من حصاد الأيام ٣


أقوال ومأثورات وقصص

إعداد ووضع وترجمة

محمود عباس مسعود

 

"من محطتك المباركة أستمع يوميا لأنغامك الأثيرية الناعمة التي تعصى على الوصف، لكنها ألحان مألوفة وعزيزة على قلبي. حاولت بادئ الأمر أن ألتقط برنامجك الرائع ولكن مجاله كان يبدو أبعد من أن يتمكن جهاز عقلي من استقباله. ولكن بعدة لمسات دقيقة لقـُرص التأمل أتيتَ فجأة على أمواج الأثير، فسمعتك تعزف ألحان الأرض الطيبة والقلوب السامية النبيلة."

الحكيم برمهنسا

 

هديتي لكم للعام الجديد

----------------------------

هل يعتمل في داخلك طموح تأمل في تحقيقه؟

ولو أتيح لك اليوم أن تبدأ الحياة من جديد فماذا عساك تفعل؟

الحياة تمنحك هذا الخيار، وعجينة الزمن الخزفية اللدنة بين يديك لتشكّلها كما يحلو لك.

الإنجازات التي تبدو صعبة التحقيق غالباً ما يكون تحقيقها أقرب للمنطق والواقع. وما ظننت أنه ليس بمقدورك عمله .. إبدأ بعمله الآن! اطرح جانباً قيود العادات التي فرضْتها على نفسك، وأصخ السمع لهمس الباطن.

الحياة تحمل مفاجآت سارة للذين يحفرون عميقاً في بئر الذات.

ما من هدف يمكن تحقيقه في يوم واحد.. وكلمة السر هي أن تبدأ الآن وليس غداً.

إبدأ على بركة الله! فهذه اللحظة السحرية هي المفتاح لكهف الفرص المليء بالكنوز.

افتح خزان إبداعك الذي تغذيه دائماً وأبداً منابع لانهائية لا ينضب معينها ولا يتضاءل مددها.

القدرة تعني المسؤولية، والموهبة الكامنة هي نبتة مثمرة وضعتها الحياة أمانة بين يديك كي تتعهدها بالرعاية. فلا تدعها تذبل وتذوى في تربة التسويف القاحلة.

الحياة تطلب منك أن تجني بأمانة ثمار ما غرسَته يداها في حقلك. وكل ما تحتاج إليه من أدوات هو بين يديك. فميّز رعاك الله تلك الأدوات بعين البصيرة المتيقظة.

لا تعمل بجهد متوتر تشوبه الرغبة في التحصيل، بل اعمل بهدوء وارتياح وفرح..

ولا ترغب في الهدف أكثر من رغبتك في العمل على تحقيقه.

وبفكر متحفز ويدين تحركهما المحبة، انسج أنماط النجاح بخيوط الحاضر الذهبية.

أما إن أخفقتَ في مجهودك، فلا تشعر بالخيبة ولا تدع الإحباط يتسلل إليك..

بل بقلب غني بالفهم

ويدٍ رشيقة بالمرونة

وعين صافية بالرؤية الجلية

إبدأ من جديد واستبشر خيراً.

في قلب البذرة تكمن الزهرة، ولكن هل تعرف البذرة بدايتها أو نهايتها؟

لكنها إذ تستجمع ما يمكنها من دفء ورطوبة

يتمدد قلب كيانها ليتفتح عن زهرة ناضرة

تبسم للشمس وتحييّها ببهجة الحياة وفرح الإنجاز.

وها هي الحياة تناديك.. تتودد إليك.. وتنخيك للعمل..

فهلا سمعت نداءها واستجبت لتشجيعها؟!

وهلا أدرتَ وجهك للضياء

أضاء الله وجهك بنوره

وحقق أحلامك في العام الجديد.

وكل عام وأنتم بخير أصدقائي!

East-West Magazine

RE - 1/23


 

حديث الفلاسفة السبعة عن الإنسان

------------------------------------------

قال الفيلسوف الأول:

الإنسان هو ذروة التاريخ وغاية الشعر والرباط الحي والطليق الذي يربط الطبيعة بالله.

وقال الفيلسوف الثاني:

دعنا لا نقلل من شأن الإنسان أو نحط من كرامته، إذ بالرغم من انحداره من أسمى المدركات إلى أسفل الدَركات، لكنه ما زال يحمل في روحه آثاراً من ذلك المجد الأولي والروعة الفائقة – فهو وإن كان يشبه أعمدة محطمة لمعبد قديم، لكن روعة المعبد تبدو حتى في آثاره المتناثرة.

وقال الفيلسوف الثالث:

ما أفقر الإنسان وما أغناه!

وما أتعسه وما أبهاه!

ما أشد تعقيده وما أروع بساطته!

وقال الفيلسوف الرابع:

الإنسان كتلة من الفوضى والتناقض والأضداد على اختلافها. فمع أنه مستودع الحقائق وحارس الحكمة الأزلية لكن الشكوك تغلفه والحيرة تحجب رؤيته.. وإلى ذلك فهو دائم التوجس من المجهول. إنه فـَخار وعار الكون في آن واحد.

وقال الفيلسوف الخامس:

رغبات الإنسان لا تقف عند حد ويعجز عن تحقيقها أي ثراء مهما كان عريضاً.. ولن يستقر حاله أو يهدأ باله ما لم يدرك غايته التي هي التناغم مع خالقه والتنعم بالقرب منه في كل لحظة من لحظات عمره.

وقال الفيلسوف السادس:

الإنسان إنسانٌ ليس بأمانيه بل بعمله الدؤوب على تحقيق أنبلها.. وليس برغباته الكثيرة بل بفرز صالحها عن طالحها وتحقيق الطيب منها والمفيد لنفسه ولمجتمعه.

وقال الفيلسوف السابع:

الإنسان فقاعة عائمة على سطح النهر الكوني الدائم الجريان في أرض الله.. بعض الفقاعات أشد لمعاناً من سواها، لكنها كلها ستنفجر في النهاية وتذوب في النهر المتجه أبداً نحو البحر الكوني الذي لا ساحل له.

 

يقول الحكماء...

لكي يكون الإنسان نافعاً في الحياة

يجب أن يحرر نفسه من كل النوايا الخبيثة

والمشاعر المؤذية وحب الإنتقام.

وحتى السخط المبرر

يجب أن لا يُنزل المحبة عن عرشها.

فالمحبة يجب أن تسود المشاعر

وتكون أساس التعامل بين البشر. RE 1/22

في الحياة أمور واهتمامات أفضل بما لا يقاس

من تغذية مشاعر الحقد والكراهية

والتخطيط لإلحاق الأذى بالآخر والإيقاع به

واستمطار نيران الجحيم

حتى على الذين يتصرفون بكيفية

لا تليق بالمقام الإنساني الشريف.

ألا ليت الإنسان يتوقف عن إيقاد وتضخيم الشرور

ويستخدم بدلا من ذلك عين الرضا

التي وهبها له الخالق عزو وجل

للتركيز على الخير لنفسه وللآخرين..

لأن حصر الفكر والمشاعر بالكراهية

يعني تعطيل أدوات الخير

التي امتن بها الله على الإنسان كي يستخدمها

إبان رحلته القصيرة إلى هذه الأرض.

التركيز المغلوط يؤدي إلى تحجّر القلوب

وإلى إيقاظ الظنون السيئة والأحاسيس العدائية

التي إن هي ترسخت في القلب يصعب التخلص منها.

تلك حالة بائسة تحوّل فيها النظرة السوداوية - الصفراوية

كل مليح إلى قبيح، وكل بديع إلى وضيع

فتصبح حتى أدوات الصحة وسائلَ لصنع

السموم والمرض المشؤوم..

وذلك هو الجحيم.

أبعدنا الله وإياكم عنه

وعن شرره وشروره يا أصدقاء.

 

طلبتَ شعراً من أخيكَ الهاجر ِ

يا ربي عونَكَ كي أجسّدَ خاطري

فيجيءُ قوليَ نابعاً من مهجتي

ويكونُ شعري ترجمانَ مشاعري

وتكونُ ألفاظُ القريضِ ناطقة ْ

بالصدق ِ مشحونة ْ بشوق ٍ عاطر ِ

حتى إذا طالعتها أحسستني

ولمستَ بالوجدان ِ عمقَ أواصري!

يا صاحبي ما زلتُ أحفظُ عهدكَ

وأخصُ شخصكَ باشتياقٍ وافر ِ

وأراكَ كالواحه ْ الظليله ْ الوارفه ْ

تتفجرُ دوماً بماءٍ زاخر ِ

كم أشتهي يا صاحبي لو نلتقي

ونعيدُ قسطاً من زمان ٍ غابر ِ

أيامَ كنا نملأ ُ أجواءنا

بالبهجةِ حتى الصباح الباكر ِ

ونسيرُ والبدرُ يطلُ باسماً

يرنو إلينا مثلَ وجهٍ سافرِ

لا أدري كيف قد تفرّق شملنا

والماضي قد أمسى حديثَ الطائر ِ

يرويهِ إذ يشدو على أغصانهِ

والروضُ يحكيه بزهر ٍ ناضر ِ

تلك العهودُ قد توسّدَ ذكرُها

طيّ الفؤادِ والشعور ِ الغامر ِ

ويظلُ شخصُـكَ ساكناً في خافقي

وأراهُ دوماً ماثلا ً في ناظري.

محمود

 

خيوط رفيعة ودقيقة

------------------------

إن ما يقرّب القلوب من بعضها هو نوع من الجذب المغناطيسي

عبر خيوط رفيعة ودقيقة، غير مرئية لكنها موجودة فعلاً وهي بمثابة

الأسلاك الناقلة لتلك المشاعر الودية التي يحسها الناس نحو بعضهم.

وأظن أنها نفس الخيوط التي عبّر عنها شكسبير مجازياً في إحدى

رواياته عندما قال "أما أصدقاؤك الأوفياء فشدّهم إليك بكلابات فولاذية"

وما عناه هو شدّهم إليك وقرّبهم منك بوشائج غاية في المتانة.

هذه الوشائج هي بالتأكيد وجدانية، لا تقع تحت قياس، لكنها محسوسة وملموسة.. يشعر بوجودها الأصدقاء والمحبون ويتواصلون عبرها.

قلت إن هذه الخيوط رقيقة وفي نفس الوقت هي غاية في المتانة

ولا شيء يقوى على تقطيعها سوى عناصر لا مادية، من نفس طبيعتها.. وبذلك أعني طلقات فكرية غير ودية ناجمة عن سوء ظن، تصيبها فترضّها وتوهنها ثم تقطعها. ونظراً لدقتها اللامتناهية، فإن تنسّلت تلك الخيوط وتهرّأت تنفصم عراها ويصبح من الصعب إعادة وصلها وهذا ما يدعوه الناس بالقطيعة.

جعل الله خيوط المودة حبالاً متينة

بين النفوس الصادقة الأمينة

وأدامها أسلاكاً صالحة ومدوزنة

لنقل أنبل المشاعر وأرخم الأنغام

بين القلوب والنفوس.

 

ردود على رسائل القراء 

 

على مدى سنين تلقيت مئات الرسائل من قراء ومستفسرين وطالبي مشورة ومعلقين على كتاباتي، وقد ارتأيت نشر بعض تلك الردود مع التحفظ على هوية المرسلة إليهم احتراماً للخصوصية. وليكن هذا الرد الأول بمثابة منشور التجربة، فإن ارتأيتم الإستمرار فالرجاء الإشارة لذلك مع خالص المودة والتقدير لأصحاب الرسائل وللجميع. وعليكم السلام

 

...النية هي المسؤولة عن كل ما يصدر عن الإنسان. ولكن النية ليست القوة الوحيدة في الإنسان إذ هناك قوى أخرى تؤثر، لدى تفعيلها، على النية فتستجيب لها.

النية لا تأتي بفكرة وللإنسان القدرة على صناعة نيته والسيطرة عليها، لكن هذا يتطلب مراساً وتصميماً، ما عدا ذلك تبدو النية متحررة من أي سلطة فتسرح وتمرح وتتخذ القرار دون الرجوع إلى مرجع آخر.

بالنسبة لعبارتك (هل يمكننا القول للإنسان كن كما أنت) بإمكاننا تبصير الإنسان بالقوى التي يمتلكها – طبعاً قوى الخير - وتشجيعه على إيقاظها والإستفادة منها. الإنسان خيّر في طبيعته وعندما يتناغم مع مصدره يظهر طبيعته السوية التي غالباً ما تكسفها مؤثرات داخل وخارج نفسه.

تقول (غالباً ما أخشى الطاقات السيئة حين أشعر بالحقد) هذه الخشية في محلها وهي بنـّاءة وبمثابة تنبيه إلى وجوب مراجعة الحساب وتعديل وجهة السير. أما بخصوص شعورك بأن المواقف السيئة تنتظرك إن كذبت، هذه حقيقة مؤكدة تنطبق على الجميع.

قلتُ أن الإنسان خيّر في طبيعته. وكلمة خيّر تشمل جملة من المزايا الإيجابية من بينها الصدق الذي له أساس كوني راسخ لا يتغير ولا يتزحزح. وهذا الأساس كان منذ البدء وسيبقى كذلك ما دام على الأرض بشر. الكذب لا أساس له وعندما يكذب الإنسان يخلق انحرافاً مفتعلا في طبيعته.

المسار مرسوم لصالح الإنسان. الصدق هنا بمثابة خريطة للمسافر ويحتاج إليها في كل مرحلة من مراحل سفره حتى يبلغ مقصده. الكذب هنا كالسفر في منطقة غير مألوفة المعالم. وعندما يكذب الشخص فإنه يعرّض نفسه لمخاطر شتى. والمواقف السيئة والمحرجة التي ذكرتها هي نتيجة طبيعية لانتهاج شيء غير طبيعي أصلا. فالجزاء من نوع العمل والإنسان صانع قدره.

تسأل ما العمل؟ والجواب هو الإصغاء للصوت الداخلي الذي غالباً ما يقوم الإنسان بإسكاته عمداً حتى لا يسمع أية معارضة لما تمليه عليه رغباته وأهواؤه. الصوت الباطني هو دائم التوجيه والإرشاد تماماً كميزة الإرشاد الآلي للسائقين في السيارات العصرية.

بالنسبة لسؤالك: (هل يمكن للإنسان أن يمتلك الذوق والرقي إن لم يكن صادقا؟ً)

طبعاً هو قد يظن ذلك والآخرون قد ينخدعون بذلك الذوق والرقي، لكن الصادقين – لا سيما الأذكياء منهم - لهم أسلوبهم الخاص في تقييم الذوق والرقي فلا تخدعهم المظاهر بل يعمل عنصر الصدق لديهم كجهاز لكشف الكذب.

شكراً على اهتمامك وأسئلتك الذكية. وتحيتي لك.

 

...وأنت بخير وإن شاء الله يعاد عليك وعلى أحبائك بالخير والبركة.

بالنسبة لكتابي (من وحي المهجر) فيفترض أن يكون قد تم طبعه لأنني أعطيت الموافقة الأخيرة بالطباعة بعد التنقيح النهائي.

سيصدر الكتاب في إحدى دول الخليج وسيتم توزيعه عن طريق موزع معتمد. ستحدث اتصالات مجددة خلال هذا الإسبوع لمعرفة آخر المستجدات وسأخبرك فور صدوره وعن كيفية الحصول على نسخة منه.

رائع أنك اختبرت تلك الحالة الرومانسية تجاه أصدقائك وشعورك بموجة من الحب تجاههم. أما الرسالة الجماعية التي أرسلتها لهم فهذا دليل على نواياك الطيبة التي هي الركيزة الأساسية للشخصية الناجحة. وسواء أجاب الآخرون عليها أم لم يفعلوا فإن الذي عليك فعلته وبرهنت لهم ولنفسك أنك تحبهم وتريد لهم الخير.

إن محاولتك التغاضي عن سلبياتهم والتركيز على الإيجابيات فيهم هو دليل آخر على أنك سائر في الطريق السليم وأنك بذلك تخدم نفسك قبل أن تخدمهم. لا بد أن ما تقوم به يجعلك تشعر بالراحة النفسية والبهجة الباطنية وهذا دليل على أنك على صواب فيما تفعله.

بالنسبة لـ... فافعل ما ترتاح له. بإمكانك على الأقل أن تجعل الجميع يشعرون أنك لا تحمل لهم أي مشاعر غير طيبة بغض النظر عن طريقة تعاملك معهم.

ومحبتي لك أيضاً وتقديري لمشاعرك الطيبة نحوي.

فالله يباركك ويملأ حياتك بالنور ويسهل دروبك ويقويك ويحقق أمانيك.

وعليك السلام من محب روحك.

 

...أوافقك الرأي أن الإبداع ينطبق على الأشياء الجميلة أصلا وكل ما يحمل الخير في طياته. أما ما تفضلت به من الأعمال الخارقة بالمعنى العلمي والتقني والتي لا نفع للبشرية منها فبإمكاننا تصنيفها على أنها توظيف مغلوط للإبداع وهي أقرب إلى البدعة من الإبداع.

بخصوص قولك أن بعض المبدعين منحهم الله موهبة خاصة، لعلني أضيف أنه إضافة إلى الهبة الإلهية الممنوحة لهؤلاء المبدعين فإن للمجهود الذاتي أيضاً دوراً محورياً في تطوير القدرات الإبداعية.

...لقد اقترن هذا المبدأ الإنساني النبيل بأسماء كبيرة تركت أثراً بالغاً في عمق الضمير العالمي وبصمات لا تمحى على صفحات التاريخ الإنساني.

عرض رائع لفلسفة، بل لحقيقة، اللاعنف التي هي قوة جبارة إن هي فـُهمت واستخدمت على الوجه الصحيح.

تحياتي لك وعليك السلام


أهلا بك وبآرائك النيرة.

حقاً أننا نلمح بل ونعيش الإبداع في شتى مناحي الحياة وفروع المعرفة. وما نراه ونلمسه لا يقف عند حد. فمع إشراقة وغروب شمس كل يوم يشهد العالم مبتكرات لم تكن معروفة من قبل، وكأن العقل الذي هو أسمى هبات الله للإنسان يأبى إلا أن يتفتق عن أشياء جديدة وبسرعة قياسية. منذ حوالي مائتين وعشرين عاماً قدح المخترعون الأمريكان زناد الفكر لابتكار آلة نسخ فتمكنوا من اختراع قلم مزدوج بحيث عندما يستعمل الشخص ذلك القلم يتم في نفس الوقت رسم الحروف على صفحة أخرى مما وفر الوقت والمجهود على الناسخين. وقد اعتبره آنذاك الرئيس توماس جفرسون اختراعاً مهماً. وما نشهده اليوم لم يخطر على بال هؤلاء المخترعين أو لربما خطر على بالهم لكن الوسائل لم تكن متاحة آنذاك.

شكراً على ثنائك الطيب وسلمت عينك عين الرضا وتحياتي الخالصة لك.

--------------------

الآنسة العزيزة أهلا ومرحباً بك

كما وعدت في ردي العاجل على رسالتك فها أنا أكتب إليك ثانية.

يسعدني أن الله أرشدك إلى التأمل والتفكير الروحاني ويسعدني أيضاً أنك تزورين موقع سويدا يوغا بوتيرة متكررة. فأهلا بكِ في الموقع وأرجو أن تعتبرينه موقعك وتشعري بالراحة والطمأنينة أثناء زيارتك له.

بالنسبة لما كنتِ عليه قبل التعرف على الموقع – أولاً لا بد أن أشكرك على صراحتك. وهذا دليل على ما تتمتعين به من جرأة أدبية ومن قلب طيب وفكر قوي.

أحياناً نتعلم بكيفية مضاعفة عندما نمر بتجارب صعبة ونلمس النتائج بأنفسنا. عندئذ نحاول تغيير النهج والمسار لتجنيب أنفسنا المزيد من المعاناة والألم.

الله سبحانه يعمل بطرق خفية ويريد الخير كل الخير للإنسان. هناك أناس على تناغم باطني مع الله ولو أنهم لا يشعرون بذلك. ونتيجة لهذا التناغم يستقطبون ظروفاً تساعدهم على الوصول إلى ما تصبو إليه نفوسهم. واضح أنك تحبين الله وتشعرين بندائه الخفي. ولهذا حصل هذا التواصل ... فالموقع هو لهؤلاء المتناغمين مع ذاتهم العليا أو على الأقل الراغبين صدقاً بذلك التناغم.

يسعدني قراءة رسائلك والإجابة على أي سؤال تسألينه.

مع تحيتي القلبية لك أينما كنتِ في دنيا الله الواسعة.

ودعائي بالتوفيق والسعادة والنور

وعليك السلام.

 

أعجبتني ملاحظتك الذكية. يقال أن لصاً سرق ساعة وعندما مثل أمام القاضي اعترف بالسرقة لكنه ابتدع تبريراً ظريفاً إذ أردف قائلا "سرقتها يا فضيلة القاضي لكي أعرف مواقيت الصلاة!"

بالنسبة لمن يخترعون طرقاً للقتل أو للتزوير أو للهدم قصد التخريب – المادي أو المعنوي - وليس بالضرورة لإعادة البناء، فما رأيك لو أعفيناهم من الإبداع وحصرنا إنجازهم في خانة الحيل والمكائد؟

أما بخصوص سؤالك عن إمكانية النفاذ إلى الإبداع من نافذة الشر. الدافع هنا هو الذي يقرر ما إذا كان الشخص مبدعاً أو دعياً. هناك مؤهلات واضحة للإبداع وهناك أيضاً من يحاول التزوير وصولاً إلى استحقاقات بطرق غير مشروعة. كما ترى، الحد الفاصل بين البدعة والإبداع دقيق وشفاف بحيث تكاد المساحات تتداخل والخطوط تتشابك. لكن لن يعدم المدققون التمييز بن الخيطين الأبيض والأسود.

تحياتي

------------------------------------

الحياة بمقوماتها الأساسية بسيطة، بل أن أحد الحكماء ذهب إلى القول بأن الله بسيط وكل ما عداه معقد. عندما يرغب الناس في التفاهم الفعلي وهدم الحواجز بينهم فإنهم يتحدثون إلى بعضهم ببساطة وعفوية، دون اللجوء إلى استعمال كلمات عويصة ومفاهيم مستغلقة تعيق التواصل وتخلق التشويش. وهل أجمل من أن يتكلم الجميع بكل أريحية ويشعر كل واحد بأن له الحق في فهم ما يُطرح من مواضيع بل ومعالجتها أيضاً كل حسب طاقته؟

أما ما تفضلت به من ضرورة امتلاك الصدق والضمير الحي للإبداع فقد أصبت الهدف في الصميم. شكراً وتحيتي لك.

 

الساعة الآن تقارب السادسة مساء. قد لا أتمكن من الكتابة ببعض الإسهاب الليلة إنما سأبعث برسالة فكرية. تذكرتك أيام العيد ورافقت بالفكر نشاطك.. رائع أن نكون ضيوفاً غير مرئيين يحس بنا أصدقاؤنا ونحس بتناغمهم معنا وشعورهم بحضورنا.

أتتني رسالتك .. ثم تبعتها الثانية مع بعض اهتمامات. آمل أن تكون ثقتك في محلها وأن تحسي دوماً أن هناك من يحمل لك المشاعر والنوايا الطيبة.. وتلك هي نعمة الصداقة وثمارها المباركة.

 

التغذية بأكثر من معنى

--------------------------

{ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّه}

لقد بلغ علم التغذية مرحلة متطورة، إذ تمكن الأخصائيون من تحديد الأغذية الصحيحة الملائمة ليس للصحة بوجه عام وحسب، بل أيضاً لتخفيف أو زيادة الوزن ولعلاج الأمراض المستعصية، واكتساب الرشاقة واللياقة البدنية، وتسهيل وتعزيز عملية الهضم والأيض، واستخلاص أكبر قدر ممكن من الطاقة من الأطعمة المستهلكة.

التغذية الصحيحة ضرورية لامتلاك الصحة الجيدة والبنية السليمة. ولا يسعنا إلا أن نبدي إعجابنا بجهود العلماء والأخصائيين في هذا المجال وتقديرنا العميق لهم.

الحكمة العريقة تؤكد أن العقل السليم في الجسم السليم. هذا دليل على الإرتباط العضوي الوثيق ما بين الجسم والعقل إذ يؤثر أحدهما بالآخر ما لم يكن العقل أقوى من المؤثرات والإعتبارات المادية.

فأبو العلاء المعري الذي اقتصر غذاؤه على العدس والتين كان عقله دائم التوهج والعطاء حتى آخر أيام حياته.

والمهاتما غاندي الذي أمضى جزءاً كبيراً من حياته في الصوم ظل مع ذلك يتمتع بعقل جبار لم تقوَ أعتى قوى الدنيا في عصره على قهره أو النيل منه.

والقديس افرنسيس الأسيزي أبدى ترفعاً تاماً عن الجسد ومتطلباته وكان عقله قوة عظمى غيّرت الكثير من المفاهيم الكنسية الآسنة وأعادت رسم الخريطة الروحية في أوروبا.

إن كانت التغذية الرديئة تؤثر سلباً على نمو الإنسان العقلي أو النفساني – وهذا أثبتته التجارب العلمية – فلا بد أيضاً أن العقل بدوره يؤثر تأثيراً مباشراً على صحة الإنسان سلباً أو إيجاباً.

الغذاء المادي يعرفه الناس جيداً ويركزون عليه تركيزاً دقيقاً نظراً لأهميته الحيوية والمباشرة لأجسامهم. أما الغذاء العقلي فلا يحظى بالضرورة بذلك الإهتمام ولذلك تبقى الإستفادة منه مقصورة على جهود فردية بالرغم من تأكيد البعض على أن العقل فوق المادة.

إن وضعنا الجسم والعقل في كفتيّ ميزان وحاولنا تحديد المغذيات الأساسية لكل منهما فمن المرجح أن قائمة مغذيات الجسم ستنال الحظ الأوفر وتكون بالتالي الكفة الراجحة.

فإن حاولنا استحداث قائمة بالمغذيات العقلية، لا تقل عن نظيرتها الجسدية..

وإن قيل لنا أن كل خاصية من الخصائص العقلية المغذية لا تقل شأناً عن عناصر التغذية الجسدية وطـُلب منا الإتيان بكل ما نعتقد أنه مغذٍ عقلياً فماذا سندوّن في تلك القائمة؟

سأضع الإيمان في رأس القائمة وأتبعه بالآتي:

التفكير الإيجابي الخلاق..

تحديد الأهداف والعزم على بلوغها..

النظرة غير المتحيزة..

الإنفتاح الوجداني على الآخر وعدم تسفيه رأيه..

الأماني الطيبة والنوايا السليمة..

الإحساس بالجمال..

استقلال الرأي.

طول البال..

التسامح..

التفاؤل والتطلع إلى الأحسن..

الثقة بالنفس..

الصمود أمام التحديات...

 

البطانية السابحة

------------------

قرأت هذه القصة منذ سنين، وها أنا أترجمها هنا وأعلق عليها:

في إحدى المرات كان صديقان يتمشيان على ضفة النهر

فأبصرا ما بدا لهما بطانية عائمة، فألقى أحدهما بنفسه في النهر

وسبح حتى وصل إلى "البطانية".

لكنه تأخر في العودة إلى الضفة، وقد لاحظ صديقه أنه يجد صعوبة

في معالجة "البطانية" وأنها سبب تأخر عودته فصاح به قائلاً: لماذا لا تتركها وتعود؟

فأجابه صديقه: هذا ما أحاوله ولكن البطانية تتشبث بي

ولا تسمح لي بالإفلات والعودة.

ولفرط دهشته أدرك بعد فوات الأوان أن ما ظنه بطانية لم يكن سوى دب سابح.

لا أعرف إن كانت القصة قد حدثت بالفعل أم لا، لكنني أجدها ذات دلالات وتنطبق على جوانب كثيرة من حياة الإنسان. وأرى أن المقصود منها هو التبصر وعدم الإندفاع إلى ما قد لا تحمد عقباه.

هذه البطانية قد تكون مجرد مفهوم عائم في نهر الفكر يتحول عند اكتماله إلى استحواذ طاغٍ يصعب السيطرة عليه..

أو قد تكون عادةً ضارة ما أن تترسخ في الدماغ حتى تضرب أطنابها وتمد جذورها وتصبح جزءاً لا يتجزأ من كيان المرء فيصبح أسيراً في قبضتها.

أو قد تكون استهواءً من نوع آخر.. استثمار في غير أوانه ومحله يؤدي إلى خسارات كبيرة، مادية ومعنوية..

أو قد تكون أيديولوجية تبدو منطقية وعملية فيعتنقها الشخص ويدرك بعد تتغلغلها في كيانه أن مخبرها يختلف كثيراً عن مظهرها..

أو قد تكون توجهاً أو انجرافاً غير محسوب العواقب..

أو قفزة في الظلام..

ولذلك قيل: قدّر لرجلكَ قبل الخطو موضعها.

 

أنشودة السائح

-----------------

أنتَ ينبوع المباهج والمسرات.

أنت جوهر الحب وجواهر الحكمة المتناثرة في حقول الأبدية.

أنت الحرية والتحرر من كل الأوهام.

أنتَ الوحدة المطلقة التي لا يعروها انفصام.

أنت الوعي الكوني الكلي..

أنت البداية والنهاية

والغاية التي ما بعدها غاية.

إنني سائح في أرضك وسائر على دروبك.

خذ بيدي ووجه خطاي إلى أقرب السبل المفضية إليك.

علني أبتهج بك إذ أتعرف عليك.

بساتينك المباركة ذات الأثمار الشهية تناديني لأرتادها وأستمتع بدانيات قطوفها.

ألا ما أعذب ثمار المعرفة وما ألذ رحيقها العرفاني!

فليتني أشتهي دوماً فاكهة الروح المغذية المنعشة

وأشرب من مياه السلام التي تفيض بها أنهار الحب المقدس.

امنحني نقاء القلب وصفاء الروح

واغسل كياني بمياهك المشعشعة من كل الشوائب والأدران

علني أتحسس حضورك وأبصر وجهك الجميل

الذي طالما تصورت حسنه البديع وحنـّت روحي شوقاً لرؤياه.

واملأ كياني بالشكر والامتنان ليدك الكريمة وأفضالك العميمة.

وليخفق قلبي بحبك ما دام في الوجود نجم يومض وقلب ينبض.

بارك أفكاري كي تتجه تلقائياً إليك علها تتبارك بجمال رؤيتك ورؤية جمالك.

وهبْ لي القدرة على التقاط ألحانك المتماوجة في رحب الأثير

علني أنتشي بأنغامها العلوية التي تشتاق الملائكة سماعَها.

ألا ليتني أحس بروحك المبارك في كل ذرة من ذرات كياني.

وأغذي مداركي بزادك الرباني الذي هو خبز الوجود

وفيه أكسير الحياة وسلسبيل الخلود.

يا لتني أستنشق أنسام حضورك السعيد في واحات الوجد والهيام

وأبصر نيّرات حبك متألقة في سماء روحي المتشوقة إليك.

 

الخير للجميع

--------------

أكاد أجزم أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الناس ووضعهم على هذه البسيطة أرادهم أن يعيشوا كأسرة واحدة متحابة، متعاضدة ومتعاونة على البر والتقوى، حيث يعمل الكل من أجل الفرد ويعمل الواحد في سبيل الجميع .

تصوروا مجتمعات تعيش بهذا المبدأ التعاوني حيث لا استغلال من أحد ولا إغفال لأحد.. حيث تسود ثقافة المحبة والعمل المثمر والعطاء والأخذ على قدر الطاقة والحاجة.. وحيث تفرح النفوس بالعطاء فرحها بالأخذ.. عندئذ سيعم الرخاء والرضاء وسيعيش الناس بسلام وسيعاينون مملكة الله على الأرض.

من خلق شيئاً فهو له، وكل ما خلقه الله هو لله، والإنسان يستخدم ما يُسمح له باستخدامه إبان إقامته الموقوتة على هذه الأرض، وحرية الإرادة هي المحك.

لا توجد فوضى في النظام الكوني القائم أصلاً على الدقة والتوازن والإنسجام..

والإنسان يقدّم أجلّ خدمة لنفسه ولغيره إن هو تناغم مع القانون الكوني الذي ينتظم كل ظواهر ومظاهر الحياة من أدق مكوناتها وحتى المجرات العملاقة المزمجرة في أدغال الفضاء اللامتناهي.

لقد أدرك الحكماء هذه الحقائق وأهابوا بالإنسان كي لا يحاول اختراق قوانين كلية القدرة لأنها منبثقة عن العلي القدير، ومن يحاول التصدي لها كناطح صخرة يوماً ليوهنها! وهذا يذكرنا بالقول - الموعظة: لا تعاند من إذا قالَ فعل.

هذا لا يعني الخوف غير المبرر من كائن مجهول يتربص بالإنسان الدوائر، بل إنها لنعمة كبرى أن يتوافق الإنسان مع قوى الحق والخير والنور والعدل لأنها عناصر ذات ديمومة أبدية وستعمل دوماً لصالحه.

ومن يتناغم معها أو لنقل يصادقها

سيشعر بحماية ذاتية أينما كان..

وبحرية لا تُسلب..

وبسلام عميق ومنعش..

وبغنىً دائم ..

وطمأنينة تفوق كل ما ابتكره وما قد يبتكره الإنسان

من أساليب وضعية محدودة القدرات وغير مكتملة المكونات

مهما بدت فذة لا تضاهى.

هذا ما خطر ببالي هذا المساء أصدقائي

مع المودة والتمنيات بالخير للجميع.

 

أكثر من الهم على القلب؟

-----------------------------

لا أنكر أن في الحياة الكثير من الهموم

ولذلك قيل "أكثر من الهم على القلب".

لكن القلب لم يُخلق ليحيا مهموماً

والذي خلقه وضع فيه منفذاً سرياً للإفلات من الهموم

التي هي من صنع الإنسان في الدرجة الأولى.

إن الله الحكيم العليم الذي خلق الإنسان في أحس تقويم

لقادر على تحرير الإنسان مما هو فيه

شرط أن يتوجه الإنسان برغبة قوية وصادقة وملحة

إلى ذلك المصدر المبارك الذي لا يعوزه شيء

بل فيه كل ما هو خّيرٌ نيّرٌ.. نافعٌ رافعٌ.. جديدٌ متجدد

لقومٍ يلتمسون، وعن المحاولة لا يكفّون.

قيل أن أحدهم كسر زجاجة وبدلاً من أن يتركها حيث تحطمت

لملم شظاياها ووضعها في عبّه فجرحته وأدمته

وهكذا هي الهموم التي تأويها الصدور تجرح وتدمي.

أما المنفَذ السري الذي أودعه الله في قلب الإنسان

فهو الثقة المطلقة بأن عين صانع القلوب لا تنام

ترعى الواثقين به المتأملين بعونه

وأن يده التي تعضد الأكوان قوية.. قوية

لتحمي محبيه وترد عنهم الحيف وتوقيهم الأذى

مهما بدت الظروف مغايرة ومخالفة للمعقول.

إن الذي يتكل على نفسه فقط

سيكون عبئه ثقيلاً.. بل سيزداد ثقلاً مع الأيام

حتى ينوء به حين لا يقوى على حمله بمفرده.

أما الذي يخترق بإيمانه غيوم الهموم المكفهرة

ويرتقي إلى ما فوق منغصات هذا العالم

سيرى عاجلاً أم آجلاً الصورة بكل أبعادها

وتكتحل عيناه بالجانب المشرق من الحياة.

حقاً أن العالم بدون شمس الإيمان بارد وموحش!

أضاء الله دروبكم ودروبنا أصدقائي بنوره الوهاج

وأزال من القلوب الهموم

وغمرها باليقين والإبتهاج

 

كلام عن السلام

-------------------

ما أعذب السلام ينعش الأحاسيس

وما أروعه يهدّئ الأفكار الناشزة

ويقيّد الأهواء الجامحة

ويعيد ترتيب الأولويات

وتحديد الإتجاهات والتوجهات!

ما أنقاه يمنح للنفس صفاءً

وما ألطفه يهبّ كنسمات الأسحار

ويهب للضمير راحةً وللقلب غبطة!

السلام.. نحسّه ونتذوقه

ويمكننا أيضاً أن نراه

في النوم الهادئ الهانئ

في حلول الربيع سقا الله أيامه الباسمة

في وميض النجوم المتحدثة بصمت أبدي

في بحيرة ساجية عند الغروب

وفي النفوس الكبيرة

دأبها بث الطمأنينة والعزاء

مثلما يمكننا أن نسمعه في الكلمة الطيبة

والأغنية الجميلة تنقل معانيَ نبيلة

وفي كل صوت تحمل انعطافاته رسالة مودة

ونبضاتٍ إنسانية مؤنسة

هدية منه لمحبي السلام

فتحية للسلام ولمحبيه وصانعيه

 

خطر ببالي هذا الصباح

------------------------

أن أسمى غاية يمكن أن يحققها الإنسان هي بناء نفوس نبيلة واعية، مؤمنة بالله، مقدّرة للحياة، تحترم حق الآخر وتكسب لقمة عيشها بتقديم خدمات نافعة يحتاجها المجتمع لتطوير ذاته وتوفير الأفضل لأبنائه.

وأفضل خدمة يمكن أن يقدمها الإنسان لمجتمعه هي المحافظة على مقدراته وتحاشي مجرد التفكير بأخذ ما ليس له. فالإنسان لا يستطيع العيش بمفرده، وما دام يحتاج الآخرين فمن واجبه القيام بمبادلة بنّاءة لقاء ما يحصل عليه وإلا فإنه يأخذ دون أن يعطي مما يتسبب في اختلال الميزان الإجتماعي وانعكاس ذلك الإختلال على مصالح الجميع.

الإنسان الناجح هو المتفائل بأن الحياة ستتيح.. بل ستخلق الفرص لكل من يرغب في بذل المجهود اللازم للحصول على ما يحتاج إليه، دون منافسة غيره أو الإضرار بهم.

فالحياة فيها متسع رحب للجميع

والخير يتضاعف بالتعاون والعطاء

والحياة تبارك المتناغمين مع قوانينها

التي هي قوانين المحبة والسلام والإنسجام

والتفكير في الآخر والتعاطف معه.

والناجحون هم الصادقون مع أنفسهم

ومع الحياة والناس..

الكبار بأعمالهم

المتميزون بمحبتهم

وبساطتهم وطيبتهم.

جعلنا الله وإياكم أصدقائي من الناجحين في الحياة.

RE-12-22

 

سألها فأجابت..

----------------

قال: ما هي قمة الثقافة في تقديرك؟

قالت: التعقل وعدم التطفل.

قال: وكيف يفرض الرجل احترامه على الآخرين؟

قالت: باحترامه نفسه.

قال: ومن هو المُصلح ؟

قالت: من اهتم بإصلاح ذاته عن وعظ غيره.

قال: وما هو تفسيركِ للقول المأثور "النظافة من الإيمان؟"

قالت: تنظيف الفكر بمحلول النوايا الحسنة وغسل اللسان

من زنخ الألفاظ الخشنة.

قال: وماذا تقولين في الكلام المملوح؟

قالت: أتقصد الكلام المليح؟

قال: لا.. بل أقصد الكلام المملح؟

قالت: فهمت عليك! إنه ثقيل وخفيف في آن.

قال: وكيف ذلك؟

قالت: ثقيل لأنه لا يرتفع إلى ما فوق مستواه

وخفيف لأنه لا وزن له في ميزان القيم.

دمتم بود

 

همسات من الأرشيف

------------------------

مرّت سنونٌ على من فارقَ الوطنا

والماضي أمسى خيالاً أو غدا وسنا

إذا تملـّكَ أجفاناً وداعبها

يعيدُ ذكرى ويوحي الشوقَ والشجنا

بالأمس ِ كنا وروضُ الأنس ِ يجمعنا

ونغــــــــمة ُ الودِّ رنانة بمسمعنا..

فنسهرُ الليلَ لا نشعرْ سوى فرح ٍ

تحكي عذوبتهُ إذ ذاكَ بسمتنا

تلك العهودُ تموجُ في مخيلتي

مثل النسيم ِ إذا ما حرّكَ الفننا

أو مثلَ طيفٍ في الأحلام ِ نبصرهُ

فإن صحونا لم يبقَ بحوزتنا

وقد يعودُ على مهلٍ فنلمحهُ

فإن هرعنا إليه يستحيلُ منى

يطيرُ للتو ِ للمجهول ِ يسكنهُ

ويرسلُ الحبَ من طي الأثير لنا

محمود

 

إنطلاقة في اللانهاية

----------------------

عندما وفد أحد الفلاسفة الشرقيين إلى الغرب في نهاية القرن التاسع عشر طـُلب منه أن يلقي محاضرة فاختار الصفر (0) عنواناً لمحاضرته لأنه اعتبره رمزاً للانهاية.

