين للحوار، وعلى بركة الله نواصل..

قال: لكن هل يُعقل أن يكون الشخص سعيداً دون أية ممتلكات؟

أجاب: قلائل هم الذين يمكنهم أن يكونوا سعداء دون ممتلكات، أو على الأقل دون قدر كافٍ من المال والصحة. معظم الناس يلزمهم بعض الأشياء كي يشعروا بالسعادة، فسعادتهم تتوقف على الظروف الخارجية لأن العقل لم يُدرّب على التمتع بسعادة باطنية دون قيد أو شرط. يظن الشخص أنه سيسعد – أسعدكم الله – إن هو حصل على كل ما يظن أنه بحاجة إليه. لكن الرغبة تولّد رغبات، ومن يستمر في مضاعفة رغباته سيبتعد عنه الرضاء بُعد الثريا عن الثرى.

قال: ولكن الرغبة غالباً ما تكون قوية فتدفع المرء دفعاً على شراء الأشياء.

أجاب: بالصواب نطقت. فقبل أن تشتري شيئاً ما تشعر أنه لا يمكنك الإستغناء عن ذلك الشيء ولا بد من حصولك عليه مهما كان الثمن. ولكن ما أن يصبح بين يديك حتى تقل رغبتك به تدريجياً وتبدأ بالتفكير في شيء أفضل، وهكذا دواليك.

قال: وهل بالإمكان إيجاز النجاح في عبارة واحدة؟

أجاب: النجاح هو فن القناعة الذاتية: احصل على ما تحتاج إليه فعلاً ثم ارضَ بما لديك.

قال: وما هو انطباعك عن المستهلِك؟

أجاب: أرى كثيرين من موظفين وعمّال يصرفون أموالهم على أشياء غير ضرورية ونتيجة لذلك يغرقون حتى الذقون في الديون. عرفتُ رجلاً وزوجته عاشا في بيت جميل في إحدى المدن، وكانا ما أن تقع أعينهما على شيء يرغبان به حتى يبتاعانه على الفور وعلى التقسيط. لكن في نهاية المطاف أصبح بيتهما الجميل مصدر رعب لهما.

قال: وكيف ذلك؟

أجاب: لقد عجزا عن تسديد أقساط الأشياء المكومة في بيتهما، فقلت لهما ذات مرة: "هذه الأشياء ليست أشياءكم ولا تملكونها، لقد اقترضتموها بالتقسيط... فلماذا لا تبسّطان حياتكما دون هذه الهموم المتواصلة التي تدمّر كل ما لديكما من طمأنينة واستمتاع؟ ونظراً للديون التي وقعا فيها فقد خسرا أخيراً كل شيء، مما اضطرهما للعودة إلى الحياة البسيطة والبدء من جديد.

قال: لكن هل من المعقول أن يعيش المرء دون رغبات؟

أجاب: هناك رغبات سليمة ورغبات عقيمة.

قال: وما الفرق بينهما؟

أجاب: الرغبات السليمة ذات القيمة تشبه الجواد الأصيل الذي بدلاً من أن يأخذك إلى وادي الظلام يسير بك نحو آفاق مشرقة من السعادة والإرتياح. ومن واجب المرء تحليل الرغبات لمعرفة ما إذا كانت ستساهم في إسعاده أم إبعاده عن السعادة.

قال: وما هو تعريفك للرغبة السليمة؟

أجاب: كل ما يبعدك عن الإستعباد للمادة ويقرّبك من آفاق السعادة الحقيقة هو رغبة سليمة. واعلم أن النجاح الحقيقي يعتمد على امتلاك الرغبات السليمة، وليس على امتلاك أشياء على حساب الآخرين.

قال: وما رأيك في الثراء؟

أجاب: الثراء الذي يتم تحقيقه بوسائل مستقبحة قد يبدو ظاهرياً بأنه نجاح، لكن مثل هذا الثراء الفاحش يقض مضجع النفس ويحرمها طعم الراحة. والضمير غير المرتاح هو – أعزكم الله – كالحذاء الضيق الذي قد يبدو مظهره جميلاً لكنه يقرص القدم مع كل خطوة. أما صاحب الضمير المرتاح فهو في سلام مع نفسه ومع الناس ومع الله. وإن كان ضميرك مرتاحاً – أراحك الله من المتاعب والهموم – يمكنك أن تقف بمفردك في وجه الرأي العام العالمي، ومهما كان الظلام كثيفاً حولك، ستتمكن بعونه تعالى من اختراق الظلمة بشعاع الضمير المستنير.

والسلام عليكم

 

محاضرات في معرفة الذات

 

الإستبطان الذاتي والنجاح

-----------------------------

قال: هل صحيح أن توجيه الإنسان أسئلة لنفسه هو نوع من عملية الإستبطان الذاتي؟

أجاب: وهو كذلك.