لكننا لن نتحدث هنا عن الصفر الذي قد لا يسعفنا في الإقلاع بطائرة الفكر إلى الأجواء القريبة البعيدة.

وبدلاً من أن نبدأ من الصفر ما رأيكم لو بدأنا من دائرة اللانهاية التي لا حد لقطرها ولا قياس لمحيطها؟

اللانهاية وحدها تحتوي أشواق النفس وحنينها إلى ذلك الشيء المجهول الذي تفتش عنه وتأمل في العثور عليه كمن يبحث عن وجه صديق عزيز بين آلاف الوجوه الغريبة.

اللانهاية هي الأفق المفقود اللامحدود الذي يحن طائر الفردوس للتحليق فيه دون عائق يعيق في فضائه السحيق. وهي سماء النفس التي تومض فيها نجوم المدركات الروحية الفائقة.

هي مملكة الوعي التي لا وجود بها للمحدوديات والثنائيات ولا تواجد فيها للمعاناة والمنغصات. إنها اتساع شمولي وحرية مطلقة من أسر الجسد وقيود الفكر وما أكثرها من قيود!

في تلك الآفاق اللامتناهية تسبح مجرات الأفكار الأولية التي تتألق بشموس الإلهام وأقمار المدركات الجديدة والمتجددة أبدا.

وفيها أيضاً حضور أسمى يشع بالنور والفرح والسلام والخير والبركة والقوة والمجد.

فلتتوجه الأفكار إلى قلب الدائرة الكبرى لتمتزج بعناصرها اللانهائية وتكتسب خاصياتها وتتمغنط بالاقتراب من مجالها ومجاليها.

اللانهاية هي الوعي الكوني الذي لا يحتويه فضاء لأن الفضاء وما به من عجائب الكون كائن وكامن في قلب الوعي الكوني حيث مشاعل الإبداع دائمة التألق وشلالات الغبطة لا تكف عن الهدير.

اللانهاية هي الذاكرة الكونية حيث لا تفقد فكرة واحدة ولا تضيع ذرة من ذرات الخليقة. فهي مستودع العقل الكلي الذي يحفظ فيه الأفكار السببية ليجسدها صوراً وأشكالاً منظورة وغير منظورة في الطبيعة وفي عقول البشر.

اللانهاية هي منبع الأفكار الكبيرة ومصدر الإلهامات الرفيعة.

هي الجزئيات والكليات، وهي الجاذبية الكونية التي لا عِلمَ لأحد من أين أتت ولا قدرة للعقل البشري على قياس قواها التي لا يعرف مقدارها إلا الذي أطلقها من ذاته الكلية.

من اللانهاية تسطع المواهب الخلاقة وتفيض الإبداعات المتألقة، وفي اللانهاية يتقافز الفكر بوثبات جبارة وتشد النفس الرحال إلى المرامي البعيدة حيث ينصهر الحب البشري في بوتقة الحب الكوني وتتحقق الآمال العِذاب.

في اللانهاية تدرك النفس غايتها وتتعرف على ذاتها فتتأمل أطوار مسيرتها الطويلة وتصبح اختباراتها وتجاربها أحلاماً سعيدة بعد يقظتها الأبدية ورؤيتها لأنوار الحقيقة.

اللانهاية هي فضاء الروح الذي يزخر بالخواطر السامية وسماء النفس التي تتلامح فيها النيرات المشرقة بالبهاء.

اللانهاية تجسد رعشات الحنين وتمنح ألفاظاً بليغة للأفكار الصامتة.

اللانهاية هي اليقظة الأبدية من هجعة الدهور، وهي زهور المعرفة المتفتحة في حدائق الأزل.

هناك في اللانهاية.. حيث الأبدية تحتوي في تضاعيفها الزمان والمكان..

وحيث الأفكار السماوية الزاخرة بالمفاجآت التي ما خطرت على قلب بشر..

وحيث يلتقي الماضي بالحاضر وبالمستقبل في وحدة واحدة..

تكون نهاية المطاف ومنتهى المشوار..

في قلب اللانهاية.. في قلب السماء الواسع

 

النفس ذات الحضور

---------------------

تحدثنا في موضوع سابق عن القلب فلنتحدث قليلاً عن النفس ذات الحضور القوي على هذه الأرض. فحيثما نظرنا وأينما توجهنا نبصر نفوساً ضمن أجساد تعرب عن وجودها وتعبر عن ذاتها بألف طريقة وطريقة.

وقد علمنا أن وجود النفوس على هذا المستوى الأرضي يعود إلى رغبات ربما من الماضي السحيق لم تتحقق وليس من الممكن تحقيقها إلا في نفس الظروف التي خلقت تلك الرغبات في مبدأ الأمر.

لا نعرف بالضبط أين ومتى حدث ذلك إنما قد تساعدنا النتائج في التعرف على الأسباب. التفاصيل ليست على درجة كبيرة من الأهمية، فلن نحاول البحث عنها والوقوف عليها. وعلى أية حال هذا ليس بالأمر اليسير.

البذور لها خاصيات أو مورثات محددة تنتقل من واحدة إلى أخرى مما يجعل استمرارية الحياة ممكنة على هذه الأرض وربما في غيرها من الكواكب الأخرى في فضاء الله اللامتناهي.

فالأشواق التي ظلت أشواقاً وربما أشواكاً تؤرق النفس بعد رحيلها وتحول دون إقامتها الدائمة في العالم الآخر واستمتاعها بمحاسنه وروائعه هي عبارة عن حبال غير منظورة مشدودة إلى هذه الأرض، وبدورها تشد النفس شداً للعودة بها إلى حيث نحن الآن بمعية الغانمين!

يقال أن النفس بعد انتقالها للعالم الآخر تتمتع بمباهجه إلى حين تستيقظ رغباتها من هجعتها المؤقتة فتنق وتلح على النفس بالتحقيق السريع. وبما أن تلك الرغبات هي بمثابة بذور حية قابلة للنماء فإنها تمتلك قوة حيوية فاعلة لا تكف ولا تهدأ حتى تغنـّي موالها الذي ينتهي بالعودة إلى هذه الأرض وخلق الظروف المناسبة لتحقيق رغبات ومشتهيات ما زالت تعسّ كالجمر الحي تحت الرماد.

ومن يدري، فإبان العودة الميمونة أو المغبونة إلى هذه الأرض قد تتناسل الرغبات وتتضاعف مما يجعل من المستحيل تحقيقها في فترة زمنية وجيزة إبان سنوات معدودات، طالت أم قصرت، على هذه الأرض. والرغبات التي لم يتسنَ بعد تحقيقها تسبب الكثير من الهواجس والمعاناة والهموم والإحباطات.

الناس الذين نراهم ونتعامل معهم مدفوعون لا شعورياً إلى تحقيق حاجات أو رغبات تمتلك ما يكفي من القوة لتحريك الأجساد التي تتحول إلى أدوات لتحقيق تلك الأمنيات العزيزة التي ما أن تتحقق إحداها حتى ينبت غيرها بسرعة ملحوظة ويروح يلحّ على العقل بلجاجة غير عادية لتحقيقها كسابقاتها.

وتكبر الدائرة وتتحول إلى دوائر وحلقات مفرغة ويفلت الزمام من اليد ويجد الإنسان نفسه رهن إشارة رغباته وتحت أمرها. تأمره فيطيع وتطلب منه ما تريد فيقول على راسي!

ولكن لا حاجة لاستمرارية تلك الدوامة المزعجة إلى ما لا انتهاء. فالحكمة تكمن في غربلة الرغبات ونخلها للإستبقاء على الضروري اللازم منها والتخلص من البقية الباقية أو الكثرة الكاثرة العاثرة (أي الهزازية الهزيلة) التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ومتى هدأت ثورة الرغبات النارية وانطفأ جمرها الحارق يبزغ بُعدٌ جديد في النفس من السكينة والطمأنينة الذاتية ويحصل تناغم عفوي مع أجواء السلام الباطني التي كانت محجوبة بغيوم الرغبات الركامية الربداء ودخانها القاتم القاتل، فتعيش النفس براحة وأمان بفعل انعدام مشتهياتها غير الصحية وتتمتع بحالة من الرضاء الباطني تصفها وصفاً دقيقاً عبارة (صاحب النفس المطمأنة).

فإن حققت النفس هذا الإنجاز الكبير إبان تجسدها الأرضي فستنتقل عندئذ راضية مرضية وتدخل في عداد عباد الله من ذوي الإقامة الدائمة في جنات النعيم، ولن تضطر للعودة ثانية إلى وادي الدموع والحسرات والأحزان.

ولذلك يوصي الحكماء باستغلال اليقظة الروحية مهما كانت طفيفة لعمل كل ما من شأنه تعزيز حرية الروح وتوسيع مداركها وتفتيح وعيها وكسر أصفادها وأغلالها المقيدة.

وربما إلى هذا ألمع شاعرنا الألمعي أبو القاسم الشابي عندما قال:

ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسرْ!

 

تأملات على ضوء النار الحية

------------------------------

عمّن يبحث المشتاقون..

ولمن يتشوق الباحثون التواقون

في هذا الوجود المحدود الفاني؟

ومن ذا الذي ألهم الواصلين وضـْعَ أقدامهم

على طريق الإستنارة والمعرفة الحقة؟

كلنا مسافرون على دروب الحياة..

ومدفوعون نحو غاية لا نعرف عنها الكثير..

تعصى على التوصيف

إنما نحسّها في أعماقنا حقيقة قائمة..

تلهب أشواقنا..

تغذي حنيننا..

وتشحن دماءنا بسيّال العزيمة وإكسير التصميم.

كلنا باحث عن حقيقة نفوسنا..

عن جوهر كياننا.

ومع ذلك نعيش في عالم الأبعاد..

نلهو ونمرح وسط المظاهر والظواهر..

ناسين أو متناسين هدف الحياة..

مُعْرضين عن كل ما يذكرنا بغايتنا

ويستحثنا للسعي إليها برغبة صادقة وهمة نافذة.

متع الحواس الصاخبة لا تترك لنا في أعقابها

سوى رماد الأهواء..

فتواصل قلوبنا العطشى بحثها

عن ينابيع السلام المنعشة.

ومن قدس أقداس كياننا

تهمس أرواحنا حنينها الصامت

مدركة أن الجسم هو ظلٌ زائل للنفس الخالدة

وأننا لسنا الحواس السادرة في الأوهام

ولا الجسد ولا الكلام

ولا برادة الفكر التي دأبها التذبذب والإنجذاب

إلى مغناطيس الإغراءات والدنيويات.

الأجسام رداؤنا..

والحواس أدواتنا..

لكننا لسنا هذا أو تلك.

العقل الحسي يدفعنا كي نحمل عبء الرغبات الثقيل

فنسير على دروب الأشواق الحسية التي لا انتهاء لها ولا ارتواء..

عاجزين عن إدراك قوى الروح التي لا تـُكسر ولا تـُقهر.

نستسلم أمام قوى الأهواء الطاغية

محتسبين أن رغباتها رغباتنا.

نهرع لتلبيتها..

فنقبض على ريح اللاشيء..

ونظل غافلين عن جرثومة الإلوهية

الكامنة في تربة النفس.

الأفكار الصغيرة للعقل الموهوم المقيّد بالحواس

بارعة في حبك شِباك الإكتفاء الحسي..

التي غالباً ما نسقط فيها

ونصبح مقيدين بحبال وحبائل الوهم الذاتي.

ألا فلنعمل على خرق وخزق تلك الشباك

مستعملين مِدى الإرادة والمُثل العليا..

مدركين شمولية أرواحنا التي تعصى على الحصار والإنكسار.

نسير في ديجور المدركات الحسية

فلا نبصر السطوع.. وتتعثر وتدمى أقدامنا..

ألا فلنرفع مشاعل الحكمة..

لتنير لنا دروب الحياة..

علنا نسير عليها بثقة ويقين

وأمن وأمان.

إغراءات السعادة الحسية

تهمس للعقل فتسحبه من الأعماق سحباً..

مصحوباً بالرغبات المخفورة بالغرائز

فيهرع لا يلوي على شيء

ملتمساً فتاتٍ من لذات

لا تسمن ولا تغني من جوع.

وبين هذا وذاك..

تتأمل النفس في محراب التذكر قائلة:

أنا لست الحواس ولا الأفكار..

ولستُ العقل الذي لا يعدو انعكاساً لذاتي

ومظهراً لحقيقتي.

ألا أيها الفكر المنخدع والمقيَّد بألف خيط من خيوط الحواس..

إنك لتمجّد ذاتك وتتزين وتتبرقع

محاولاً تهميش القلب ذي الأشواق

وإخفاء أنواره الوامضة بحب الله.

ألا فلتتحطم قيود العبودية

ولتؤكد النفس لذاتها:

أنا النار الحية تحت رماد الأهواء..

لا يقوى على طمسي أي رماد..

ولا يحيق بجوهري الفناء.

Eastern Gems and Jewels

 

وقفة مع الحياة

----------------

الحياة تعج بضروب المعاناة على اختلافها. والإنسان لا ينفك باذلاً قصارى جهده للتخلص من كل أصناف المعاناة والألم.

متاعب ومشقات العيش ترهب عقل الإنسان وترهق قلبه فيتجلد ظاهرياً ما استطاع إلى التجلد سبيلا، إنما في باطنه تنطلق أصوات الاستغاثة الواحد تلو الآخر، وكأن نفسه تتوجه بصورة لا شعورية إلى قوة روحية لها القدرة على تخليصه مما هو فيه.

قد يكابر أحياناً مؤكداً لذاته أنه صخرة صلبة لا تؤثر فيها الأحداث لكن الواقع كثيراً ما يثبت أنه أقوى من المكابرة وأصلب من العناد. وقد تتواصل المعركة ويختبر عقل الإنسان العركة تلو العركة، فيكر أحياناً ويفر أحياناً أخرى لكنه مع ذلك يبقى تحت رحمة الظروف التي هي أقسى من أن ترحم.

هذا ينطبق على الذين يخوضون معمعان الحياة بمفردهم، غير متكلين على قوة عليا تعضدهم أو وعي أسمى يوجههم. فيحاربون على طريقتهم الخاصة محتسبينها الطريقة الأمثل والأنجع تماماً كما كان ذلك الراجز الضرير يهزج أيام زمان ببلاغته الفطرية التي لا تخفى على اللبيب: (أنا أعمى ما بشوف أنا ضرّاب السيوف)!

لكن قوانين الحياة أكثر دقة من هذه العشوائية وأعمق رؤية من نظرات الإنسان القصيرة المحدودة. وفي حين أنها تفسح المجال للإنسان بحسب مبدأ حرية الإختيار كي يزرع ما يحلو له في تربة وعيه، إنما عليه أن يتقبل المحصول كيفما جاء. وما أكثر ما يأتي المحصول بخلاف ما يتوقعه وما يتمناه الزارع.

الإرادة هي من أقدس الهبات التي امتن الله بها على الإنسان. وهو سبحانه يريدنا أن نستخدمها في كل ما نقوم به. ولم يمنحنا الإرادة وحسب، لأنه لو فعل ذلك لجاءت إرادة عمياء لا تحسن التمييز بين الخطأ والصواب. بل أردفها أيضاً بهبة العقل وكذلك بملكة التمييز بين النافع والضار والمعقول واللامعقول.

وإننا نعلم تمام العلم ولا يضيرنا القول أن إرادة الإنسان مهما كانت جبارة لا يمكنها التعامل دوماً وبمفردها بنجاح مع كل مسائل ومشاكل الحياة. وفي ذلك حكمة لأولي الألباب.

وبما أن إرادة الإنسان غير قادرة على التغلب بمفردها على ما يعترضها من عوائق وتحديات – مهما كابر المكابرون وادعى المدعون بخلاف ذلك – لا بد أن يستعين الإنسان بمصدره ملتمساً العون في معركة الحياة.

لا سبيل إذاً للتعامل بمنطق وفعالية مع الحياة ومفاجآتها دون التماس العون بصدق وتواضع من الله الذي يعطي طالبيه ويحمي المستجيرين به من مصائب الدنيا ولطمات الزمان.

فالله هو الذي يمنح للوعي قوة وللإرادة عزيمة وللبصيرة هداية ونوراً.

ومن يتوجه إليه بكل أمل ورجاء سيحصل على مبتغاه لأنه سبحانه أكرم من أن يحرم سائليه أو يخذل المتكلين عليه. وصدق من قال:

من يسأل الناسَ يحرموه وسائل الله لا يخيبُ!

وعندما يوفق الإنسان إرادته ويناغمها مع الإرادة الكلية سيحس صفاءً في فكره وفرحاً في قلبه ونقاءً في دوافعه وتفتحاً في وعيه، وليس آخراً سيحس بحضور قوي في كيانه يشجعه، يعضده، يباركه ويأخذ بيده من الظلمة إلى النور، من الحزن إلى السرور، ومن الشك والإرتياب إلى اليقين والصواب.

 

همسة وصل: نفوس كبيرة

------------------------------

ما أكثر ما تتقاطع دروبنا مع الآخرين.. فنتواصل معهم ونسمع منهم ونتكلم إليهم.. نأخذ ونعطي معهم.. أو قد نجتازهم ويجتازوننا بصمت.. أو نبادلهم ويبادلوننا نظرة سريعة وتحية عابرة.

وفي خضم هذا النشاط الروتيني المألوف نعثر أحياناً على شخص يستقطب اهتمامنا ويحظى بإعجابنا؛ ليس بالضرورة لما يتحلى به من مظهر أنيق وصوت جميل وأسلوب مهذب، بل لشيء آخر أكثر عمقاً وأبلغ تأثيراً.

ذلك الشخص لسبب ما نطمئن إليه ونرتاح للتعامل معه بغض النظر عن مظهره وكيفية الإعراب عن نفسه.

نرتاح لمجالسته.. نأنس لسماع صوته ونسعد بتأمل تقاطيع وجهه وحركاته مهما كانت ساذجة أو غير مألوفة.

فما هو السر في ذلك الشخص الذي قد يكون عادياً، لا يتمتع بأية استحقاقات استثنائية، سواء مكتسبة أو موروثة؟

ما يميز هذا الشخص عنصرٌ أساسي هو احترامه لنفسه. ومن يحترم نفسه يحترم الآخرين. ومن يحترم الآخرين يحترمه ويقدره الآخرون فيركنون إليه ويفتحون قلوبهم له.

وكونه يحترم نفسه فهو إنسان كبير بقلبه.. نبيل بتصرفه.. طيب بنواياه.. مخلصٌ بتعامله مع الآخرين.

هو لا يغوص في بحار الأفكار المظلمة طمعاً باقتناص صَدفة جوفاء ذات بريق..

ولا يحبك شباكاً أو يرمي على الدروب أشواكاً لأنه أكبر من إيذاء الغير أو الإيقاع بهم. وهو لا يعكر الأجواء الصافية بكلمات تنز علقماً مهما حاول إقناع الغير بأنها رحيق ولا أشهى.

وهو لا يعلن عن نفسه بناي ومزمار لأنه طبيعي في تصرفه.. لا يهمه رأي الآخرين به ما دام صادقاً مع نفسه ومنصفاً لغيره.

وفوق هذا وذاك هو جريء في تعامله مع الناس والحياة..

يلتزم نهجاً يروق له فيثبت عليه – ما دام لا يؤذي أحداً – حتى ولو تعرض للشجب والملامة من الجميع.

يحب القلوب الشهمة لأنها تذكره بكل ما هو نبيل ورائع في الحياة.

لا يطيق الإحتباس والتقوقع ضمن مفاهيم ضيقة ومحدودة لأنه يهوى الإنطلاق والتحليق في الأجواء الفسيحة.

يحترم الغير إنما لا يسمح لأحد – حتى لأبيه - بفرض نفسه عليه لأنه يؤمن بأن لا كرامة بدون استقلالية ولا معنى للحياة دون تمرين الإرادة والوقوف بعزة نفس أمام الرعد القاصف أو بوجه التيار الجارف.

يستثمر طاقاته في ما ينفع نفسه والآخرين..

يحب الناس لأن قلبه أكبر من أن يحمل حقداً أو يأوي ضغينة..

يؤمن بأن الدنيا بخير فلا يركز على السلبيات ولا يحصر اهتمامه بالصغائر لأنه أكبر منها.

فتحية لذوي النفوس الكبيرة الذين نكبر بهم ونفرح بوجودهم بيننا لأنهم ملح الأرض وخميرتها.

 

وقفة مع الإيمان: آراء الحكماء والفلاسفة والمفكرين عن الإيمان

---------------------------------------------------------------------

{قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} - سورة المُلك

المؤمن من أمِنهُ الناس - حديث شريف

الإيمان هو صورة من صور الخلود ويشمل كل الأشياء قديمها ومستقبلها. فهو يدرك وجود حقائق عليا وأمور غير منظورة. ومن يمتلك الإيمان يعرف حدساً أن هناك أشياء مجيدة في انتظاره ما دام يواصل تأدية واجباته ويشكر لله على هباته.

الإيمان المطلق بوجود الله والتأمل في عظمته يوسّع مدارك العقل وينقي القلب من الشوائب، ويعزز الفهم بل ويخلق أبعاداً عقلية جديدة، مثلما يحدّ من الرغبات الجامحة ويحجّم الهموم والمخاوف.

كل الدعامات والسقالات العلمية تتهاوى وتسقط كمبنىً مدمر أمام كلمة واحدة هي الإيمان!

الإيمان يتقدم مسيرة التقدم، وهو رفيق دائم وحضور ملازم لكل فلسفة عميقة وإنسانية نبيلة وحكومة نظيفة وقصيدة ملهمة.

يجب أن يقوم الإيمان على براهين مقنعة وإلا لتحول إلى خـُرافات وأوهام.

الإيمان يرتقي بالنفوس وينقي العواطف ويحفظ الكرامة الإنسانية ويضفي على ظروف الحياة العادية لمسة مميزة من النبل والسمو.

لا يمكننا أن نعيش على ما هو ممكن ومحتمل. فالإيمان الذي يساعدنا على العيش بجرأة والموت براحة ضمير لا بد أن يكون حقيقة ثابتة لا تحتاج إلى مزيد من البراهين والإثباتات.

الإيمان الصادق يشبه معبداً فخماً مزيناً بنوافذ ملونة ذات رسوم بديعة وتصميمات في غاية الدقة والإتقان. الناظر إلى ذلك المبنى من الخارج لا يتبيّن شيئاً يذكر من روعته. أما بالنسبة للذين في داخله فإن كل شعاع يُظهر لهم روائعَ وتحفاً فنية يصعب التعبير عنها بالكلام.

تاريخ الإيمان الحق هو تاريخ مزهر ومثمر بكل عطاء، أما تاريخ الشك فهو تاريخ قاحل مجدب مهما بدا ناضراً ومتألقاً. وكل عمل عظيم يبدأ بخطوة أولى نحو الإيمان.

الإيمان بالله والثقة بالمرأة هما دعامتا الحياة السعيدة!

الإيمان يجزم بوجود أشياء كثيرة تلتزم الحواس الصمت حيالها دون أن تؤكد أو تنفي وجودها، لأن تلك الأشياء على ما يبدو أسمى من الحواس ولذلك فهي ليست بحاجة لشهادتها نفياً أو أيجاباً.

الإيمان والعمل هما مطلبان ضروريان للحياة الروحية. فالإيمان هو روح الدين والعمل جسمه. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

الإيمان هو العين التي تبصر الله واليد التي تمسك به وقوة التقبّل التي تقدره حق قدره.

الإيمان الحق ينظر إلى أعلى ويصف أشياء بعيدة. أما القوة المفكرة فلا تكتشف إلا الأشياء القريبة منها ولا ترى شيئاً فوقها.

أقدام الإيمان تخطو وتخطر على ما يبدو فراغاً لكنها بالحقيقة تجد صخوراً صلبة تحتها تسندها فلا تسقط.

الإيمان يمنح العزم في حين الشك يوهن الفكر والأعصاب ويبدد منهما الطاقة والحيوية. ولذلك الإيمان قوة والشك ضعف. والقناعات القوية تسبق الأعمال العظيمة.

الإيمان هو الجذور الحية لكل الأعمال الطيبة، أما الجذور الميتة فلا تنتج شيئا. الإيمان والعمل كالشمعة وضوئها لا يمكن فصلهما عن بعضهما.

الإيمان دون عمل كالطائر المقصوص الجناحين. فهو قد ينط ويتقافز على الأرض ولكنه لن يتمكن من الطيران والتحليق في الجو. ولكن عند اقتران الإيمان بالعمل ترتفع النفس بثقة وقوة إلى أعلى عليين.

ما يبعث الإعجاب في كولومبس ليس اكتشافه قارة جديدة بل مغامرته في البحث عنها، إيماناً منه بوجودها.

الإيمان هو ريشة النفس التي ترسم بها صوراً سماوية.

أخطاء الإيمان أفضل بكثير من يقينيات الشك.

في الوقت الذي يشغل الشكُ نفسه فيه بالأسرار والخفايا يتمتع الإيمان بخبز الحياة بابتهاج قلب وارتياح ضمير، بعيداً عن القلق والأرق.

لو نزعنا عنصر الإيمان من البشر لتحولوا إلى قطعان من السائمة هائمة على وجهها دون دليل يرشدها أو هدف تسعى إليه. والإيمان هو الأساس الأدبي والخلقي لكل مجتمع وكل أمة.

إننا نفقد الكثير من المعارف العليا عندما نفقد الإيمان. الإيمان هو منبع البركات، والمؤمنون هم السعداء حقا في الحياة.

وينصحنا ابن الوردي بالقول:

واتقِ اللهَ فتقوى اللهِ ما .. جاورتْ قلبَ امرئٍ إلا وصلْ

ليس من يقطعُ طرقاً بطلاً .. إنما من يتقي اللهَ البطلْ

 

كلمات في التعاطف والمواساة

----------------------------------

المحبة هي أنبل المشاعر الإنسانية، يليها مباشرة التعاطف أو

المشاركة الوجدانية التي يحس بها القلب نحو المتألمين.

من يفرح لغيره لما يصيبه من خيرات يقبل عليه الخير، ومن يساعد

الناس في تخفيف مصابهم يخفف الله عنه مصائب الحياة.

تباً لتلك القلوب المتحجرة التي لا تذوب تعاطفاُ مع الآخرين في أحزانهم.

ما من درّة مشعشة يتقلدها المحظوظون

ولا من ماسة براقة تتدلى من أذان الحسناوات

ولا حتى النجوم الوامضة التي تزيّن قبة الليل

ولا الشمس المشرقة التي تكلل الصباح ببهائها

تشع بصفاء الدمعة التي تسيل على خدود الشهامة والصدق

تعاطفاً مع ويلات الآخرين وبلاياهم.

إن جرعة واحدة من التعاطف الإنساني لهي أقوى تأثيراً وأعمق أثراً من كل حكمة ونصح ومشورة.

المشاركة الوجدانية تكون أحياناً أسخى من العطاء. فالمال يعالج حاجيات خارجية، لكن من يقدّم مواساة صادقة من القلب يمنح قطعة من وجدانه.

إن أفضل معرفة لأخينا الإنسان هي تلك التي تحفزنا كي نشعر بشعوره وتمنحنا أذناً مرهفة لسماع دقات القلب النابضة تحت ثياب الآراء والتنظيرات.

الحزن بالنسبة للنفوس التي شعرت بوخز الأسى هو شيء مقدس.

التعاطف هو الدرس الأول الذي ينبغي أن يتعلمه المرء، فهو يحضّر نفس الإنسان لتلقي ومضات المحبة ونبضات المشاعر النبيلة.

التعاطف هو شرارة مباركة تهبط على القلب عندما يكون في أسفل دركات البلوى والشقاء.

إن كلمة مشجعة لقادرة على إشعال مصباح الأمل والرجاء في نفوس المعانين من ظلمة القنوط والإكتئاب.

ألا فليبارك الله من يمتلك في ذاته ذلك الشيء الذي ينهمر على النفوس الحزينة انهمار أمطار الربيع على نبت الحقول. الأيدي قد تجود بعطايا الذهب والفضة، لكن القلب يعطي ما لا يقدر الذهب على شرائه. فكل من يمتلك الخير والطيبة في ذاته والبشاشة في محياه والتعاطف في قلبه والأمل المشرق في نظرته يملك بركة ربما لا يعرف أنه يمتلكها تماماً مثلما لا يعرف المصباح أنه يشع نوراً من حوله. ذلك الشخص يتألق في أفق الآخرين تألق النجوم في السماء التي يهتدي بها البحارة في الليالي الحالكة.

الحزن كالحجر الثقيل الذي يرهق كاهل حامله، في حين يصبح أخف وزناً عندما يتعاون اثنان على حمله.

مع المشاركة القلبية وخالص المواساة لكل المحزونين والمتألمين أينما كانوا..

وجبر الخواطر على الله.

والسلام عليكم

المصدر: موسوعة الأفكار



الفطنة: أقوال وأمثال

--------------------------

الفطنة كالأشباح التي غالباً ما يتحدث عنها الناس بالرغم من عدم رؤيتهم لها.

الفطنة كامنة في ذات الإنسان كمون النار المتوارية في قلب حجر الصوان؛

فهي لا شيء يذكر في طور الهجوع، ولا تعدو مجرد شرارات متطايرة عند ظهورها.

الفطنة ملكة طبيعية، يمكن تشبيهها بقطعة الماس التي يفقدها الصقل بعض وزنها، وقيمتها أيضاً.

الفطنة كدالية العنب التي ما لم تسندها الفضيلة وتوجّهها للأعلى، نحو السماء، تأتي عناقيدها – بالرغم من نضرة أوراقها – مشوّهة وتصاب بالعفن بفعل ملامستها للتراب.

الفطنة غير المنضبطة كالمبطان الشره الذي لا قدرة له على التحكم بشهيته، فينغمس في الأكل والشراب ويفرط فيهما حتى التخمة.

الفطنة الأصيلة كالحجر الثمين المستخرج من منجم شرقي، يمتاز بخاصتين فريدتين: قابلية القـَطع والبريق.

الفطنة كالبخيل الذي لا يقف طمعه عند حد.

الفطنة كالحُب الذي ينمو ويقوى حيثما وُجد اللطف والإحترام.

الفطنة كالسكران الذي لا يرى بأساً من استلال سيفه على أعز أصدقائه.

الفطنة تختلف عن الحكمة. فالفطنة تجوز عبر الشعاب والمنعرجات، في حين تسعى الحكمة لبلوغ الغايات.

الفطنة كالتوابل، القليل منها يعطي للطعام نكهة طيبة في حين يفسد الإكثار منها المذاق.

الفطنة بالنسبة للأنانيين هي كالفوانيس الداكنة (التي لا يرى ضوءها الخافت سواهم). فهي تساعدهم في تنقلاتهم الظلامية، لكن لا ينتفع بنورها الناس.

كما أن المِسنّ يشحذ حد السكين، هكذا يُكسبُ التأدّبُ الفطنة َ رهافة.

الفطنة تعني تجميع الأفكار بسرعة ورشاقة: أفكار فيها ما يكفي من تطابق وانسجام لرسم صور ذهنية ممتعة والإيحاء بمشاهد خيالية ظريفة.

الحكمة أعظم من الفطنة، لأن الفطنة إن زادت عن حدّها تحولت إلى ما يشبه الرغوة. من الصعب الانغماس في المزاح دون تحول المزاح إلى تهكم وسخرية يغوصان في نفس الآخر إلى أبعد ما كان مقصوداً.

فلتخدمك فطنتك كالترس في الدفاع عن نفسك من خلال إجابة ظريفة ذكية، لا كالسيف في جرح غيرك بكلمة نابية. وتذكر أن الكلمة تكون في بعض الأحيان أقطع من حد السيف، والجرح الذي تتركه يكون بطيء الإلتئام.

الفطنة تفقد رونقها عندما يمازجها خبث. ومن يضحك لمنظر شوكة يشكـّها أحدهم في صدر آخر، يشارك – من خلال ضحكته - في الوخز الأليم.

التورية هي لعب على الكلام، كاستعمال كلمتين متشابهتين في اللفظ لكنهما مختلفتان في المعنى. والطريقة الوحيدة للتأكد من أن قولاً ما بديهة، هي محاولة ترجمته إلى لغة أخرى. فإن تـُرجم بنجاح مع الإحتفاظ بالمعنى عُدَّ فطنة، وإلا فهو مجرد تورية.

عندما تتجاوز الفطنة حدود اللياقة والإحتشام تتحول إلى سفاهة ووقاحة.

كم من فطنة لا يفصلها عن الحماقة سوى غشاء رقيق!

الفطناء يستعملون أقلّ قدر من الكلام، في حين يلجأ ذوو الفطن غير الناضجة إلى الكثير من الحشو والإسهاب.

الفطنة هي ملح الطعام، لكنها ليست الطعام.

بالفطنة يتألق المتحدثون في المجتمعات، أما الإنغماس في الهزل والتوافه فيُذهبان بالهيبة والإعتبار.

لقد منح الله عباده الفطنة

والذوق

والبهجة

والقدرة على الضحك

وكل ما هو لطيف وظريف

لتخفيف أعباء الحياة عن كاهلهم

وتسهيل رحلة العمر عليهم.

والسلام عليكم

المصدر: موسوعة الأفكار

 

الكأسان: حوار بين الخمر والماء

----------------------------------

على مائدة أحد الأغنياء، وُضع كأسان طافحان، جنباً لجنب،

أحدهما كان قانياً كالعقيق، والآخر نقياً بصفاء البلور.

فقال كأس الخمر لأخيه كأس الماء:

دعنا نروي يا صاح لبعضنا حكايات عن الماضي

فأنا يمكنني أن أتحدث عن ولائم عامرة وقصف ومرح صاخب

إذ كنتُ مَلكاً حكمَ بقوة الصولجان ودانت له جبابرة الأرض وعتاتها

فوقعوا تحت تأثيري الساحر بالرغم من تعرضهم للمفاسد والأمراض.

لقد نزعت التيجان عن رؤوس الملوك

ومن قمم الشهرة هويت بالعديد من النبلاء إلى الحضيض

ولطختُ أسماءً كثيرة بوصمات الخزي والعار.

واستبدلتُ الفضائل بالرذائل.

لقد أغريت الشاب برشفة ثم جرعة

جعلت مستقبله قاحلا ماحلاً.

فأنا أعظم من الملوك أو من أي جيش تحت الشمس.

لقد أوهنتُ يد السائق

فانحرف القطار عن المسار

وأرسلت السفن إلى قاع البحار

وكم شنّفت أذني بعويل الغرقى وصراخهم!

الشهرة والقوة والثروة والعبقرية كلها تتهاوى أمامي وتسقط

فجبروتي وقوتي فوق الجميع!

ها قد أخبرتك يا أخي الماء عن مآثري

فهل لديك ما تحدثني به؟

فأجاب كأس الماء:

لا يمكنني أن أفاخر بنزع التيجان عن رؤوس الملوك

أو بإرسال حشود الناس إلى حتفهم المريع

لكن يمكنني أن أتحدث عن قلوب حزينة

أنعشتها وأبهجتها بقطراتي المشعشعة.

وأتحدث عن عطش أطفأته و جباه برّدتها

وأيادٍ غسلتها ونفوسٍ أنقذتها.

لقد سرتُ في الوديان

وانحدرت من أعالي الجبال

وغفوت في أشعة الشمس

وانبجست من الينابيع

وقطّعت القيود التي كبّلني بها الغمام

فانهمرت من السماء

وأبهجت النواظر والأرض والنبات

وخففت نار الحمى في الجباه الملتهبة ألماً.

وجعلت الحقول الصادية تنبت الحبوب والبقول.

ويمكنني أن أتحدث عن دواليب الطواحين

التي تدور بإرادتي فتحوّل الحبوب إلى طحين.

يمكنني أن أتحدث عن رجولة أعليتُ شأنها

بعد أن كنتَ قد حططتَ من قدرها يا خمر.

إنني أرفع المعنويات وأقوّي العزائم

وأفرّح قلوب الرجال والنساء

وأحرر أسرى الخمور من قيودهم

وحياة الكل أفضل بفضل وجودي في حياتهم.

تلك كانت الحكايا التي رواها الكأسان أحدهما للآخر

أثناء وجودهما جنباً لجنب.. في منتهى القرب

على مائدة أحد الأغنياء.

والسلام عليكم

Ella Wheeler Wilcox

 

إن مات الحب

--------------

إن مات الحب..

فأية قوة ستعيد انسياب رعشة الغبطة

إلى القلب النابض؟

وهل ستمتلك مواويل المنشدين

وقصائد الشعراء القدرة على

رفع الروح إلى ما فوق مستوى الجسد

إن مات الحب؟

إن مات الحب..

ستتلاشى آمالنا بمستقبل مشرق

وتذيب دموع أحزاننا الكاوية كل رجاء.

ولن تتمكن الذكريات العذبة

من إعادة الروح

إلى حيث كانت تتهادى وتمرح الطفولة الزاهرة

على دروبها المشرقة

إن مات الحب.

إن مات الحب..

سيضيع الجَمال.. كل الجمال

أما قطرات ندى الصيف في الحقول

حيث تهبّ النسائم الرقيقة

على الورود التي قبّلتها شمس الصباح

فستتحول إلى صقيع وجليد

وستصرخ الرياح الباردة القاسية

فوق ثلوج الشتاء

إن مات الحب.

لكن الحب سيحيا

وسيسود مملكة القلب

عندما تمضي الأشياء العزيزة الأخرى

وسيبعثُ الروحَ من رقدتها

وينعشها من بعد ذبول

وحتى إن تبدد الثراء

ومعه الشهرة والأصدقاء

لن يموت الحب.

سيمفونيات الروح

 

الأغنية الخرساء

-----------------

رحلتي ستستغرق وقتاً طويلاً..

والطريق الذي سأسلكه طويـــــــــــــــل وبعيد.

لقد أتيت ممتطياً أولى إشعاعات الفجر

وانطلقت في حال سبيلي عبر العوالم الموحشة

مخلفاً آثاري على العديد من الكواكب والنجوم.

المسافر سيقرع كل بابٍ غريب

حتى يصل أخيراً إلى بابه.

والمتلمس سيضطر للترحال والتجوال في العوالم الخارجية

حتى يبلغ في منتهى المطاف صميم ذاته ومَقدس روحه.

لقد شردت عيناي بعيدا قبل أن أطبقهما وأقول "إنك حقاً هنا!"

آه.. كم من مرة تساءلت بحرقة "أين أنتَ؟"

لكن ذلك التساؤل ذاب في فيض الدموع المنهمرة كالسواقي

الغزيرة وتحول إلى جواب يقيني أكيد.. "ها أنا ذا!"

RE 2-22

***

الأغنية التي أتيت لأنشدها ما زالت خرساء في قلبي

حتى هذه اللحظة.

لقد صرفتُ أيامي في دوزنة وحلحلة أوتار عودي.

فالوقت لم يكن ملائماً

والكلمات لم تكن لائقة

ولم يبق في قلبي سوى حرقة الأمل ولهفة اللقاء!

الوردة لم تتفتح بعد

ولا من صوت سوى تنهيدة الريح.

لم أرَ وجهه ولم أسمع صوته..

فقط سمعت وقع أقدامه خافتاً وآتياً من الدرب الذي أمام بيتي.

مر النهار بطوله وأنا منهمك في مد فراشه على الأرض

لكنني أغفلت إشعال المصباح

ولذلك لا يمكنني أن أدعوه لزيارة بيتي.

ومع ذلك أعيش على أمل لقائه..

لكن ذلك اللقاء لم يحن بعد!

رابندرانات طاغور

 

لوسيندا تروي حكايتها

------------------------

 

تعرفت على خطيبي

 

فتزوجنا وعشنا معاً سبعين عاماً

 

نعمل يداً بيد

 

مستمتعين بالحياة

 

ومتعاونين على تربية أولادنا الإثني عشر

 

الذين فقدنا ثمانية منهم

 

قبل أن أبلغ سن الستين.

 

وكنت أغزل وأحيّك وأنظف البيت وأرتبه

 

وأعتني بالمرضى وأزرع الحديقة بالخضروات.