قال: إن أردتُ تطبيق مثل هذا الإستبطان فبماذا تنصحني بأن أسأل نفسي؟

أجاب: إسأل نفسك عن الغاية من حياتك. فأنت أكثر المخلوقات تطوراً وقد أودع الله في داخلك نفساً شريفة هي جوهرك.

قال: وما الذي سيتغير إن أدركت هذه الحقيقة؟

أجاب: ستحرز نجاحاً لا حد له، وستتذوق فرحاً طوباوياً وستتحقق كل رغباتك النبيلة وستتغلب على كل مصاعبك ولن يقوى العالم على اصطيادك بأحابيله أو تضليلك بأوهامه.

قال: لكن الحياة تعج بالمشاكل وتمور بالأحداث الأليمة.

أجاب: أجل، الحياة البشرية هي مواجهة مفتوحة ودائمة مع المشاكل، وكل واحد لديه مشاكله الخاصة. هناك مليارات البشر وأيضاً مليارات المشاكل التي يتعين التعامل معها على أساس يومي. البعض يعاني من مشاكل في القلب والبعض يشكو من الزكام والبعض متخم بالمال وآخرون بينهم وبين الفلس جفاء مستحكم، وغيرهم لا يتعبون أنفسهم بالتفكير ولذلك فهم أقل دراية بالمشاكل، إذ ما دامت بطونهم ملآنة فالدنيا بالنسبة لهم بألف خير. لكن من هم السعداء فعلاً في الحياة ومن هم الناجحون؟

قال: بداية ما هو معيار النجاح؟

أجاب: السعادة هي معيار النجاح بغض النظر عن المنصب الوظيفي أو الوضع الإجتماعي. المفهوم السائد عن النجاح هو امتلاك الثروة والأصدقاء والمقتنيات الجميلة والفاخرة، وهذا ما يدعوه البعض الحياة المنعّمة. لكن الإنجازات المادية لا تعني بالضرورة النجاح الحقيقي.

قال: وما هو السبب؟

أجاب: لأن الأشياء والظروف خاضعة للتغيير. فاليوم قد يكون عند الشخص أشياء وغداً تطير من يده. لذلك لا تظن أن من يصبح مليونيراً يضمن لنفسه النجاح. فقد يجدّ ويجتهد، ويكد ويكدح لقطف ثمار النجاح في مجال عمله، لكنه يُفاجأ بأن حياته يعوزها التوازن ولا يمتلك حرية التمتع بالأشياء التي يرغب القيام بها، بل قد تتألب عليه الهموم ويصاب بالتوتر والإنفعال بحيث تنهار صحته ويقع فريسة الإكتئاب. وهكذا يتبخر النجاح الموهوم ويشعر بأنه أضاع حياته وتبددت كل أحلامه.

قال: وهل الصحة تعني النجاح؟

أجاب: قد يمتلك الشخص جسماً قوياً (مثل الحصان) ولكن دون أن يكفي من المال ليقيم أوده، فيشعر بالحسرة والمرارة لعدم امتلاك ضرورات العيش وأساسياته. أو قد يمتلك الصحة والمال ولكن دون إحساس بالرضى. فإطعام الجسم وإشباع الغرور لا يرضي النفس اللطيفة. وقد يمتلك كل شيء ومع ذلك يشعر بفقر ذاتي مدقع.

قال: والخلاصة؟

أجاب: ما لم يمتلك الإنسان السعادة في قلبه فلا يمكن اعتباره من الناجحين.

قال: هل من مزيد؟

أجاب: في هذا الكفاية اليوم.. زادك الله علماً وأسعدك في الدارين.

 

فلسفة الشراء وقصة الثعلب والغراب

----------------------------------------

استعلم قائلاً: هل من فلسفة للشراء يمكن أن أعتمدها في حياتي ؟

أجاب: بعض الناس مدمنو شراء بحيث أنهم يبتاعون ما لا حاجة لهم به، وبذلك يبعزقون أموالهم على كماليات لا ضرورة لها.

قال: وبمَ تنصح؟

أجاب: التزام الحيطة ومراعاة الحكمة أثناء التسوق. وإن كان لديك بعض المال ادخره ولا تلق بالاً للإعلانات التجارية التي تحاول دوماً إغراءك لشراء ما لا يلزمك من أجل التخلي عن مكتسباتك لقاء مبتكرات جديدة أو استثمارات "مضمونة الربح". فكلما حاول أحدهم استمالتك بلسان معسول وعروض مغرية تذكر قصة الثعلب والغراب.