 

وفي أيام الأعياد

 

كنت أتجول في الحقول

 

وأستمتع بتغريد الشحارير

 

وأتمشى بجوار النهر

 

وأجمع الكثير من الأصداف

 

ومن الزهور البرية

 

والأعشاب الطبية.

 

وكنت أنادي الهضاب ذات الأشجار بأعلى صوتي

 

وأغني للوديان الخضراء من كل قلبي.

 

وفي سن السادسة والتسعين

 

شعرت أنني شبعت نشاطاً

 

و أن الوقت قد حان لأن آخذ قسطاً من الراحة.

 

إنما ما هذا الذي أسمعه عن الأسى والأسف

 

والإعياء والإستياء

 

والحنق والتذمر والآمال الذاوية؟!

 

فيا أبنائي وبناتي المحبطين

 

إن الحياة قوية.. قوية

 

وحب الحياة يلزمه حماس وحيوية.

 

Edgar Lee Masters

 

 

 

من مذكرات دافينشي

--------------------

 

كنت قد نشرت موضوعاً بعنوان (ملغزات دافينشي) ونوهت فيه عن كتاب قديم بالإنكليزي عثرت عليه في إحدى المكتبات، يضم مذكرات ذلك العبقري وأفكاره. وهذه المذكرات هي عبارة عن وثيقة تعطينا فكرة عن عالم ذلك العملاق الذي كان سابقاً لعصره بمئات السنين.

 

اخترت اليوم هذا الفصل بعنوان (كيف تحمي نفسك في عرض البحر عندما تهب عاصفة وتتحطم السفينة)

 

يقول ما ترجمَته:

 

من الضروري أن يكون لديك معطف من الجلد له حاشية مزدوجة بعرض الإصبع فوق الصدر (تمتد من الصدر إلى الخصر)، وحاشية مماثلة وبنفس القياس أيضاً تمتد من الخصر وحتى الركبة، وليكن الجلد من النوع الكاتم تماماً لتسرب الهواء.

 

وعندما تضطر للقفز في البحر، انفخ حواشي المعطف من خلال حاشية الصدر ثم أقفز إلى الماء، ودع الموج يحملك في حال عدم وجود شاطئ قريب ولا معرفة لك بالبحر.

 

واحتفظ دوماُ في فمك بطرف الأنبوب الذي يمر الهواء عبره إلى المعطف. وإن اضطررت مرة أو اثنتين لكي تتنفس عندما يمنعك زبد البحر من الشهيق، تنفس من فتحة الأنبوب من الهواء الذي في المعطف.

 

------------------

 

دعـــاء

------------------

أصدقائي الأعزاء..

قرأت قبل قليل هذا الدعاء الجميل

فأحببت أن أترجمه وأهديه لكم

آمل أن ينال إعجابكم

مع مودتي القلبية للجميع

------------------

 

يا رب، امنحني أفكاراً نقية

وقوة احتمالٍ طوال اليوم

وفي كل ما أفعله

لا تسمح بأن يلطخ العار أفراحي

أو تدنس الأنانية مطامحي.

 

امنحني قلباً وفياً وخلقاً رضياً

ولا تدع النصر ينسيني شهامتي

أو تمس الهزيمة كرامتي.

 

وهب لي الشجاعة لمواجهة

ظروف الحياة حلوها ومرّها

وعزة النفس التي تعيق وتعرقل

الإنحدار والإنجرار

إلى مستويات غير لائقة

طمعاً يمكسب يجدر إحرازه

بطرق شريفة

تليق بالنفوس الأمينة المؤمنة


RE 4-22

 

أضرَب عن الطعام لحجبهم أدوات عمله

------------------------------------------

 

كان أحد الحكماء يعلّم تلاميذه ويعمل معهم حتى في سن الثمانين من عمره..

 

يعزّل الأرض وينظف المنسك ويشذب الحدائق ويقلّم الأشجار.

 

وقد شعر التلاميذ بالأسف لأن يروا معلمهم يعمل على هذا النحو

لكنهم كانوا يعلمون جيداً بأنه لن يصغي لنصيحتهم ويتوقف عن العمل

فأخذوا أدواته وخبأوها في مكان حيث لا يمكنه العثور عليها.

 

وفي ذلك اليوم امتنع المعلم الشيخ عن الطعام

ولم يأكل في اليوم التالي

ولا في اليوم الذي بعده.

 

فقال التلاميذ مخمنين: لا بد أنه زعلان لأننا أخفينا عنه أدواته

ويجب أن نعيدها إليه.

 

في اليوم الذي فعلوا ذلك اشتغل المعلم وأكل كالمعتاد.

 

وفي المساء قال لهم: يا أعزائي لكي نأكل يجب أن نعمل.

 

فالعمل يجوهر الجسم والطعام يعيله.

 

الحاصدة .. إنسانيات

----------------------

 

ها هي ذي وحيدة في الحقل

تحصد وتغني لنفسها.. تقطع السنابل وتحزمها

وتصدح بكلمات شجية، يملأ صداها الوادي

(شبيهة بأغنية طِلعت على شبّاكها لتشم الهوا...)

 

لم يشدُ بلبلٌ من قبل بمثل هذا النغم العذب

الذي ترحّب به وترتاح له النفوس

راحة المسافرين لواحة ظليلة في الصحراء العربية

ولم يُسمع صوت رخيم من قبل بمثل تلك العذوبة

ولا حتى تغاريد طيور الجزر البعيدة في عرض البحر.

 

ألا من يخبرني ماذا تنشد هذه الحاصدة؟

لعلها تردد حكايات قديمة عن أشياء بعيدة أو عن ماضٍ أليم

أو عن معارك حدثت في غابر الأزمان

أو ربما تندب فقيداً أو تتحسر على شيء عزيز عليها

بعيد عن متناولها (ولسان حالها يقول: العين بصيرة واليد قصيرة!)

 

ومهما كان موضوع أغنيتها، رأيتها تحصد

وسمعتها تغني وهي منحنية بمنجلها

فوق سيقان النبات.. تقطعها ثم تجمعها.

 

توقفت وأصغيت بكل جوارحي لغنائها

وعندما امتطيت جوادي وانطلقت في حال سبيلي

ظلت الموسيقى التي حملتها معي تتردد في أرجاء قلبي

حتى بعد أن ابتعدت عنها ولم أعد قادراً على سماع صوتها.

 

William Wordsworth

 

التخيّل: ماهيته وآلياته

------------------------

طلبتْ مني قبل يومين إدارة اتحاد الكتاب والمثقفين العرب كتابة مقالة عن (التخيل) ضمن مدرسة التخيل التي افتتحها رئيس الإتحاد المفكر والعلاّمة الدكتور محمد حسن كامل، فوضعت هذا الموضوع ونشرته في الإتحاد وها أنا أعيد نشره هنا.

--------------------

التخيل هو الركيزة التي تقوم عليها الحضارات وتضع فكر الإنسان في مسارات تفضي إما إلى سعادة البشرية وهنائها أو إلى خلخلة أسسها وتشويه مقوماتها.

فبالتخيل شيّد الإنسان عجائب الدنيا وشق الأنفاق تحت الجبال ووصل مياه البحار ببعضها وارتاد الفضاء واستخرج المعادن من جوف الأرض وصنع السفن واجتاز بها المحيطات طولاً بعرض، وابتنى الجسور الثابتة والمتحركة والمطابع التي ساهمت في نشر الكلمة وبالتالي تعميم المعرفة.. مثلما صنع التلغراف والهاتف الذي كان مقيداً فأصبح نقالاً، والسيارة والطائرة التي اختزلت المسافات بين القارات.. وحطم الذرة وأطلق طاقاتها المحبوسة بأساليب دقيقة مدروسة، وابتكر ما لا يقع تحت عد وحصر من عجائب العصر ومنها شبكة الإنترنت التي بتنا لا نستغني عنها في التواصل والتفاعل .. والقائمة تطول إلى ما لا انتهاء.

وبالتخيل أيضاً صنع أساليب جهنمية للخراب والتدمير والقتل والتعذيب واستعباد الشعوب واستلاب مقدراتها وتلويث الطبيعة النقية وتشويه وجهها الصبوح الجميل؛ لكن المقصود هنا هو التخيل الإيجابي البنّاء ونتائجه.

يقول شكسبير عن التخيل: " يواصل التخيل مسيرته فيجسد الأمور غير المنظورة ويحوّل التجريدات العدمية إلى أشياء محلية ويطلق عليها مسميات."

إن وصف عمل التخيل أسهل بكثير من تحديد جوهره، إذ يمكننا معاينة نتاجه ولمسه وسمعه وتذوقه وتحسسه في حين تنتمي عناصره غير المرئية إلى عالم لا مادي .

بعض المدارس يعتبر أتباعها الذاكرة ضرباً من التخيل ويطلقون عليها تسمية التخيل التناسلي، ويعزون لها الإبتكار الخلاق.

لكن التخيل يتعدى الذاكرة، فهو نشاط عقلي يختلف عن عمل الذاكرة التي في كثير من الأحيان تكون غريزية لا تستلزم مجهوداً لاستعادة أحداث وانطباعات وتجارب حتى بعد انقضائها بعشرات السنين.

للتخيل القدرة على إطلاق الأفكار والتفكير في المطلق..

والسفر إلى المستقبل وإعطاء الخيال أشكالاً ونماذج

هي بمثابة القوالب أو الأطر للصور الذهنية التي يبتكرها الخيال.

وكما وصف شكسبير التخيل، هكذا احتفى به الشاعر العربي الذي استخدم كلمة "المستقبل" بدل "التخيل" إذ يقول على لسان تلميذ في الصفوف الإبتدائية.

أيها السائلُ عني .. لا تسلْ إلا خبيرا

إسألْ المستقبلَ الغامضَ ينبئك كثيرا

ربما صرتُ طبيباً .. ربما صرتُ وزيراً

ربما صرتُ خطيباً .. أو صحافياً كبيرا

كل ذي شأن كبير .. كان من قبلُ صغيرا

وهذا الشأن الكبير كان من قبل فكرة صغيرة أو بذرة تخيّل نمت وتجذرت في تربة الوعي قبل أن تصبح نبتة وتتحول إلى شجرة تزهر وتثمر وتكرر الإزهار والإثمار عوداً على بدء.

وهناك الموظف البسيط في المكتب، الذي يطلق لتصوره العنان فيرى نفسه بعين خياله رجل أعمال كبير يمتلك مكاتب ومنشآت عديدة يديرها موظفون يعملون لديه، لكنه لا يقف عند مجرد التمني، بل يغوص في تفاصيل دقيقة ويقرن الأسباب بالنتائج ويبدأ بتجربة عملية بسيطة فإن نجحت كررها وأضاف عليها عناصر جديدة، وهكذا دواليك إلى أن تختمر الفكرة فتكتمل الصور وتتجسد مخططات الهندسة العقلية التي ابتكرها في خياله.. فتتحقق أحلام يقظته المحسوبة ويصبح ما أراد لنفسه أن يكون.

لقد أدرك نابليون قوة التخيل عندما قال وهو في أوج إنجازاته ولا أقول عظمته كما يحلو للبعض تسميتها "التخيل يسود العالم".

لا بد أن للتخيل متعته، وإلا لما كان يطيب للمتخيلين الإعتكاف في محراب التخيل والغوص في بحره أو الإنطلاق في فضائه حيث يعاينون نجوم الإبداع

ويتذوقون متع الإنجاز

ويُلبسون أفكارهم حللاً بهية

ويبنون صروحاً باذخة في الفضاء اللامتناهي

لا تلبث أن تصبح ذات أبعاد محسوسة وملموسة

 

ساحة التجديــــــــــــــــــــد

--------------------------------

نظمتُ هذه القصيدة ونشرتها تحت عنوان آخر

وقد قمت بتعديل بعض أبياتها لملاءمة الفكرة.

من أعمَلَ التفكيرَ أضحى مُجدّداً

مترسّخاً في فكرةِ التجديدِ

طوبى لها من ساحةٍ كواحةٍ

فواحةٍ بأطيب الورودِ

رَحبة ْ يشعُ بالبوارق ِ وجهُها

لا تخضعُ للحصر ِ والتقييد ِ

آفاقـُها أبــــــراجُ سَعد ٍ نيّرة ْ

والعلمُ فيها مُلكُ كل ِ مريــدِ

ينبوعُها الفيّاضُ عذبٌ ماؤهُ

وثمارُها أشهى من العنقــودِ

وكنوزُهــا موهوبة ٌ للراغبِ

بالكشفِ في العمقِ عن الأمجادِ

روّادها قومٌ كِرامٌ زانـهم

عقلٌ بصيرٌ رافضُ التشديــــدِ

يا روضةً فوقَ الفراقدِ والسُهى

روح الضمائرِ راحـــة الأكبادِ

سقياً لكِ ولمائـــــكِ وسمائـــــكِ

يا ديمة ً للرائــح ِ والغادي

أبوابُكِ مفتوحة ٌ، كنوزكِ ممنوحة ٌ

أزهارُكِ نافحة ٌ لنسمةِ الإرشادِ

يا ساحة التجديدِ أنتِ مصدرٌ

والمصدرُ يعصى على التقليدِ

 

الفرصة والمقصود من ريق العناقيد

--------------------------------------

غذاً سيبزغ فجر يوم جديد وتهبّ نسائمه رقيقة منعشة تستنهض الهمم لمواصلة المشوار على دروب الحياة.

وهبوب النسائم يذكرنا أيضاً بهبوب ريح الصبا وبالنصيحة الخالصة الخالدة (إذا هبت رياحُك فاغتنمها). فلنغتنم رياح الفرص المتاحة متحدين بذلك أنفسنا..

لخلق شيء جديد

للتفكير بطريقة جديدة

للإنطلاق ولو بالفكر نحو آفاق بعيدة

نحو رؤى مجيدة.

أجل فالفرصة التي تقرع الباب ينبغي الترحيب بها والاستفادة منها إلى أقصى الحدود لأننا قد لا نرى وجهها ثانية. فإن أصغينا للصوت الداخلي الذي يستحثنا دائماً وأبداً للإنطلاق نحو الغايات السامية وجندنا طاقاتنا – التي غالباً ما تـُهدر في أودية الضياع – في سبيل بلوغ تلك الغايات نكون بذلك استفدنا وأفدنا من الفرص المتاحة لنا.

وإن بقينا واعين متيقظين لأسمى واجبات الحياة، محاذرين النوم على دروب الغفلة واللامبالاة نكون مستفيدين إلى أقصى حدود الإستفادة من الفرص الذهبية المواتية إبان مواسم وفصول حياتنا على هذه الأرض. ومن يستفيد ويفيد يضمن حظوظاً أفضل في هذه الدنيا وما بعدها.

ولعل الخيام أدرك هذه الحقيقة وعبّر عنها تعبيراً رمزياً أخطأ الكثيرون تفسيره وفهمه. فعندما قال بحسب ترجمة الأستاذ السباعي:

فارتشفْ ريقَ العناقيدِ يبدْ

ما تقاسي من تباريح الكمدْ

لا تؤجّل فرصة اليوم لغدْ

وا مصابي من غدٍ إن أقبلا

ورفاتي هامة تعوي بقاع

لم يحرّض بذلك على شرب الخمر كي يتخلص الإنسان مما يعانيه ويقاسيه من الآلام المبرحة، لأن البيت الثاني يشي بالمعنى الروحي لما يريد قوله.

عبارة "ارتشف ريق العناقيد" هي تعبير صوفي صرف. فالارتشاف هنا يعني التأمل العميق على الله والذات وعلى أسرار الكون. وريق العناقيد هي تلك النشوة الصوفية أو الغبطة الروحية الناجمة عن التأمل الصحيح. فإن أفلح الراغب في تأمله وتوصل إلى الغبطة الباطنية يتمكن عندئذ من التخلص مما يعانيه من صعوبات العيش وهموم الحياة.

المعنى الظاهري يوحي بشرب الكؤوس حتى تدور الخمرة في الرؤوس ويحصل الشارب على ساعة صفا إلى أن تروح السكرة وتعود الفكرة فيجد نفسه حيثما كان بالتحديد.. قبل ارتشاف ريق العناقيد. ومن المستبعد بل وغير المحتمل إطلاقاً أن ينصح هذا الحكيم العظيم أهل الدنيا بشرب الخمر للتخلص من الهموم والمعاناة.

وها هو البيت الثاني يلقي الضوء على المعنى المقصود، وهو اغتنام الفرصة اليوم وبذل المجهود قبل أن يقبل الغد (أي تحين الوفاة).. طوّل الله أعماركم.

ألا ليت طائر الروح الصدّاح في فجر الاستفاقة الروحية يبقي النفس دائمة اليقظة، بعيدة عن غيبوبة الغفلة والنسيان.

وليت ورود الوعي تتفتح في بساتين النفس وتطلق أريجها المنعش ليعطر الأجواء بالحب والسلام.

وليت روح الجمال في الطبيعة يجمّل الأفكار ويوحي للمشاعر بالبحث عن جمال الروح في الفكر والروح.

وكما تمتص الزهور غذاءها وألوانها البديعة من أشعة الشمس الدافئة، هكذا لترتشف أحاسيس الإنسان الإشعاعات النقية والمعاني السنية التي لا تغيب أبداً من سماء الذات.

 

إلى الأمام سِرّ ... أم ... إلى الوراء دُرّ؟!

----------- أو هندسة المصائر -----------

(فإذا عزمت فتوكل على الله)

لنفترض أننا نعرف الهدف الذي نريد بلوغه، ونشعر بالحماس تجاه تحقيقه، فما هي خطوتنا التالية؟

هي معرفة طريقة استخدام الفكر والإرادة على النحو الصحيح، لأنهما أقوى قوتين وهبهما الله لنا، وهما مهندسا مصائرنا.

وسواء أدركنا ذلك أم لم ندرك، فإن الفكر والإرادة اللذين نستخدمهما ونعبّر عنهما في تفكيرنا وأقوالنا وأفعالنا اليومية يدفعاننا إما إلى الأمام أو إلى الخلف.

معظم الناس لا يستخدمون هاتين القوتين بدراية واعية، فأفكارهم وأعمالهم محكومة بتأثير البيئة والظروف. لنراقب أنفسنا في المرة القادمة التي نذهب فيها إلى السوبرماركت. فما لم نكن قد عقدنا العزم على شراء مواد محددة والتزمنا بقرارنا فإن المعروضات والأطايب – طيب الله أوقاتكم - ستستميلنا للتفكير: "لازم أشتري هذا أو ذاك أو تلك أيضاً" والنتيجة أننا نخرج من المحل بسلة عامرة أو بأكياس (معباية) بأشياء لم نفكر بشرائها أصلاً!

وهكذا فإن إرادة الإنسان بحاجة إلى تدريب، لأنها بدلاً من تأكيد حريتها بتعقل، تستجيب للأهواء والرغبات والتحبيذات والعادات والميول والنزعات و"الضروريات" غير الضرورية.

لا بأس من مفاجأة أنفسنا على حين غرة بين الحين والآخر لنتعقب مسار أفكارنا ومواقفنا. قد يكون الإكتشاف صاعقاً في البداية، لكن الدراية بالأفكار والمواقف السلبية تمنحنا الفرصة لتغيير نمط تلك الأفكار. وهذا بدوره يساعدنا على قولبة تفكيرنا بما يخدمنا ويجلب لنا نتائج إيجابية. والتفكير الإيجابي بحد ذاته هو استثمار رابح لأنه يستدر نشاطاً وحيوية ليس للفكر فقط بل للجسم أيضاً.

فإن عقدنا العزم على التحكم بكيفية واعية ومنطقية بقراراتنا - في كل ما نفعله - بدل السماح لرياح الأهواء بتقاذفنا، نصبح سادة أنفسنا ونتحكم بمصائرنا بدل أن تطغى علينا وتتحكم بنا.

إن الله يساعد من يساعد نفسه.. وغيره أيضاً.

ولم يتأخر من يريد تقدما

ولم يتقدم من يريد تأخراً

وينصحنا الإمام علي كرم الله وجهه بالقول:

فعليكم بالجد والإجتهاد، والتأهب والإستعداد، والتزاود في منزل الزادِ

ويفيدنا الزهاوي من الشعر بيتاً إذ يقول:

إذ كانَ للمرءِ عزمٌ في إرادتهِ

فلا الطبيعةُ تثنيهِ ولا القدرُ

ولمثل هذا فليعمل العاملون

والسلام عليكم أصدقائي ورحمة الله وبركاته

---------

 

إلى قلب الحياة

وحياة القلب

ما كنتَ يوماً نائيا

يا ساكناً قلب الفؤادْ

ما كنتَ يوماً جافيا

يا فيضَ حبٍ والودادْ

هيهاتَ تسلو من لكَ

ومنْ مِنَ الدنيا اشتكى

عذراً له إذا بكى

شوقاً وأضناهُ السهادْ!

أنتَ الصديقُ والقريبْ

أنتَ النجيُّ والحبيبْ

الروحُ في قربكْ تطيبْ

وتحرقُ ثوبَ الحِدادْ

في الطفل ِ نبصركَ ملاكْ

تختالُ في أحلى حلاكْ

والشمسُ تروي عن بهاكْ

يا هديَ من رام السدادْ

عن عيننا قد تختفي

وبالسكوتِ تكتفي

لكن خطانا تقتفي

وتوري في الليل الزنادْ

أنتَ المغرّدْ في الطيورْ

أنت العبيرُ في الزهورْ

وهمسة ُ الحب الطهورْ

يذيبُ دفئـُها الجمادْ

أنتَ تسيرُ في الأنامْ

إلى الأعالي والأمامْ

يا حبذا نعطي الزمامْ

لكَ فتبلغنا المرادْ

لكَ المحبة ْ والجميلْ

والشكرُ صبحاً مع أصيلْ

العينُ من ذكركْ تسيلْ

فيغمر الدمعُ السوادْ

 

وقفة مع المثابرة

------------------

الأعمال العظيمة تـُنجز لا بالقوة بل بالمثابرة. إن من يمشي بهمة لثلاث ساعات يوميا، يقطع في سبع سنوات مسافة تعادل محيط الكرة الأرضية.

المثابر يقتطف ثمار النجاح من بساتين الحياة حتى ولو كانت محمية بحراس ومحصنة بجيوش جرارة كاملة العدة والعتاد.

كان الشاعر جورج إليوت يقول: إنني أتمتع بحصانة دائمة ضد الفشل، وقد اكتشفت أن الفشل الوحيد الذي يجب أن يخشاه الإنسان هو عدم قدرته على مواصلة السعي نحو هدفه المنشود.

إن جميع المخترعات والإنجازات والفنون البشرية على اختلافها التي ننظر إليها بإعجاب وتعجّب هي نتاج قوة المثابرة التي لا تــُقهر.

وبفضل تلك القوة تحولت مقالع الحجارة إلى أهرام وتم وصل البلدان البعيدة ببعضها بقنوات مائية عملاقة. لو قارن الإنسان ضربة المعول أو الرفش بالنتيجة الختامية لتلك الأعمال لاعتراه اليأس ولتوقف عن بذل المجهود. لكن بفعل تلك الضربات المتواصلة لتلك الأدوات البسيطة تغلب الإنسان على عقبات كأداء وعوائق كثيرة وكبيرة. فهو قد مهّد الجبال وحفر الأنفاق والمناجم بإرادة قوية وإصرار لم يعترف بالفشل.

من يراقب الأمور بذهن متيقظ ويعقد العزم على مواصلة السير حتى النهاية لن يصده شيء عن تحقيق ما يريده في الحياة.

ما من مسافة لا يمكن للمثابر أن يقطعها حتى ولو كان سيره وئيدا. وما من أمجاد لا يمكن للشخص أن يتوصل إليها إن هو وطـّن نفسه على بلوغها بصبر وإصرار.

لا يوجد طريق معبّد لأي هدف، ولا يمكن بلوغ الأهداف كلها دفعة واحدة. بل ينبغي العمل على تحقيق تلك الأهداف على مراحل دون تسرّع. فالشجرة البطيئة النمو تعمّر طويلا.

المشاريع الكبيرة تشبه محاولة إشعال عود ثقاب. فأحياناً لا يشتعل الثقاب من شخطة واحدة بل ينبغي تكرار المحاولة مرات عديدة، وفجأة يشتعل في اللحظة التي لا نتوقع فيها اشتعاله. (هذا العبارة ربما قيلت عندما كان الثقاب الوسيلة الوحيدة لإشعال النار ولم يكن إشعاله سهلا).

كل عمل نبيل كان في البداية شبه مستحيل.

هناك طريقتان لتحقيق أي هدف عظيم: القوة والمثابرة. أما القوة فهي من نصيب قلائل محظوظين، لكن المثابرة الجادة يقدر عليها حتى أقل الناس حظاً في الحياة. والقوة الصامتة لتلك المثابرة تنمو مع الأيام فتصبح جبارة لا يمكن مقاومتها.

شروط النجاح بسيطة وهي: العمل والتحمّل والإيمان الدائم بالله وبقدراتنا الذاتية، وعدم النكوص على الأعقاب.

من يمتلك موهبة عادية وإصرار غير عادي يمكنه ارتقاء المرتفعات وبلوغ الأهداف مهما كانت قصية وعصية.

الأعصاب المتحفزة والعين التي لا تغمض (أي الجفن الذي لا يرف بفعل التركيز) والفكر غير المشتت.. تلك هي مؤهلات النجاح.

يفشل الناس لا بسبب عدم توفر الإمكانات اللازمة لديهم بل لعدم بذلهم المجهود الكافي لتحقيق النجاح.

النصر من نصيب أكثر الناس إصراراً على تحقيق أهدافهم.

بعض الناس يكفون عن بذل المجهود في اللحظة التي يكونون فيها قد اقتربوا جداً من غايتهم، في حين يُفلح سواهم بسبب بذلهم مجهوداً مضاعفاً في نفس تلك اللحظة.

المثابرة تمنح للضعف قوة وتضع ثروات الأرض أمام الفقر. إنها تنشر الخصب في الأرض القاحلة وتستنبت أنضر الأزهار وأشهى الثمار في الصحاري الجافة حيث الرمال والأشواك.

حتى على الصعيد الاجتماعي، المثابرة تولـّد الثقة بالنفس أكثر من المواهب والإنجازات الأخرى.

قطرات الماء التي تسقط بانتظام على الحجر تشققه، ومهما كانت الصخور صلبة لا بد أن تخترقها الأمواج الصغيرة المتلاطمة عليها ولو بعد ألف عام.

المثابرون يبدؤون نجاحهم من حيث انتهى غيرهم بالفشل.

ذوو الأفكار ذات الإصرار والإرادة الصلبة يعملون دون تردد أو اضطراب حتى يجدون ما يبحثون عنه، فإن لم يجدوه أوجدوه!

 

بين الإسكندر وملكة الصين

------------------------------

لما تم لاسكندر ما تقدم ذكره من فتوحات سمعت به ملكة الصين فأحضرت من أبصرَ صورته ممن يعرف التصوير وأمرت أن تصوّر صورته في جميع الصنائع خوفاً منه.

فصوروهُ في البُسط والأواني واليافطات ثم أمرت بوضع ما صنعوه بين يديها وصارت تنظر إلى ذلك حتى تثبتت من معرفته.

فلما قدم عليها اسكندر ونازل بلدها قال يوماً لمستشاره الخضر:

قد خطر لي شيء أقوله لك.

قال: وما هو؟

قال: أريد أن أدخل هذه البلدة متنكراً وأنظر كيف يقوم الناس بأعمالهم فيها.

قال: افعل ما بدا لك.

فلما دخلها الاسكندر نظرت إليه الملكة من الحصن فعرفته بالصوَر التي عندها فأمرت بإحضاره.

فلما مثل بين يديها أمرت به فوضع في حفرة لا يُعرف الليل فيها من النهار.

بقي فيها ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب حتى كادت قواه تنهار، فاضطرب عسكره لأجل غيبته والخضر يسكنـّهم ويسليهم.

فلما كان اليوم الرابع مدّت ملكة الصين مائدة بطول نحو مائة ذراع ووضعت عليها أواني الذهب والفضة والبلور، وملأت أواني الذهب باللؤلؤ والزبرجد وأواني الفضة بالدرّ والياقوت الأحمر والأصفر وأواني البلور بالذهب والفضة ووضعت من المال ما لا يعلم مقداره إلا الله، وما في ذلك من شيء يؤكل.

ثم أمرت بأن يوضع في أسفل السماط صحن فيه رغيف من الخبز وإناء فيه شربة من الماء، وأمرت بإخراج الاسكندر وأجلسته على رأس المائدة فنظر إليه فأبهره ذلك وأخذت تلك الجواهر ببصره. ولم يرَ شيئاً للأكل.

ثم نظر فرأى في الطرف الآخر من المائدة الصحنَ والإناء فقام من مكانه ومشى إليهما وجلس عندهما وأكل. فلما فرغ من أكله شرب من الماء قدر كفايته وعاد إلى مكانه.

خرجت الملكة عليه فقالت له:

يا سلطان بعد ثلاثة أيام ما صدّ عنك هذا الذهبُ والفضة والجوهر سلطان الجوع وقد أغناك عن هذا كله ما قيمته درهم واحد. فمالك والتعرض لأموال الناس؟

أجابها الإسكندر: لك بلادك وأموالك ولا بأس عليك بعد اليوم.

فقالت له: إن فعلتَ ذلك فلن تخسر.

ثم قدّمت له جميع ما كانت قد وضعته على المائدة ومن المواشي شيئاً كثيراً مع 300 فيل فقبل هديتها ورحل عنها.

والسلام عليكم

المصدر: دائرة معارف البستاني

 

الشــــاعر

------------

نظمَ قصائده ناعمة كالمخمل

صقيلة كما لو كانت منسوجة من خيوط الذهب

وذات همسٍ رخيم

شبيه بترانيم سواقي المروج

فتألقت كقطرات الطل في ضوء الشمس.

راقت أشعاره لكثيرين

ممن عاشوا في وادي الأحلام

لكن روحه ظلت تتوق للقمم

وتحنّ للشوامخ.

فابتهل للعلي القدير كي يظهر له

المزيد مما تكتنزه روحه

عله يصدح بأنشودة

تليق بأبناء الخلود.

استًجيب دعاؤه

فأبصر في داخله

كوناً من روائع مذهلة

وأمجاد غير متناهية.

ومن جديد جلس لينظم

لكن هذه المرة

تقافزت الأبيات المرصعة من فكره

واندفعت كشلال هادر

مُحدثة دوياً

كعزف الرياح بين التلال

وجاءت سطوره تحاكي عظمة الجبال

أما أفكاره فكان صداها أقرب ما يكون

لزمزمة البحار.

سيمفونيات الروح

 

النية منصة إطلاق

--------------------

هذا الإنسان المنظور ما خفي منه أكبر وأعظم بما لا يقاس مما ظهر. ولعل مظهره الخارجي هو تعبير مادي لمظهر مماثل إنما متوارٍ عن الأنظار.

الإنسان الظاهر له مواصفات عامة ووظائف محددة يشترك فيها الجميع تقريباً. وصنوه الخفي له أيضاً مواصفات إنما هناك تفاوت بيّن بينَ شخص وآخر مرده التركيبة المعنوية أو البنية السيكولوجية لذلك الشخص.

الكل تقريباً يتمتع بهبات لا مادية تتمثل في:

عقل يفكر..

وعاطفة تشعر..

وضمير يقيّم..

وإرادة تفعل..

ونية تخطط ..

وحرية اختيار ترفع أو تخفض صاحبها بحسب حُسن أو سوء استخدامه لها.

هذه العناصر المعنوية هي الخريطة الدقيقة التي على أساسها يقوم بناء الإنسان. أما المهندس فهو الإنسان نفسه، إذ كل واحد منا يخطط حياته بنفسه ويبني كيانه بيديه.

عندما منحتنا الحياة حرية الإختيار وضعت في يدنا المفتاح السحري إلى قلبها الذي هو غاية الغايات ومنتهى السعادات. ومن هذا المنطلق يمكننا القول أن الإنسان يحاسب نفسه، ثواباً أو عقاباً، بحسب تصرفه وكيفية تصريف طاقاته الممنوحة له ليستخدمها في خدمة نفسه وخدمة الآخرين إبان إقامته الموقوتة على هذه الأرض.

جدير بالذكر أن الطاقة الممنوحة للإنسان هي محدودة بالرغم من كون مصدرها لا محدود.. وأن إهدارها يعني فقدانها ولو جزئيا، وبالتالي تضاؤل المقدرة على الوفاء بمتطلبات الحياة بالقدر اللازم.

معلوم أن النشاط الجسدي يلزمه طاقة لتحريك الآلة الجسدية لأداء وظائف معينة. ومعلوم أيضاً أن النشاط العقلي يلزمه وقود طاقيّ لا يقل عن ذلك الذي يتطلبه نظيره الجسدي.

الإنسان يعوم في بحر من الطاقة الكونية التي لا تنضب. وعلى قدر تواصله مع تلك الطاقة يستمد نشاطه ويجدد حيويته. ولا يمكن التواصل مع الطاقة الكونية إلا بالنوايا الطيبة والتفكير السليم.

وبما أن تلك الطاقة هي واعية وإيجابية في طبيعتها، وكذلك لا متناهية في قوتها – كونها تسند الكون وما فيه - فإن التفكير الإيجابي يسهّل التواصل معها وبالتالي الإستفادة منها إلى أقصى حد.

الوجود بأسره قائم على الخير وأسسه لن تتغير بالرغم من الشرور الكثيرة التي صنعها وما زال الإنسان يصنعها ويتفنن في ابتكارها. والتناغم مع الحياة بمعناها الأكبر يقرّب الإنسان من ذلك المصدر الذي هو مستودع لا ينضب من الطاقة الحيوية المتجهة دائماً وأبداً في مسارات دقيقة لا تضل سبيلها ولا تخطئ هدفها.

الإنسان ليس مرغماً للتناغم مع مسيرة الحياة، وبما أنه يمتلك حرية الإختيار فله الحق في التصرف بالكيفية التي تروق له ويرتاح لها. لكنه قد يجد أن المضي في مسار مغلوط يسبب له ألماً وضيقاً نفسياً، وقد يكون ذلك الألم بمثابة مؤشر إلى ضرورة التعديل والتصويب في الإتجاه الصحيح.

ولو تتبعنا القوى الدافعة للعمل الحركي لوجدنا أن العناصر اللا مادية تلعب الدور الرئيس في تجسيد ذلك العمل. فهناك الفكرة الأولية التي تحولت إلى أمنية ثم إلى رغبة ثم إلى نية ثم إلى إرادة وبالتالي إلى العمل نفسه.

ومع أن لكل عنصر من تلك العناصر أهمية خاصة، فإن النية تلعب دوراً أساسياً في أفعال الإنسان وتصرفاته لأنها المخطـِّط السري الذي يقوم باستقطاب القوى اللازمة وبالتالي إطلاقها لتحقيق غاية ما.

لذلك اخترت عنوان: النية منصة إطلاق.

حقاً إن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى والسلام عليكم

 

حكاية وولتر وفوائد المشي

------------------------------

كان وولتر ذا شهية لا تقف عند حد، ونتيجة لذلك فقد فاق وزنه المعدل الطبيعي بحوالي خمسين كيلوغراماً! وكان يأكل أي نوع من الطعام دون تمييز ولم يكن للتمرين من نصيب في حياته.

في سن السادسة والأربعين وقع في غيبوبة السكري، وأخبره طبيبه أنه لن يعيش ليحتفل بميلاده الخمسين. وقال متأوهاً "لم أستطع فعل شيء حيال عادة تناول الطعام، وعلاوة على ذلك كنت مريضاً ومكتئباً وبانتظار لحظة النهاية."

كان طبيبه ينصحه مراراً وتكراراً بالمشي. وذات يوم رأى إعلاناً عن "مشي ترفيهي" لكيلومترين فقرر المشاركة فيه. وما أن قطع المشوار بنجاح حتى شعر على الفور بأنه غير جائع، وهذا بحد ذاته كان حافزاً له للشروع بالمشي كل يوم. فيما بعد حاول الجري لكن ذلك كان أكثر مما تتحمله ساقاه.

وإذ ارتفع منسوب طاقته واستطاع التحكم بشهية الطعام بواسطة المشي، تمكن وولتر من تغيير نظامه الغذائي إذ راح يتناول أطعمة منخفضة الدهون وذات نسبة عالية من الكربوهيدرات المعقدة. ومع أنه لم يحتسب السعرات الحرارية لكنه راح يفقد وزنه بسرعة.

وفي غضون عام واحد هبط وزنه من 131إلى 86 كيلوغراماً. بعد ذلك انخرط في برنامج سباق المشي في نيوجرسي وأتى في المرتبة الثالثة ضمن فئته العمرية. ونتيجة لذلك تمكن من التحكم بمرض السكري، وقال: "لن أعود إلى ما كنت عليه سابقاً إذ فزت في سباق الحياة"

فالمشي فضلاً عن كونه طريقة مثالية للإحتفاظ بصحة جيدة، يمكن أن ينقذ حياة الشخص أيضاً. وهو أفضل علاج طبيعي لطائفة كبيرة من الأمراض بعضها مهدد للحياة، مثل أمراض القلب والسكري والحالات المستعصية كالتهاب المفاصل والإكتئاب وحتى المشاكل الصحية اليومية مثل التوتر والإجهاد وفقدان الحيوية وزيادة الوزن.

وقد استنتج الأخصائيون أن المشي هو أبسط الطرق للشعور بالنشاط والإحتفاظ بالحيوة طوال العمر.

 

كلمات في الغنى

--------------------

أصدقائي الأعزاء:

اخترت لكم هذه الأقوال عن الغنى والأغنياء والثروات والأثرياء، آمل أن تنال إعجابكم.

خير ما نستهل به هذه الأقوال الآية الكريمة (وربُّك الغنيُّ ذو الرحمة)

الغنى ليس غاية الحياة، بل وسيلتها.

ثروتي لا تكمن في كثرة ممتلكاتي بل في قلة احتياجاتي.

الثروة لا تبعد عنا سوى إزعاج واحد: الفقر.

من يطمع في أن يموت ثريّاً سيُستقبل بضحكات جهنمية.

من يمتلك كفايته ويساعد المحتاجين على قدر طاقته، فهو غني.

محتقرو الغنى هم أكثر الناس تحرّقاً إليه وأشدّهم طمعاً به، ومتى وصل لأيديهم يبرهنون عن افتقارهم لغنى النفس وإقفارهم من المزايا النبيلة.

من يجمع ثروة ولا يتمتع بها يكون كالحمار الذي يحمل ذهباً ويأكل تبناً.

الشقاء يستهدف الثراء استهداف العواصف البرقية لأعلى المباني، أو كالشجرة التي تتكسر أغصانها بفعل حملها الزائد للثمر. وهكذا الحال مع جامعي الثروات ومكدسي الأموال.

إن كنت غنياً فاظهِر حظك السعيد أو برهن عن عظمة نفسك بالتواضع والتواصل مع من هم أقل حظاً منك. اسعف المحتاجين واشمل برعايتك من لا يعتبرهم المجتمع ولا يعيرهم اهتماماً، وبذلك تصبح عظيماً.

مهما امتلكنا من ثروة، ومهما تمتعنا بمباهج الحياة، لا يمكننا أن نأخذ منها إلى العالم الآخر أكثر مما نستطيع أخذه من الأشياء التي نبصرها في أحلامنا. (صح النوم!)

الغنى هبة من الله، وكباقي الهبات الأخرى هو حَسن بذاته وحَسن لدى استعماله في الوجه الصحيح. لكن التعلق الزائد بالغنى يعني تخصيص مكان له في القلب، وهذا ما لا يُرضي الله لأنه يتحول إذ ذاك إلى طمع، ولأن كل ثروات الأرض لا تملأ القلب.

امتلاكنا لما نريد هو غنى، أما استغناؤنا عنه فهو قوة.

الغني هو من زاد دخله عن مصروفاته والفقير من زادت مصروفاته عن دخلة.

لي جارٌ دائم الإنهماك بحيث ليس لديه متسع من الوقت للضحك. فهمُّه الوحيد في الحياة هو جمع أكبر قدر ممكن من المال، غير مدرك أن المال لا يمتلك القدرة على الإسعاد، وأن الأغنياء غير السعداء أكثر من الفقراء التعساء.

الثروة لا تجعل مالكها غنياً.

الثروة دون أعمال بر لا قيمة لها، أما إن استفاد الآخرون منها فهي نعمة وبركة على صاحبها وعلى كل من يستفيد منها.

لو كان الثراء يضمن لي النجاح لسعيت إليه بكل ما أوتيت من قوة، لكنني أحبذ طلب ما يحبه قلبي وترتاح له نفسي.

أسعد السعداء من قنع بما لديه، لأن القناعة ثروة طبيعية.

ليست الثروة من نصيب من يمتلكها، بل من يتمتع بها.

لا يمكن معرفة ما إذا كان المرء غنياً أم معوزاً بمجرد النظر إلى دفتر حسابه. إنه القلب الذي يجعل المرء غنياً. فغنى المرء يتوقف على ما بداخله لا على ما يمتلكه من مال وعقار.

رب قائل يقول: "لو كنت غنياً لفعلت كذا وكذا..." محض أوهام! فالإنسان يتمسك بآخر فلس وصل إلى يده أكثر من أول فلس كسبه في حياته.

وُلد الإنسان ليكون غنياً أو ليحصل على الغنى باستثمار قدراته العقلية والجسدية.. بتنسيق أفكاره مع قوى الطبيعة. الممتلكات هي إنتاج عقلي. المسألة تحتاج إلى أعصاب باردة وتفكير منطقي وسرعة بديهة وتصرف محسوب وطول أناة.

السعي المحموم وراء الثراء لا ينسجم مع محبة الحق. طمأنينة القلب يجب أن تسبق سعي الفكر.

الغنى يدفع صاحبه إلى التعالي والغرور.

الثروة هي أقل الهبات التي يمنحها الله للإنسان، ولا تقاس بثروة الصحة والجمال والفهم والحكمة. ومع ذلك يصرف الإنسان أيامه ولياليه سعياً وراءها دون راحة. يقال أن الله يمنح الثراء للأغبياء، ولا يمنحهم سواه.

هناك شبه بين الثروة والمكسّرات. فكم من ثياب تـُمزّق في جمعها، وكم من أسنان تـُكسّر في تحطيم قشورها، مع أنها لا تملأ البطون ولا تغني من جوع.

لا نسعد بامتلاك المال بقدر ما نأسف على فقدانه.

لا تحترم رجلاً لغناه بل لمبرّاته. فنحن لا نقدّر الشمس لعلوّها بل لما تقدمه لنا من خيرات.

ويزيدنا أبو الأسود الكناني من الشعر بيتاً بقوله:

إذا كنتَ ذا مالٍ فجُدْ بهٍ ... فإن كريمَ القومِ من هو باذلُ

والسلام عليكم

المصدر: موسوعة الأفكار

 

قراءة في لوحة الموناليزا

---------------------------

 

ما من شك أن هذه اللوحة الشهيرة حظيت بقراءات كثيرة وتحليلات أكثر، لا سيما وأنها نتاج فكر أحد ألمع العباقرة الذين أنجبتهم الإنسانية على مر العصور. وحلّ لغز هذه اللوحة هو بمثابة معرفة كلمة السر أو المرور إلى عقل وقلب دافينشي وعالمه الباطني الذي كان مَصنعاً فريداً بتصاميمه وآلياته وقدراته وابتكاراته التي تعصى على التكرار. لا أدعي أن قراءتي لأشهر لوحة في العالم هي قراءة صائبة، لكنها مجرد محاولة من قبيل الإجتهاد.

 

هذه اللوحة أسمعها ناطقة بقدر ما أراها صامتة. وحتى في وضع اليدين أرى مؤشرات لإمكانية استنطاق ذلك السر العميق المستغلق، ولذلك سأتناوب بين قراءة الوجه وقراءة اليدين.

 

الوجه يوحي بدراية واعية لوجود حسي وروحي في عالمين متباينين: عالم معنوي بحت تعكسه نظرة هادئة وواثقة من صلة قوية ببُعد لامادي.. منعكس بقوة في تقاطيع الوجه والبسمة المطمئنة لحريةٍ ربما ناجمة عن عدم ارتباط تام بمستوى أرضي كثيف.

 

أما اليدان فأرى فيهما دليلاً لروح طيبة تزخر بعواطف نبيلة، ولقلب وثيق الصلة بحب خالص ينزع إلى المطلق، وغير مقيد بشروط.

 

كما أستشف مزاجاً رائقاً لا أثر فيه لعواطف محتدمة، وألمح تأثيراً بارزاً لجاذبية بالغة القوة.

 

ويطالعني أيضاً ذهنٌ صافٍ وابتعادٌ تلقائي عن بهرجة العيش ومفاتن الترف.

 

وأرى أيضاً مسحة من حزنٍ مستعذب تعكسه الإبتسامة، ربما لغياب النظير وتعاظم الشوق لحبيب مجهول.

 

وهناك هالة غير مرئية يغلفها السكون، رسمتها أصابع أثيرية ومزجت ألوانها فأتت سيمفونية شجية من غير هذا العالم.

 

وبين تقاطيع الوجه وخطوط اليدين تتوارى افترارة أمل .. ويقظة حلم ..

ومرامي خيال ورواية لا تنتهي فصولها ما دام اللقاء متواصلاً بين الفكر

والقلب والروح 

 

فوائد التفكير العميق

----------------------

ذات مساء سأل المريد معلمه: غالباً ما تنصحني يا سيدي بالتفكير العميق فما هي فوائد هذا النوع من التفكير؟

أجاب المعلم: الكل يطمح للإنسجام الذاتي، لكن هذا يلزمه التحكم بأمواج الفكر المتلاطمة، وأنجع طريقة لتحقيق ذلك هو التفكير العميق. أكثر الناس يعيشون على سطح الحياة، لكن بالغوص العميق في بحر الأفكار يعثرون على درر العلم وكنوز المعرفة.

ذوو التفكير العميق هم أناس سعداء إذ باستطاعتهم الإبتعاد بالفكر عن منغصات العيش. معظم الناس لا مفر لهم ولا حول ولا قوة، إذ يعيشون على السطح كالسمكة القريبة من سطح الماء والتي لا يجد الصياد صعوبة في اصطيادها.

ثم سأل المريد: وما هو السبيل لتنمية التفكير العميق؟

فكان الجواب: حاول أن تتصدى لمعضلة وقلّبها في فكرك وتعمّق جهد استطاعتك في التوصل إلى حل لها. إن تعمقت بما فيه الكفاية فستعثر بكل تأكيد على الحل. والسبب يكمن في الآتي:

في الأعماق الباطنية سيغمرك شعورٌ من السلام، وكيف ذلك؟ لأنه في كل حالة من حالات التفكير العميق توجد مسالك ومنافذ إلى مملكة السلام، وبدون التفكير العميق والتركيز الدقيق لا سبيل لارتياد ذلك القطر السعيد، من قريب أو بعيد. ذوو التفكير العميق سعداء في ذاتهم حتى بالرغم من عدم إيمانهم بقوى عليا لأنهم تمكنوا من استحداث دروب مفضية إلى الإدراك الحدسي وإلى عالم السلام مع أنهم لم يتعمدوا ذلك.

لهذا السبب، المتعمقون في التفكير هم أكثر قدرة على الإنسجام مع أنفسهم ومع الآخرين. ونظراً لقدرتهم على استكشاف أعماق الفكر يعرفون كيف يتصرفون عندما تواجههم ظروف صعبة. وخلاصة القول أن التفكير العميق هو تحضير ذهني للتغلب على العقبات الكأداء والظروف الصعبة.. بعونه تعالى.

والسلام عليكم

SELF-REALIZATION

 

هذا المشهد النابض

----------------------

ألقِ نظرة على ما حولك

وسترى الكون زاخراً بالقوى الحية.

فالفعل هو عبقرية الطبيعة، إن صح التعبير..

وبالحركة والجهد تبقى منظومة الوجود مشحونة بالنشاط..

وبالتنسيق التام بين كافة عناصرها

يتحقق التكامل والإتقان.

الأجرام السماوية في دوران دائم دائب

تواصل حركتها بدقة متناهية على مر الأيام وتوالي الأعوام.

عمليات الإنجاز متواصلة على اليابسة ووسط المياه

وما من شيء ساكن غير متحرك

إذ كل شيء يعج بالحياة

في كل ركن من أركان الكون.

ووسط هذا المشهد النابض بالطاقة والحيوية

أيجوز للإنسان وحده في هذا الوجود

أن يكف عن النشاط ويركن للتراخي والخمول

في حين باستطاعته من خلال طرق لا حصر لها

أن يحسن ذاته

ويمجد خالقه الذي كوّنه

ويلعب دوراً فاعلاً في مساعدة الأنام

وتعزيز الخير العام؟

Hugh Blair

 

تساؤلات .. يا أخي!

---------------------

لماذا أنت حزين يا أخي؟

الحياة لم تجلب سوى بضعة أيام سعيدة في سلـّتها

التي ستفرغ محتوياتها يوماً بين يديّ الموت الباردتين.

فاستقبلها كل لحظة بوهج قلبك الدافئ

قبل أن يُظلم الليلُ وجهَها ويغلفه بصمت القبور.

لماذا أنت منزعج يا أخي؟

فيد الله العادلة تجود مجاناً بثروة الهواء والنور

على السعداء والبائسين، بنفس المقدار!

بأي مبلغ يمكن شراء ذهب ساعات الغروب

أو أغاريد الطيور في خميلة الصباح؟

فإن أساء أحدهم فهمنا، ألا يمكننا مسامحته

إكراماً لهدايا الصفح التي نحصل عليها

من الفجر حتى الفجر؟

لماذا أنت خائف يا أخي؟

هلا وزنتَ دموعك وابتساماتك

أو أحزانك ومسرّاتك

في ميزان الحياة؟

أليس وجه النهار أكثر إشراقاً

من حجاب الليل؟

أليست بسمات الأطفال أكثر سحراً

من دموعهم القليلة ومن بكائهم؟

فابتسم يا أخي ما دام النهار ضيفاً على بابك،

لأنه عندما يحل الظلام ويخيم الليل

ستغمض الزهور أعينها

وستغفو الطيور المغردة

على سرير النسيان.

Inner Culture

 

القصيدة اليتيمة أو - هيكل عظمي

---------------------------------------

يُعتقد أن النسخة الأصلية لهذه القصيدة التي تعود إلى

مطالع القرن التاسع عشر عُثر عليها في متحف الكلية الملكية

للجراحين في لندن بالقرب من هيكل عظمي بشري ما زال على

درجة عالية من الحفظ والتماسك. وقد أرسلها قيّم المتحف

آنذاك إلى صحيفة (مورننغ كرونيكال) قصد النشر.

وما أن نُشرت حتى استرعت انتباه المثقفين وأثارت موجة عارمة

من الإهتمام، بحيث بُذلت محاولات مضنية للتعرف على واضعها،

بل ذهبت إحدى الجهات المسؤولة إلى أبعد من ذلك

بحيث عرضت مكافأة مقدارها خمسون جنيهاً من جنيهات الملك

جورج لمن يتطوع بمعلومات تفضي إلى صاحب القصيدة

الذي مهَرها بتوقيع (مجهول).

وقد رجّح صاحب موسوعة روائع الشعر العالمي

الشاعر أدوين ماركوم أن مؤلف القصيدة ظل مجهولاً

مع أن بعض الراغبين بالمكافأة المُجزية ادّعوا أنها من نظمهم،

لكن لدى التدقيق تبين عدم صحة ادعائهم.

جدير بالذكر أن صاحب موسوعة الشعر كان صديقاً حميماً لفيلسوف

الفريكة أمين الريحاني وقدّ ضمّن موسوعته بعض قصائد للريحاني.

والآن إلى القصيدة التي بالرغم من أنها تحمل عنوان (هيكل عظمي)

لكن التركيز هو على الجمجمة، وقد تصرفت قليلاً ببعض الألفاظ مع الحفاظ على روح النص.

انظروا إلى هذا الهيكل المتداعي..

هذه كانت جمجمة إنسان

وكانت تملؤها روح من الأثير اللطيف.

هذه الخلية الضيقة

كانت ذات يوم خلوة من خلوات الحياة.

وهذا المجال كان مقرّاً لخفايا الفكر وخبايا النفس.

أية رؤى بديعة زخُر بها هذا المجال!

وأية أحلام من المباهج والمتع اعتملت فيه

قبل أن يطويها النسيان..

إذ لا أثر البتة لأملٍ

أو لفرح

أو لحب

أو لخوف

في هذه الجمجمة.

تحت هذه القبة الصغيرة التي حاق بها البلى

أبرقت ذات يوم عينٌ فضولية ناشطة

لكن لا تحزن ولا تدع الخواء المُقبض

يُدخل الوحشة إلى نفسك..

فإن كانت تلك العين عينَ رضىً في المجتمع

وإن لم يتقد فيها جمر السخرية بالناس والناموس

والتمادي في الغي والإستهتار

بل شعّت أنساً ودماثة ولطفاً

فإن تلك العين ستبقى نيّرة مشرقة إلى ما شاء الله

حتى بعد أن تغيب الشمس وتغوص النجوم

في ليل الأبد.

وداخل تجويف هذا الكهف

تعلّق لسانٌ ذرب..

رشيق..

ومؤتلف أو مختلف النغمات.

فإن كان ذلك اللسان قد ترفّع عن الزور والبهتان

ولم يسمح لنفسه بتذوق الزيف المعسول

وإن لجمَ ذاته حينما لم يستسغ المداهنة

ولم يستطب الإطراء

وإن كان قد تكلم بالإستقامة

وأعطى الفضيلة حقها من الثناء

دون أن يفسد انسجاماً أو يعكر صفواً

فإن ذلك اللسان الصامت سيشهد لك

ويدافع عنك

في دار الخلود.

تُرى هل نقّبت هاته الأصابع في المناجم؟

وهل تختّمت بعقيقها البرّاق؟

وسواء كانت قد قدّت الصخر

أو لبست الجواهر

فهذا كله الآن لا يجديها نفعاً.

أما إن كانت قد سعت للعثور على صفحات الحق

وجلبت العزاء والسلوى لمكسوري الخاطر والمحزونين

فإن حصة هذه الأصابع من الغنى

سيفوق بكثير نصيب كل الساعين إلى الجاه والثراء.

وهاتان القدمان، لا يهم إن كانتا قد سارتا

حافيتين أو منتعلتين على دروب الواجب

أما إن كانتا قد ابتعدتا عن مرابع الراحة

ورفستا فخفخة الكبرياء وصلف الخيلاء

ثم عادتا إلى كوخ الإنصاف والمزايا الخيّرة

فإنهما ستنافسان إذ ذاك أجنحة الملائكة

وتتخطران في صروح السموات العليا.

 

مناغاة الطَّائِر الْأحْمَر

----------------------

فِي حَنْجَرْتِي شَدْوٌ

وَفِيُّ عَيْنِي نورٌ

وَفِيُّ صَدْرِي وردةٌ حَمْرَاء.

ألا أنكِ أَنْتِ تلك الْوردةُ

وَأَنَتِ الْأُغْرودَةُ التي أصدح بها

وَالنَّوَرُ الملتمع فِي عينيّ.

أَنْتِ بَهِجَةُ الدُّنْيا

وَاِبْتِسَامَةُ الضُّحَى

وَأَنْتِ مِنْ يَسْتَحِثُّ تَغْرِيدُي

وَلَنْ نَنْفَصِلَ أَبَدَا

لِأَنَّكَ بهجة عمري

و الْوردةُ الْمُتَوَهِّجَةُ فِي صَدْرِي

 

أينشتين وغاية الإنسان

--------------------------

كل الباحثين الجادين في العلوم يدركون في نهاية المطاف أن هناك روحاً يظهر في قوانين الكون. وهذا الروح هو أسمى بكثير من الإنسان. فمع كل القوى والإمكانات المتواضعة التي نملكها لا يسعنا إلا أن نقف بخشوع أمام ذلك الروح العظيم.

إن أسمى غاية للإنسان هي خدمة الآخرين بدل التسلط عليهم أو إخضاعهم لإرادته بأي شكل من الأشكال.

إنني أذكـّر نفسي مائة مرة في اليوم بأن حياتي الباطنية والظاهرية تقوم على جهود الآخرين، أحياء وأمواتاً، وأنه ينبغي لي أن أبذل قصارى جهدي كي أعطي نفس المقدار الذي حصلت وما زلت أحصل عليه.

إنني منجذب بكيفية خاصة إلى الحياة البسيطة ومع ذلك أشعر في قرارة نفسي أن هناك العديد من أبناء جنسي ممن يكدون ويكدحون من أجلي. كما أنني أعتبر الفوارق الطبقية غير مبررة إطلاقاً ومؤسسة على القوة ليس غيرها. كذلك أؤمن أن الحياة البسيطة المتواضعة تناسب كل إنسان، مادياً ومعنوياً.

لا أمل في التطور الروحي إلا بالسعي الحثيث في الحصول على الحرية باطناً وظاهراً. ومع امتلاك تلك الحرية ينعم الإنسان بالحياة الكريمة سواء في ذاته أو في مجتمعه.

العلم بدون دين أعرج، والدين بدون علم أعمى.

الإنسان هو جزء من الكل الذي ندعوه "الكون". إنه جزء محدود في الزمان والمكان. فهو يشعر بأن أفكاره ومشاعره منفصلة عن كل ما حوله. تلك هي خديعة بصرية من صنع وعيه. وهذا الوهم هو بمثابة السجن لنا، يقيدنا برغباتنا الشخصية وبمحبتنا لقلة قليلة من أعزائنا الأكثر قرباً منا. علينا أن نحرر أنفسنا من هذا السجن بتوسيع دائرة تعاطفنا حتى تشمل كل الكائنات الحية والطبيعة بأسرها.

من المهم للطالب أن يحرز فهماً أكيداً وتقديراً فعلياً للقيم الصحيحة. كما ينبغي أن يمتلك حساً أخلاقياً نامياً للتمييز بين الخطأ والصواب.

إنني مقتنع كل القناعة أن ما من ثراء في الدنيا قادر على تسريع تطور البشرية، حتى ولو كان المال بين يدي أكثر الناس غيرية ومحبة لمنفعة البشر. إن القدوة الحسنة والمثال الصالح لذوي الدوافع النظيفة هما ما يلهمنا الأفكار السامية والأفعال النبيلة.

الوسائل هي مجرد أدوات غير فعالة ما لم يكمن خلفها روح حي.

إن كان طموحنا قوياً لبلوغ هدف عظيم فلن تعوزنا القوة ولن تعيينا الحيلة لبلوغ ذلك الهدف وترجمته إلى أفعال.

SELF-REALIZATION

 

الزهد: تعريف وتحليل

-----------------------

كثيراً ما يزهد الناس بالزهد نظراً لما ينطوي مفهومه التقليدي على حرمان للنفس من مشتهياتها وإرغام لها على القبول بما ليست هي فيه راغبة .

فكرة الزهد لم تبزغ من فراغ بل تقوم على أسس منطقية سنتطرق إليها في حديثنا هذا. ولكن ما ينبغي أخذه في الإعتبار هنا أن ما كان ينطبق على الراغبين في الزهد منذ مئات أو آلاف السنين وما كان مناسباً لظروفهم ونمط معيشتهم آنذاك لم يعد كذلك في وقتنا الحاضر وظروفنا الحالية.

لا يمكننا شطب الفكرة من قاموس الروحيات وفي نفس الوقت ليس بالمستطاع تطبيقها تطبيقاً حرفياً في يوم الناس هذا. فالظروف تغيرت ومتطلبات الحياة لا تسمح بالتخلي عن أساسيات العيش وضرورياته.

فكرة الزهد هي في الأصل عدم التعلق أو التشبث بالأشياء المادية التي سيضطر الإنسان للتخلي عنها طوعاً واختياراً أو قسراً وإجباراً عندما لا يعود قادراً على التصرف أو التحكم بها كما يشتهي ومثلما يريد، فتطير من يده.

لو استبدلنا كلمة (الزهد) بعبارة (عدم التعلق) لأصبح وقعها أخف على النفس وأكثر تقبلا. ولعل المفهوم التقليدي الصارم للزهد يثبط الهمم ويضع عائقاً نفسياً أمام الراغبين في تجربة الزهد التي قد تكون لها إيجابيات لأن نفوساً كبيرة وعلى درجة عالية من الوعي خاضت غمارها وتحدثت بالخير عنها.

عرفنا ونعرف أشخاصاً أثرياء أنعم الله عليهم بالدين والدنيا. وهم يعيشون حياة متوازنة لا يطغى فيها الجانب المادي على الروحي ولا الروحي على المادي.

وبالرغم من ثرائهم الواسع لكنهم غير متعلقين بالمال. وهناك صديق لنا يتحدث بنعمة ربه ويقول بأنه مليونير. هذا الصديق روحي الميول ولا يغفل واجباته التعبدية يوماً واحداً. أما أسلوب حياته فهو غاية في البساطة. بل ويبدو شخصاً عادياً لا يختلف عن غيره من حيث الملبس أو المأكل أو السيارة التي يقودها، ولربما ظنه البعض عند خط الفقر، ولسان حاله يقول:

رغيف خبز يابس تأكلهُ في عافية

وكوز ماء باردٍ تشربه من صافية

وغرفة ضيقةنفسك فيها راضية

أو مسجد بمعزل عن الورى في ناحية

تقرأ فيه مصحفاً مستنداً بسارية

معتبراً بمن مضى من القرون الخالية

خير من الساعات في فيء القصور العالية

وهناك الكثير من الأثرياء الزاهدين (كثر الله من أمثالهم) ممن يعتبرون أن ما حصلوا عليه هو أمانة في أعناقهم وأنهم وكلاء على أموالهم التي فيها حق معلوم للسائل وللمحروم.

وبعد هذا التعريف للزهد يطيب لنا أن نتطرق إلى نظرات المتمرسين في هذا المضمار ونعالج قليلاً هذه الفكرة القديمة التي تقبل أكثر من تأويل. فالبعض يعتبرها التخلي عن الشوائب الذاتية التي تحول دون بزوغ ونمو الوعي الروحي. وأن التخلص من تلك الشوائب يغسل القلب ويحرر النفس من القيود والتعلقات الشخصية ويضع في متناولها كنوز الحب والحكمة والقوة والغنى الروحي والسلام النفسي.

بعض الناس يزهدون حتى في الأمور المعنوية من جاه ووجاهة وصيت وشهرة ويقتنعون بالتوجه لله بأفكارهم وآمالهم ومشاعرهم وأعمالهم ويدركون أن الإخلاص هو سبيل الخلاص وأن الوجد يوصل إلى المجد.

والبعض يعتبر أن الترك النفسي هو أفعل وسيلة للتخلص من الهموم والأحزان التي تكسف شمس السعادة فلا ينفذ نورها الشافي إلى زوايا القلب وحجرات النفس.

وهناك "زهّاد" ينطبق عليهم قول بهاء الدين زهير:

كم أناسٍ أظهروا الزهد لنا .... فتجافوا عن حلال و حرام

قللوا الأكل و أبدوا ورعاً .... و اجتهاداً في صيام و قيـــام

ثم لما أمكنتهم فرصة ... أكلوا أكل الحزانى في الظلام

هناك قصة عن طفل أدخل يده في وعاء زجاجي ضيق الفوهة فيه (ملبّس على قضامة)، وأخذ ملء قبضة يده من تلك الحلوى الطيبة فلم يستطع إخراج يده من فوهة الوعاء. وقد حاول أهله إقناعه بترك الملبس ليتمكن من إخراج يده من (القطرميز)، لكن المحروس كان قوي الإرادة ومغرم بذلك الصيد الثمين فلم يلق بالا للتهديد أو الوعيد، بل ظل متشبثاً بالغنيمة.

وفجأة حضر أحد الأذكياء وعندما أدرك ورطة الطفل وحيرة والديه عرض عليه قطعة من الشوكولاتة، فما كان من الغالي إلا وترك ملبساته فتمكن من إخراج يده بكل سهولة من الوعاء.

هذه الحادثة البسيطة يمكن أن تلقي الضوء على فكرة الزهد أو عدم التعلق التي نحن بصددها.

فالطفل الذي تشبث بالملبس فعل ذلك بدافع الرغبة القوية لكن في نفس الوقت حرم نفسه من التمتع بما في يده. ولم يتمكن من استعادة حريته واستعمال يده إلا بعد التخلص مما في قبضته.

وبالطبع ما كان ليترك ما في يده لولا قطعة الشوكولاتة التي اعتبرها بفضل التمييز أشهى مما في القطرميز.

وبالمثل ليس من المنطق أن نطلب من الآخرين أن يتركوا شيئا أو أشياء أو يزهدوا بأمر أو أمور دون التعويض عليهم بما هو أنجع وأنفع من ذلك الشيء الذي تخلوا عنه.

عندما يدرك الإنسان أنه بالتخلي عن أشياء غير صحية بالنسبة له سيحصل على أمور أفضل من تلك التي تركها وشأنها، عندئذ سيصبح للزهد معنى وقيمة.

ما عدا ذلك لا قيمة للزهد ولا فائدة منه حتى ولو حفظ صاحبه ديوان أبي العتاهية عن ظهر قلب.

 

أزاهير من بساتين الفكر العالمي.. تفضلوا!

----------------------------------------------

العقول القديمة هي كالجياد المسنة التي ينبغي تمرينها إن أردتها أن تعمل مثلما تريد.

العقول الصغيرة هي كالحليب الذي يتعرض للحموضة بسرعة أكبر.

العقل هو كالورقة البيضاء التي تحتفظ أكثر ما تحتفظ بالانطباعات التي تستقبلها بوتيرة متكررة.

عمل العقل يشبه عمل المهندس الذي يقوم ببناء المنصات تحت الماء العميق. فالعمل يتواصل والبناء يرتفع لكنه مع ذلك يبقى مغمورا تحت صفحة الماء. إنه عميق الأسس وموجود بالفعل، لكنه محجوب عن الأنظار.

عقولنا هي كالعربات (التي تجرها الأحصنة على الطرقات غير المعبدة)، تحدث ضجة وجعجعة عندما تكون حمولتها قليلة، لكنها تسير سيراً وئيداً وهادئا عندما تكون مثقلة بالأحمال.

عقل الرجل الحكيم هو كأجواء القمر، في غاية السكينة والرصانة.

العقل الضعيف هو كالميكروسكوب الذي يكبّر الأشياء الصغيرة لكن لا قدرة له على معاينة وإظهار الأشياء الكبيرة.

عندما يزخر العقل بدروس الحكمة يصبح كقائد المركبة القوي الحكيم الذي يكبح في المرء جماح الشهوات الوضيعة المنغرسة في الطبيعة البشرية ويسير به على دروب الفضيلة والصلاح.

العقل هو كالصندوق الذي إن وُضعت فيه الأشياء بترتيب وتوضيب يتسع للكثير منها. لكن مجال استيعابه يتقلص إلى حد كبير عندما يتم وضع الأشياء فيه كيفما اتفق، دون ترتيب.

الأفكار المريضة هي كالمرضى الذين يعانون من الحمى المرتفعة ، هم يحاولون تخفيف حرارة حمتهم بشرب كميات كبيرة من الماء، لكن حرارة الحمى تواصل ارتفاعها مما يزيدهم مضايقة وألما.

عقل الإنسان هو كالبحر الذي لا يستمتع الناظر إليه أو المبحر فيه أثناء هدوئه التام أو هيجانه العاصف. لكن كليهما يبتهج بمنظره عندما تحرك مياهه هبات الريح اللطيفة. وهكذا عقل الإنسان عندما تحركه الأشواق العميقة وتستحثه العواطف الرقيقة.

العقل هو كالعين التي بالرغم من قدرتها على رؤية كل شيء تقريباً لا تستطيع رؤية ذاتها، ولذلك لا تستطيع الحكم على ذاتها.

مثلما يتم استصلاح الأرض وتحسينها بمناوبة زرعها بمحاصيل مختلفة، هكذا يتقوى العقل ويصبح مثمرا بالدراسات المتشعبة والأفكار المتنوعة.

الفكر هو كالمعدة التي تثير شهيتها وتستحث عصاراتها الهاضمة الأطعمة ُ الشهية على اختلافها.

مهما كانت التربة غنية لا يمكنها أن تأتي بمحصول وفير ما لم يتم استصلاحها وتخصيبها. وبالمثل لا يمكن للعقل أن يأتي بأفكار صحية وصحيحة ما لم يتم تشذيبه وتهذيبه.

العقل النظيف هو كالمرآة الصقيلة التي تنعكس فيها الأشياء غير النظيفة لكنها مع ذلك تحافظ على صفائها دون أن تتأثر إطلاقاً بطبيعة تلك الأشياء.

الأفكار تشبه رقع الثلج المنهمرة على سفح جبل بعيد، تتراكم وتتكدس إلى أن يؤدي تراكمها إلى بلورة حقيقة كبيرة واندفاعها بقوة متعاظمة لا يمكن الوقوف بوجهها أو مقاومتها.

الأفكار العظيمة هي كالأعمال العظيمة، لا تحتاج إلى من يروج لها ويعلن عنها لأنها تتحدث عن نفسها بوضوح وجلاء.

تباً للأفكار الظلامية التعيسة التي تشبه كتل الجليد الكثيفة في الغدران والسواقي؛ تعيق مسار الفكر وتسبب له التصادم والارتطام بدل التوافق والانسجام.

الأفكار هي كالأمواج المندفعة على سطح المحيط أثناء الليل، تكون أكثر ما تكون لمعاناً عندما تنخفض سرعتها وتنسجم حركتها مع صفحة المحيط.

أفكارنا هي كمياه البحر المالحة التي تفقد ملوحتها لدى تصاعدها نحو طبقات الجو العليا لتتساقط فيما بعد زخات خفيفة ولطيفة من المحبة والكياسة على من حولنا من أهل وأصدقاء.

ما أجمل تلك الأفكار الندية التي تشبه القبـّرة في جمال ريشها ورشاقتها وانطلاقها بسلاسة وعفوية في مساحات الفضاء.

فكر الإنسان هو كالبندول الجبار الذي لا ينفك متأرجحا من طرف إلى آخر دون أن يهدأ أو يتوقف عن الحركة.

بعض الأفكار تفقس في ظلام العقل كما تفقس الأسماك العمياء في الكهوف العميقة الظلماء. لا نستطيع رؤيتها ولا تستطيع رؤيتنا. ولكن عاجلا أم آجلا سيبزغ نور الفجر ونبصر تلك الأسماك على حقيقتها تماما كما هي.

إن حضور الفكر مؤنس كحضور شخص عزيز. غالباً ما نظن أننا لن ننسى ذلك الفكر، ولكن من غاب عن العين سلاه القلب! إذ أن أكثر الأفكار جمالا قد يغيب عن بالنا ثم يبتعد وننساه ما لم يكن مكتوباً فنعاود استذكاره من جديد.

الأفكار العذبة هي كالنحلة التي تستجمع العسل بارتشاف رحيق الأزهار وخزنه في خلايا القفير.

الأفكار الجميلة هي كهبات النسيم العليل في اليوم القائظ، تلطف هموم القلب وتمنح للنفس سكينة وطمأنينة.

الأفكار هي عالم لا حدود له ولا قيود، وأجمل الأفكار هي المتجددة، المنسجمة، وذات النتائج الإيجابية والخواتيم الحميدة.

والسلام عليكم

المصدر: موسوعة الأفكار

 

حبيبان – أو في قلب الشمس

----------------------------------

أمضت الوردة الغضة الفتية

الليل بطوله

تحلم بساعات الصباح

ثم استيقظت

وفتحت قلبها

لتستقبل بالترحاب

النور المُحب الحنون.

وأتى الأطفال

والنحل

والفراشات

والطيور

وارتشفوا أنفاسها

الزكية المنعشة.

واختبأ شعاع من الشمس

في قلبها المتأجج شوقاً

وعانقها عناقاً حارا

فتحولت روحها

إلى ما يشبه الضياء

إذ امتزجت بحبيبها الشعاع

وأصبحا واحداً

فانطلقا معاً

عند حلول الليل

إلى بيتهما

في قلب الشمس.

سيمفونيات الروح

 

بنو معروف الأردن

-------------------

أهلٌ لنا ما زالوا في أعماقنا

نشتاقُ لقياهم ويشتاقوا لنا

نتبادلُ عمقَ الودادِ وصدقهِ

والدفءَ والتحنانَ نحو بعضنا

رَبع الشهامة والكرامة والشرفْ

من زارهمْ يسمعْ هلا بزوارنا

في كل بيت ٍ تلقى ترحاباً بكَ

ووجوهَ خير ٍ فيها راحة ْ من عَنا

فتحسُ فعلا ً أنكَ في بيتكَ

وإذا ارتحلتَ كرروا: شرفتنا!

فرعٌ من الأصل ِ الكريم ِ طيبٌ

فيهُ العصارة ْ والثمرْ حلو الجنى

حياكمُ الرحمنُ يا أهلَ الوفا

وأنالكمْ من فضلهِ كلَ المُنى

 

مِن الذي قضى في عزّان

تعزية لصحبه ومحبيه

----------------------------

يا أصحابي الأوفياء!

أعرف أن جثماني الممّدد تعلوه الصفرة والبياض

وأنه بارد كالثلج.

تقولون "قضى عبد الله!"

وتنتحبون عند الرأس والقدمين،

أستطيع رؤية دموعكم المنهمرة

وأسمع تنهداتكم ودعواتكم؛

مع ذلك أبتسم، وأهمس لكم:

"لستُ ذلك الشيء الذي تقبّلون

فكفكفوا دموعكم، ودعوه يرقد

فهو كان لي، ولم يكن أنا."

يا أصدقائي الطيبين!

ذاك الذي تعطره وتجهزه النسوة

لتوسيده الثرى

ليس سوى كوخ أغادره

وثوبٍ ضاق عليّ فلا يمكنني ارتداؤه بعد الآن.

إنه مجرد قفص

أ ُفلت منه طائر روحي.

فأحبوا ساكن الحجرة، لا الحجرة

ولابس الثوب، لا ثوب

وريش الشاهين، لا قضبان القفص

التي أبقت الطائر بعيداً عن تلك النجوم المشعشعة.

يا خلاني المحبين!

جففوا كل عين بللها الدمع

فالذي ترفعونه على الأكتاف

خرجت منه اللؤلؤة.

لقد تحطمت الصدفة

وهي الآن ملقاة في مكانها دون حراك.

أما النفس فهي اللؤلؤة، وهي هنا

لقد أودع الله في وعاء من خزف عقلاً يحبه

وسدّ على ذلك الجوهر بغطاء.

فدعوا الحطام إلى الأرض يعود

ما دام الذهب يتوهج في خزائن الرحمن.

مع ذلك تنتحبون يا أصدقائي

في حين أن من تقولون أنه ميّت

يغمره نعيم يعصى على الوصف

وما زال حياً يُرزق ويحبكم.

صحيح أنه فـُقد ولم يعد باستطاعتكم

رؤيته بالنور الذي به تبصرون

لكن في النور الذي لا يمكنكم معاينته

في دنيا المباهج التي لم تتذوقوها بعد

في الفردوس العريض

يحيا حياة لا تنقضي بالموت أبدا.

أستودعكم الله ولا أودّعكم يا أصدقائي

فحيث أنا موجود سيكون مقرّكم أيضاً.

لقد غاب شخصي عنكم

لفترة وجيزة

وعندما تأتون إلى حيث ولجت

ستتعجبون من بكائكم

لأن هنا كل شيء، وهناك لا شيء.

ابكوا قليلاً إن كان لكم في البكاء عزاء

لكن تذكروا أن شعاع الشمس يعقب المطر.

لقد بت أدرك الآن

أن الموت هو النسمة الأولى

التي تستنشقها أرواحنا

عندما تدخل الحياة الأبدية

التي هي محور كل حياة.

وتأكدوا أن الوجود بأسره يبدو مغموراً بالحب

لدى معاينته من عرش الله في أعلى عليين.

فلتكن قلوبكم قوية

(ولتستعدوا) للقدوم بجرأة إلى داركم، دار البقاء

لا إله إلا الله!

هذه رسالته لصحبه ومحبيه

ذاك الذي قضى في عزّان

لتطييب الخواطر

وتبديد الأحزان

Sir Edwin Arnold

 

أرض الرضاء

------------

قصدتُ بهمة عالية أرض الرضاء

وسرت ليوم واحد، بدعابة صاخبة وضحكات مجلجلة

على دروب اللذاذة المزدحمة بأهل الكيف

لكنني أدركت أنني ضللت السبيل

إذ قابلت مسافرين عائدين من رحلة مماثلة

وقد أضناهم الترحال وأنهكم الإعياء.

قلت أفيدوني.. ما وراءكم؟ قالوا:

ذهبنا نبحث عن أرض الرضاء

فلم نعثر عليها وعدنا أدراجنا خائبين

"كأنك يا بوزيد ما غزيت"

تركتهم وتوجهت إلى درب الشهرة الشديد الإنحدار

وقد حدثتني نفسي أن تلك الأرض الموعودة

تكمن خلف تلك المرتفعات

وأن الطموح سيشحنني بالعزم

وينير دربي بالضياء

وأنا في طريقي إلى أرض الرضاء.

لكن قبل حلول الظلام شعرت بانقباض شديد

وراودني قلق رهيب

فقلت وقد تعاظمت وحشتي وانتابتني الهواجس:

هذا الطريق أبعد ما يكون عن أرض الرضاء.

ثم انضممت إلى حّشْد العوام

وهم يحثون السير ويتدافعون بالمناكب

للوصول إلى أسواق المال

لكن الطمع والجشع أصاباني بالذهول والغثيان

فغادرت على عجل، لا ألوي على شيء

وقلبي يردد ويؤكد:

هذه ليست أرض الرضاء.

وإذ أتعبني المسير واستنفد قواي

لمحت درباً متواضعاً

مكسواً بالحشائش والأعشاب

فتوجهت إليه وقلت في نفسي:

فلأسترح قليلاً من وعثاء السفر

على هذا الدرب المغمور المهجور

فشعرت بالراحة وغمرتني الطمأنينة

وأدركت بما لا يتطرق إليه الشك

بأنه درب الواجب

الذي اختاره الله

للنفوس المتشوقة

لبلوغ أرض الرضاء.

Maurine

 

همسات عند الأصيل

-----------------------

قال: ما بالك واجمة؟

أجابت: لا أدري لماذا يذكرني القمر بالسفر؟

فأشعر مثلما شعر أبو العتاهية إذ كان يرى الهلال يهلّ.

قال: أمامك العالم بطوله وعرضه فقرّي عيناً وافعمي بالبهجة خافقك.

قالت: طالت زيارتي لعالم الحدود

وكثرة الجمود والجحود

واستقت الأشواكُ من روافد العقيق

واعتلق في الخافق العليق.

قال: لكن ما زالت الدنيا بخير والشمس تجدد إشراقها كل صباح.

قالت: قد قارب الأصيل

فالكائناتُ توحي بالسكون

والوسن يساور العيون

ولم يعد يحلو لي المبيتْ

إلاّ بصقع ٍ يجهل الظلام

والحزنَ والآلام

يكون فيه نومي استيقاظ

ويغربُ عن بالي

ما كان في الأنقاض.


 

عِنَدَمّا يَحْلم الْعَامِل وَيَعْمَل الْحَالِم

------------------------------------

عِنَدَمّا يَحْلم الْعَامِل

يُسْتَمَد مِن عَمَلِه قُوَّة

وَيَجِد فِي الِإِجْتِهَاد مَغْزَى

وَفِي الْكَدْح مَسَرَّة

وَفِي الْإِنْتَاج لَذَّة الْإِنْجَاز.

وَعِنْدَمَا يَعْمَل الْحَالِم

يُحَوِّل الانْطِلاق إِلَى نَشَاط خَلَاق

وَهَدِير الْأَمَانِي إِلَى إِثْمَار وَازْدِهَار

وَيُقَرِّن أَطْيَافه السديمية

بواقعه الْحَي الْمَلْمُوس.

عِنَدَمّا يَحْلم الْعَامِل

تَتَّسِع مَسَاحَة وَعْيه

فَتَرْتَبّط خُيُوْط كيانه بِالْوُجُود مِن حَوْلِه

وَيَجْلِب الْجَمَال لِفِكْرِه

وَالْنُّوْر لِقَلْبِه

وَيَأْتِي بِالْغِنَى وَالْتَّنَوُّع

إِلَى دَائِرَة حَيَاتِه.