قال: هلاّ أعدتها على مسمعي؟

أجاب: ذات مرة كان غراب يحمل في فمه قطعة جبن فسال ريق الثعلب عليها وأرادها لنفسه، وكونه متمرساً في المكر والمخادعة قال للثعلب "يا ليتك تنشدني لحناً يا سيد غراب لأنني سمعت بأن صوتك رخيم ومضرب المثل في العذوبة." فانتشى الغراب من الإطراء وفتح فاه ليغنّي، لكنه ما أن فعل ذلك حتى أفلتت قطعة الجبن من فمه وسقطت على الأرض، فالتقطها أو الحصين على عجل وهنأ نفسه على غنيمة باردة. لذلك احذر من يحاول التأثير عليك نفسياً لأنه بذلك يريد شيئاً منك. ولا تسمح لأحد أن يستغلك من خلال مداهنتك أو التزلف إليك ليجعلك ترغب بشيء غير ضروري لنجاحك ولسعادتك الحقيقية.

قال: وهل من طريقة للإكتفاء الذاتي؟

أجاب: بسّط حياتك بحيث لا تعتمد على ممتلكات كثيرة. فتغذية الرغبات تلقائياً وعلى نحو متواصل تطرد القناعة من النفس وتخلق التعاسة والبؤس. فإن عقّدت حياتك بأشياء كثيرة لن تتمكن من الإستمتاع بأي منها. ولكن إن دققت في حياتك ستجد طرقاً عديدة يمكنك بواسطتها اختزال الكماليات دون أن تشعر بالحرمان.

قال: وما رأيك في الشراء بالتقسيط؟

أجاب: إجمع أولاً لما تحتاجه واشتر ما تحتاجه نقداً دون الحاجة إلى أقساط وفوائد مرتفعة ووجع رأس. طبعاً هناك فائدة من التعامل مع الذين يريدون أن يبيعوا سلعهم ليكسبوا لقمة عيشهم، ولكن لا تسمح لنفسك بأن تعيش خارج حدود طاقتك، لإنك إن فعلت ستخسر كل شيء لا سمح الله عندما تواجهك أزمة خطيرة أو تواجه انعطافة حادة في الطريق وسيكون "طعم المغراية" في الإنتظار.

قال: وما هو تعريفك للتوفير؟

أجاب: التوفير فن ويلزمه تضحية. ولكن إن اقتصدت في الشراء وعشت ببساطة ستتمكن من توفير بعض الدخل على أساس منتظم، وتذكر المثل الشعبي "قطرة على قطرة تصير غدير" بعونه القدير.

 

أراكَ تعاتب الأيام

------------------

 

كأني بك يا صديقي

ترنو إلى واحة تقر بها عينك

وإلى راحة يرعى في خمائلها قلبك المضنى.

 

أراك تجيل الطرْفَ في الأفق الصامت البعيد

محاولاً النفاذ من غياهب الوجوم والهموم

إلى سماء صافية

أكثر ملاءمة لروحك الشفافة

وأقدرَ على احتواء أشواق نفسك المستهامة.

 

وبعين الخيال أراك تعاتب الأيام

وتسائلها عن كوكب السعد الذي طال انتظار بزوغه

وكأنني أسمع حنيناً ملهوفاً يعتمل في أعماقك

تصلني أصداء أجراسه عبر أثير الروح.

 

ألمح سفينة أشواقك راسية على الشط البعيد

تحوم حولها نوارس الذكريات

وترمقها لواحظ الكواكب بانعطاف ودي.

 

أحس برغبتك يا صديقي لخلوة تصبو إليها

علك تخترق أكداس الغيوم

وتنفذ إلى عالم باسم

يزخر بالمعاني الرقيقة والأماني العِذاب.

 

حققت الحياة أمانيك

وبددت قفار الوحشة من نفسك المرهفة

وأغنتها بأجمل الإختبارات

وأعذب الرؤى

وعليك السلام يا صديقي!

 

عدم تضحية المُثل في سبيل إرضاء الغير

---------------------------------------------

قال: سمعت أن التوافق مع الآخرين أمر مستحسن، فهل هناك استثناءات؟

أجاب: التوافق مع الآخرين لا يعني موافقتهم على كل شيء، ولا تضحية مُثلك من أجلهم، لأن هذا الأسلوب من التوافق غير مستحب ولا يتفق مع الصواب.

قال: وهل تحبذ المواجهة بدل الموافقة؟

أجاب: لا ضرورة لذلك، إذ بإمكانك عدم الموافقة معهم دون الحاجة إلى التعكير والتكدير. فالمصلحون والعظماء لم يتوافقوا مع كثيرين من الناس من حولهم، ومع ذلك احتفظوا بمَثلهم الأعلى لأنهم أدركوا أن ما كانوا يقومون به كان عين الصواب.

قال: وما رأيك بتطويع المُثل أحياناً في سبيل "تمشاية الحال"؟

أجاب: يجب عدم المساومة على مبدأ، وعدم اللجوء إلى نوايا مبيتة لتحقيق غرض، لأنها لا تليق بالمبدئيين. وإن استطعت أن تعيش بكيفية ترضي الله ولا تلحق الأذى بالغير فلا خوف عليك.