وَعِنْدَمَا يَعْمَل الْحَالِم

يُبْصِر فِي الْبَحْر وَالْفَضَاء مِن حَوْلَه دَعْوَة

لِتَوْدِيع بَوْتَقَة الْنَّظْرَة الْمَحْدُوْدَة

وَالْغَوْص فِي أَعْمَاق الْتَّجْرِبَة الْإِنْسَانِيَّة

كما يَرَى فِي أَمْوَاج الْأَثِير تُرْبَة خِصْبَة

لِغَرْس بُذُوْر أَفْكَارَه الْحَيَّة

وَفِي الْأَوْرَاق الْمُتَنَاثِرَة مُذَكِّرَا وَحَافِزا

لِلْاسْتِفَادَة مِن فُصُوْل الْحَيَاة

قَبْل حُلُوْل خَرِيْف الْعُمُر وَشِتَائِه.

عِنَدَمّا يَحْلم الْعَامِل

يَجْمَع بَيْن فَوْرَة النَّشَاط وَسَكِيْنَة الْرَّاحَة

وَيُضَيِّف إِلَى جَدِّيَّة الْوَاقِع بَسْمَة الْرِّضَى

وَإِلَى مَرَارَة الْعَيْش حَلَاوَة الْأَمَل.

وَعِنْدَمَا يَعْمَل الْحَالِم

يُحَوِّل رِيَاض أَحْلَامِه إِلَى كُرُوْم وَبَسَاتِيْن

وَيَجِد فِي هَدْأَة الْسُّكُوْن

قُوَى كَامِنَة فِي انْتِظَار التفعيل

وَفِي رَعْشَة الْحُب نِدَاء الْوَاجِب.

 

في مطاوي النفس

-------------

في مطاوي النفس العميقة.. البعيدة

في الإيحاءات السعيدة

المنسوجة بخيوط ملونة.. من نور

في الصمت البليغ الشبيه بالفضيلة

في سماء الأفكار المرصعة بألف وميض

في أثر القوة الإيجابية

وقوة التأثير الطيب

في نضارة العاطفة وصفاء الطوية

في روعة الصدق ونبل المقصد

وفي طلاقة فجر الفرح

المنبثق من غسق الحنين

في قوة الحب.. الأسمى من حب القوة، وأعظم

في استدقاق الإحساس

ومحبة وخدمة الناس

في الأفكار الشبيهة بذوب النضار

والتواصل مع أثير الروح..

أنغام توافقية

ونزهات فكرية

وراحة داخلية

ونبض يستمد دفئه

من حرارة القلب.

 

قراءة في ألفية شبلي الأطرش

----------------------------------

تلك الألفية الرائعة ذات النفحة الجبلية المحببة للنفس والعبارات الحكمية المستملحة بالرغم من تقادم العهد ببعض مفرداتها.

من يقرأ القصيدة يدرك أن ناظمها رحمه الله كان واسع الإطلاع وذا تجربة ذاتية عميقة.

فهو قد خبر الحياة حلوها ومرها وأراد أن ينقل تجربته إلى الأجيال. وقد نجح في ذلك لأننا ما زلنا نقرؤها ونستفيد منها حتى بعد مرور أكثر من قرن على نظمها.

وإن لم تخني الذاكرة فقد قرأت ذات مرة رسالة من عبد الغفار الأطرش يقول فيها إلى قريبه سليم الأطرش على سبيل التنبيه والعتاب (ارجع إلى قصائد جدك شبلي...)

نستدل من كلمات الشاعر أنه كان طيب القلب، محباً للناس، كريماً صادق القول، وشهماً أبياً، وباختصار رجلاً بكل معنى الكلمة.

فهو يهيب سواء بالسامع أو القارئ بأن لا يبتعد عن عمل الخير لحظة واحدة بل يواظب عليه طوال عمره.

وهو يحذر الناس من البخل في زمن كانت الضيافة فيه جزءاً لا يتجزأ من النسيج الإجتماعي نظراً لاعتماد الناس على بعضهم في المؤازرة وتلبية الحاجيات، حيث لا مطاعم ولا فنادق ولا وسائل نقل سريعة في تلك الأيام.

ولترسيخ هذه الخلة الكريمة في النفس يبيّن أن البخل عار وأن لا حاجة أن تـُعطى الذريعة للآخرين كي يصِفوا ويصِموا صاحبها بالخسة والوضاعة.

ثم ينتقل إلى جانب عملي آخر هو عدم ائتمان الخائن على المال لأنه لن يراعي حرمة الأمانة بل سيمدّ يده إلى الوديعة ويتصرف بحسب ما يوحي له ضميره الزائغ. ثم يحذر صاحب المال من أن ذلك الخائن لا عهد له ولا ذمة وهو مع ذلك مستعد لأن يقسم جهد إيمانه بأنه وفيّ، لكن قسَمَه لا يعتد به لأن الطبعَ أغلب.

كما ينصحنا بمراقبة أقوالنا صيانة لنا ولها من الزلل، ويشدد على الدقة في القول دون زيادة أو نقصان، مما يوحي بأن الرجل كان على درجة عالية من ضبط النفس، يزن أقواله قبل التلفظ بها لأنه كان يدرك ما للكلمة من تأثير بالغ على الفرد والمجتمع.

ولا يكتفي بذلك بل يهاجم الكذب والكذابين عندما يقول (درب الكذب عار على الفتى) ويدعم قوله هذا بعبارة (من خاس حكيه بين الرجال يخيس) بما معناه أن صاحب الكلام غير الصحيح أو الدقيق يتقلص ظله وتنحط مكانته في عيون الآخرين.

بعد ذلك ينتقل إلى نصيحة من أروع ما ورد في هذه القصيدة الجميلة إذ يقول:

(الجيم جارك لا تجافيه وتجحده...... لا يجحد الجيران غير ابليس)

وهي عبارة عميقة الدلالة صاغها بكيفية مؤثرة تحاكي الضمير ببساطة وجدية. وكثيراً ما كنت أسمع شقيقي المرحوم حمد، الذي كان قد حفظ القصيدة، يردد هذا البيت بكل إيمان بمحتواه وإعجاب بقائله.

هذا يؤكد لنا أن شاعرنا المحبوب كان محباً لجاره، أميناً معه ومؤتمناً عليه لأن الناس كلهم جيران ولا سبيل للتعامل مع بعضهم سوى بالإلفة والتحاب، بعيداً عن الدروب الشيطانية التي تتمثل في العداوة والجفاء. ويدعم قوله بأن النبي عليه السلام قد أوصى بالجار خيراً عندما قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره."

وهذا يذكرنا أيضاً بقول الشاعر:

(أكرمْ الجارَ وراع ِ حقـَهُ........... إن عرفانَ الفتى الحقِّ كرمْ(

ثم يعود شاعرنا شبلي بك ليؤكد على أهمية استقبال الضيف بالترحاب والابتسام مشبهاً الكرماء "الأجواد" بالروض الذي يزهو على الندى. وهذه تورية لطيفة تجمع بين الندى أي الطل والندى أي الجود. فكما أن الطلّ يحيي الروض بقطراته المنعشة هكذا يحيي الجوُد النفوسَ ويزيدها كرماً وكرامة.

ولا يتحرّج من وصف البخلاء بالأنذال وتشبيههم بالأرض الجرداء الجدباء التي لا خضرة فيها ولا نضرة ولا ماء. وهذه الصور الذهنية قوية للغاية وفعّالة بحيث تحفز الشخص على مباينة الشح ومبايعة السخاء.

وبين هذا وذاك يتودد شاعرنا للسامع والقارئ بأن يمتلك الخصال الحميدة حتى يذكره الناس بالخير وأن يحافظ على شرفه وكرامته فلا يسمح لأي شيء أن يدنس تلك المقدسات التي يجب صيانتها من العطب وعدم الترخيص بها أو التفريط.

كما يحثنا على مداراة الناس كي نأمن شرهم على الأقل وأن نصطفي أحسنهم أصدقاءً وجلساءً. ويميزّ بينهم تمييزاً حصيفاً وظريفاً.. فهذا رئبال وذاك حمار وآخر تيس.. فمن الحكمة التمييز بين نوعيات البشر ومعاشرة الطيبين منهم.

بعد هذا يرغب إلينا في التواضع أمام الله وحده لا سواه. فهو سبحانه الذي يستحق هذا التواضع التام لأننا مسؤولون أمامه يوم الحساب وهو وحده القادر على فحص أعمالنا ومنحنا الرضاء والمغفرة.

ثم ينبهنا إلى أن هوى النفس يشبه النار الحارقة التي تأتي على الأخضر واليابس، ولذلك ينبغي مراقبتها ولجمها عن الأهواء الجامحة التي لا تحمد عقباها.

ويتحسّر شاعرنا على أيام الصبا والشباب ويأتي ذلك "التوجّد" كاستراحة قصيرة قبل إتمام تلك الموعظة الرائعة المليئة بدرر الحِكم وغرر الأقوال المأثورة.

ويعود ليذكـّرنا بأهمية التزود بأعمال الخير وتنزيه النفس عن المراءاة والدجل والتدليس.

كما ينصح بأخذ الحيطة والحذر مع العدو الذي لا ينفك يخطط لإيقاع الأذى بغيره.

ولا ينسى شاعرنا بأن يمتدح (أهل الشور) ذوي المشورة الحسنة الذين بفضل آرائهم السديدة تعمر البلاد وتزدهر، والإبتعاد عن (التخبيص) أي سوء الإدارة الذي من شأنه أن يخرّب البلدان العامرة ويجلب لها الدمار والأضرار.

ويحذر من كثرة الآراء غير الصائبة لأنه لا خير يرجى منها وقد تؤدي إلى انفلات الأمور ووقع المحذور.

ولا يغفل شاعرنا التطرق إلى بعض النواحي الصحية، كمداواة الجسم بقلة الأكل وتطبيب النفس بالدراسة والحفظ..

أكتفي بهذا القدر من القراءة في هذه القصيدة الرائعة للشاعر الجبلي المحبوب شبلي الأطرش طيب الله ثراه وأكرم مثواه.

 

سديم لجينيّ أم أنفاس نرجس؟

-----------------------------------

أيها الضباب

يا ابن البحر والأرض!

يا روح الليل الشفافة!

كيف لي أن أنشد لك دون أن أعرف حتى إسمك؟

عندما أخطر وسط غلالتك البيضاء أنسى حتى جسدي الذي أرتديه

ومع ذلك لا بد لي من البحث عن السر الذي تخفيه.

هل أنتَ سديم لجيني رقيق من نهر الحياة؟

أم همسات ناعمة لا صوت لها يهمسها أحبتنا في الفردوس؟

أم أنفاس نرجس قضى بالأمس مبتسماً على صدر الجمال؟

أم أرواح سفن ماتت ثم عادت لترنو ثانية إلى وجه القمر؟

إنك لتشبه الورود البيضاء الغافية على وسادة الفجر!

رقيق كرقع الثلج المنهمرة على الوجوه السمحاء!

زهور الذاكرة تتفتح من قلب التربة احتفاءً بمقدمك

وشفاه الأبدية تطبع على وجنات العالم الحالم قبلات دافئة.

يا من تعانق الموجودات، اشملني بعناقك.

ومهما تكن أيها الضباب

فإنك تشحنني بالنشاط والحيوية

وتستحثني كي أملأ قلبي برحيق المحبة

ورذاذ التفاؤل

وندى الجمال.

 

حوار التلميذين

----------------

يعمد بعض المعلمين إلى تشجيع تلامذتهم كي يعبّروا عن

أنفسهم بحرية.

كان لاثنين من المعلمين تلميذان، وكان أحدهما يذهب كل صباح

لشراء الخضروات من السوق فيقابل في طريقه التلميذ الآخر

الذي يبادره بالسؤال:

إلى أين أنت ذاهب؟

فيجيبه: إلى حيث تقودني قدماي.

هذا الجواب حيّر الطفل الأول الذي استنجد بمعلمه لمعرفة المقصود.

قال له معلمه: عندما تقابل هذا الفتى اسأله نفس السؤال

وسيعطيك نفس الجواب. إذ ذاك اسأله: وعلى افتراض أنه ليس لك

قدمان، فأين ستذهب؟ وبذلك تربكه وتبلبل عقله المتذاكي.

تقابل الولدان ثانية في الصباح التالي - أسعد الله صباحكم بكل خير - فسأل الولد الأول: إلى أين ذاهب؟

أجاب الآخر: إلى حيث تهبّ الريح.

لم يحرِ السائل جواباً بل هرع إلى معلمه وأخبره بالجواب المفحم.

فقال المعلم: لا بأس، اسأله وإلى أين تذهب إن كان لا يوجد ريح.

في اليوم التالي تقابل الولدان فسأل الولد الأول:

إلى أين ذاهب اليوم؟

فأجاب الآخر: إلى سوق الخضرة.

 

مزاج رجراج

------------

قصد أحدهم حكيماً وقال له:

يا سيدي عندي مزاج متقلب رجراج، يتحكم بي بدلا من تحكمي به

فيوقعني في ورطات أنا في غنى عنها، فبماذا تنصحني كي

أتخلص منه؟"

قال الحكيم: غريب! هات، أظهره أمامي الآن لأعرف بالضبط ما تقول.

أجاب التلميذ: لكن لا أستطيع أن أظهره لك في هذه اللحظة.

فقال الحكيم: ومتى يمكنك إظهاره لي.

أجاب التلميذ: إنه يظهر فجأة من تلقاء ذاته، دون توقّع.

فقال الحكيم مستنتجاً: إذاً هذا المزاج ليس طبيعتك الحقة يا بني،

فلو كان كذلك لتمكنتَ من إظهاره لي في أية لحظة.

عندما ولدتَ لم يلد معك، ولم تكتسبه من أبويك، ومجرد إدراك هذه

الحقيقة ينبغي أن يساعدك على التغلب عليه والتخلص منه.

 

وستضاء حجرات الدماغ

-------------------------

هكذا وصف تجربته:

دخلتُ درب الأفكار الكئيبة

فبدا لي كل شيء مغلفاً بغلالة من ذهول وسبات

وشعرت كما لو أنني غادرت نطاق الزمن

وولجتُ سرداباً من الليل قتيم

إذ عكستُ تحركات الحياة الإعتيادية

حيث بالعيون نبصر

وبالأذان نسمع

ومع الحواس نتفاعل

وحيث تـُحركنا قوى الجسد

ولا نحصل على معرفة مجردة

إلا في لحظات وجيزة من الصفاء.

على الدرب الداخلي نوقد نورنا..

بداية تكتنفنا حيرة إذ لا نبصر شيئاً

ولا نسمع صوتاً أو صدىً

ونعجز عن التفكير.

نبدو وكأن الأحلام قد هجرتنا

والرؤية فارقتنا

والإلهام ودّعنا الوداع الأخير.

لكن إن كانت الرغبة ملحة

والمثابرة متصلة

فعاجلاً أم آجلاً تتبدد الكآبة

ويستيقظ السبات ويتلاشى الذهول

وتعيد ملكات النفس ضبط إيقاعها ومعايرة بوصلتها

فتفعل ما نريدها أن تفعل..

إذ تُضاء حجرات الدماغ

وتحدث استنارة ذاتية.

بحرارة الإرادة والشوق

يتحول الخشن الكثيف إلى أثير لطيف

حيث يعمل العقل وينجز.

وكما تتوهج قطعة الحديد

فيتحول لونها أحمرا في البداية

ثم يستحيل أبيض..

أو مثلما يذوب الجليد

فيتحول إلى سائل

ثم إلى بخار، فغاز

وأخيراً إلى طاقة مشعة..

هكذا تتحول الأفكار المتسامية

إلى طاقة شفافة في منتهى الصفاء

تصوغ ذاتها في حلة للنفس غاية في الجمال

وتشبكنا مع عقول وأرواح متقدمة

لها في مستويات أخرى من الوجود مستقـَرات.

الأفكار تزداد سرعة والخيال وضوحاً

فترتفع النفس فوق متطلبات الجسد وخشونة المادة

وتقترب من طبيعتها الحقة.

القلب يحن لساعة السكينة ويهرع نحوها

وعندما تأتي

نغوص في ذواتنا

مثلما يرتفع الغواص في البحر

من تحت الماء ليستنشق الهواء..

حقاً أنه على قدر ونوعية الطموحات تكون الإلهامات..

في تلك اللحظات..

إن تصورنا الخالق حباً

يغمرنا حب عظيم

وإن خلناه قوة

نقبس من ذاك الجبروت عزيمة

وإن حلمنا به جمالاً

نبصر السحر والجمال في كل مكان

فنرى عجائب من الفنون مذهلة

يعجز الكلام عن تعليلها

لأنها تفوق حد الوصف.

والسلام عليكم

MEDITATION

East-West Magazine

 

الساموراي والحكيم

----------------------

ذات مرة ذهب أحد مقاتلي الساموراي المعروفين بالشدة والبأس

إلى حكيم القرية وسأله قائلاً: هل هناك بالفعل من جنة وجحيم؟

أجاب الحكيم: ومن عساك أن تكون؟

قال: أنا محارب من فئة الساموراي.

فقال الحكيم مستهزئاً: لكن مظهرك يوحي بالذل والإنكسار.

فغضب المقاتل غضباً ما عليه من مزيد وشرع باستلال سيفه.

مع ذلك واصل الحكيم كلامه دون أن يرف له جفن:

يا سلام! ومعك سيف أيضاً؟ لكن أخشى أن يكون سيفك مثلوماً

لا يقطع بصله، ناهيك عن قطع رأسي.

هنا جرّد المحارب حسامه من غمده وهمّ بالإنقضاض على الحكيم

ليبطش به، فقال الحكيم:

إنك الآن على وشك أن تفتح بوابات الجحيم!

عندما سمع المحارب هذه الكلمات أدرك ما كان يرمي إليه المعلم

فأغمد سيفه وانحنى أمامه احتراماً.

فقال الحكيم: الآن اقتربت من أبواب النعيم.

 

تقطيع أوتار القيثار

-------------------

في قديم الزمان عاش في الصين صديقان حميمان

أحدهما كان عازف قيثار ماهر

والثاني كان بارعاً في فن الإصغاء.

فعندما كان الواحد يعزف نغمة عن جبل

كان الآخر يقول: "أرى الجبل أمامنا."

وعندما كان العازف يعزف لحناً عن الماء

كان المصغي يقول: "إنني أبصر الجدول بكل وضوح!"

ذات يوم أصيب المصغي بمرض توفي على إثره

فما كان من صديقه إلا أن قطـّع أوتار قيثاره

ولم يعزف بعدها لحناً واحداً.

ومنذ ذلك الحين اعتـُبر تقطيع أوتار القيثار

علامة من علامات الصداقة والوفاء.

 

في ذلك الحاضر الأبدي

---------------------------------------

ستأتي يقظة عظيمة لهذا العالم الغافي

ذلك اليوم قادم يا أصدقائي

بخطوات متسارعة.

الحرية ستسير مع العدل

والحكمة ستقف بجانب الحق

وسيسير أبناء العالم الواحد

جنباً إلى جنب.. يداً بيد.

سيستيقظ الأموات

عندما يكتشف أبناء الحياة

أن النفس خالدة لا تموت.

فالإنبعاث يكمن في الإدراك

بأن الحق سيحرر الناس

لأن الله خلقهم أحرارا.

وسيرى الإنسان اللهَ بمجده وجلاله

عندما يتجرأ على النظر إلى باطنه

وسيعثر على طيبة أبدية في ذاته

وفي بني جنسه

مثلما سيدرك أن الحياة أبدية

لا تولد ولا تموت

وستشهد هذه المعرفة

بزوغ فجر جديد.

لقد عانى الإنسان من الخوف على مدى أجيال

من ذلك الشيء الذي لا ينبغي أن يكون

لكن عينيه ستنفتحا على النور

وسيرى أن الموت هو مجرد ظل

وأن الضريح هو سرير

ينام فيه ابن الحياة

بعد التلفظ بدعاء المساء.

في ذلك الحاضر الأبدي

حيث يلتقي الماضي بالمستقبل

ستتفتح كل الزهور والورود

عند أقدام الحب الأعظم

وسيعثر المؤمنون على المملكة المباركة

عندما يفلحون في تسلق جبال المعرفة.

وسيفرح الإنسان في مشاركة غيره

بالخيرات التي تصل إلى يديه

ولسان حاله يقول:

هذا من فضل ربي

مثلما سيبتهج بالطيبة واللطف

وستغرد بلابل السعادة

في مروج العقل المنسجم.

وستتحول أفكاره إلى ملائكة تخدم البشر

وتعود ثانية إلى قلبه المعطاء

محمّلة بالتحيات الطيبات.

وسيقرأ الرسالة المقدسة

على ستارة الكون

ويسمع أصوات الدعاء

متجاوبة في محراب روحه.

ستنفحه زهور ورياحين الأرض

بأنفاسها العطرة

وتمطره السماء زخات

من البركات والمدركاتم.

 

الإبداع: نظرة تحليلية

-----------------------

الإبداع هو إسم آخر للخلق، ونحن نعلم أن الله قد خلقنا أي أبدعنا من ذاته. وهذا الإبداع يلزمه ميزة أساسية حتى يعتبر إبداعاً وتلك الميزة هي الأصالة. ولا يكفي أن يأتي الإنسان بشيء جديد حتى يدعى إبداعاً، بل ينبغي أيضاً أن يكون ذلك الجديد مفيداً مادياً أو معنوياً، وإلا فقد يأتي محبو "الإبداع" بأشياء جديدة إنما قد تكون تافهة أو ضارة ولذلك تبقى خارج نطاق هذا التعريف.

وروح الإبداع في الإنسان هي ذاتُ طاقة أو قوة حركية، ولذلك فهي تحاول دوماً الإعراب عن ذاتها باستجماع أفكار أو انطباعات أثيرية رجراجة وتجسيدها صوراً وأشكالاً أو قطعاً فنية أو أدبية في عالم الواقع.

وإن تتبعنا مسار الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ لوجدنا أن الإنسان أحس بذلك الدافع الخلاق منذ البداية فراح يعبّر عنه بكومات من حجارة أو رسوم في كهوف أو أهرام ومسلات في صحراء أو ملاحم ومعلقات أو أزياء وتقليعات أو أغان وألحان منها ما يُطرب ويُشجي ومنها ما لا يحرّك الأشواق ولا تستسيغه الأذواق.

الإنسان خلاق بطبيعته وعندما لا يستطيع الإتيان بشيء جديد محسوس يطلق لفكره العنان ليخلق ما شاء له من البدائع الفنية في دنيا الأفكار ذات المراتب والمستويات التي هي بعدد أفكار المفكرين، وما هذا بقليل!

لقد أبدع الكثير من شعرائنا العرب منذ عصر الجاهلية وما زالوا يبدعون. وهناك معايير متفق عليها في هذا الشأن. وبما أن الإبداع هو وليد الفكر، والفكر وليد الوعي، والوعي - ذو أصل - كوني لأنه انبثق عن الوعي الكلي، فلا بد أن يكون الإبداع ذا طبيعة عالمية.

فالقصيدة الإبداعية أو المقطوعة الأدبية في أية لغة من اللغات يجب أن تحتفظ بروح الإبداع لدى ترجمتها إلى لغة أخرى، تماماً كما تترك اللوحة الفنية الرائعة انطباعاً خاصاً في نفس كل من يتأملها بغض النظر عن اللغة التي يتكلمها أو الثقافة التي ينتمي إليها.

إن سماء دنيا الإبداع تعج بالأفكار المضيئة الدائمة الإشعاع. وحينما يتمكن فكر الإنسان من التناغم مع مستوى من تلك المستويات ويجعل عقله وكافة إمكاناته في حالة الجهوزية والتقبل لا بد أن يتمكن من نقل ولو قسط بسيط من تلك المشاهد أو المشاهدات أو الرؤى أو الإنطباعات من عالم الفنون الأصيلة الجميلة إلى دنيا الناس هذه.

هناك عباقرة بكل ما لهذه الكلمة من معنى – من كل القوميات – ممن تركوا بصمات لا تمحى على وعي البشرية بفضل تناغمهم التام مع مستويات من غير هذا العالم. تلك حقيقة لا جدال فيها عند محبي الإبداع الذين يتمتعون بذائقة فنية على درجة عالية من الرهافة والتمييز.

هؤلاء النوابغ لم يعمدوا للتقليد لأنهم اعتبروا التقليد غير لائق بالنفوس والعقول الكبيرة. ولذلك ساروا في دروب غير مطروقة فاكتشفوا كنوزاً جديدة تمكنوا من جلبها أو لنـَقـُل من تجسيدها في هذه العالم ليراها ويستمتع بها الناس دون المقدرة على الإتيان بمثلها. ولعل السبب في ذلك يعود إلى كون تلك الإبداعات غير متاحة للذين لا يكرسون ما يكفي من الجهد والنشاط الخلاق لبلوغ مواطن تلك الكنوز الإبداعية الفريدة.

الإنسانية الولاّدة ما زالت تنجب عباقرة وفنانين يتمتعون بحس رفيع من المسؤولية تجاه إخوتهم البشر، ويجندون كل طاقاتهم لخلق ما ينفع الناس ويسمو بأفكارهم عالياً ويترك بصمات للأجيال توحي بأن الأسلاف تركوا وراءهم فعلا ما يستحق المحافظة عليه والإحتفاء به.


 

الحياة فيها الكثير من الأشواك، لا سيما اللامنظور منها..

فيها أشواك قلق

وأشواك خوف

وأشواك ألم

وأشواك هموم ضاغطة

وأشواك تحسّبات لمفاجآت غير سارة

وأشواك مرارة وحزن وقنوط

والنفوس الطيبة - كنفوسكم

تعمل ما بوسعها لاقتلاع تلك الأشواك الواخزة

ولو بكلمة تحمل نغمتها التشجيع

تبعث في النفس الطمأنينة

وتنقل مشاعر المواساة

وتبدد غيوم الهموم

وتوحي بأن الدنيا ما زالت بخير

وأن رحمة الله لا يقنط منها المؤمنون.

 


القافلة: رحلة من المادي إلى الروحي

--------------------------------------------

عبر الصحراء الحارقة

تواصل القافلة رحلتها

فوق مسالك منعرجة

وسط كثبان الرمال التي سفتها الرياح (المادة)

الجـِمال حاملة الأثقال

تسير سيراً وئيدا

بصمت وإيقاع رتيب (الجسم المادي)

تكاد تسمع صوت حاديها

لولا القيظ اللاهب الكثيف (العقل الباطن)

وفي الهودج المغلف بالستائر السميكة

يتكئ سيد القافلة على وسائد حريرية

يفعمه الرضى الذاتي (الأنا)

والقناعة بأنه ما دام يتوقى الحر الشديد

ولا يعترض سبيله قاطعو طرق

وما دامت حيواناته لا تنفق

ولا يغدر به حداة العيس

فالدنيا بألف خير وسيجني أرباحاً

وفيرة من بضاعته النفيسة (النجاح المادي)

لكن لو كان مكانه سيد للقافلة أكثر حكمة وحنكة (النفس)

وكان قد قطع من قبل تلك المفازات مرات ومرات

ويعرف مكامن السراب الخدّاع (الوهم)

الذي يستدرج المسافرين إلى حتفهم الأكيد

لكان على علم دقيق ووثيق بالواحات (المعرفة)

حيث الراحة العذبة تحت النخيل الوارف الظلال (السلام)

والمياه الباردة المشعشعة

منبجسة من الينابيع الثرة (الغبطة)

ولكانت القافلة عندئذ تسير في أمن واطمئنان

لتبلغ مقصدها المنشود

ما وراء الصقع الرملي الممدود

أو لتعيده سالماً إلى أحبابه ومحبيه (الإدراك الروحي).

East-West Magazine

 


قالت.. وقال..

--------------

قالت الطيبة: أنا أحب المسالك الخيّرة.

وقال الأمن: أنا عون من السماء استجابة لدعاء.

قالت الحرية: أنا متمرسة في رفع الأثقال المقيّدة.

وقال الصدق: أنا معيار القيم.

قالت الطمأنينة: أنا أشيع الدفء في القلوب والراحة في النفوس.

وقال الإبداع: أنا أعشق جمال التصور وتبهرني روعة الخيال.

قالت الرقة: أنا خلجة فيها حرارة تذيب صقيع الأحاسيس الجامدة.

وقال التميّز: أنا جبل مطل على بحر لا ساحل له.

قالت الثقة بالنفس: أنا زهرة الإيمان المتفتحة في رياض الرحمن.

وقال النفاق: ما العيب في تلوّن الحرباءِ؟

قالت البساطة: أنا في انتعاش دائم لأنني أتنفس أنسام الحياة.

وقال الغرور: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا!

قالت الشهامة: مثلما أحترم نفسي أحترم حقوق الآخرين.

وقال الإيمان: أنا زاخر بالحيوية، متألق كشمس الظهيرة.

قالت الأنانية: أنا الألف والياء وما عداي هباء.

وقال الجمال: أنا إسم آخر للمعاني السامية.

قالت الكراهية: أفكاري صواعق وقلمي ناب السم.

وقال الحب: أنا جنة الله على الأرض.

 

وبقي وحده...

---------------

أزاحت جانباً ستارة الليل

ووقفت أمامه

تحاكي الفردوس جمالاً.

لم تنبس ببنت شفة

لكن روحه الرهيفة

التقطت ترنيمات قلبها الطهور

في حين أيقظ حضورها فيه

خواطر وذكريات..

وفي عينيها الحانيتين

عثر من جديد

على أحلام سعيدة

لكل سنيّ الأشواق

فدمعت عيناه من غبطة

وأبصر من خلال العبرات

ابتسامة ذابت واستحالت فجراً

يبشر بإشراق

وبقي وحده

يغترف ويعبّ من أحاسيس

تعصى على الوصف.

 


المسار

--------

قال المسافر إلى الأرض البعيدة:

عثرة أخرى سأتخطاها

وخطراً آخر سأقتحمه

وتجربة أخرى سأخوضها

وحزناً آخر عذب المذاق سأتذوقه

وقد أجتاز أيضاً بحراً صاخب

بموجه العاتي وأعاصيره الهوجاء

دون أن يتسلل الهلع إلى قلبي

لثقتي باليد الأمينة

العاضدة أبدا في الشدائد.

وقد أسير وسط الظلام

حيث السكون أعذب من الألحان

والظلمة أحب من الضياء.

سيمر دربي عبر صحراء الزمن

التي يتعين قطعها وحيداً

إلى أن أبلغ المحطة الأخيرة

وأفرح باللقاء.

 

حوار بين الشك والفرح

-------------------------

من قبر الزمن خرج شبح الشك

كظل قتيم لفكرة شريرة

وراح يتجول وحيداً في دنيا البشر

إلى أن وقع بصره أخيراً على الفرح المتألق

فانسل إلى قلبه وراح يتكلم عن الموت قائلاً:

لا تتأمل بجنات نعيم وفرح مقيم

فمستقبلك موؤود وبظلمة القبر ملحود

ومهما كان الأمس جميلاً ممتعاً

فقد ولّى إلى غير رجعة.

ولماذا تثق بالحاضر

الذي سيصبح أيضاً كأمس الدابر

ولن يعود؟

فأجاب الفرح:

لكن الحقيقة تخبرني بخلاف ذلك..

فهي تهمس لي أن روحي لا تموت

وأن هناك جنات عرض السموات والأرض

بانتظار النفوس الطيبة المؤمنة

وأن الكذب ضَلال وظِلال

مآلها الزوال والإضمحلال

أما أنا فأعيش في نور الله

الذي ليس لغيره بقاء.

واعلم يا صنو الإرتياب

أن المستقبل المشرق والأمس السعيد

هما من نصيبي الآن

وإلى أن يرث الله الأرض و ما عليها

 

من أقوال سقراط

في تعليق للأستاذ عبد الهادي الحمداني على موضوعي (سقراط الفيلسوف الشهيد) في الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب وردت العبارة التالية:

هل يمكن أن نستفيد من أفكاره أو فلسفته؟

وبناء على طلبه قمت بترجمة هذه الأقوال للحكيم الفيلسوف سقراط:

كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئاً.

الحكمة تـُظهر لنا ضحالة ما نعرفه.

التربية هي إيقاد شعلة لا ملء وعاء.

لو تسنى لي تسلق أعلى مكان في أثينا لجهرت بصوتي قائلاً:

"يا بني وطني، لماذا تقلبون وتكشطون كل صخرة لجمع ثروة

ستتركونها في نهاية المطاف لأبنائكم الذين قلما تمنحوهم

من وقتكم ما يحتاجونه من رعاية واهتمام؟"

الكلمات الكاذبة ليست شريرة وحسب، بل تسمم النفس أيضاً وتملؤها شراً.

من يرغب بتحريك العالم فليحرّك نفسه أولاً.

ما نكرره على الدوام يحدد ماهيتنا. وبناء عليه فالسمو هو عادة من العادات.

الحكمة تبدأ بالاندهاش.

لا تجزعوا للموت، بل ابتهجوا واعلموا أن الرجل الطيب لا يُخشى عليه

من الشر، سواء في هذه الحياة الدنيا أو في العالم الآخر.

التافهون يعيشون ليأكلوا ويشربوا، والنبلاء يأكلون ويشربون حتى يعيشوا.

نصيحتي لك أن تتزوج. فإن وجدت زوجة صالحة عشتَ سعيداً، وإلا أصبحتَ فيلسوفاً.

المنظومة الخلقية المؤسسة على القيم العاطفية النسبية هي مجرد أوهام كاذبة وآراء لا تقوم على أساس سليم.

نفوس جميع البشر خالدة، أما نفوس الصالحين فهي خالدة ومقدسة معاً.

الرجل الصادق الأمين هو طفلٌ دائماً وأبداً (بقلبه الطيب ونواياه الصافية).

كن كما ترغب أن تكون أمام الآخرين.

تأنَ في اختيار الأصدقاء، ولكن متى صادقتهم حافظ على صداقتهم، امنحهم ودّك وكن مخلصاً لهم.

الجمال هو طـُعمٌ لذيذ الطعم، يُغري الرجل لتكثير نوعه.

احذروا الإنهماك الزائد بالعمل لأنه يجعل الحياة مملة وعقيمة.

قد يكون الموت أعظم نعمة للإنسان.

اصرف وقتك في تحسين ذاتك مستعيناً بكتابات الآخرين، وبذلك تستفيد بسرعة من جهود الغير المضنية.

الحقد الدفين الفتاك غالباً ما يبزغ من أعماق الشهوات الطاحنة.

الشجاع لا يهرب، بل يثبت في مكانه ويحارب العدو.

أغنى الناس من يقنع بالقليل، لأن القناعة هي ثروة الطبيعة.

أنا أحكم الحكماء في العالم لأنني أعرف أنني لا أعرف شيئاً.

كل ما أعرفه هو أنني جاهل.

أتمنى لو أن الناس العاديين يمتلكون قدرة غير محدودة على الأذى، لعلهم بذلك يمتلكون أيضاً قوة غير محدودة لعمل الخير.

أمانتي وصدقي لم يسمحا لي في أن أصبح سياسياً وأعيش براحة بال.

إن افتخر أحدهم بثروته يجب أن لا يحصل على المديح والثناء من الآخرين حتى يعرفوا كيف يتصرف يتلك الثروة.

لو تم تجميع كل مصائب البشر في كومة واحدة وطلب من كل واحد أن يأخذ حصة متساوية من تلك المصائب، لقنع معظم الناس بأخذ مصيبتهم من تلك الكومة (لا مصيبة غيرهم).

ليس المهم أن يحيا الإنسان، بل أن يحيا بصدق واستقامة.

صلواتنا يجب أن تكون التماساً للبركات، لأن الله يعرف ما هو الأفضل لنا.

الشعراء هم مفسرو المقاصد الإلهية.

الحياة غير الممحصة (غير المؤسسة على تجربة فعلية) هي حياة غير جديرة بأن يعيشها الإنسان.

 

الشاعر ينشد للّيل

..........................

أيها الليل!

يا كحيل العين

يا ابن الكون

وشقيق النهار

يا معلم الزمن

وملك الأبدية

يا عريس السكينة

ويا أبا الأحلام!

يا من تتنفس البركات

يا وسادة الأحزان

يا صوت السكون

ويا بصر المكفوفين

يا حافظ خزائن الأسرار

وهامس روائع المجد

لمحبي الآفاق والأعماق.

خذني برفق إلى صدرك

وانشد لروحي ألحاناً عذبة مذيبة

وانطلق بي يا ليل

إلى حيث لا آلام ولا أوهام..

إلى أرض الراحة و السلام

 

هدية العيد

------------

أصدقائي الأعزاء..

أدباء وشعراء وكتاب وأقرباء ومستشارين وأكاديميين وإعلاميين

أشكركم جزيل الشكر على تهانيكم القلبية وأمانيكم الطيبة ومشاعركم الصادقة التي أعربتم عنها بمناسبة العيد المبارك.. سواء من خلال هذه الصفحة أو عن طريق رسائل خاصة.

أقدّر مودتكم وأبادلكم الأحاسيس بمثلها

وعرفاناً لما تكرمتم به، قمت بترجمة هذه القصيدة من كتاب (سيمفونيات الروح)

وأود أن أهديها لكم مع

باقة عاطرة من المحبة والتقدير.

وادي الأحلام

---------------

هناك.. في جزيرة الأحلام البعيدة

وادٍ في مملكة القلب المباركة

حيث تتفتح زهور بواكير العمر

على ضفاف جدول الذاكرة المترنم..

غالباً ما تحملني أمواج الكرى المضيئة

فأبحر إلى تلك المملكة النائية

وأحياناً أتوقف في ذلك الوادي

لأجدد لقائي بطفولة ما زالت حية..

هناك.. ألمح زنابق البهجة

وورود الشوق

وأقاحي الخيال

التي غرستها بيديّ عندما كنت يافعاً.

ما زال بنفسج الأمل باسماً

وطحالب العاطفة محتفظة بلونها الزمردي

وزهور النرجس تهمس "ألا تتذكر؟"

وإذ أودّع المشهد وأعود بجفون مخضلة

من وادي الرؤى

أحمل معي بذوراً ذهبية

من أزاهير الجمال

لأستنبتها في صحراء الفكر

حيث سيوقظها الحنين من هجعتها

فتعود ندية.. نابضة بالحياة.

بماء العين سأرويها

وسيعبق أريجها ويملأ أجواء المستقبل

بعذوبة السنين الخوالي

التي توارت واحتجبت منذ زمن بعيد..

وتلك هي هدية العيد.

 

دعاء غير تقليدي

-------------------

إن لم أسلك دروباً مستقيمة في بحثي عن السعادة..

وإن لم أغدُ وأعود بوجه يشيع الراحة والطمأنينة في نفوس الآخرين..

وإن عجزتْ إشعاعات النور المنبثقة من العيون الرضية

عن تحريك مشاعري وملامسة شغاف روحي..

وإن دقّت إطلالة الفجر والكتب القيّمة والطعام المغذي

وزخات الربيع المنعشة على باب قلبي وظل حيالها موصدا..

فأسألك عندئذٍ يا رب أن تهزني هزاً عنيفاً

لتوقظني من غفلتي

وتشفيني من لامبالاتي.

وإن بقيتُ مع ذلك عنيداً متعنتاً

فألتمس منكَ، قبل موافاة الأجل

أن تسلط ألماً واخزاً وعذاباً شديداً على ضميري الغافي

عله يستيقظ في اللحظة الأخيرة..

قبل فوات الأوان.

R. L. Stevenson

 

لماذا كان أسلافنا أكثر سعادة منا؟

-------------------------------------

لا يستطيع الإنسان أن يتحكم – على هواه – بمكونات الكون اللامتناهية، أو تعديلها أو محوها.. فتلك المكونات ترتبط خيوطها الدقيقة ارتباطاً وثيقاً بنسيج حياته ولا يمكن له العمل بمعزل عنها. لكن باستطاعته أن يتحكم بعقله بحيث يتأقلم معها فلا تلحق به الأذى.

أسلافنا كانوا أكثر سعادة منا ليس لأنهم امتلكوا من الأشياء والمتع الدنيوية أكثر مما نمتلكه الآن، أو لأنهم كانوا أقل عرضة لمشاكل الحياة، بل لأنهم امتلكوا التوازن النفسي الذي منحهم الراحة والسلام والقناعة وباختصار.. السعادة.

لم يعتمدوا على ظروف خارجية لإسعادهم، ولم يستسلموا لظروف خارجية من شأنها أن تفقدهم سعادتهم. فشعورهم بالراحة والسلام والسعادة والرضى كان شعوراً اعتيادياً، طبيعياً، صحياً ومستداماً. ونحن أيضاً ينبغي أن ننمي ذلك الشعور فيما إذا رغبنا بامتلاك السعادة. ومن منا لا يرغب بامتلاكها؟!

القدَر هو نتيجة ممارسة سابقة للإرادة الحرة أو حرية الإختيار.