قال: وما معنى التوافق مع الآخرين على أية حال؟

أجاب: هو أن تكون أولاً وقبل كل شيء متوافقاً مع الله ثم مع ضميرك ومن بعدها مع الناس.

قال: وماذا لو لم يرضِ نهجي هذا الآخرين؟

أجاب: يكفي أنك ستكون مرتاحاً في داخلك وستشعر بطمأنينة ذاتية تغنيك عن رضى الآخرين ما دام ذلك الرضى لا يتسق ولا يتفق مع ما تؤمن به في قرارتك.

قال: وهل تنصحني بالطلب من الآخرين كي يغيروا أسلوب حياتهم المغلوط؟

أجاب: لا حاجة لأن "تخبط" الناس على رؤوسهم بمطارق الوعظ لجعلهم يقتنعون بوجهة نظرك الصحيحة. فإن لم يرغبوا في انتهاج أسلوبك دعهم وشأنهم وادعُ لهم بالبركة، وإن ضايقوك بملاحظاتهم الجارحة وتعليقاتهم الممضة فلا بأس أن تبتعد عنهم مؤقتاً على الأقل، إنما كن على استعداد دوماً لأن تقاسمهم فهمك وخبرتك، وإن توفرتَ على رحيق من المعرفة فاعرضه على المتعطشين له كي يشربوه هنيئاً مريئاً من فضله تعالى وأجرك على الله.

 

ردود على رسائل القراء: تشبيه النفس بالطيور

----------------------------------------------------

أخذت قسطاً من الراحة في أول المساء ثم استيقظت للرد على رسائل واستفسارات عديدة.

نعم تجارب الحياة غريبة أو تبدو هكذا بالنسبة لنا. هناك سبب منطقي وراء كل ما نختبره مع أنه غالباً ما يكون محجوباً عنا. الله كريم ويعرف احتياجاتنا ولن يحرمنا منية قلوبنا. فما لا نحصل عليه من محيطنا الأقرب ييسره لنا بطريقة أو بأخرى. فهو كريم وقادر لا يعصى عليه شيء. ومحظوظون الذين يثقون به ويؤمنون ضمناً أنه يعمل من أجلهم. إنه استثمار رائع والربح مضمون!

جميل تشبيهك لنفسك بالطيور التي تهجع وتسكن عندما تغيب الشمس. الطيور هنا خير دليل على التناغم مع الطبيعة.

أعتقد أن نبض الحياة يختلف عندكم عما هو عليه هنا. طبعاً الطيور هنا ما زالت محافظة على طبيعتها وإيقاعها. فهي بالفعل تخف حركتها تدريجياً عند الغروب ولا تلبث أن تكف بصورة تامة عند ساعة معينة، حتى قبل حلول الظلام.

لدينا عشرات الأصناف من الطيور البرية التي تعتبر داجنة لأنها آمنة مطمئنة من بطش الإنسان. طبعاً توجد مواسم للصيد في الغابات، إنما هنا داخل المدن هي محمية من القوانين، والناس يهتمون بها كثيراً. إذ هناك محلات متخصصة في بيع تشكيلة واسعة من الحبوب لإطعام الطيور ومحلات أخرى لبيع مغاطس خاصة لها لتشرب وتبترد.

وما أروع منظرها في حديقة المنزل وهي تتنقل بين الزهور والأعشاب في فصلي الربيع والصيف وتتوافد أيضاً أسراباً في فصلي الخريف والشتاء، تزقزق فرحة بالحياة وتضفي لمسة بهجة وحيوية على البيت ومحيطه.

تزورنا الزرازير والعصافير والكاردينال وأبو زريق واليمام ذو النغمة الشجية والحسون أحياناً. اليوم وفي أحد مواقف السيارات رأيت سرباً من الإوز يتنقل براحة وطمأنينة دون أدنى خوف من أي خطر.

هناك قانون عام أكبر من كل العادات والتقاليد، وهو الذي يعرف النفوس ويعرف حاجاتها وتوجهاتها وما يلائمها.. مثلما يعرف القلوب ويقربها من بعضها بغض النظر عن الزمان والمكان. يجب أن نكون مخلصين مع أنفسنا أولا قبل إخلاصنا لأي عرف أو تقليد وإلا لانقلب ذلك الولاء إلى عبودية ومداجاة وإجحاف بحق نفوسنا.

طبعاً للتقاليد والعادات دورها ولا بأس من مراعاتها بالنسبة للمؤمنين بها. أما أن تعتبر مقدسة لا يمكن مخالفتها فهذه مسألة خلافية لأن الذين أوجدوا تلك التقاليد قد لا يكونوا بالضرورة متنورين حتى تصمد آراؤهم وعاداتهم لتقلبات الأيام ومحك الزمن.

لقد وهبنا الله الحرية ويريدنا أن نمارسها بالكيفية التي نرتاح لها ما دمنا لا نؤذي الآخرين من ممارسة تلك الحقوق.

أشكر كل من يحمل لي المشاعر الطيبة ونسأله تعالى أن يباركنا لما فيه الخير لأنفسنا وللآخرين.

 

الأبرار .. ودار البوار

--------------------

قال: هناك مسألة تؤرقني وأريد لها تعليلاً.

أجاب: وما هي؟

قال: أرى سائرين على دروب خاطئة "يريّشون" وينتشون، وطيبين لا يصيبون من النجاح نصيباً يُذكر.

أجاب: كثيراً ما يضل الناس في حكمهم على الأبرار والأشرار، إذ يحكمون بمقتضى الظاهر لأنهم لا يستطيعون الولوج إلى دواخل البشر ليعرفوا ماهية كل إنسان ويحيطوا علماً بنوايا قلبه وأفعاله السرية. أما الله فهو فاحص النوايا وكاشف الخبايا، وله وحده الحكم وتمييز الطيب من الخبيث.

قال: وهل هناك من طريقة للتمييز الصائب في هذه المسائل؟

أجاب: في حكمنا على السعادة والشقاء، إن لم نتصرف بالصواب نظن أن السعيد هو من تمتع بالغنى واليسار وأحرز الجاه ونال إكرام الناس وتنعم بملاهي الحياة وملذاتها، دون أن نعلم ما قد يقاسيه داخلياً من تبكيت للضمير عما ارتكبه من معاصٍ واقترفه من منكر وعن ظلم للآخرين وما شاكله، فتعتريه تعاسة باطنية وتعتوره أمراض مستعصية تجعل حياته مريرة وعينه غير قريرة نتيجة لأهوائه الماجنة وأنانيته الطاحنة. وقد تفاجئه بلايا هادمة ودواهٍ قاصمة لا يحسد عليها.

قال: وأين تكمن سعادة البار؟

أجاب: أولاً، إن نفس البار لا تتهافت على الخيرات الأرضية، ويكفيه سعادة شعوره بالرضى وبمعاملته المنصفة للناس وراحة ضميره وفرحه الروحي النابع من داخله والمتجدد دوماً، لا سيما عندما يتفكر بأن الله يثيبه في الآخرة ويمتعه بالأنوار الأبدية عوضاً عما فاته في دار البوار.

قال: ولماذا يعاني الأبرار أو بعضهم ويلاقون عنتاً في الدنيا؟

أجاب: إن الله يفتقد أحباءه أحياناً بضروب من الألم والمعاناة ليس عقاباً لهم بل ليمحصهم في نار التجارب تمحيص الذهب. والبلايا التي تلمّ بهم تقوّيهم وتظهر استحقاقهم الأدبي وتجعل محبتهم لربهم وللناس صافية.. ضافية.. وأيمانهم راسخاً لا يتزعزع.

كثّر الله من أمثال الأبرار والأخيار في الدنيا

والسلام عليكم أصدقائي

الدر النظيم بتصرف

 

في الحركة بركة.. و تهلكة

لقد أضفت كلمة (تهلكة) إلى المثل الشعبي المعروف، إذ بدا لي أن ليست كل الحركات تنطوي على بركات، إذ بعضها يأتي بنتائج ليست غير مباركة وحسب بل ذات أثر مهلك على أكثر من صعيد.

الحركة في الإنسان لا تتولد من تلقاء ذاتها، باستثناء بعض حركات ربما أثناء النوم أو السرنمة (السير أثناء النوم ) بتوجيه من اللاشعور. ما عدا ذلك فهي مدفوعة بنية وإرادة لتحقيق هدف محدد.

هذه الحركة هي حيادية بحد ذاتها لأنها مجرد أداة غير واعية تعمل استجابة لأوامر الجهاز الحركي عند الإنسان، والذي بدوره يتلقى الأوامر من الفكر وينفذها.

عندما تُستخدم الحركة في مساعدة الآخرين

ورفع الأعباء عن كاهلهم

وتوظيف الأدوات الحسية في تحسين الأوضاع

على المستويين المادي والمعنوي

واستجلاب كل ما من شأنه أن يبعث الراحة في النفوس

والطمأنينة في القلوب

ويوفر ضرورات العيش، وليس بالضرورة كمالياته

فهي بركة من الله والملائكة والأنبياء والأولياء.