فبممارساتنا الماضية لحرية الإرادة جلبنا ونجلب على أنفسنا القضاء والقدر. لكننا لسنا مكبلين بالماضي ولسنا مقيدين بنتائج أعمالنا إلى الأبد، إذ بإمكاننا أن نقتلع ما زرعناه ونمحو ما كتبناه فيما إن نحن رغبنا بذلك وعملنا جاهدين على تصحيح المسار وتحسين نوعية الثمار.

فإن قضينا على بذور الأفعال ذات النتائج المؤلمة وغرسنا بدلاً منها بذورا أكثر ملاءمة لطبيعة النفس فلا بد أن نجني ثمار السعادة من تلك البذور الصالحة المستنبتة في تربة النفس. لا بد لنا من ممارسة الإرادة الحرة الآن، إن نحن رغبنا بتحصيل مقدار أكبر من السعادة أو بتقليل المعاناة والألم.

وعليه فإن شروط السعادة كامنة في ذات الإنسان وما عليه إلا أن يتعامل بجدية مع تلك المعادلة التي لا تخطئ وستكون النتائج لصالحه إن هو أحسن التقدير والتعامل.. بعونه تعالى.

Eastern Thoughts

 

خميرة صالحة

---------------

كان جون ماتز عاملاً في إحدى المصانع بمدينة وندزور بكندا، يسري مع الفجر إلى عمله ويكسب لقمة عيشه بتعب يمينه وعرق جبينه.

ذات صباح باكر وجد في الشارع حقيبتين عليهما إسم شركة فولاند، كانتا على ما يبدو قد وقعتا من سيارة. فتح إحداهما وإذا بها مليئة بالمجوهرات، فأغلقها وقصف عائداً إلى بيته ووضع الحقيبتين في ركن آمن من البيت وانطلق ثانية إلى عمله. ولدى عودته من العمل اتصل بشركة فولاند التي كانت قد أعلنت نبأ فقدان الحقيبتين وتخصيص مكافأة مالية مجزية لمن يعيدهما إليها.

فما كان من مندوبي الشركة أن توجهوا على الفور إلى بيت جون وطلبوا منه مرافقتهم إلى مقر الشركة حيث كان رئيس مجلس الإدارة ووسائل الإعلام في انتظاره.

وما أن وصل جون إلى الشركة ومعه الحقيبتان (اللتان تحوي كل منهما على مجوهرات تتراوح قيمة القطعة الواحدة منها ما بين 20 إلى 2000 دولار) حتى راح المصورون يأخذون صوره والمراسلون يوجهون إليه الأسئلة . أما جوابه فقد كان بسيطاً وهكذا بالحرف الواحد:

I guess my folks brought me up right. I have no use for someone else’s jewelry

(أعتقد أن أهلي ربوني تربية حسنة فلا حاجة بي إلى مجوهرات الغير.)

بعد ذلك ناوله المستر كروت تحويلاً مالياً مكافئة له على أمانته فتقبـّله منه مالاً حلالاً وبسمة الرضا تعلو محياه النبيل. وقد تناقلت وسائل الإعلام هذه الواقعة النادرة التي تثبت أن الدنيا ما زالت بخير وأن الطيبين هم الخميرة الصالحة في كل مجتمع.

 

رحلة اعتكافية وسط الطبيعة البكر

-------------------------------------

تحية ومودة للأصدقاء الأعزاء

وشكراً من القلب على ما أعربوا عنه من أمانٍ طيبة

ومشاعر كريمة أحتفظ بها في مطاوي الوجدان.

لقد كنت في رحلة اعتكافية وسط الطبيعة البكر.. بألوانها البديعة وأصواتها العذبة الساحرة وأنباضها الدافئة المحتفية بديمومة الحياة.

كنت قد كتبت موضوعاً عن الجمال أود أن أهديه لكم، آمل أن يحظى باستحسانكم.

ذكرنا الجمال في غير موضع من محطاتنا لكننا لم ننطلق باتجاهه ولم نعرّج على واحته بعد، فما رأيكم لو أخذنا قيلولة أو استراحة قصيرة في واحة الجَمال حيث مياه السلام المترنمة ببهجة الحياة وطيور الأمل الشادية على أفنان المحبة ونسائم الشوق المتهادية في سماء الروح؟!

لن نقف طويلا عند التعريف الأكاديمي المتعارف عليه للجمال، الذي يمنح متعة فائقة للعقل سواء من حيث المنظر أو المظهر أو الأنماط الفنية وطريقة تصميمها. بل سنتخطى ذلك المفهوم محاولين في نفس الوقت تجاوز الاعتبارات الأخرى للجمال التي تحرك المشاعر دون أن تبعدها عن مجال الجذب الأرضي، أو تمنح اختباراً إدراكياً لكن على المستوى الحسي فقط.

ما يعنينا هنا هو الجمال المعنوي الذي يبدو ماثلا أو متلامحاً في قمم الطموحات العليا.. في سهول الإنفتاح الوجداني.. في أودية التواضع وأنهار الشوق المندفعة بقوة متعاظمة نحو بحر الجمال – الأصل الذي لا ساحل له ولا قرار لأعماقه.

ذلك الجمال الفريد الذي يعبّر عن ذاته بألف وسيلة ويتحدث بألف لسان إلى من يريد الإصغاء.

لو أمعنا النظر وصرفنا الذهن قليلا عن مشتتات هذه الدنيا لأبصرنا ذلك الجمال-المثال أمامنا ومن حولنا.. حيثما تجولنا أو أجَلنا البصر.

فالذي صمم هذا الكوكب الأرضي ووضع فيه أرواحاً فيها ما فيها من المزايا الراقية وإحداها الجمال.. ترك لمسته الجميلة في كل مكان لتستبينها النفوس وتكون بمثابة ومضات من الغبطة والأمل بإمكانية التواصل مع الجمال - المصدر الذي هو جمال الذات والجمال بالذات.

ما من مكان على هذه الأرض يخلو من الجمالات والمحاسن الفائقة التي هي انعكاس لأفكار وإيحاءات عليا. وحتى في الصحاري الجرداء هناك جمال منقطع النظير.. في الكثبان ذات التناسق البديع.. في السكينة ذات الهدوء البليغ.. في السماء المرصعة بآلاف الدراري.. في الاتساع الذي يبدو بلا حدود.. متصلاً بالأفق البعيد.

الكون بأسره ينبض بروح الجمال وروعة المخلوقات.. الفصول تزخر وتفخر بما أودع المبدع فيها من فكره الجميل وفنه الأصيل..

ففي الشتاء نبصر ظاهرة النصوع.. وأعني بذلك ظاهرة الثلج التي تتحدث كل رقعة فيها عن هندسة دقيقة لا يمكن إلا أن تصدر عن فكر كوني يغمس كل إبداعاته في بحيرة الجمال الكوني قبل أن يطلقها في الأثير وتراها عيون البشر.

وفي الربيع لا نبصر الجمال وحسب.. بل نلمسه ونشمه ونتفاعل معه أينما توجهنا. وأحياناً قد يفلح ذلك الجمال الساحر بسلخنا عن واقعنا ولو للحظات قصيرة فنرى بعين الروح مروجاً أثيرية مرصعة بزهور الإلهام ومضمخة بعبق الحب المطلق.

وفي الصيف نرى الجمال ماثلا أيضاً في الأشجار المكتسية بحللها القشيبة والكروم المكتنزة بخيرات الله والطبيعة المنتشية بفرح الحياة.

أما في الخريف فنبصر ذلك الجمال مترجماً ذاته إلى ألوان رائعة بديعة تتحدث إلى محبي الرومانسية عن لوحات أثيرية تمتزج فيها الألوان بتناسق بديع ويمتزج فيها الجمالُ بالبهجة.. والفنُ بصفاء الروح والإلهام.

والنفس أيضاً فيها من الجمال ربما أكثر مما في الطبيعة من هذا الفن السماوي الذي يهمس للأفكار والأحاسيس ويحثها برفق وأحياناً بوكزة عتاب كي تتحول من الظلال إلى المثال.

والعقل أيضاً له نصيب في ذلك العنصر الكريم إن هو فسح لذاته المجال لاستقبال أطياف الجمال. وله كذلك القدرة على التفكير المتعمق بمصدره الفائق الرائق والفياض بكل ما هو جميل وجليل.

الروح الشفافة في الإنسان هي التي تجعله على دراية بالجمال من حوله. وكلما نأى الفكر عن الأفكار والمظاهر المحدودة وتوجه إلى الفكر الأسمى المجسّد في الطبيعة والمتماوج في آفاق الوعي كلما أحس بخفقات الجمال نابضة بالحب والحياة والحيوية في أعماق الصميم.

وفي هذا يقول إيليا أبو ماضي: كن جميلا ترَ الوجودَ جميلا!

وينصح الياس أبو شبكة بالقول: عشْ للجمال تراهُ هَهُنا وهنا!

أما شاعر الحب والغزل عمر بن أبي ربيعة فقد هام بمحبوبته لدرجة العبادة إذ قال:

وأرى جمالـَكِ فوق كلُِّ جميلةٍ وجَمالَ وجهكِ يخطف الأبصارا

وقد يعدّل الصوفي البيت فيفتح الكاف بدل كسرها ليُقرأ على النحو التالي:

وأرى جمالـَكَ فوق كلُِّ جميلةٍ وجَمالَ وجهكَ يخطف الأبصارا

حقاً أن الله جميل ويحب الجمال!

 

حلـــــــــــــم لقـــــاء

------------------------

في زمنٍ ما

في مكانٍ ما

حَلمَ أن لقاءً حدث بينهما...

التقيا كومضتين عابرتين

في قلب السديم الكوني...

كفقاعتين صديقتين

في بحرٍ فسيح...

في المياه الزرقاء الباردة

للمدّ الأوقيانوسي.

كسمكتيّ شوق ٍ، طيّارتين

تتسابقان على صفحة المياه المالحة...

كطيريّ ودادٍ باسطيّ أجنحتهما،

محلقين فوق أمواج النسيم...

كزهرتيّ حنينٍ متعانقتين

على سوق نبتة واحدة...

كحجريّ إخلاصٍ كريمين

بقلبين حمراوين بلون العقيق

مختبئين معاً في أعماق الأرض...

كالشمس والقمر

كفهمٍ وحنوّ

كعينين ساهمتين

من عيون الكون اللامتناهي...

كحبٍ وفرح

كنبضتيّ لهفةٍ في قلب الحقيقة...

كذرتيّ هيدروجين

وذرة أوكسجين

مكثفتين إلى قطرة ندىً

وليدة الحب

لإرواء ظمأ الأعشاب الصادية...

كبروتون وإلكترون

في قلب الذرة...

كجناحيّ طير سلام، يرفرفان

فوق واحة الأمل...

كشعلتين منبثقتين نحو السماء

من نافورة النور...

ككرتين شفافتين، بألوان قوس قزح...

كنهرين من أنهار الحياة

في انطلاقهما الحثيث

للإمتزاج ببحر الحب الأعظم...

 

الملك وشرط التزويج

----------------------

يُحكى أن أحد ملوك الزمان أراد تزويج ابنته الوحيدة وطلب من الراغبين في العرض الملكي الحضور إلى قصره في موعد محدد.

توافد "العرسان" المحتملون من كافة الفئات والطبقات والأمصار والأقطار إلى البلاط الملكي يحدوهم الأمل بالفوز بأعز أماني القلب، فرحب بهم الملك وخاطبهم قائلاً:

إنني أبحث عن شريك حياة لابنتي ومستعد أن أزوجها من أي واحد منكم يستطيع أن يسرق شيئاً، دون أن يعلم أو يسمع أحد بفعلته، ثم صرفهم طالباً منهم العودة إليه بعد ثلاثة أيام ليخبروه بما غنموه.

تفرق الخُطاب الطامحون ومضى كل منهم في طريق بحثاً عن شيء يلبي طلب صاحب الجلالة. وقد تمكن معظمهم من "لطش" ما طالته يده ولم تره عين رقيب.

عادوا إلى القصر في الموعد المضروب وراح كل منهم يروي مغامرته.

فمنهم من سرق فاكهة وخضروات، ومنهم من سطا على بيت في غياب أصحابه وسرق بعض أغراضه.

وضعوا مجلوباتهم أمام الملك، وراح كل منهم يؤكد لجلالته ويحلف جهد إيمانه أن أحداً لم يرَ ما أقدم عليه وما وضعه بين يديه.. باستثناء شاب واحد لم يجلب شيئاً معه. وعندما سأله الملك عن قصته، أجاب:

يا صاحب الجلالة، عجزت عن السرقة، لأن ضميري كان لي بالمرصاد يراقب كل تحركاتي وتصرفاتي، صغيرها وكبيرها ولذلك أخفقت في مسعاي فلم أتمكن من تحقيق مطلبك فعدت صفر اليدين.

أشرقت إذ ذاك أسارير الملك وقال له:

أحسنت! أنت الوحيد الذي فزت بالإمتحان، وابنتي ستكون من نصيبك.

جعل الله السعادة من نصيبكم يا أصدقاء

 

قفزة قلب

-----------

استعلم قائلاً:

ما هي المسافة من هنا إلى الجنة؟

أجابه:

ليست بعيدة يا صديقي

بل هي أقرب بكثير مما تصور

إذ يمكن قطعها بقفزة واحدة

من قفزات القلب.

ثم استطرد قائلاً:

على رسلك يا صديقي! إلى أين تعدو؟

الجنة التي تطلبها هي في داخلك

وأخشى أن لا تعثر عليها

إن بحثت عنها في مكان آخر!

تمنياتي للجميع بقفزة قلبية موفقة

 

ولنا مع الإبتسامة وقفة...

----------------------------

اخترت اليوم تسليط الضوء على الإبتسامة آمل أن تروق لكم هذه التعريفات والتشبيهات، وأن تتحفونا بما قد يخطر لكم.

ابتسمتْ كما لو كانت تسمع محدّثاً يتكلم إليها من داخلها.

ومضتْ بسمتها وميض نجمة في أحلك الليالي.

ابتسمت ابتسامة ورود الصيف.

ابتسمت ابتسامة الملائكة وحوريات الفردوس.

ابتسم ابتسامة نصّابٍ أصابَ بدهائه مغنما.

ابتسم ابتسامة الرضيع لمعاينته ومضة نور.

ابتسم ابتسامة صفراوية لا روح فيها ولا رونق.

ابتسم ابتسامة الصغار في الحقول، وسط الأعشاب وبين الزهور.

ابتسم كزهرة حديثة التفتح.

ابتسم ابتسامة النعيم والرضا.

ابتسمت ابتسامة الحب السامي.

ابتسمت ابتسامة الشمس على البراعم الندية.

ابتسمت ابتسامة الربيع... ابتسامة الصيف بعد الثلوج.

ابتسم كما لو كان العالم بأسره ملك يديه.

ابتسم ابتسامة فجر الأمل في النفوس اليائسة.

ابتسمت ابتسامة حسناء استيقظت للتو من حلم جميل.

البسمة هي ضحكة هامسة.

للمرأة بسمتان تحسدها عليهما الملائكة:

بسمة القبول بالحبيب قبل نطق الكلام

والبسمة التي تشرق على وجه الوليد الجديد

لتغرس في نفسه الطمأنينة بأنه في رعاية قلب عطوف.

البسمة هي اللون المميز للحب والبشاشة والفرح.

إنها النور في نافذة الوجه التي من خلالها يرحّب القلب

بالقادمين ويحتفي بهم.

البسمات تتقلب تقلـّب الحرباء:

هناك بسمات جوفاء

وبسمات باردة...

بسمات حقد وعداء

وبسمات تهكم واستهزاء...

بسمات تصنع وادعاء

وبسمات رقطاء...

وفوق كل هذا وذاك...

هناك بسمة الحب.

البسمة الجميلة على وجه المرأة تشبه إطلالة الشمس على منظر طبيعي رائع... تمنح حسناً وتضفي رقة ورونقاً.

بالإمكان التعرف على شخصية المرء بملاحظة طريقة تبسمه.

بعض الناس لا يبتسمون أبداً، إنهم فقط يكشرّون.

التجهّم أجمل من بسمات التملق والرياء.

هناك أصناف عديدة من الإبتسامات:

بعضها يوحي بالطيبة والعذوبة

وبعضها يشي بالسخرية والمرارة والإعتداد بالنفس.

بعضها يليّن قسمات الوجه بالرقة

وبعضها يشعّ على الوجه ضياءً لا تخطئه العين.

الضحكات المجلجلة لا تدوم طويلاً، وغالباً ما يعقبها الوجوم.

الضحكة نهارٌ والتجهم ليلٌ،

أما البسمة فهي كغسق الفجر وشفق الغروب

اللذين يتراوحان بين الإثنين ويفوقهما سحراً وروعة.

البسمة الممقوتة تعبث بخطوط الجمال في والوجه، وأفضل منها العبوس.

الوجه الذي لا يبتسم كالبرعم الذي لا قدرة له على التفتح،

يذوى على الغصن ويعتريه الذبول.

ويفيدنا أحمد أمين نصيحة إذ يقول:

انثر الإبتسامات يميناً وشمالاً على طول الطريق، فإنك لن تعودَ للسير فيه ثانية.

المصدر: قاموس الأفكار

 

أقوال في الحب

------------------

ماذا قال الفلاسفة والمفكرون والوالهون عن الحب...

الحب عنصر شفاف، غاية في الرقة والعذوبة، كالوردة الغضة الندية التي غالباً ما تسارع الأيدي لملامستها وقطفها بالرغم من الأشواك المحيطة بها.

الحب كالسعال، لا يمكن إخفاؤه.

يظهر مفعول الحب في الأعمال الطيبة ظهور الخيط الفضي الذي ينتظم حبّات عقد ماسي.

الحب كالقيثارة التي تعطي أسرارها لليد التي تحسن ملامسة أوتارها.

الحب كالموت، يقضي على كل الفوارق ويساوي بين الجميع... يضع عصا الراعي المعوّجة بجانب صولجان الملك.

الحب لا يترك الإنسان كما وجَدَه، فإن غاص في أعماقه وتمكن من قلبه، إما يعزز فضائله أو يضاعف رذائله.

الحب كالنسر الشره، إن تـُرك على هواه ينقضّ على فريسته ويزدرد الطعام حتى الإنبشام.

الحب كطائر صغير يتنقل من غصن إلى غصن. أخيراً حطّ هذا الطائر على صدري وراح ينقر قلبي.

الحب يشبه منظراً طبيعياً رائع، يبدو جميلاً ومتناسقاً عن بعد،

لكن ما أن نقترب منه حتى تبرز تضاريسه وتظهر منعرجاته بادية للعيان.

لقد تدفق الحب في أعصابه وسرى في شرايينه كالسيل الجارف.

الحب كالحصبة التي يصعب الشفاء منها إن أصابت المتقدمين في السن.

الحب كالبلبل الغريد الذي يطلق أعذب ألحانه أثناء تحليقه في الجو.

الحب يشبه قصة غرامية، تـُقرأ برغبة وحماسة، وأحياناًً بصبر نافد، يستحث القارئ لتجاوز عدة صفحات بغية الإسراع في الوصول إلى الخاتمة.

الحب كالنبت المعترش الذي يذبل ويذوى إن لم يجد ما يتسلقه.

الحب قبل الزواج هو مقدمة بالغة الإيجاز لكتاب لا نهاية له.

الحب كالأطفال، يتشوّق إلى القلوب تشوقهم إلى الألعاب.

الحب كالزهور الموسمية التي لا تدوم لأكثر من ربيع واحد.

الحب كالبدر، ما لم يكتمل يبقى ناقصاً.

كما أن في الفضيلة ثوابها، هكذا في الحب غبطته.

الحب كالطموح، يتلاشى أثناء التمتع به.

الحب كالجاذبية التي تمسك الأجرام السماوية بقبضة قوية يصعب الإفلات منها.

الحب جميل، وهو ضرورة لصيقة بطبعنا ووثيقة الصلة بطبيعتنا.

الحب أعظم مباهج الحياة.

الحب النقي يقوم على الإحترام المتبادل.

القلب المحب فردوس على الأرض.

المصدر: قاموس الأفكار

 


الأفكار الطيبة هي ثروة لا تنضب

و فوارات من الماء الحي

لا تكف ولا تجف..

وجواهر دائمة التألق والوميض.

هي دروع لا تُخرق..

لحماية مكتسبات الإنسان المعنوية

وتعزيز طبيعته الأدبية.

هي كسوة للعقل لا تهترئ

وأصدقاء.. ولا أنبل!

إنها ملائكة من نور

وزهور ناضرة عاطرة

فواحة بأعذب الأريج.

إنها بذور الأفعال الكريمة

والمشاريع الخيّرة..

وهي منافذ الرؤى الصادقة

و قوالب المبادئ الراقية.

إنها تصنع النبلاء

من الرجال والنساء

مثلما هي حصانة الأفراد

وحصن الأمم.

وليس آخراً..

الأفكار الطيبة هي كنز العالم

وميراث الإنسانية جمعاء.

--------

 

قال الحواري للحكيم...

هل من نصيحة صريحة تجعل النفس مريحة؟

فأجابه قائلاً:

إن رغبت في نقل الحقيقة إلى الآخرين

فينبغي أن تحيا الحقيقة بك أولاً

وأن تكون محوراً لحياتك

ومنبعاً لأفكارك

وملهماً لتصرفاتك.

وإن أردت التواصل مع الناس

وملامسة شغاف قلوبهم

فليطفح قلبك بالمحبة نحوهم

وليكن لهم في نفسك احترام

فيما يتعدى الكلام.

إن فكرت أفكاراً جميلة ونبيلة

ستتحول أفكارك إلى غذاء لأفكار جائعة

تبحث عن مغذيات.

وإن تلفظت بالصدق دوماً

ستتحول كل كلمة تنطقها

إلى بذرة صالحة لا بد أن تنبت

وتزهر وتثمر ثماراً طيبة ونافعة.

وإن عشت ببساطة وقناعة

ووفقت نفسك مع الناموس العام

ستغدو حياتك صفحة ناصعة

في سِفر الحياة..

في سطورها أقباسٌ

وفي كلماتها فوائد

وفي حروفها إيحاء ودليل

إلى حضن الحياة - الأم

حيث الأمن والأمان

والنور والسرور.

 

الفكر: ذلك المغناطيس العجيب

----------------------------------

معلوم أن المغناطيس يجذب إلى مجاله قطع أو برادة حديد وبعض معادن أخرى تمتلك خاصيات الجذب الذي يتفاوت بحسب قوة المغناطيس نفسه ونوعية مكونات المواد المنجذبة إليه.

وهذه الحقيقة العلمية تنطبق أيضاً على الإنسان الذي يمتلك مغناطيساً من نوع آخر هو الفكر.

لقد عرف الناس تأثير الجاذبية على المستوى البشري وعبّروا عنها بأقوال وحكم مثل: فشبه الشيء منجذبٌ إليه، وأن الجزاء من نوع العمل والحصاد من نوع الزرع. وبما أن الفكر هو أبو الفعل، فهو حكماً البذرة الحية التي تنبت وتزهر وتثمر أعمالاً وتصرفات ونتائج وثيقة الصلة بطبيعة البذرة نفسها.

فمن يزرع الشوك لا يجني العنب. حقاً أن للنوايا أسنان مخفية وأن لا عمل لمن لا نية له. هذا الفكر- المغناطيس هو دائم الإستقطاب إلى نقطة الإرتكاز أو محور الجذب الذي هو الإنسان.

لعبارة (من جَدّ وجدَّ) وجهان متقابلان أحدهما إيجابي والآخر سلبي. فعندما يستخدم الإنسان إرادته – المنبثقة عن الفكر – ليجدّ ويكدّ في عمل ما، ينفعه وينفع غيره، سيجذب إليه ظروفاً نوعية تساعد على تحقيق ما يصبو إليه. أما إن استخدم إرادته في إلحاق الضرر بغيره فقد يفلح إن كان فكره يمتلك قوة كافية لإحداث الضرر، إنما بكل تأكيد سيلحق أيضاً الأذى بنفسه لأن ما يطلقه فكره من طاقة سلبية سترتد عوداً على بدء إلى مصدرها، وقد تعود مضاعفة ومشحونة بأفكار وقوى مشابهة استجمعتها أثناء انطلاقتها ولن يتمكن صاحب الفكرة الأساسية من تلافيها لأن في ذلك المصدر مغناطيس يجذبها وسيصعب عندئذ التخلص منها قبل تفعيل أفكار وطاقات مضادة وبنفس القوة على الأقل.

هذا المغناطيس الفكري متفاوت من حيث القوة والنوعية. المغناطيس الضعيف مجال جذبه محدود نسبياً في حين للمغناطيس القوي قدرة على جذب أشياء أكبر وأكثر ومن مسافات أبعد. طبعاً هناك أشياء يفكر بها المرء ويتمناها لنفسه أو لغيره لكن تحقيقها صعب أو شبه مستحيل بفعل محدودية الظروف أو لنقل عدم امتلاك الفكر القدرة الكافية على تحقيقها. (ما كل ما يتمنى المرء يدركه).

من يفكر أفكاراً سلبية سوداوية يتناغم مع مجال يعج بتلك الأفكار، تماماً كمن يبحث عن موضوع معين على الإنترنت. ومن يفكر بالإيجابيات يساعد نفسه فيما يتعدى قدرته الذاتية. فهو بتفكيره الإيجابي يفعّل طاقات حيوية تنطلق باحثة عن نظائر لها في عالم الأفكار اللا محدود لتعود إليه بشحنات إضافية تصب في صالحه.. زيادة الخير خير!

بعض الأشخاص ينزعون إلى التشاؤم فلا يبصرون أبداً الجانب المشرق من الحياة. فهم يفكرون ويتصرفون كما لو أن النور غير موجود أو كما لو أن السعادة مستحيلة التحقيق. لكنهم لو استبدلوا "مغناطيسهم" السلبي بآخر إيجابي لأبصروا صورة أو صوراً تختلف تماماً عما اعتادوا عليه، ولانفتحت لديهم قنوات وأمامهم أبواب كثيرة.

ومع ذلك فللجانب السلبي ايجابيته أيضاً. فهو يكشف لنا عقمه ويستحثنا على التخلص منه غير مأسوف عليه.

غالباً ما يكبل الإنسان نفسه بقيود لا سيما عندما يقنِع نفسه بأن السعادة التي يبحث عنها مستحيلة ما لم يحقق هدفاً معيناً أو يحصل على شيء يرغب بامتلاكه. لكن للمرء القدرة على أن يكون سعيداً – إن هو أراد ذلك – بالرغم من الظروف الخارجية.

الفكر هو ذلك الخاتم لبيك الدائم العمل على تحقيق أماني صاحبه خيراً أو شراً. فإن جرى في قنوات مغلوطة يتحول إلى ثعبان يلدغ ونار تلذع. أما إن جرى في مسارات سليمة فلا بد أن يصل إلى مناهل الخيرات ويتحول إلى وميض ينير في الظلماء ليصبح "حديقة أفراح وكنز فوائدِ" لذاته وللآخرين.

وعلى فكرة.. ألا يمكننا الإستنتاج أن مستوى الإنسان من مستوى تفكيره؟


 

الفكر سجن وحرية

--------------------

تحدثت في موضوع سابق عن الفكر المغناطيس واليوم أود أن أتحدث عن الفكر السجن والحرية.

الحرية هي أسمى مطلب يجدّ الإنسان في طلبه ويضحي النفس والنفيس في سبيله لأنه – أي الإنسان - في جوهره متحرر من كل الأغلال والقيود.

هو يدرك هذه الحقيقة باطنياً ويريد ترجمتها عملياً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

والإنسان لا ينفرد بهذه النزعة التحررية دون سواه من المخلوقات. فهناك الكثير من الحيوانات والطيور والحشرات تحيا طليقة، تسرح وتمرح وتعدو وتشدو لأن نشاطها الطبيعي وتعبيرها عن ذاتها مدفوعان لا بإرادة واعية بل بغريزة تكفيها عبء التفكير وتكون في بعض الأحيان أو أكثرها أهدى من الإنسان وأرهف إحساساً في التعامل مع بيئتها والظروف المحيطة بها.

الإنسان يمتاز عن باقي المخلوقات بفكره الذي هو سلاح حماية ومنارة هداية وميزان تقييم إن هو استخدمه على الوجه الصحيح ولم يسئ استخدامه ويصرف قواه على أمور مبتذلة ونشاطات هدامة.

حقاً أن السعادة تكمن في الإفادة والإستفادة.

هذا الفكر الذي هو رأسمال الإنسان وأثمن ما يمتلكه في الحياة يعمل بكيفية حسابية دقيقة لا تخطئ. هو قوة كالكهرباء، والفرق بين الإثنين أن الكهرباء قوة عمياء في حين الفكر قوة واعية تعرف ذاتها وتدرك النتائج المترتبة على ما تتخذه من قرار وما تقوم به من فعل.

الحرية مُنية كل نفس، وتلك الحرية تكمن أكثر ما تكمن في فكر الإنسان. الإنسان لم يخلق فكره بل أعطي الفكر له كي يستخدمه هادياً ودليلاً إبان إقامته الموقوتة على هذه الأرض. ولهذا الفكر قوانين تحكمه ولا يمكن اختراقها أو الإفلات منها حتى ولو تجاهلها واعتبر نفسه القدرة اللانهائية في الوجود.

لكن تلك القوانين لم توجد لتقييد الفكر بل لتحريره ولتنبيهه عندما يتجاوز حدوده ويغمض عينيّ تمييزه ويحاول القفز في الظلام دون الأخذ في الإعتبار الحكمة السديدة الرشيدة:

قدّر لرجْلِكَ قبلَ الخطو موضعها!

تلك القوانين لا تفرض ذاتها على الإنسان ولا ترفع شواخص أمامه أثناء انطلاقه على دروب الحياة لأنها موجودة أصلاً في ذاته، ملازمة لكيانه ورفيقة دائمة لخواطره ومشاعره. والتناغم معها كفيلٌ بتفعيلها لصالحه فتتحول إلى أجنحة يستقلها بدلا من أثقال يحملها وأعباء يتجشمها.

وهكذا نجد أن التفكير السليم الذي يعرفه حتى البسطاء ويعبرون عنه بأبسط الكلام هو عنصر حيوي لمن يبغي التحرر من تلك السلاسل غير المنظورة التي تقيد النفس وتشد وثاقها بفعل التفكير المغلوط الذي يتحول إلى حبال متينة سهلٌ حبكها صعبٌ حلها.

وهذا الفكر يتحول مع الأيام إلى نمط ذهني أو عادة تتمركز في خلايا الدماغ فتحتل تلافيفه وتصبح الآمر الناهي في كل ما يقوله أو يفعله الإنسان. هذا أمرٌ حسن ما دامت نوعية التفكير سليمة. فالنتيجة ستكون إذ ذاك عادة حميدة تترجم ذاتها إلى أقوال مفيدة وأفعال نبيلة. أما إن كانت بعكس ذلك فالعواقب ستكون وخيمة وأليمة. ولعل هذا ما عناه الشاعر القروي بقوله:

نصحتكَ لا تألفْ سوى العادةِ التي

يسرّكَ منها منشأ ٌ ومصيرُ

فلمْ أرَ كالعادات شيئاً بناؤهُ

يسيرٌ وأما هدمهُ فعسيرُ


 

كلمتان فقط..

--------------

في إحدى المدارس الرواقية كانت تُطبق تعليمات صارمة تتعلق بالكلام. فبعد أن ينذر التلميذ الصمت، لا يُسمح له بالكلام باستثناء التلفظ بكلمتين فقط لا غير مرة واحدة كل عشر سنوات.

وبعد أن أمضى أحد التلامذة عشر سنوات ذهب إلى أستاذه الذي قال له:

لقد أمضيت عشر سنوات فما هما كلمتاك اللتان تريد أن تقولهما؟ أجاب التلميذ:

السرير قاسٍ.

مرت عشر سنوات أخرى، فعاد التلميذ إلى أستاذه الذي سأله عن الكلمتين الجديدتين اللتين يريد قولهما، فأجاب:

الطعام رديء.

وبعد ذلك بعشر سنوات توجه التلميذ إلى الأستاذ الذي ابتدره بالسؤال: ماذا عساك أن تقول الآن؟ فأجاب التلميذ:

قررت المغادرة.

عندئذ أجابه الأستاذ: هذا متوقع منك لأنك صرفت ثلاثين عاماً من عمرك في التظلم والشكوى.

المدرسة أيها الأصدقاء هي مدرسة الحياة، والصمت هو الصبر على الشدائد، والأستاذ هو محك الزمن.

تحياتي للجميع

ترجمة بتصرف

 


القلب.. تشريح ميتافيزيقي

------------------------------

لا عجب أن كلمة (القلب) تتصدر معظم الأشعار والأغاني الوجدانية العربية وربما العالمية أيضاً، وقد لا يكون خطر على بال الكثيرين أن ذلك الإحساس المميز قد لا يكون مصدره تلك الكتلة العضلية المعروفة بالقلب. بل قد يكون ناجماً عن أداة روحية غير منظورة تستخدم القلب للإعراب عن ذاتها تماما كما يستخدم الإنسان اللسان للتواصل مع الآخرين عن طريق النطق أثناء المحادثة اللفظية.

ومع أن اللسان يلعب دوراً حيوياً في التواصل بين الناس إنما لا يتم التركيز عليه والتحدث عنه بنفس الإهتمام الذي يحظى به القلب. فنسمع مثلا أن كلام فلان رقيق أو جارح أو طيب أو بذيء أو غير ذلك في حين نادراً ما نسمع صفة الكلام مقترنة باللسان، ربما باستثناء عبارة خليجية هنا، مثل (صح لسانك) وعبارة أخرى أقل إطراءً، مثل (لسانه زفر).. وما عدا ذلك فالتركيز الأكبر هو على الظاهرة الكلامية التي يُحدثها اللسان.

ولعل هذا أيضاً ينطبق على الأحاسيس التي تعتمل في ذات الإنسان ويعزوها إلى القلب. فلا أظن أن القلب قادر على فرز الأحاسيس أو ضخها كما يفعل بالدم. والمنطق يوحي بأنه إما أداة لرصد وتلقي تلك الأحاسيس على اختلافها أو أن هناك مركزاً أثيرياً للشعور يحتل نفس المنطقة التي تحتلها مضخة الدم في الجسم.

وبعد هذا التشريح المعنوي لذلك العضو الحيوي الذي احتل ويحتل مكاناً أبدياً نابضاً في الأدب العالمي، نقول أننا سنواصل التحدث عنه والإشارة إليه بالكيفية التقليدية المعهودة.

وقبل الإستطراد بهذا الحديث القلبي فلنستمتع قليلاً باستذكار بعض الأغاني والأشعار التي تحتفي بأبي الدقات والخفقات والنبضات.. القلب!

فهذا فريد الأطرش يطلب من قلبه أخذ قسط من الراحة و"يتحشّم" عليه بالقول (يا قلبي كفاية دق..)

وهذه كوكب الشرق تبشّر قلبها بالنعيم إذ تقول (إفرح يا قلبي لك نصيب.. تبلغ مناك ويا الحبيب..)

وهذا عبد الوهاب يؤكد قائلا (قلبي بيقول لي كلام..)

أما عبد الحليم حافظ فيأمر قلبه بأن ينطلق أمامه قائلا له (اسبقني يا قلبي)

و فهد بلان يصدح بصوته العذب (من قليبي وعينيّ بلغوها التحية)

وصباح كذلك تريد أن تذهب إلى القاضي وتكتب قلبها بإسم حبيبها، هذا إن رضي حبيبها بذلك. فالرأي عائد له!

وغيرهم الكثير من المطربين والمطربات الذين احتل القلب نصيباً وافراً من غنائهم الوجداني.

أما زهير بن أبي سلمى فيقول (لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادهُ)

في حين يطلق أحمد شوقي تصريحه القاطع:

وإذا القلوبُ استرسلت في غيها.. كانت بليتها على الأجسامِ

وكذلك طاغور احتفى بالقلب عندما قال (الكلام اللين يأسر القلب)

كما يؤكد لنا المقري (إن القلوبَ إذا تنافر ودّها.. مثلُ الزجاج كسورهُ لا تـُجبرُ)

وبعد هذه الدردشة القلبية فلنعد بمعيتكم إلى قلب الموضوع أو موضوع القلب..

فقد اعتبره البعض مذبحاً أو بالأحرى هيكلا للروح الإلهي. وهو مترجم الأحاسيس الرقيقة الراقية وملهم المثل النبيلة السامية. فالله يسكب حبه وسلامه وفرحه في القلب الذي إذا ما امتلأ بالفيض الإلهي تنسكب محتوياته المقدسة على أنسجة وخلايا الجسم فينتعش صاحبه ويحس بقوة روحية تتخلل كيانه وكذلك بأفكار جديدة تتوارد عليه وبيقظة في الوعي قلما اختبرها من قبل. ويقال أنه عندما يتوجه القلب إلى الله يتبعه العقل (طوّالي).

وقد شـُبّه القلب الصافي بالذهب النقي. وفي هذا الصدد يقول أحدهم أن القلب الطيب ذهب خالص، وأن القلب المحب هو منتهى الحكمة. في حين يؤكد البعض أن من يعرفون عقولهم لا يعرفون بالضرورة قلوبهم.. ربما لأنها أعمق وأرحب وأكثر اتصالاً بأسرار الحياة من العقل.

وها هو عملاق الشعر بايرون يؤكد أن إحساس القلب هو أصدق الغرائز على الإطلاق. بينما يتعمق ديلوزي في تحليل ودراسة القلب إذ يقول أن غضون القلب وتجاعيده أعمق من تجاعيد الجبين وغضونه وأن لهيبه أحرّ من جمر الغضا ولفحات السعير. كما أن بعضهم يذهب إلى القول بما معناه:

إن تنقيبَ النجيل من حقولٍ وكرومْ

أسهلُ من غسلِ ما في القلبِ من غث السمومْ!

فسلامة القلوب من الهموم والسموم

وتباركت المشاعر التي تعتمل في القلوب

وتعتمد عليها في ترجمتها وتفسيرها ببلاغة وفصاحة.


 

قد يكابر أحياناً...

-----------------

الحياة تعج بضروب المعاناة على اختلافها. والإنسان لا ينفك باذلاً قصارى جهده للتخلص من كل أصناف المعاناة والألم.

متاعب ومشقات العيش ترهب عقل الإنسان وترهق قلبه فيتجلد ظاهرياً ما استطاع إلى التجلد سبيلا، إنما في باطنه تنطلق أصوات الاستغاثة الواحد تلو الآخر، وكأن نفسه تتوجه بصورة لا شعورية إلى قوة روحية لها القدرة على تخليصه مما هو فيه.

قد يكابر أحياناً مؤكداً لذاته أنه صخرة صلبة لا تؤثر فيها الأحداث لكن الواقع أقوى من المكابرة وأصلب من العناد. وقد تتواصل المعركة ويختبر عقل الإنسان العركة تلو العركة، فيكر أحياناً ويفر أحياناً أخرى لكنه مع ذلك يبقى تحت رحمة الظروف التي هي أقسى من أن ترحم.

هذا ينطبق على الذين يخوضون معمعان الحياة بمفردهم، غير متكلين على قوة عليا تعضدهم أو وعي أسمى يوجههم. فيحاربون على طريقتهم الخاصة محتسبينها الطريقة الأمثل والأنجع تماماً كما كان ذلك الراجز الضرير يهزج أيام زمان ببلاغته الفطرية التي لا تخفى على اللبيب: (أنا أعمى ما بشوف أنا ضرّاب السيوف!)

لكن قوانين الحياة أكثر دقة من هذه العشوائية وأعمق رؤية من نظرات الإنسان القصيرة المحدودة. وفي حين أنها تفسح المجال للإنسان بحسب مبدأ حرية الإختيار كي يزرع ما يحلو له في تربة وعيه، إنما عليه أن يتقبل المحصول كيفما جاء. وما أكثر ما يأتي المحصول بخلاف ما يتوقعه وما يتمناه الزارع.

الإرادة هي من أقدس الهبات التي امتن الله بها على الإنسان. وهو سبحانه يريدنا أن نستخدمها في كل ما نقوم به. ولم يمنحنا الإرادة وحسب، لأنه لو فعل ذلك لجاءت إرادة عمياء هوجاء لا تحسن التمييز بين الخطأ والصواب. بل رحمة منه أردفها أيضاً بهبة العقل وكذلك بملكة التمييز بين النافع والضار والمعقول واللامعقول.

وإننا نعلم تمام العلم ولا يضيرنا القول أن إرادة الإنسان مهما كانت جبارة لا يمكنها التعامل دوماً وبمفردها بنجاح مع كل مسائل ومشاكل الحياة. وفي ذلك حكمة لأولي الألباب.


 

إن كنتَ... فأنتَ

مترجمة بتصرف عن قصيدة بعنوان

IF للشاعر الإنكليزي رديارد كيبلنغ

-------------------------------------

إن كنتَ تمشي وترنو للفضا الصافي

وتبصر الشمسَ تسكبْ نورها الشافي

وإن بعزمكَ آمنتَ ولو نكركْ

كلُ الأنام ِ وقالوا أنكَ غافِ

وإن كـُرهتَ ولم تبعثْ مثيلتها

لقلبِ حاقدِ أو وجدانه ِ الجافي

وإن رأيتَ رعيلَ الناسِ منهمكاً

بالقيلِ والقالِ من هذر ٍ وإسفافِ

وإن بسمتَ لإخفاق ٍ وترقية ٍ

وقلتَ ما أستحقُ يأتي بالوافي

وظلَّ فكركَ في الآفاق معتلقاً

يعاين اللهَ في المنظورِ والخافي

وإن شعرتَ وحيداً في الكفاحِ ولمْ

يهُنْ بكلَ العزمُ أو إحساسكَ الدافي

فأنتَ مالكُ الدنيا بأكملها

وأنتَ كفؤٌ وللمواقف كافِ

 


مرتفعات الجمال

Ella Wheeler Wilcox

------------------------

عندما أنظر إلى المسافة المتطاولة..

إلى وادي الأمل الزاهر

النابض حياً في قلب الشباب

كم تبدو غريبة تلك الدروب..

دروب العمر التي ذرعتها

وبالأحلام الوردية زرعتها!

وكم تبدو لا متناهية آفاق الحياة

التي تسلقتها بأمانيّ العِذاب!

يا لها من أحلام سعيدة ارتسمت في خاطري

ومن طموحات عديدة اعتملت في صدري!

آه كم داعبت الأشواق قلبي..

لمتع الحياة ولارتياد أماكن بعيدة مجهولة!

لكن ذرى المباهج وقمم الجَمال

كان يحجبها عن بصري ضبابٌ رقيق عند منبلج الفجر

فلم ألمح سوى معالم دربٍ مألوف ومعروف

هو درب العمل والكفاح في سبيل العيش.

لم يَرُق لي الدرب آنذاك، بتشعباته الكثيرة

ولم أحفل بحجارته المتناثرة فوقه وبغباره الكثيف..

لكن صوتاً من قلب السكون كان دائم التشجيع

وقد سمعته يهمس:

"لا تفقدي الأمل!"

ومع زحف فجر الشباب نحو أصيل الكهولة

أبصرتُ رُبى المتع الزاهرة تبتعد عن ناظري

والأصحاب يسيرُ كلٌ في طريق.

وعندما تعثرتْ قدمايَ على الدرب

وتمردتُ على قـَدَري

ظلَّ الصوتُ.. صوت السكون يتحدث إليَّ

ويهيب بي:

"انتظري قليلاً!"

تابعتُ السيرَ على الطريق الصلب المقفر

فأبصرتُ بالرؤية أقفالَ الصباح الذهبية

وقد فتحَتها الواحدَ بعد الآخر أصابعُ الظهيرة البارعة..

وفي أحد منعطفات الدرب

توقفتُ لبرهة قصيرة

وقد بتُ قاب قوسين أو أدنى من مرتفعات الجَمال

وإذا بالصوت يقول:

"ها قد بلغتِ الآن نهاية الدرب

وآن لكِ أن تتسلقي المرتفعات!"


 

مَيلٌ ليس بالسهل مقاومته:

العـــــادة طبيعة ثانية

في المثل "إن غرستَ فِعلاً ستجني عادة، وإن غرستَ عادة ستجني طبعاً."

العادة هي مَيلٌ راسخ أو استعداد كلي للقيام بأعمال محددة بكيفية خاصة. هذا المَيل هو من القوة بمكان بحيث لا تقوى الإرادة دوماً على كبحه، بل حتى الضمير نفسه يعجز أحياناً عن صده أو الوقوف في وجهه.

معظم العادات تتولد بفعل الأفعال الواعية. ففي كل مرة يقوم الشخص بعمل ما يصبح ذلك العمل أكثر سهولة وبساطة إلى أن يستغني أخيراً عن التركيز والإنتباه للقيام به.

عندما يُمنح الطفل ملعقة للمرة الأولى كي يستعملها في تناول طعامه، يمسك بها، يتفحصها، ويستعملها بحذر ودقة لنقل الطعام إلى فمه. ولكن بعد مضي فترة قصيرة يصبح استعمال الملعقة بالنسبة له أمراً اعتيادياً لا يستوجب الإهتمام والتركيز.

لو تحتم على الشخص حصر انتباهه الكامل وبصورة تامة في كل شيء يقوم به فلن ينجز الكثير. والحالة هذه سيضطر الكاتب للتأكد من كل حرف يكتبه بحيث يعجز دماغه عن التركيز على الفكرة الرئيسية. وهذا ينطبق أيضاً على عازف البيانو أو العود أو الناي، بحيث تتحول الأصوات إلى نشاز.

ولو حصر السائرُ أيضاً كل انتباهه في الطريق واهتم في توجيه كل خطوة من خطواته لما تمكن من معاينة الجمال من حوله. لكن لحسن الحظ يقوم الدماغ بتحويل هذه الأعمال البسيطة إلى المراكز العصبية الدنيا فيحرر بذلك ذاته للتركيز على أشياء أكثر أهمية.

الإنتباه الواعي لفترات طويلة مرهق للغاية، وكلما تمكن الإنسان من القيام بالأشياء بكيفية اعتيادية أو غير شعورية، كلما قل الإجهاد العقلي.

لو اضطر الشخص الذي أمامه مشاغل يومية إلى إجبار نفسه على الإستيقاظ كل صباح ودفع نفسه للعمل دفعاً لفقد كمية كبيرة من نشاطه الذي يمكن استخدامه بدلاً من ذلك في إنجاز أعماله بفعالية أكبر.

في الحقيقة العادات هي من أكثر الأمور عوناً للعاملين في أي مجال لأنها تجعل العمل أوتوماتيكياً في معظم الحالات.

وكما أن للعادات الطيبة فوائد عظيمة، هكذا للعادات السيئة تأثير خطير، بحيث أن كلمة "العادة" هي ألصق ما تكون بالعادة السيئة. ومن تلك العادات الرغبة القوية في تعاطي المخدرات أو الكحول أو التدخين بحيث تخرج عن سيطرة الإرادة.

ولكن هناك عادات أخرى أقل ضرراً تتسبب في تبديد النشاط دون طائل، كالغيرة والحسد والقيل والقال وما شابه.

الطفولة هي السن الأنسب لتشكيل العادات، لأن الراشدين أو البالغين هم صرّة أو سلة من العادات ذات الجذور المتغلغلة عميقاً في تربة الوعي. وأكبر خدمة يمكن أن يقدمها الكبار للصغار هي مساعدتهم – بالقدوة الحسنة – على تكوين العادات الجيدة التي ستكون عوناً وسنداً لهم في مدرسة ومعترك الحياة.

وفي هذا الصدد يقول الشاعر الروماني أوفيد:

العادات السيئة تبدأ ضئيلة ثم تكبر وتقوى (بفعل الممارسة والتكرار) تماماً كما تتجمع السواقي الصغيرة لتصبح فيما بعد نهراً جباراً مندفعاً بقوة لا تقاوم نحو البحر.

أما الشاعر القروي فيقول:

نصحتكَ لا تألفْ سوى العادةِ التي

يسرّكَ منها منشأ ٌ ومصيرُُ

فلمْ أرَ كالعاداتِ شيئاً بناؤهُ

يسيرٌ وأما هدمهُ فعسيرُ

ويتحفنا أبو العلاء المعري بالقول:

نهانيَ عقلي عن أمور ٍ كثيرةٍ

وطبعي إليها بالغريزةِ جاذبي

ثم يزيدنا من الشعر بيتاً، مؤكداً:

الطبعُ شيءٌ قديمٌ لا يُحَسُّ بهِ

وعادة ُ المَرءِ تـُدعى طبعهُ الثاني

والسلام عليكم

المصدر: موسوعات

 

إلى حائرة

-----------

لا تجزعي مهما الحياة ُ أسرفتْ

في جورها وتعسفتْ، لا تجزعي

وتعشمي الأنوارَ حتى في الدُجى

فالشمسُ في الأفق ِ وإن لم تسطع ِ

وتبسّمي مثلَ البراعم ِ للندى

وتنسمي عبقَ الصبا المتضوع ِ

وإذا المآسي قرّحتْ أجفانك ِ

فالعينُ تصفو بانهمار الأدمع ِ

والشوكُ إن أدمى الأناملَ وخزُهُ

فالوردُ يهمسُ عطرهُ لو تسمعي!

وتذكري أن وجودَكِ لازمٌ

للكون ِ صنوٌ للشهاب الألمعي

إن كنتِ تخشينَ الحياة َ وبأسَها

فتوجهي بالروح ِ نحو المبدع ِ

وودّعي دنيا الغرور تأمني

وقلبَك ِ عند الأمين ِ أودعي

وامشي على درب الحقيقة ِ تبصري

نورَ الوجودِ وعندها لن تـُخدَعي

لا تعبسي، لا تيأسي، لا تحبسي

النهدات ِ والآهات ِ بين الأضلع ِ

لا تقنطي فالعيشُ يزخرُ بالأملْ

وإذا شعرت ِ بالتوجس ِ فارجعي

فإذا فعلتِ سوفَ تلقينَ الرضا

وإذا اندفعتِ أخشى أن تتوجعي

لا تقفزي وسط الظلام ِ فربما

صادفتِ ما لا تقدري أن تدفعي

بل اسلكي درباً أميناً تهنأي

بالخير ِ كل الخير من بحر الوعي

ما زالَ رسمك ِ ماثلا ً في خاطري

في الروح ِ في الوجدان غير مقنـّع ِ

لا تجزعي

فطيفـُك ِ دوماً معي!

 

October, 2012

 

ما وراء الجبال الزرقاء

-----------------------

قرأت هذه القصة منذ سنوات في مجلة Self-Realization، ومع أنني لا أذكر كل تفاصيلها لكنني احتفظت بالفكرة الرئيسية في ذهني وها أنا أرويها ربما ببعض تصرف، آمل أن تستمتعوا بها.

عندما بلغ أحد زعماء الهنود الحمر مرحلة متقدمة من العمر وشعر بدنو الأجل، اختار ثلاثة من رجاله ووضعهم قيد الاختبار لاختيار أحدهم لخلافته في زعامة القبيلة. إذ طلب منهم البحث عن سلسلة الجبال الزرقاء والعودة إليه ليصفوا له كل ما رأوه في طريقهم وما اعترض سبيلهم من الصحاري والصخور والوديان الضيقة والأنهار والمرتفعات والخوانق أي الأودية العميقة التي في أسفلها أنهار.

ثم ودّعهم وطلب من الروح الأعظم كي يرافقهم ويعيدهم إليه سالمين على أمل لقائهم بعد عودتهم الميمونة.

انطلقوا كل في اتجاه.. انقضت أيام وأسابيع على رحيلهم.. عبروا خلالها مساحات شاسعة ورأوا سلاسلَ عديدة من الجبال ظنوا بعضها أنها سلسلة الجبال الزرقاء التي يبحثون عنها، لكن كانوا كلما اقتربوا منها برزت أمامهم سلاسل تلوها سلاسل إلى ما لا انتهاء.

أخيراً عندما وصل أحدهم إلى نقطة معينة من تجواله يكثر فيها نبات الشيح والقيصوم قال بينه وبين نفسه سآخذ معي غُمراً (ربطة) من هذا النبات وأعود إلى الزعيم مؤكدا له أنني أتيت بها من وراء القمم الزرقاء. فيمم وجهه شطر القبيلة وعاد برأسه ريشة يحدوه التفاؤل والأمل في أن يصبح الزعيم الجديد لقبيلته.

وعندما أصبح على مقربة من القرية راح يحدي ويهزج على طريقة الهنود الحمر ويرقص رقصة النصر إلى أن وصل بيت الزعيم فسلـّم عليه أمام الحاضرين الذين كانوا في انتظار عودته، ووضع كومة النبات التي جففتها حرارة الشمس أمام الزعيم، وشرع بالوصف بحماس، لكن الزعيم قال له لا حاجة لك بأن تخبرني شيئاً، فأنا أعرف إلى أين وصلت بالضبط من كومة الشيح والقيصوم هذه التي وضعتها أمامي.

أقول لكَ أنك بلغت المستنقعات المالحة وقطعتها بعدة فراسخ، وجُزتَ بمحاذاة التلال الأرجوانية، بل وقطعت وادي الكهوف بمسافة قصيرة ولم تتقدم بعدها ميلا واحداً، ولذلك لم تبلغ الجبال الزرقاء.

ولم يكن أمام صاحبنا الطامح إلى الزعامة الروحية والدنيوية إلا الصمت لأن كل ما قاله الزعيم كان عين الصواب.

بعد عدة أيام رجع ثاني الثلاثة ومعه قطع من صخور زرقاء فريدة التكوين ذات بريق خاص لم يكن قد رأى مثيلا لها في حياته. فوضعها أمام الزعيم على أساس أنها من وراء الجبال الزرقاء. ولكن ما أن نظر إليها الزعيم ببصره الثاقب وتحسسها بيده حتى قال:

المسافة التي قطعتها كانت أطول بخمسين فرسخاً من التي قطعها صاحبك الذي أتانا بالشيح والقيصوم. لقد اجتزت الوادي الكبير وقطعت الصحراء الغبراء، بل أنك اجتزت سبع سلاسل من الجبال الضارب لونها إلى الأزرق، وعبرت النهر العريض وتسلقت صخور الغرانيت والصوان، ووصلت إلى المنفسح الكبير ذي الشلالات الهادرة، ولم تتقدم بعدها فرسخاً واحداً. لقد اقتربتَ من الجبال الزرقاء ولكنك لم تصلها ولم تجتزها لتبلغ ما وراءها.

وكصاحبه الأول لم يحر ِ جواباً لأن كلمات الزعيم جاءت مفحمة ودامغة لا يمكن الرد عليها أو تفنيدها إطلاقا. فالتزم الهدوء وأدرك أنه لم يفلح في مهمته.

بعد أسبوع رجع الرجل الثالث لا يحمل شيئا، ولأنه لم يجلب معه شيئا فلم يضع أي شيء أمام الزعيم، بل ولسبب ما عجز عن النطق ولو بكلمة واحدة.

وما أن تفرس الزعيم في عينيه حتى قال له أمام الحاضرين:

لا حاجة لك أن تأتي لي بعلامة ولا حاجة لأن تخبرني عما رأيته لأنني أرى كل شيء مرسوما بجلاء ووضوح في عينيك. وأؤكد لكَ ولكل الحاضرين هنا بأنك بلغت سلسلة الجبال الزرقاء بل اجتزتها وبلغت ما وراءها وأبصرت المحيط القابع خلفها.

أجل، أرى المحيط بأمواجه ومده وجزره وقواه وعظمته وامتداده اللامحدود في عينيك، وأحس به ينبض في كيانك كأنك أصبحت واحداً معه. أنت الذي اجتزت الإمتحان وحققت أملي وأحلامي بخلافتك لي. والآن أستطيع أن أمضي قرير العين إلى الأرض السعيدة حيث الآباء والأجداد وأقابل الروح الأعظم، عالماً في أعماق نفسي بأنني سأترك القبيلة في رعاية رجل أمين ومؤتمن وصل إلى المحيط الكبير ولامس مياهه فتبارك بالرؤية وأصبح كفؤاً للزعامة.

وما أن نطق بهذه الكلمات حتى أسلم الروح وحل مكانه الزعيم الجديد الذي ارتاد القمم الزرقاء وأبصر بأم عينه المحيط الأعظم.

 

قوة الموسيقى The Power of Music

--------------------------------------------

لكل شعب من الشعوب القديمة (وربما الحديثة أيضاً) مخزون وافر من الحكايات والأساطير المتصلة بتأثير الموسيقى على الإنسان والحيوان، وحتى على عالم الجماد.

التأثير القوي للموسيقى على الإنسان كان ولم يزل مادة دسمة للشعراء. فها هو الشاعر جون درايدن يخبرنا في قصيدته بعنوان Song كيف أن الموسيقى قهرت وأسرت قاهر العالم ومدوّخ الأمصار الإسكندر الكبير. تلك القصيدة تحتفي بقوة الموسيقى وبتأثيرها الطاغي على عواطف الإنسان وأحاسيسه.

إضافة إلى ذلك تعتبر الموسيقى ذات تأثير على الأفاعي وكائنات أخرى. كما يعتقد الكثيرون أن للموسيقى قوة على تغيير مسار الطبيعة بالرغم من اعتبار ذلك المسار ثابتاً لا يتغير. فالنهار قد يتحول إلى ليل والحرائق يمكن إخمادها بفعل الموسيقى.

لقد قام بعض علماء النفس التجريبيين بتطوير علاج مؤسس على الموسيقى لشفاء مرضى يعانون من حالات عصبية وأمراض نفسية، وتفرغ باحثون لدراسة هذه الظاهرة العجيبة. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تدخل فيه هذه الأمور، التي يعتبرها البعض ما ورائية، ضمن نطاق العلم التجريبي.

يخبرنا السر وليام جونس مؤسس الجمعية الآسيوية في القرن الثامن عشر أن وعلين إثنين كانا يأتيان إلى مكان محدد في الغابة حيث كان سراج الدولة يستمتع بمقطوعات تعزفها جوقته. وكان الوعلان يقتربان من العازفين ويصغيان إلى الأنغام بارتياح واضح إلى أن قرر أن يثبت قدرته على الصيد فرمى أحدهما بسهم.

كما يذكر أيضاً عن مصدر موثوق أن الأفاعي الفتاكة كانت تغادر جحورها لمجرد سماع عزف الناي مما يدل على أن أنغام الناي لامست وتراً حساساً لدى تلك الحيات (هناك مثل شعبي مفاده أن الكلمة الطيبة تـُخرج الحية من جحرها/وكرها).

ويستطرد أنه في إحدى المرات بينما كان العوّاد ميرزا محمد المعروف بإسم بلبل يعزف لمجموعة كبيرة في إحدى الخمائل قرب شيراز لوحظ أن العنادل كانت تحاول منافسة الموسيقار، أحياناً تغرد في الأشجار وأحياناً ترفرف متنقلة من غصن إلى غصن كما لو كانت تحاول الإقتراب من آلة العزف على الأرض في نشوة خجولة. وكانت تلك الطيور ترتفع في الهواء لمجرد تغيير المقام.

هناك قصص عديدة عن مدى تأثير الموسيقى على الصل المعروف بالكوبرا.

ذات مرة أراد أحد أمراء ولاية ميسور أن يختبر صحة ذلك، فذهب إلى تلة مجاورة يصحبه عازف البلاط الذي راح يعزف المقطوعات المعروفة بالراغاز. وما أن بلغت الأنغام مسامع حيات الكوبرا حتى خرجت الواحدة تلو الأخرى من جحورها وضربت طوقاً حول العازف. وبرؤوس منفوشة ومتمايلة راحت (الكوبرات) تشنف أسماعها منتشية بسحر الموسيقى.

وما أن توقف العزف حتى انسلت الحيات – دون أن تؤذي أحداً – وعادت إلى جحورها.

كما يروي الروائي الكولونيل فيليب مدو تايلر حادثة مشابهة، إذ يقول:

"كانت كوبرا كبيرة ترتاد حديقتي في إليشابور وكانت تشيع الرعب في قلوب الجميع. وقد تمكن أحد الحواة البارعين من الإمساك بها في حضوري شخصياً بمجرد عزف آلة البنجي. فقد عزف أولاً بهدوء كبير أمام شجيرة الصبار التي كانت تقبع الكوبرا تحتها. ومع ارتفاع العزف وتواصله أطلت الكوبرا رأسها ثم خرجت من تحت الصبار وانتصبت في وضع التحدي. في تلك اللحظة تسلل رجل بخفة إلى خلفها، وفي حين كانت مستغرقة في الإصغاء التام للعازف ألقى عليها بطانية وأمسكها برأسها تحت الفكين.

أما بخصوص تأثير الموسيقى على الطبيعة نفسها، فيعتقد العازفون أن للموسيقى قوة يمكنها تحويل ضوء النهار إلى عتمة واستنزال زخات مطر منعشة على الأرض العطشى (بما يشبه الإستسقاء!). فالعازف المشهور شودايا أكد أن النبات يمكنه أن يعطي محصولاً أوفر لو أنه تعرّض لألحان موسيقية في أوقات مناسبة خلال فترة النمو. وهناك حكايات عن موسيقيين بارعين تمكنوا من تجنيب البلاد القحط والمجاعة بترديد أناشيد خاصة.

ويؤكد المترجم والأديب السر وليام أوسلي أنه ذات مرة، وفي بلاط الأمبراطور المغولي أكبر، شرع عازف البلاط ميان تان سن بعزف مقام مسائي عند الظهيرة وكان تأثير عزفه قوياً بحيث أظلم الجو على الفور وأحاطت العتمة بالقصر على مدى سماع صوت المنشد. ويقال أيضاً أن نفس العازف تمكن من إنزال المطر من السماء عندما عزف مقطوعة ميغا ملهار مع غياب أي مظهر آنذاك لاحتمالية سقوط المطر.

وكما أن للموسيقى القدرة على استمطار الغيث المنعش على الحقول الصادية بإمكانها أيضاً أن تفعل العكس: حرق الأشياء أو تجفيفها. وهناك قصة عن سراج في أحد المعابد يقال أن فتيله أشعل بفعل موسيقى العازف.

ويحكى أن الإمبراطور أكبر طلب من العازف الشهير غوبال أن يعزف مقطوعة راغا ديباكا، فاعتذر العازف لكن الإمبراطور أصر وأمره هذه المرة بدل الطلب منه. فطلب غوبال من أكبر أن يسمح له بالذهاب إلى بلدته لتوديع أسرته وأصدقائه. لم يعد إلا بعد مضي ستة أشهر. كان ذلك في فصل الشتاء. وقبل أن يبدأ العزف غمر جسمه حتى رقبته بمياه نهر يمونا Jamuna وما أن عزف نغمة أو اثنتين حتى سخنت مياه النهر وبلغت أخيراً درجة الغليان. أوقف العزف لبرهة وطلب من أكبر أن يعفيه من تتمتها فأصر أكبر على تتمة العزف ليعرف مدى تأثير ذلك المقام. واصل غوبال العزف المنكوب فانطلق اللهب من جسمه. ومع أنه كان مغموراُ بمياه النهر لكنه تفحم واستحال إلى رماد.

ولا ننسى في هذا المقام الفيلسوف العربي الشهير أبا نصر الفارابي مؤلف "كتاب الموسيقى الكبير" وقدرته على إضحاك السامعين وإبكائهم وتنويمهم بعزف مقطوعات خاصة لكل حالة من تلك الحالات.

وقد ورد في حاشية الفصل الخامس عشر من كتاب مذكرات يوغي: السيرة الذاتية Autobiography of a Yogi لمؤلفه برمهنسا يوغانندا Paramahansa Yogananda ما يلي:

تتضمن أساطير سائر الشعوب الإشارة إلى رقيات وتعويذات لها قوة على الطبيعة. والمأثور عن الهنود الأمريكيين أنهم قاموا باستحداث طقوس صوتية لاستجلاب الأمطار والرياح. وكان في استطاعة الموسيقار الهندي العظيم تان سن إخماد النيران بقوة إنشاده. وقدم تشارلس كيلوغ عالم كاليفورنيا الطبيعي دليلا على تأثير الاهتزاز النغمي على النار في سنة 1926 أمام مجموعة من رجال الإطفاء في نيويورك، فبتمريره السريع لقوس كبير شبيه بقوس الكمان على شوكة رنانة من الألمنيوم تمكن من إحداث تشويش لاسلكي شبيه بالصرخة الحادة، وعلى الفور هبط اللهب الغازي الأصفر داخل أنبوبة زجاجية مجوفة من قدمين إلى ست بوصات، وأصبح بريقاً ضئيلا أزرق اللون. ثم تمكن من إخماده بمحاولة أخرى بالقوس وبنوع آخر من الاهتزازات ذات الصوت الحاد.

والسلام عليكم

المصدر: Yogoda Magazine ومذكرات يوغي


 

صفحة من حياة عاشقة الودود

رابعـــــــــة العدويـــــــــة

-------------------------------

بينما كنت أتصفح إحدى المجلات القديمة – باللغة الإنكليزية - شدني مقال بعنوان:

The Sufi Saint, Rabia بقلم آرثر ماسي Arthur Massey، فأحببت ترجمته للقارئ الكريم لما لرابعة العدوية من تقدير ومكانة سامية في نفوس متنوري الشرق والغرب.

جدير بالملاحظة أن كلمات رابعة كانت قد ترجمت في الأصل من العربية إلى اللغات الأخرى، والآن لدى ترجمتها من الإنكليزية إلى العربية فإنني متأكد من أن أقوالها التي سأقوم بترجمتها هنا لن تكون مطابقة تماماً لأقوالها الأصلية لاعتبارات لغوية لا تخفى على القارئ اللبيب، آمل أن تأتي متقاربة على الأقل من حيث المعنى.

والآن إلى الموضوع:

كانت رابعة قديسة عظيمة، حيث نقرأ في سيرة حياتها التي ألفها فريد الدين العطار ما يلي:

" تلك الإنسانة المباركة عاشت في خلوة مقدسة.

الإخلاص الديني كان نقابها.

ونيران الشوق الإلهي كانت تضطرم في قلبها.

لقد طغى عليها الحب الإلهي فتاقت نفسها للفناء في مجد المعبود.

تلك المرأة التي فقدت ذاتها في الله.

والتي يعتبرها الناس السيدة العذراء الثانية، هي رابعة العدوية."

يا له من وصف رائع للقداسة الحقة! فقد عاشت رابعة في الدنيا لكنها لم تكن من أهلها. عاشت حياة الروح وهي في الجسد. لقد كانت ممتلئة بالخير والطيبة والصلاح. أما قلبها فكان متنوراً وطافحاً بالوجد الرباني. ولذلك فقد أصبح اسمها خالداً وما زال يتردد على ألسنة الناس.

ولدت رابعة حوالي سنة 717 ميلادية في البصرة حيث صرفت القسط الأكبر من حياتها. ذاقت طعم اليتم صغيرة، عندما اختطفت يدُ الموت أبويها، فوقعت في السبي وبيعت بيع العبيد.

ذات مرة، أفاق سيدها من نومه ونظر من نافذة حجرتها فوجدها تضرع لله خاشعة وتقول:

"إلهي، أنت تعرف أن قلبي مشتاق لطاعتك وأن نور عيني هو لك ولأجلك. لو كان الأمر بيدي لما توقفت يا رب ساعة واحدة عن خدمتك، لكنك جعلتني أسيرة لأحد عبادك."

أثناء دعائها رأى سيدها سراجاً منيراً فوق رأسها معلقاً في فضاء الحجرة دون سلسلة، وقد أضاء نوره على كل ركن من أركان البيت. وإذ أبصر ذلك المنظر العجيب أحس بالرهبة تدب في قلبه، فنادى رابعة وطيب خاطرها وأعتقها لوجه الله.

انطلقت إلى الصحراء ولسان حالها يقول: "إني مهاجرة إلى ربي."

بعد فترة من الزمن تركت الصحراء ووجدت لها غاراً شبيهاً بالكهف حيث استغرقت في عبادة تأملية عميقة على حبيبها الإلهي. وبعد أن حصلت على الاستنارة الروحية عاشت في خلوة شبه تامة لكنها لم تنقطع عن خدمة المحتاجين والقيام بأعمال البر والتقوى.

حياة رابعة كانت مليئة بالأحداث المثيرة، إنما ما يهمنا في المقام الأول هو تفتحها الروحي. لقد حصلت على عروض زواج عديدة لكنها اختارت حياة التبتل رغبة في مواصلة مسيرتها الروحية دون عائق.

عندما عرض أحد أمراء البصرة العباسيين عليها الزواج ووعدها بأن يقدّم لها مهراً مقداره مائة ألف دينار، وأخبرها بأن دخله الشهري يعادل عشرة آلاف دينار، وأنه سيهبها كل تلك الدنانير، بعثت إليه تقول:

"لا يطيب لي بأن تصبح عبدي وأن أملك كل ما تملكه. كما لا يطيب لي أن تلهيني لحظة واحدة عن حب الله."

في مناسبة أخرى، وردّاً على حسن البصري الذي عبّر لها عن رغبته في الزواج منها قالت:

"عقد الزواج هو لذوي الكيان المادي. أما بالنسبة لي فقد انتهى ذلك الكيان كوني لم أعد كائنة مذ فارقت ذاتي. وكياني الوحيد هو في الله لأنني له سبحانه بكلـّيتي. إنني رهن إشارته وأعيش في ظله. فيجب أن تطلب يا حسن عقد الزواج منه وليس مني."

كانت حياة رابعة برهاناً حياً على قوة الروح الإلهي في ذات الإنسان. تلك القوة التي تزيل العوائق وترفع الحواجز التي تفصل بين الإنسان وخالقه.

لعبت تعاليم رابعة دوراً كبيراً وساهمت مساهمة فعالة في تطوير المفهوم الصوفي وتحديد معالمه. فهي علـّمت الآخرين من تجربتها الذاتية ودلتهم على الطريق الذي سارت هي عليه، أي أسلوبها كان القيادة بالقدوة.

يقول العطار عنها: "لقد كانت رابعة متميزة ولم يُعرف لها نظير في علاقتها بالله ومعرفتها بالإلهيات. كما كانت محط إكبار واعتبار من كل الصوفيين الذين عاصروها. بل وكانت حجة لا تدحض في التصوف والتجربة الإلهية."

عرفت رابعة الحق كالعديد من أولياء الله الصالحين وعاشت حياة مديدة إذ ارتحلت عن هذه الدنيا وهي على مشارف التسعين. وبالرغم مما أصاب جسدها من وهن ظلت مع ذلك محتفظة بقواها العقلية بحيث كان الباحثون الروحيون يلتمسون عونها فتساعدهم بما أفاض الله عليها من العلم الرباني والإشراق الروحاني.

لم تخشَ رابعة ما يسمى الموت لأنه بالنسبة لها كان ساعة الرحمن وبشير لقاء المحبوب الإلهي الذي لا تعادله فرحة في الوجود.

عندما مرضت مرضها الأخير زارها ثلاثة من أصدقائها الصوفيين هم حسن البصري ومالك بن دينار وشقيق البلخي. وكأصدقاء النبي أيوب عليه السلام (الذين ذهبوا إليه ليعزوه في مصابه فراحوا يعظونه وينصحونه بما ليس هو بحاجة إليه.)

حاول هؤلاء الثلاثة أن يعلموها واجب التسليم للإرادة الإلهية. فقال لها حسن البصري:

" من يدّعي بأنه عبد الله ولا يصبر على تأديبه وبلواه ليس صادقاً في ما يدعيه."

فأجابته رابعة: "أشم رائحة الصلف في كلامك يا حسن."

فاستلم الحديث شقيق البلخي وقال:

"من لا يشكر الله على تأديبه له لا يكون صادقاً في ما يدعيه."

فأجابته رابعة: "نريد أن نسمع أفضل من هذا يا شقيق."

ثم جاء الدور لمالك بن دينار الذي قال:

"من لا يتلذذ بتأديب الله له فهو ليس صادقاً في ما يدعيه."

فأجابت رابعة: "وهذا أيضاً لا يكفي يا مالك."

قالوا: "فماذا أنتِ قائلة؟"

أجابت: "إن من لا ينسيه التفكير بالله تأديب الله له فليس صادقاً فيما يدعيه."

توفيت رابعة العدوية سنة 801 للميلاد ودفنت في البصرة. وقد ذكر كاتب سيرتها تفاصيل وفاتها، قال:

في ساعتها الأخيرة أحاط بها نفر من الصالحين فقالت لهم: "قوموا ودَعوني لوحدي علكم تفسحون المجال لرسول الرحمن كي يأتي إليّ."

فنهضوا جميعا وخرجوا من عندها، وما أن أغلقوا الباب حتى سمعوا صوت رابعة وهي تتشهد ثم سمعوا أيضاً صوتاً آخر يقول:

( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي.)

لم يسمعوا كلاماً بعد ذلك، فعادوا إليها ووجدوا أن روحها الطاهرة قد فارقت الجسد والتحقت بالرفيق الأعلى.

 


ملك الشعراء بتـ Petrarchـــرارك

الذي هام بحب أم الأحد عشر ولداً

------------------------------------------

ولد الشاعر الإيطالي والأديب الكلاسيكي فرانسيسكو بترارك سنة 1304م في مدينة أريزو Arezzo. كان والده منفياً سياسيا من فلورنسا، ونتيجة لذلك صرف الصبي فرانسيسكو سنوات طفولته متنقلا من مدينة إلى أخرى.

في عام 1319 أرسله والده إلى مدينة مونبيلييه لدراسة القانون وبعد أربع سنوات من ذلك التاريخ انتقل إلى مدينة بولونيا للدراسة المعمقة في نفس المجال، لكن رغبته التي لم يفصح عنها لأحد كانت تكريس كل حياته للعمل الأدبي.

والده أبدى معارضة لتوجهات ابنه الأدبية، بل وفي إحدى المرات أحرق كل كتب ومخطوطات ابنه الشاب المتعلقة بالشعر والأدب. لكن الوالد توفي في عام 1326 مما أفسح المجال لابنه لتكريس جل وقته للدراسات والأعمال الأدبية.

في العام التالي لوفاة والده وبينما كان في مدينة أفينون Avignon بإيطاليا رأى امرأة اسمها لورا Lora فنظم فيها أروع قصائده التي خلدته وخلدتها على حد سواء.

لقد أحب لورا من أول نظرة وبقي ثابتاً على حبها حتى وافتها المنية في سن الثامنة والثلاثين. أجل، أحبها حباً طاغياً مع أنها كانت متزوجة وأماً لأحد عشر ولداً. ومع ذلك فقد ألهمت قريحته فكتب في حبها قطعاً أدبية في غاية النبل والصفاء والروعة.

حُب شاعرنا لتلك المرأة كان عذرياً مثاليا. فقصائده تحتفي بما تتحلى به المرأة من مزايا نبيلة تبعث على الإلهام وتوقظ في الرجل مشاعر سامية وعواطف رقيقة.

دوّن بترارك أشعاره باللاتينية فطبقت شهرته الآفاق بحيث تقدمت منه جامعتا باريس وروما وعرضتا عليه تتويجه ملكاً للشعر والشعراء. قبل العرض من جامعة روما فتم تتويجه باحتفال شعبي مهيب في عام 1341. بعد ذلك تجول في ربوع إيطاليا حيث عثر على خطبتين شهيرتين للمشرّع الروماني الأشهر شيشرون.

كان بترارك يعود بين الحين والآخر إلى مدينة أفينون ليكون بجوار لورا، وذات مرة اشترى بيتاً قريباً من منزلها لعله يأنس بقربها وتكتحل عيناه بمرآها.

عندما بلغه نبأ وفاتها نظم فيها أجمل قصائد الحب وأكثرها رقة وعذوبة. وقد صرف أيامه الأخيرة في مدينة أرغوا Argua بالقرب من بادوا Padwa منهمكاً بكتبه ومخطوطاته الشعرية والأدبية القريبة إلى قلبه لأن الكثير منها كان يدور حول حبيبته لورا.

كان بترارك يفخر بأعماله التي ألفها باللاتينية لا سيما منها ملحمته الشهيرة (أفريقيا). أما أشعاره التي دونها بالإيطالية فما زالت تحظى بشعبية واسعة لدى محبي الأدب الرصين والإبداعات الوجدانية الرفيعة.

نُشر ديوان بترارك في فينيسيا (البندقية) في عام 1470 فكان تأثيره على شعراء أوروبا كبيرا. وإليه يُعزى الفضل في تهذيب قصيدة السونيتة sonnet ذات الوزن والقافية المحددين، مما أكسبها نبضاً جديداً ودفئا وسمواً، في حين أعطت رهافته وروحه الفنية الشعرَ الإيطالي روعة وعظمة لم يعهدهما من قبل.

بعد سبع سنين على وفاة لورا قام العالم الإنساني موريس سيفي بزيارة أفينون. وعندما كشف على قبرها عثر فيه على صندوق صغير من الرصاص بداخله ميدالية عليها صورة امرأة تمزق قلبها بيديها، وتحت تلك الميدالية إحدى قصائد بترارك.

 

الغُموض في الشعر بين الإبداع والتعقيد

--------------------------------------------

هذا عنوان لموضوع طرحه الشاعر الناقد جعفر الوردي في الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب، وقد طلب من الأعضاء المشاركة وإبداء الرأي، فكانت هذه مشاركتي:

موضوع بل بحث ممتع ومفيد. أظن أن للتعقيد أكثر من سبب. قد يلجأ إليه البعض لإرسال إشارة واضحة إلى سامعه أو قارئه أنه أمام فحل لا يشق له غبار وينبغي النظر إليه والتعامل معه على هذا الأساس.

هذا الأسلوب كان يكثر من استعماله المتنبي، إذ نادراً ما خلت أشعاره من كلام غريب ومعانٍ مستغلقة. وقد يكون فعَل ذلك للإبقاء على مسافة محترمة بينه وبين باقي الشعراء، لإنه لم يرغب في أن يجاريه أحد في فنه، وأظن أنه أفلح في ذلك وهو القائل "وما الدهر إلا من رواة قصائدي".

كما قد يكون التعقيد ناجماً أيضاً عن نقص أو اعتداد في الذات يقتضي الاجتهاد لحجب التكوين النفسي عن الآخر. فالمرء يحسب حساباً لمن لا يعرفه. بل حتى الصمت الذي يلجأ إليه أحدهم يجعل الآخرين في حيرة من أمرهم تجاه صاحبه. هذا التعقيد المقصود غير مستحب، بل يوحي أن صاحبه يتلذذ بإجهاد الآخرين ويستمتع بهدر طاقاتهم في محاولة منهم لفهمه.

هناك آخرون قد تكون تجربتهم عميقة ومشروعة، بحيث لا يمكن التعبير عنها بيسر وسلاسة، ولا بأس إن كنا أكثر تساهلاً تجاههم. فلو قال أحدهم (إنني أسمع ومضة النور عندما يباغتني سطوعها) لتبادر إلى ذهننا أن النور يُرى ولا يسمع، في حين قد يكون القائل ذا تجربة ذاتية تؤكد صدق قوله.

قولٌ صوفي آخر يذهب على هذا النحو:

"The blind man pierced the pearl; the fingerless put a thread into it; the neckless wore it; and the tongueless praised it."

"لقد ثقب الأعمى اللؤلؤة، ومبتور الأصابع أدخل فيها خيطا، ولبسها من لا رقبة له، وامتدحها مقطوع اللسان!"

فما هي تلك اللؤلؤة، ومن هم هؤلاء؟ طبعاً المعنى بقلب الشاعر أو القائل.. والعهدة عليه.

إنني مع البساطة في كل شيء، وأوافق الناقد اللامع في ما ذهب إليه، وفي نفس الوقت أود التماس العذر لطائفة من الشعراء والكتاب ممن يرغبون صادقين في الإفصاح عن مكنونات نفوسهم لكن - لسبب أو لآخر - يجدون صعوبة في إخراج تلك المكنونات كما هي، فيحاولون - محبة لها أو غيرة عليها - حجبها ولو جزئياً عن أنظار قد لا تراعي رقتها أو عن أفكار لا تعي دقتها.

وليس آخراً هناك قول مفاده

The deeper the meaning, the less tongue it has

كلما كان المعنى عميقاً كلما تعذر التعبير عنه بالكلام.


 

حوار بين الحياة والموت

-------------------------

قالت الحياة للموت:

لو كنتُ مكانكَ يا موت لما تجهّمتُ للناس أو تنمّرتُ لهم.

ولا كنتُ لأزرع الرعب في قلوبهم والهلع في نفوسهم.