أما إن استُخدمت الحركة في الإيلام

والأذى و تصديع القلوب

واستغلال طاقات الآخر الفكرية أو المادية

دون إذن منه أو رضاه

فالنتيجة لن تكون مباركة

وبالإمكان عندئذ القول:

"في الحركة تهلكة"

طوبى لمن وظّف حركاته وتحركاته في عمل الخير ومرضاة الله:

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} (آل عمران)

وفي الحديث الشريف:

«يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِد.ٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»

ويفيدنا الإمام علي كرّم الله وجهه من مخزون علمه حكمة إذ يقول:

{شتان بين عملين: عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره}

 

الكوكبـــــــة

-------------

 

هي مجموعة من نجوم ذات تشكيلات بديعة

تُعرف فلكياً بأسماء مختلفة مثل حامل رأس الغول

والنسر الطائر والنسر الواقع ومنكب الجوزاء

والكف الخضيب والشعرى اليمانية

وفم الحوت والرجل الجبار.. وغيرها.

 

والكوكبة الزاخرة بالأسرار

تشد إليها الأنظار

ربما لبعدها السحيق..

ربما لما يكتنفها من غموض..

ربما لصمتها الأبدي..

أو لوميضها الغريب..

وربما...

لجعلها المرء يرفع بصره عن الأرض

ليرنو إلى ما هو أعلى وأجلى وأحلى.

 

والكوكبة كلمة جميلة تستوحي عذوبتها

من تلك الظاهرة الفلكية

ذات الحضور المشع والجمال المؤتلق.

 

وهكذا أنتم يا أصدقاء

كوكبة من نجوم زاهرة

في سماء الحياة.

 

فتحية لكم أينما كنتم

ومودة من الأعماق إلى الآفاق.

 

العنكبوت الصامت الصابر

--------------------------

طلب مني صديقي الأستاذ الألمعي فهمي المشايخي مقدم برنامج (قيادة الذات) كي أترجم بعض قصائد للشاعر الأمريكي الكبير والت ويتمان. ونزولاً عند رغبته العزيزة فقد اخترت هذه القصيدة وأود أن أهدي الترجمة له ولجميع محبي الأدب الرفيع والإيحاءات السامية.

على الصخرة الشاطئية ذات النتوء الصغير البارز

حيث وقف العنكبوت وحيداً بمفرده

وضعتُ علامة لأميّز مكانه

وكان الغرض من تلك العلامة

معرفة الطريقة التي سيستكتشف بواسطتها

محيطه الشاسع وسط الفراغ الفضائي الرحيب.

فأطلق من ذاته سلكاً رفيعاً ، تبعه بسلك آخر، ثم بآخر

وظل يحل بَكرة خيوطه بسرعة مذهلة

دون أن يتطرق إليه الإعياء.

وأنتِ يا نفسي، يا من تقفين محاطة بخضم لا متناهي

من فضاء سحيق لا حد لأبعاده ولا انتهاء

وتستغرقين دون انقطاع في التفكير والإستبصار

أراكِ تنطلقين في مغامرات..

تطلقين الأفكار والطاقات..

تبحثين عن العوالم والأفلاك ..

علكِ ترتبطي بها برباط وثيق

حتى يتسنى لكِ بناء الجسر الذي له تحتاجين

وتستقر سفينتك بمرساة التثبيت

إلى أن يتمكن خيطك الرفيع الذي تطلقينه بعيداً عنك

من الإمساك بشيء ما

في مكان ما

يا نفسي!

Walt Whitman

 

لا نعرف إسمه.. لكنه قال:

----------------------------

رغبتي اليومية هي..

أن أستيقظ كل صباح

بوجه تعلوه ابتسامة الرضا..

وأن أستقبل نهاري بقلب طافح بالشكر.. مفعم بالإمتنان

للفرص التي يحملها لي في تضاعيفه..

وأن أباشر عملي بمزاج رائق وفكر صافٍ..

محتفظاً بغاية الحياة أبداً أمام عينيّ

حتى أثناء عمل الأشياء الصغيرة.

وأن أقابل الناس.. رجالاً ونساءً

ببسمة على محياي وبشعور ودّي في قلبي..

وأن أكون رقيقاً ولطيفاً مع الجميع

طوال ساعات النهار..

وأن أستقبل الليل بتلك الطمأنينة

التي تستقطب الكرى للجفون

بفضل الجهد المبذول في أداء الواجبات

وإتمام الأعمال.


المؤلف: غير معروف


 

حوارية النصيب

------------------

قال: ما السبيل إلى مضاعفة نصيبي من نِعم الحياة؟

أجاب: لا تدع ما يصلك منها يتوقف عندك

بل دعه أو بعضاً منه يتجاوزك إلى سواك وبذلك يتواصل الجريان.

قال: وماذا لو استبقيت لنفسي على كل ما أحصل عليه؟

أجاب: بهذه الطريقة تحبس الجدول فتصبح مياهه آسنة

وسيضطر الجدول الذي لا يطيق الإحتباس إلى تغيير مجراه

وبالتالي "تروح عليك".

قال: فلنغير الحديث قليلاً.. من أين تبزغ الأيام؟

أجاب: من قلب الأزل.

قال: وهل تتكلم الأيام، وإن فعلتْ ماذا تقول؟

أجاب: نعم.. هي تتكلم وتقول لمن يفهم لغتها:

ماذا أنت فاعل في هذا اليوم قبل أن يعود ثانية إلى الأزل

وتعجز عن اللحاق به أو استعادته؟

قال: هل صحيح أن بمقدور الإنسان أن يصبح وسيلة في يد خالقه؟

أجاب: بالتأكيد.

قال: وكيف ذلك؟

أجاب: بالعمل في حقول ومصانع الحياة

لإنتاج كل ما من شأنه أن يفيد الناس ويسعدهم

وعن المعاناة يبعدهم.

قال: ما هي أنسب طريقة للتغلب على ظروف الحياة الصعبة؟

أجاب: الإيمان صانع المعجزات

والتفاؤل جلاّب الخيرات.

RE 5-22

 

شد الحبل الداخلي

----------------------

نعلم ماهية لعبة شد الحبل، ولا بد أن البعض منا مارسها في حياته، وربما تقشّرت بشرة كفيه وتفصّد عرقه جراء ذلك.

إنما عنّ لي اليوم أن أكتب عن لعبة شد حبل من نوع آخر:

إنها لعبة غير منظورة لا تتوقف داخل الإنسان..

وفريقاها هما قوىً تتصارع على ساحة وعيه لإحراز الغلبة

وإدارة دفة الحياة وتسييرها في أحد اتجاهين.

والمرء الذي تدور اللعبة على ساحة وعيه هو الشاهد

وله القدرة على تغليب فريق على آخر إن هو أراد ذلك.

لكم أن تتصورا فريقين اثنين لا يكلان ولا يملان من هذه اللعبة ليل نهار.

الفريق الأول يتألف من:

المحبة والصدق والأمانة والإيمان والإستقامة ونقاء الضمير

والإرادة الطيبة وضبط النفس وحب المساعدة واحترام حق الآخر،

والقائمة تطول..

والفريق الثاني يتكون من:

الكراهية والكذب والغش والإلحاد والإلتواء والنوايا السيئة

والتحلل من الإلتزامات الأدبية والإحتيال وتهميش الآخر وسلبه حقوقه، والقائمة تطول أيضاً..

وكل فريق ينخي أفراده بعضهم بعضاً قائلين:

شدّوا.. وشدّوا الهمة يا شباب!

وقيمة الإنسان تتوقف على تغلّب أحد الفريقين على الآخر.

فإن كان الفوز للفريق الأول عاش الإنسان بكرامة واستحق التقدير والإعتبار.

أما إن كانت الغلبة من نصيب الفريق الثاني انحدر المرء إلى مستويات دون المقام الإنساني.

الفريق الأول يعتصم بحبل الله المتين والمبارك

والفريق الثاني يتمسك بحبل الأنانية القاتلة.

جعلنا الله وإياكم من مشجعي الفريق الأول، المتمنين له الفوز

 

مسحة رسول

---------------

لا تتكون الحياة بالضرورة من واجبات كبيرة

أو تضحيات جسام

بل من أعمال صغيرة

حيث البسمات الودية والعبارات الندية

والخدمات المتواضعة

لطالبيها أو الراغبين بها.

هذه المكونات الكريمة

تكسب القلوب

وتعزز النسيج العائلي والإجتماعي

وتسعد العاطي والمتقبل على حد سواء.

إن استعمال الكلمات المناسبة

وبطريقة لبقة

هو فن بحد ذاته

وهذا الفن لن يصبح موضة قديمة (أولد فاشن)

ولن يعفو عليه الزمن

ولن يُخفق في تلطيف الخواطر وتقريب القلوب..

وإلى ذلك فهو في متناول الناس.. كل الناس دون استثناء.

إن غاية كل التعاليم السماوية والأفكار الراقية

هي تعزيز المحبة

ونشر السلام

وبث نوايا الخير والإرادة الطيبة بين الناس

ومن واجب الجميع تنمية وتغذية

هذه العناصر الحيوية

التي على الرغم من بساطتها

تمتلك قوة خيّرة

يشار إليها أحياناً بالعبارة المستعذبة "مسحة رسول"

تروّض الطبع الشرس

وتسلب المزاج الحاد حدته

وتحوّل مقذوفات الكلام

من خردق ورصاص

إلى أوراق ورد وحبّات أرز.

 

ضيف مُرحّب به

----------------

هذا الضيف اللطيف

لا تراه العين بل يشعر به القلب

كفرح أو فرَج ٍ يبدد الحيرة

ويواسي القلوب الكسيرة

ويمنح الفهم للتعامل بصوابية مع المواقف الحرجة.

والشعور بذلك الضيف مقترن بفتح الباب له ودعوته بالدخول..

والدعوة يجب أن تكون صادقة وصادرة عن تلهف للإستقبال

فيها من الشوق ما يماثل الرغبة القوية

التي أحس بها "القصّاد" أو المنشد الجبلي عندما أطلقها بحرارة:

(شرّفني زيارة وغيّر العادة.. قلبي من جوّا فاتح لك بابه)

الفرح الحقيقي ليس من صنع العقل أو الخيال

إنه عنصر أثيري شفاف له مصدر

وذلك المصدر ذاتي التجدد لا يقرب النقصان ساحته

ولا يوجد من لم يتذوق ولو جرعة صغيرة منه

ومدى الإحساس به يتوقف على قوة التقبل وطاقة الإستيعاب.

فهو بحر لا قدرة لكل المخلوقات على استهلاكه

لأن مصدره لا يخضع للتناهي بل متصل بالمطلق اللامتناهي

وقد شبّهوا به السخاء والأسخياء.

وهنا تحضرني حكاية ذلك الرجل الفقير الذي تبع بعض الشعراء

وهم في طريقهم إلى الخليفة في مصر، وكان قد استدعاهم ليخلع عليهم.. وكانت مع الفقير جرّة، فما أن دخلوا دار الخلافة ومثلوا أمام الخليفة حتى راح يوزع عليهم الهبات السنية. ثم نظر إلى المعدم بأسماله الرثة وسأله:

وأنت ما الذي أتى بك إلينا وما هي حاجتك لنا؟

فأجابه:

لما رأيت القومَ شدوا رحالهم

إلى بحرك الطامي أتيت بجرّتي

فقال الخليفة: إملأوا له الجرة ذهباً وفضة.

ذلك الخليفة لم يكن بحراً مقارنة ببحر الجود الكوني بل نقطة منه.

وإن كان بيتاً من الشعر استحث أريحيته وحرّك سخاءه إلى هذا الحد وهو بشر فلا بد أن أي التماس صادق لمنبع الجود وبحر الكرم الإلهي سيلقى قبولاً وتحقيقاً.. وسيتكرر العطاء حتى الرضاء..

 RE 2-22

 

حوار بين إبن وأبيه...

----------------------

سأل الإبن أباه: كأنني أرى في عينيك ابتسامة يا بابا.. فما سرّها؟

أجاب: لأنني أشعر براحة عميقة.

قال: أفصح! ماذا يحدث بالضبط؟

أجاب: تتسرب إلى قلبي طمأنينة فتنعكس ابتسامة في العينين قبل الوجه .

قال: وهل هذا كل شيء؟

أجاب: تتيقظ ذكريات.

قال: وما نوع تلك الذكريات؟

أجاب: عذبة تبعث في الخلايا النشاط.

قال: وكيف يحدث ذلك؟

أجاب: الفكر يا ابني قوة كالكهرباء والحالات النفسية تعود إلى الفكر وطريقة التفكير.

قال: ماذا تقصد بقولك "قوة كالكهرباء"؟

أجاب: الكهرباء نافعة وضارة.. من يحسن التصرف بها تكون في خدمته وإلا فقد تصعقه.

قال: وما هو وجه المقارنة؟

أجاب: الفكر أيضاً إن وجّهته في مسارات صحيحة يجعلك سعيداً وإلا فيجلب عليك الويلات.

قال: وكيف يمكنني توجيهه وهو كالحصان الجامح؟

أجاب: هذا ليس مستحيلاً، إذ إن اكتسبت خبرة بطبائع الخيول، عندئذ ستحسن سياستها حتى ولو كانت جامحة رامحة.

قال: يقولون أن الصديق من أقرب المقربين إلى الشخص، فهل هذا صحيح؟

أجاب: بكل تأكيد.

قال: إذاً الفكر صديق لأنه في منتهى القرب من الإنسان.

أجاب: نعم و لا.

قال: وكيف ذلك؟

أجاب: الفكر السليم صديق حميم والفكر السقيم عدو مقيم.

قال: وكيف ذلك؟

أجاب: الفكر السليم يجذب السلام والسلامة والفكر السقيم يطلق سهاماً فتّاكه فترتد على صاحبه مضاعفة – ضاعف الله حسناتك - ولذا قيل الجزاء من نوع العمل.

قال: وكيف يمكن تفادي ذلك؟

أجاب: ما دمت تتمنى الخير للغير وتطلب من الله لهم العون والهداية ستتحول أفكارك إلى مشاعل تنير حجرات النفس وتطرد أكداس الظلام.

قال: وماذا يحدث إذ ذاك؟

أجاب: ستشعر عندئذ براحة عميقة.. وستبتسم عيناك!

 

January, 2013

RE 2-22