ولو صحّت تلك الحكايات العجيبة

عن نعيم مذخور ما وراء القبور

وكنتُ أعرف أسرار ذلك المكان الخفي وروائعه

المتوارية عن الأبصار والأفكار

لما كنتُ لأحجب تلك المباهج عن عيون البشر

بل لكنتُ كالملاك الحاني

أدنو من كل نفس ٍ أثقلتها الأحزان

حاملة الأملَ في عينيّ والعزاء في أنفاسي

والقناعة الراسخة في أعماق ذاتي

عند التلفظ المهموس

باسم ذلك الفردوس.

أجل، هذا ما كنت سأفعله

لو كنتُ مكانك يا موت!

فأجاب الموت:

ولو كنتُ مكانك ِ أيتها الحياة

لما كنتُ لأغري الأنفس الواثقة بي

بابتسامات وردية كاذبة

كي تسير على دروب ملأى بالهموم والآلام

من بدايتها حتى النهاية.

ولما كنتُ لأغرّر بمن هم في رعايتي وتحت حمايتي.

بل ولما كنتُ لأقف متفرجاً عليهم وهم يتعثرون على دروب الظلام والضلال.

ولما كنتُ لأصرّ على إطالة بقاء النفوس الراغبة في الإنطلاق نحو الآفاق..

لو كنتُ مكانك ِ يا صديقتي الحياة!

بل كالأم الرؤوم، كنتُ أضم المتعبين إلى صدري الحنون

وأمسح دموعهم وأخفف معاناتهم.

ولكنتُ أوفي بوعدي وأبر بعهدي

وأدعْ أبنائي يستكثرون بخيري إذ يغطون في نومهم الأخير

بدلاً من الحسرات وإطلاق الآهات

لو كنتُ مكانك ِ يا صديقتي الحياة!

لم تحر ِ الحياة جواباً فواصل الموت حديثه:

أجل، لو كنتُ مكانك ِ لما انتزعتُ الأرواح من جنان الرحمن

لآتي بها إلى هذه الأرض التعيسة

دون أن أغمرها بالأفراح وأضمن السعادة الدائمة لها.

ولو كان وجهي كالحاً كما تظنين

لما استجاب أحد لندائي

ولما وثقت النفوس في صمتي

الذي فيه يكمن الجواب

وحسن الثواب

للتعويض عن وعودك الخلبّية أيتها الحياة؟!

ثم استطرد قائلاً:

من حسن حظكِ أن وجهي غير لامع

وإنني أحجب أسرار ذلك المكان العظيم الرائع

خلف صمت القبور الأبدي،

فلو عرف الناس أية كنوز عندي في انتظارهم

لكانوا يهرعون إليّ فور مغادرتهم الأرحام

غير آسفين عليكِ وعلى ما لديك ِ

ولكانت خسارتك ستكون جسيمة يا صديقتي الحياة!

Ella Wheeler Wilcox

 

المساء والخياط

أوليفر وندل هولمز


E V E N I N G

By Oliver Wendell Holmes

by a Tailor

Translated by Mahmoud Abbas Masoud

---------------

هَا قَد ارْتَدَى الْمَسَاء سَتَرْتَه

وَزَرِّرَهَا بِالْنُّجُوْم

حَوْل صَدْرَه الْمُلْتَهِب المحموم.

سَأتُمْدّد هُنَا عَلَى الْحَشَائِش الْمُخْمَلِيَّة

الْشَّبِيهَة بِالبِطَانَة الَّتِي تَكْسُو ضُلُوْع الأَرْض الْهَزِيِلَة

وَأُنَاجِي الأشْيَاء مِن حَوْلِي.

يَا لَرَوْعَة الْشَّرِيط الْذَّهَبِي

الْمُلْتَف حَوْل رِدَاء الْلَّيْل الْمُنْسَدِل، الْمُمْسِك بِه!

أَمَّا الأَوْرَاق الْرَّقِيْقَة، الْمُرْتَعِشَة عَلَى أَسْلاكُهَا الْحَرِيْرِيَّة

فَإِنَّهَا تُحَدِّث أَنْغَامَاً مَوَسَيَقِيَّة شَبِيْهَة بِالْحَفِيْف الْصَّادِر عَن قُمَاش ِ أَطْلَس ٍ،

إذ يُدَاعِبُهَا الْنَّسِيْم الْخَفِيف ويصقل وجناتها الناعمة كالزغب.

مَا هَذَا الْشَّيْء الْشَّبِيْه بِالْوِسَادَة، الَّذِي يَبْدُو بَارِزَا لمَلْمْسي؟

أَيَجُوز أَن يكُوْن مَلْفُوْفة؟

بَل هو.. بَل هو.. زَهْرَة مُتَأَلِّمَة جَرِيْحَة

مِن تِلْك الْزُّهُوْر الَّتِي يَقْذِفُنِا بِهَا الْصَّبِيَّة.

أَيَّتُهَا الْوَرْدَة الْعِمْلاقَة

الْمُتَدَثرَة بِمِعْطَف أَخْضَر،

أُحِبُّك بِالْرَّغْم مِن حَالَتِك الْبَائِسَة.

مَا مِن شَك أَنَّكِ كُنْتِ، فِي رَوْضَتِك، نَّاضِرَة مُتَوَرَدّة

كَبَاقِي أَخَوَاتِك هَاتِه، النَحِيلات؛ ولا بُد أَن أَنْفَاسَكِ

زَادَت هَوَاءَ تِلْك الْرَّوْضَة عَبَقَا وعذوبة.

أَمَّا الآن فتشبهين شَاباً حَاق بِه الإفْلاس

فَلَم يُعَاوِد ارْتِدَاء الثياب الفاخرة الْزَّاهِيَة الأَلْوَان

أَو الْتَّعَطُّر بِالْرَّوَائِح الْطَّيِّبَة،

بَل رَاض نَفْسَه عَلَى لِبّس الثِّيَاب الْعَادِيَّة الْخَشِنَة.

أذَلِكَ الْطَّيْر الْعَائِم فَوْق الْمِيَاه إِوَزَّة بَيْضَاء؟

لا، بَل هُو طَائِر آَخَر لَطِيْف، رَمْز أَحَاسِيْسُنَا الْسَّامِيَة.

لا زِلْت أَذْكُر مَا حَدَث لِي فِي بَوَّاكِيْر الْعُمْر

عِنْدَمَا حَاوَلَتْ يَدَاي الصَغِيرَّتَان الإِمْسَاك بإوزَّة

فَخَلـّفت تِلْك الْمُحَاوَلَة أَثَرَاً لِجُرْح مُنْدَمِل فِي إِصْبَعِي الْوُسْطَى

مُؤَرَّخَة بِذَلِك بِدَايَة طُمُوْحَاتِي الْفتْيَة.

لَقَد كَان وَالِدِي خَيَّاطَا كَوَالِدِه،

وَكَذَلِك كَان جَدِّي وَجَمِيْع أَسْلافِي خَيَاطِين

وَكَان لَدَيْهِم مِكْوَاة قَدِيْمَة، تَوَارَثَهَا الأجْدَاد

عَن أَحَد أسلافنا القدامى مِن عَصْر سحيق.

وَقَد حَدَث أَن رَأَيْتُهَا ذَات مَرَّة، عِنَدَمّا كُنْت بِمُفْرَدِي

فَحَاوَلْت الْعَبَث بِهَا، لَكِنِّي اكْتَوَيْت بحرّها

وَكَان الْحَرْق مُرِيْعَا!

كَم هُو مُمْتِع أَن يُحَاوِل الْمَرْء تَقْوِيْم أَطْرَافِه

وأن يَنْط بِخِفَّة وَرَشَاقَة مِن مُسْتَوَىً مُسَطَّح (من هذه البسيطة)

مُخِلـّفاً وَرَاءَه مَشَاكِل الأرْض الْزَّهَيْدَة

وَمَظَالَمُهَا العديدة

مُوَدّعا الأَسْلاك الْمُتَقَطِّعَة

وأدوات الْقَص التصادمية، ذَات الصلصلة والْصَّخَب،

وَكُل الْمِسَلات وَالإبَر الَّتِي تَخِز الْنَّفْس وَتُدْمِي الْرُّوْح

مُقَابِل سَاعَة مِن سَاعَات الْتَّأَمُّل

فِي الْسَكِيْنَة الْمِلْطـّفة الَّتِي تُخَفِّف الألَم!

فَالطَّبِيْعَة الْطَّيِّبَة، الْمُتَّشِحة بِثِيَابِهَا الْفَضْفَاضَة

أَشْعُر بِصَدْرِهَا الْحَنُون الْظَّلِيْل

يَغْمُرُنِي وَيَحْتَوِيْنِي

فَأَحْيّي الْزُهُوُر الَّتِي تُزَيِّن بِسَاط الأَرْض

وَأَطْلَق نِدَاءً لِذَلِك الْطَّيْر الْهَادِئ

الَّذِي يَعُوْم عَلَى صَفْحَة الْجَدْوَل، كَمَا لَو كَان أَخِي.

هَيْهَات لِمَن يُعْوِزُهُم الْذوْق الْرَّفِيْع

أَن يَتَبَيَّنُوٓا الْجُيُوْب الْخَفِيَّة

الَّتِي تُخَبِّئ فِيْهَا الْطَّبِيْعَة محاسنها.

لَكِن هَذَا الْوَضْع غَيْر الْطَّبِيْعِي لسَاقِيّ (وُضِع الْوُقُوْف)

يُحَدِّث أَلماً فِي بْطَتِي الْمَستويتين.

عَلَيّ أَن أَذْهَب إِلَى حَيْث يُمْكِنُنِي طَيِّهِمَا

فِي وَضَعَهُمَا الإِعْتِيَادِي:

وُضِع "التربيعة"

وَالتَّأَمُّل عَلَى روائع الْطَّبِيْعَة.

 

في ضوء القمر

---------------

مثلما يصعدُ شبحٌ شاحب، يحمل سراجاً

سلّمَ بيتٍ مهجور، تسكنه الأرواح

هكذا يتنقل القمر بين حجرات الهواء الكئيبة

التي يغلفها الغموض وتكتنفها الأسرار.

فإذ يتوارى خلف الغيوم، ثم يبزغ ثانية

يبدو ممتقعاً باهتاً، مثقلاً بالآلام.

تارة تحجبه جدران متداعية

وتارة أخرى يعاود، عبر النوافذ، الظهور

إلى أن يبزغ أخيراً، رصيناً، مزهواً بضيائه

يتبختر في حدائق الغمام

بأبهة وعظمة تليق بأحد أباطرة الليل.

إذ ذاك، أنظرُ فلا أرى الأشياء كما عهدتها

وحسبما ألِفها بصري

فالممشى المؤدي إلى بابي يبدو درباً يغلفه السحر.

الأشياء تبدلت

وأعاين كتلة من الظل.

ها قد ألقت أشجار الحور ستائرها

وحيثما سرت وتمشيت،

سواء في قصر فاخر

أم متنزه فسيح

أو بين صفوف الأعمدة

أحس وكأنني أتمشى في مدينة غريبة.

وحتى الأرض تبدو مشحونة بإحساس فائق عجيب.

أما الرخام الذي رُصف به الشارع

فأراه ملتمعاً في الساحة المقفرة من الناس.

ترى هل ما أبصره محض أوهام؟

صحيح أن تحت كل هذا

تكمن الحياة العادية بكل تفاصيلها

لكن روح الوجود يضفي على الموجودات

لمسة سحرية

ويمنح للمشهد الكئيب لوناً ورونقاً.

ألا مهما نظرنا حولنا

ومهما شخصنا بأبصارنا إلى العلاء

فلن نتمكن من الرؤية

ما لم نكن قادرين على الإبصار

وما نراه حولنا

هو انعكاس لما نحويه في داخلنا.

Henry W. Longfellow

 

من هم الأغنياء؟

-----------------

 

الغني هو من زاد دخله عن مصروفاته والفقير من زادت مصروفاته عن دخلة.

الغنى ليس غاية الحياة، بل وسيلتها.

ثروتي لا تكمن في كثرة ممتلكاتي بل في قلة احتياجاتي.

الثروة لا تبعد عنا سوى إزعاج واحد: الفقر.

من يطمع في أن يموت ثريّاً سيُستقبل بضحكات جهنمية.

من يمتلك كفايته ويساعد المحتاجين على قدر طاقته، فهو غني.

محتقرو الغنى هم أكثر الناس تحرّقاً إليه وأشدّهم طمعاً به، ومتى وصل لأيديهم يبرهنون عن افتقارهم لغنى النفس وإقفارهم من المزايا النبيلة.

من يجمع ثروة ولا يتمتع بها يكون كالحمار الذي يحمل ذهباً ويأكل تبناً.

الشقاء يستهدف الثراء استهداف العواصف البرقية لأعلى المباني، أو كالشجرة التي تتكسر أغصانها بفعل حملها الزائد للثمر. وهكذا الحال مع جامعي الثروات ومكدسي الأموال.

إن كنت غنياً فاظهِر حظك السعيد أو برهن عن عظمة نفسك بالتواضع والتواصل مع من هم أقل حظاً منك. اسعف المحتاجين واشمل برعايتك من لا يعتبرهم المجتمع ولا يعيرهم اهتماماً، وبذلك تصبح عظيماً.

مهما امتلكنا من ثروة، ومهما تمتعنا بمباهج الحياة، لا يمكننا أن نأخذ منها إلى العالم الآخر أكثر مما نستطيع أخذه من الأشياء التي نبصرها في أحلامنا.

الغنى هبة من الله، وكباقي الهبات الأخرى هو حَسن بذاته وحَسن لدى استعماله في الوجه الصحيح. لكن التعلق الزائد بالغنى يعني تخصيص مكان له في القلب، وهذا ما لا يُرضي الله لأنه يتحول إذ ذاك إلى طمع، ولأن كل ثروات الأرض لا تملأ القلب.

امتلاكنا لما نريد هو غنى، أما استغناؤنا عنه فهو قوة.

لي جارٌ دائم الإنهماك بحيث ليس لديه متسع من الوقت للضحك. فهمُّه الوحيد في الحياة هو جمع أكبر قدر ممكن من المال، غير مدرك أن المال لا يمتلك القدرة على الإسعاد، وأن الأغنياء غير السعداء أكثر من الفقراء التعساء.

الثروة لا تجعل مالكها غنياً.

الثروة دون أعمال بر لا قيمة لها، أما إن استفاد الآخرون منها فهي نعمة وبركة على صاحبها وعلى كل من يستفيد منها.

لو كان الثراء يضمن لي النجاح لسعيت إليه بكل ما أوتيت من قوة، لكنني أحبذ طلب ما يحبه قلبي وترتاح له نفسي.

أسعد السعداء من قنع بما لديه، لأن القناعة ثروة طبيعية.

ليست الثروة من نصيب من يمتلكها، بل من يتمتع بها.

لا يمكن معرفة ما إذا كان المرء غنياً أم معوزاً بمجرد النظر إلى دفتر حسابه. إنه القلب الذي يجعل المرء غنياً. فغنى المرء يتوقف على ما بداخله لا على ما يمتلكه من مال وعقار.

رب قائل يقول: "لو كنت غنياً لفعلت كذا وكذا..." محض أوهام! فالإنسان يتمسك بآخر فلس وصل إلى يده أكثر من أول فلس كسبه في حياته.

وُلد الإنسان ليكون غنياً أو ليحصل على الغنى باستثمار قدراته العقلية والجسدية.. بتنسيق أفكاره مع قوى الطبيعة. الممتلكات هي إنتاج عقلي. المسألة تحتاج إلى أعصاب باردة وتفكير منطقي وسرعة بديهة وتصرف محسوب وطول أناة.

السعي المحموم وراء الثراء لا ينسجم مع محبة الحق. طمأنينة القلب يجب أن تسبق سعي الفكر.

الغنى يدفع صاحبه إلى التعالي والغرور.

الثروة هي أقل الهبات التي يمنحها الله للإنسان، ولا تقاس بثروة الصحة والجمال والفهم والحكمة. ومع ذلك يصرف الإنسان أيامه ولياليه سعياً وراءها دون راحة. يقال أن الله يمنح الثراء للأغبياء، ولا يمنحهم سواه.

هناك شبه بين الثروة والمكسّرات. فكم من ثياب تـُمزّق في جمعها، وكم من أسنان تـُكسّر في تحطيم قشورها، مع أنها لا تملأ البطون ولا تغني من جوع.

لا نسعد بامتلاك المال بقدر ما نأسف على فقدانه.

لا تحترم رجلاً لغناه بل لمبرّاته. فنحن لا نقدّر الشمس لعلوّها بل لما تقدمه لنا من خيرات.

ميزة وحيدة يتمتع بها الأغنياء دون الفقراء، هي إدخالهم المسرّة على نفوس الآخرين.

أغناكم الله من واسع فضلة

والسلام عليكم

المصدر: موسوعة الأفكار

 

عند الحد الفاصل

------------------

أود لو سمحتم أن تكون محطتنا التالية الطبيعة نفسها لنقرأ ما خطته يد القدير على صفحتها ونستبين ما فيها من رموز وكنوز.

ما من شك أن الطبيعة لم تخلق ذاتها بل أنها نتاج عقل الله الكلي الذي تصورها أولا ثم أطلقها بكل ما فيها من عظائم مدهشة تسبي العقول وتذهل الألباب. ولعل قربنا منها وكثرة وطول ألفتنا لها جعلانا نضرب صفحاً عن التأمل في روائعها ومحاولة معرفة أسرارها.

هذه الطبيعة التي لا نظير لها لأننا لا نعرف طبيعة غيرها لنقارنها بها هي دليل دقيق إلى ماهية العقل الذي أبدعها.. عقل الله. وهي محراب للنفوس التي يطيب لها التأمل المزدوج.. تأمل العين وتأمل العقل معاً.

فإذ يرفع الإنسان عقله وقلبه ونفسه إلى السماء يعاين مجد الله ظاهراً في الإتساع الذي لا حدود له وفي تلك المظاهر التي تبدو أبدية.. القمر الشمس والنجوم التي عاينها قبلنا الأنبياء وأناس حتى ما قبل التاريخ..

وهذه الظاهرة الكونية العجيبة تسيّرها قوى لا متناهية تدفع بسهولة مطلقة المجرات والشموس الأكبر من درب التبانة ومن شمسنا بملايين المرات، وفي نفس الوقت تحرّك النسمات الرقيقة وتفتـّح زهور الأعشاب النحيلة وتسري طاقة وحيوية في عروق البشر وكل المخلوقات الحية.

هذه الطبيعة الخالدة تضم في قلبها أسراراً كثيرة في انتظار من ينقب عنها ويكتشف روعتها.

العلماء اكتشفوا وما زالوا يكتشفون الكثير من أسرارها العلمية، لكن أسرار قلبها لا تعطى إلا لمحبيها والمقتربين من محرابها القدسي بدهشة واحترام.

ماذا عسانا أن نجد في قلبها لو تمكنا من الوصول إلى ذلك القلب الزاخر بالكنوز؟

أول ما قد نبصره هو تلك الأفكار الإلهية التي هي البذور الأولية التي نثرها الزارع الكوني وما زالت تجدد ذاتها بديمومة سرمدية ودقة متناهية لا محل إطلاقاً فيها للخلل أو الخطل.

ثم نرى المظاهر الكونية معكوسة في ذلك القلب الكبير ومعها الرعاية الشاملة لكل ما أبدعه عقل الله.

وإن أصخنا السمع لترانيم ذلك القلب الأقدس فقد نسمع أنغاماً من غير هذا العالم توحي باتصال الحياة على كافة المستويات.

وما من شك أيضا أن الطبيعة هي أبرع وأدق مترجم لعظمة الله ومجده. فمن يتفكر بأشجار السنديان ذات الإرادات الجبارة ودوالي العنب في الكروم والمروج المزدانة بالزهور الناضرة والحقول المتماوجة بسنابل القمح المباركة يشعر أنه يتوحد معها وينطبع حسنها على صفحات قلبه.

لا حد لجمال الطبيعة الذي متى ما انتقل إلى النفوس المتناغمة يمنحها ليس الجمال وحسب بل الفرح والمحبة أيضاً وكذلك التفاؤل باستمرارية الحياة وتجددها المتواصل.

والنفوس التي تلامسها الإشعاعات الخفية المنبثقة من قلب الطبيعة تتوحد معها وتتغنى بأمجادها الكامنة أيضا في أعماق النفس.

ومن يسعفه الحظ ويتنقل بين الحقول الزاهرة والجداول المترنمة والأشجار الباسقة وتلامس وجنته النسائم العبقة المشبعة بشذى الزهر يحس بقربه من النبض الكوني الذي جسد هذه الروائع ووضع في كيان الإنسان ذائقة جمالية تتفاعل مع محاسن الطبيعة ويثملها سحر الإبداع وخصوبة العقل الإلهي.

وقد لا يقف البعض عند هذا الجمال الآسر بل تستحثهم هممهم وتنخيهم مروءتهم للتعمق في التفكير بذلك المشغل الكوني العجيب الذي يخلق منتجات تامة الإتقان وغير خاضعة للنقد أو التقييم. فالتقييم والنقد مصدرهما العقل البشري أما تلك الروائع المدهشة فمصدرها العقل الكوني الذي لا قدرة للعقل البشري على معرفة خفاياه إلا بالاتصال به والتوحد معه، والذين يحققون ذلك هم قلائل وقد لا يفصحون عن تجربتهم التي لا قدرة للغة البشر على استيعاب معانيها واحتواء أبعادها.

الطبيعة دائمة التجدد لأنها انبثقت عن فكر أبدي السكون ودائم الحركة في آن.. لا انقطاع لسكينته ولا توقف لحركته. وعندما يقف العقل على الحد الفاصل بين الظلمة والنور واليقظة والنوم والمادة والروح والمد والجزر والحرارة والضوء فقد يدرك أسرار الطبيعة ويا لها من أسرار يلفها الغموض وتغلفها الخفايا، إنما غير مستعصية على محبي الطبيعة وعشاقها.

 

كوهي نور: أشهر جوهرة في التاريخ

----------------------------------------

هذه الماسة التي يبلغ وزنها حوالي الـ22 غراماً (والتي يعني إسمها جبل النور) كانت في زمن من الأزمان أكبر ماسة عرفها العالم، وقد كانت من ضمن مقتنيات العديد من ملوك وأمراء الهند وبلاد العجم، ووقعت بسببها حروب طاحنة أريقت فيها دماء وتطايرت رؤوس وكان الإستيلاء عليها يعتبر غنيمة من غنائم الدهر. أخيراً أصبحت إحدى درر التاج البريطاني عندما أعلن رئيس وزراء بريطانيا بنيامين دزرائيلي الملكة فكتوريا إمبراطورة على الهند.

وكباقي الدرر والجواهر الثمينة فهناك أساطير وحكايا تتصل بالجوهرة كوهي نور. ويقال بأنها تجلب الحظ العاثر والموت الأحمر لكل من يلبسها أو يملكها من الرجال، مثلما تجلب الحظ السعيد والعمر المديد لمن تملكها من النساء.

لا توجد معلومات موثقة عن مصدر تلك الجوهرة بالرغم من أنه يعزى إلى بلاد السند والهند. وطبقاً لبعض المصادر فإن جوهرة كوهي نور تم العثور عليها للمرة الأولى منذ خمسة آلاف سنة وهي مذكورة في المخطوطات السنسكريتية القديمة باسم سياماتاكا. ويقول الهندوس أن هذه الجوهرة كان قد أعطاها صاحبها جامبافانتا للسيد كريشنا ثم سُرقت من كريشنا أثناء نومه. كما أن هناك حكاية أخرى تقول أنه تم العثور عليها في قاع أحد الأنهار في الألف الثالث قبل الميلاد.

وهناك معلومات تقول أن كوهي وُجدت أول ما وجدت في مملكة غولكندا في حيدرأباد في الهند. ويؤكد سكان جنوب الهند أن الجوهرة هي في الأصل من منطقتهم. ما من شك أن الجوهرة تم العثور عليها في الهند لأنه لغاية القرن التاسع عشر كانت الهند المصدر الوحيد للألماس في العالم.

لقد ذكر بابر مؤسس الأسرة المغولية في الهند كوهي نور في مذكراته التي تعود إلى سنة 1526 للميلاد. ويؤكد بابر أن الجوهرة كانت ضمن مقتنيات الراجا مالوا في عام 1294 وقدرّ قيمتها آنذاك بما يكفي لإطعام شعوب العالم ليومين كاملين. كما يذكر بابر أن الراجا ملوا اضطر للتخلي عن الجوهرة لعلاء الدين الخلجي. بعد ذلك دخلت ضمن مقتنيات سلاطين دلهي وأخيراً وقعت في يد بابر نفسه سنة 1526 وأصبحت أثمن مقتنياته.

انتقلت كوهي نور إلى الأمبراطور المغولي شاه جيهان الذي أمر ببناء التاج محل وكانت إحدى الجواهر التي ترصع عرش الطاوس المشهور. أما أورانجيب (ابن شاه جيهان) فقد وضع والده قيد الإقامة الجبرية في قلعة أكرا. ويقال بأن أورانجيب وضع الألماسة في إحدى النوافذ بحيث تمكن والده الحبيس من رؤية التاج محل بمجرد التحديق في الألماسة. وقد بقيت في تلك النافذة إلى أن غزا الأمبراطور الفارسي نادر شاه الهند في عام 1739 ونهب أكرا ومعها دلهي. وكان من ضمن (منهوباته) عرش الطاووس ومعه الألماسة كوهي نور.

ويقال أن نادر شاه عندما رآها صاح بأعلى صوته (كوهي نور – أي جبل النور) ومنذ ذلك الوقت أصبحت تعرف بهذا الإسم.

أما بخصوص تقييمها فيقال أنه لو تمكن رجل قوي من قذف خمسة حجارة: واحد باتجاه الشمال وآخر باتجاه الجنوب، وثالث باتجاه الشرق ورابع باتجاه الغرب والحجر الأخير إلى فوق وتم ملء الفراغ بين تلك الأحجار بالذهب والألماس لكان ذلك معادلا لقيمة كوهي نور. وقد تكون عبارة (جوهرة لا تقدر بثمن a gem of inestimable value) ذات صلة بكوهي نور.

بعد اغتيال نادر شاه سنة 1747 انتقلت الجوهرة ليد أحمد شاه عبدلي الأفغاني. في عام 1830 تمكن شاه شجاع حاكم أفغانستان المخلوع من الهرب ومعه كوهي نور. وقد لجأ إلى لاهور الهندية عاصمة ملك السيخ المهراجا رانجيت سينغ وقدم الجوهرة هدية له.

في عام 1839 أوصى راجنيت سينغ بالجوهرة – وهو على فراش الموت - لمعبد جاغنات في ولاية أوريسا. ولكن حدث التباس حول كلماته الأخيرة ولم تنفذ وصيته. في عام 1849 كان العلم البريطاني يرفرف على قلعة لاهور وأصبح البنجاب أحد الأقاليم الواقعة تحت التاج البريطاني. ومن ضمن بنود المعاهدة الرسمية للاحتلال وردت العبارة التالية:

(أما بخصوص الجوهرة المعروفة باسم كوهي نور والتي أخذها المهراجا رانجيت سينغ من شاه شجاع المُلك فيجب وضعها تحت تصرف جلالة ملكة بريطانيا.)

في عام 1851 تم عرض جواهر التاج البريطاني في لندن وقد ذكر مراسل التايمز ما يلي:

(إن جوهرة كوهي نور هي بالتأكيد أروع المعروضات على الإطلاق وبلا منازع. إذ تدافعت الجماهير لمشاهدتها بحيث واجه رجال الأمن صعوبة بالغة في التعامل معهم. وكان المئات ينتظرون لساعات طويلة لإلقاء نظرة على تلك الجوهرة الغريبة العجيبة..)

وبالنظر إلى تاريخها الدموي الطويل فهناك العديد من البلدان التي طالبت وتطالب بها. ففي عام 1976 طلب رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو من رئيس الوزراء البريطاني جِم كالاهان إعادة كوهي نور إلى باكستان، لكن المستر كالاهان أجابه بما معناه (رُح خيّط بغير هالمسلة.) كما أن الهند أيضا طالبت بها، مثلما طالب بها نظام طالبان في أفغانستان، وكذلك طالبت بها إيران دون جدوى، فجوهرة كوهي نور ما زالت محفوظة في برج لندن حتى هذه اللحظة.

المصدر: موسوعات

 

عندما تنتشي الكلمات

------------------------

إنني من المؤمنين بأن الكلمات تختزن في ذاتها نبضاً حياً

إن هي أفلحت في نقل مشاعر حية ونابضة

مثلما تحتفظ بنفس أحاسيس أصحابها وأفكارهم

إلى ما شاء الله.

كل واحد يرغب في الإتيان بجديد

حتى ولو غنّى بمفرده أغنية بسيطة

وتفنن في تنغيم مقاطعها وتقطيع كلماتها

حسبما تجود قريحته.

وقد يجد في كلماته نشوة يهتز لها

فيعيد الكرة ويكرر الإبداع.

عنّ لي أن أكتب هذا الموضوع

فوضعت العنوان وشرعت بالكتابة

ولكن كيف تنتشي الكلمات؟

الكلمات...

أتصورها رياحين منتشية في الحقول

تنفح ضوعاً تتفتح له القلوب

وتستعذبه الأذواق.

وأبصرها سحراً يسري رقراقاً في السواقي.

وأحسّها أمانيَ عذبة تحكي للقلب أحلى الحكايات.

وأتنسمها عطر ياسمين

يبسم بسمة الحب والرضى لشذى الروابي.

وأسمعها ألحاناً تشجي وتواسي

وتلهب وتُطرب في سكون الدجى.

وألمحها ألقاً وروعةً

على الجباه الزهراء.

وأقرؤها أملاً حلواً

في النفوس المستبشرة بغد أفضل.

وأتلذذ بمرأى حسنها يبهر الناظرين.

وأتبينها فورة نشاط في العزائم الناهضة.

وأستشف همسها الرخيم

في القلوب المتلاقية على الود الأكيد.

وأرمقها شعاعاً سنياً في الفضاء اللامتناهي.

وأتتبع مسيرتها في مواكب الخالدين.

وأسترق السمع لها في نجواها للأثير الحي.

وألحظها في لواحظ الجمال

ودموع الفجر المتناثرة على الأوراق.

وأشعر بها تواقة في هيكل الشوق الصامت العميق.

وأعاينها ذكرياتٍ تحرك الأشجان

وتوقظ الحنين.

وأتأملها شلالاتِ مَحبة نقية

منحدرة من مرتفعات الروح

إلى القلوب العطشى لإكسير الحياة.

فما أروع الكلمات تنقل أفكاراً متناغمة

وتترجم فناً أصيلاً

وخيالاً وثاباً

وإبداعاً خلاّقاً

لكل من يحب الكلام المنتشي بعظمة الوجود.

 

ما هو الحب؟

-------------

الحب هو عبير الزنابق المتفتحة

وكورس الورود الصامتة

المحتفية بجمال الطبيعة.

الحب هو أغنية الروح تنشد للحياة

ورقصة الكواكب الإيقاعية المتزنة

في انطلاقتها الدائمة في الفضاء السحيق.

إنه ظمأ الزهور لارتشاف أشعة الشمس

وتورّدها وارتوائها بإكسير الحياة.

إنه شوق الأرض

لتغذية الجذور العطشى بلبنها

ورعاية كل صنوف الحياة بعصارة الحياة.

إنه إرادة الشمس الجبارة

لإبقاء كل الكائنات حية مفعمة بالنشاط.

وهو دافع الحياة

لتوفير الحماية والرعاية للقاصرين.

إنه بسمة البراءة تستمطر الحنان الأبوي

على الرضيع

والإذعان التلقائي في قلوب المحبين

لتقديم الخدمة والعزاء دون مقابل..

إنه نبض الصداقة

الذي يجبر الخواطر الكسيرة ويشفي الجراح..

إنه نداء القلوب الذي يعصى على الوصف..

إنه الشاعر المترع بحب الإنسانية

المتألم لشقائها..

إنه دائرة الألفة بين أفراد الأسرة الواحدة

دائمة التمدد والإتساع نحو مساحات أوسع

ومجالات أرحب..

إنه همسة الحياة

في آفاق العقول المتفتحة

وسماء القلوب المرصعة بنجوم المشاعر النبيلة.

الحب هو نعيم الروح

الذي تصبو إليه النفوس المُحبة

وتحن للتوصل إليه والتواصل معه.

والسلام عليكم

المصدر: East-West Magazine

 

قاضٍ جريء والوزير ابن فطيس

-----------------------------------

من خيار الرجال الذين يفخر بهم العلم ومنصب القضاء القاضي الأندلسي محمد بن بشير الذي قال عنه المؤرحون:

كان من عيون القضاة الهداة، ومن أولي السداد.. وأصالة الرأي والسيرة العادلة والذكر الجميل الخالد. وكان شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، صلباً في الحق، لا هوادة عنده لأحد من أصحاب السلطان، ولا مداهن لديه لأحد، لا يؤثر غير الحق في أحكامه، جيّد الفطنة قوي الإدراك.

وكان ابن فطيس وزيراً للأمير الحكم بن هشام. وقد تقدم أحد خصومه إلى القاضي محمد بن بشير مدعياً بحق له عليه، وقدّم الشهود الذين وثق بهم القاضي، وقبل شهادتهم، فأصدر حكمه على الوزير ابن فطيس دون أن يبعث إليه أو إلى وكيله أسماء الشهود الذين اعتمد على شهادتهم في إثبات الحق عليه، ودون انتظار حضوره هو أو وكيله، وذلك لأمر في نفس القاضي لم يبده.

فشكا ابن فطيس ذلك إلى الأمير الحكم وتظلم منه. واهتم الأمير بالأمر وبعث إلى القاضي محمد بن بشير بذلك، وعرّفه بشكوى الوزير من أنه أمضى القضاء عليه دون أعذار، ودون أن يذكر له أسماء الشهود الذين اعتمد شهادتهم، مع أن هذا حق له بإجماع أهل العلم.

فكتب القاضي ابن بشير إلى الأمير الحكم يقول له:

ليس ابن فطيس ممن يُعرّف بمن شهد عليه، لأنه إن لم يجد سبيلا إلى تجريحهم لم يتحرج عن أذاهم فيتركوا الشهادة هم ومن اقتدى بهم فيضيع أمر الناس.

وهكذا فليكن القضاة.. وهكذا فليكن الرجال.

مجلة العربي – العدد 163 يونيو 1972

 

لا تعطني...

------------

لا تعطني مناظرَ أكثر سحراً،

بل أعطني عيوناً لتبصر الجمال

من حولي..

لتتبين مسار النفوس الكريمة

ولتعاين بين وجوه المارة

وجوهاً يشع محياها طيبة.

لا أطلب موسيقى أكثر عذوبة من الألحان المألوفة..

من سيمفونية الإنسانية الدائمة العزف طوال الأيام.

يا ليتني أدرك دقائق لحنها المصاحب

لأرى عمل الأنغام المتنافرة

وكيف تذوب أخيراً في انسجامٍ متسق رخيم.

لا أطلب عدداً أكبر من المعارف والأصحاب

كي يسعوا إليّ ويحبونني

ولا أنشدُ عيوناً أكثر بريقاً وأشد لمعاناً لتحرّك مشاعري،

بل أطلب إحساساً رهيفاً

لا تفوته علامة واحدة

من علامات الصداقة

لنفسٍ تبحث عني بالروح.

لا أبحث عن شاطئ ذهبي

بل عن قلب يصدح بالغناء

احتفاءً بالأشياء العادية الرائعة.

حقاً أن ملكوت السماء ليس

هنــــــــــــــــــاك..

بل

هنــــــــــــــــــــــــــا

لعيون مبصرة وأذان تحسن الإصغاء!

تحديات الحياة وتحليل الرغبات

----------------------------------

التحديات دائمة الحضور على ساحة الحياة وساحة الوعي معاً، وبالكاد يخلو يوم واحد منها.

إنها موجودة على كل صعيد وفي كل مكان. فهي تبدأ في داخل الإنسان حيث القوى المتصارعة والمشاعر المتضاربة. وغالباً ما ينعكس الصراع الذاتي على الناس والأحداث من حولنا.

ونظراً للتفاعل المتواصل مع الآخرين تختلط الطاقات وتتشابك المصالح وتصطدم الرغبات وتحدث معارك وعركات مرئية ومخفية.. كل يريد الأفضل لنفسه ومقتنع حتى النخاع بأن أفكاره هي الأصوب والأصلح للبقاء أو للأخذ في الإعتبار على الأقل.

الإنسان يمتلك رغبات تضغط عليه لتحقيقها. فالرغبة قوة لا تهدأ إلى أن تتحقق، ومتى تحققت تبزغ رغبة أخرى مكانها. فالفقس "الرغبوي" متواصل ما نبض القلب أو حتى ينضب الإشتهاء من تلقاء ذاته.

تحقيق الرغبات نادراً ما يتم على المستوى المعنوي أي داخل الإنسان، لأن معظم الرغبات تتصل بأشياء مادية ولذلك لا بد من تحقيقها من عناصر مادية سهل تحصيلها في بعض الأحيان وصعب في أكثرها.

والتحدي الأساس يكمن في تحصيل كل ما من شأنه أن يحقق تلك الرغبات. الأمثلة كثيرة وواضحة بحيث لا تحتاج إلى سرد.

عندما تتحقق الرغبة يصاحبها شعور بالرضاء والإرتياح ويعتبر تحقيقها إنجازاً بحد ذاته. أما إن حصل ما يعيق ذلك التحقيق فهنا يبدأ التحدي.

البخار إن لم يجد منفذاً يتسرب منه يُحدث انفجاراً. وهذا ينطبق أيضاً على الرغبة التي تمتلك قوة وفعل البخار داخل الإنسان. فإن لم يتم التعامل معها بحكمة ومنطق استحالت إلى عنصر حارق يلطع ويلسع دون هوادة.

هذا لا يعني عدم شرعية امتلاك الرغبات أو السعي لتحقيقها. فالرغبة جزء متمم لحياة الإنسان وبالكاد يوجد كائن بشري واحد يخلو منها. لكن التحدي الأكبر للإنسان يكمن في التحكم بتلك الرغبات بدلا من الإنصياع لأوامرها والخضوع لمشيئتها.

ولعل عدم الإكتراث الزائد بتلك الرغبات يساعد على التعامل معها بكيفية منطقية. الأشياء التي نريدها بلهفة وشوق كبيرين غالباً ما تكون الأعصى على التحقيق نظراً لاستهدافها أولاً قبل دراسة الطرق والأساليب الكفيلة ببلوغها وامتلاكها، وقبل غربلتها لمعرفة ما إذا كان امتلاكها ضرورياً وذا فائدة.

هذه ليست دعوة للزهد بالدنيا ورغبات الحياة بقدر ما هي تحليل لتلك الرغبات ومعرفة أنسب الطرق لمعالجتها. ولا بد أن الشاعر القديم – أو العصري لست متأكداً – قد عانى من صعوبة تحقيق الوطر عندما قال "لا تلقَ دهرَكَ إلا غير مكترثٍ" إذ استنتج أن عدم التعلق بالمرغوب هو أجدى من التعلق وأكثر راحة للنفس.

فهو ينصح الإنسان – بطريقته الخاصة – بأن يكون أكبر من الحدث لعلمه أن القيمة الذاتية للإنسان هي أكبر وأهم من الدنيا وبضاعتها. ومع ذلك فبالإمكان الجمع بين الإثنين: أي إدراك القيمة الذاتية وتحصيل ما يريده من الحياة ما دام ما يرغب به مشروعاً ونافعاً له ولغيره.

ولم تغب هذه الحقيقة عن المتنبي عندما قال:

ويكبرُ في عين الصغير صغيرها

وتصغر في عين العظيم العظائمُ

ويزيدنا الإمام جعفر الصادق حكمة بقوله:

لا اليسرُ يطربنا يوماً فيبطرنا

ولا لأزمة دهر ٍ نظهر الجزعا

إن سرّنا الدهرُ لم نبهجْ لصحتهِ

أو ساءنا الدهرُ لم نظهر له الهلعا

 

لكي نسمو بالشعر

يجب أن يكون التناغم سلساً بين المعنى واللفظ، مع تضمين ما أمكن من صور متألقة ترقى بالخيال وتوسّع نطاق الرؤية.

وأن يكون الأسلوب بسيطاً والإهتمام منصبّاً على ما يحرك شعور القارئ وليس بالضرورة على ما يفاجئه..

وأن يكون الشعر مشبعاً بفيض من وهج وجداني قوي..

مشحوناً بأفكار زاخرة وجريئة، تحوي جوهريات.. عظيمة التأثير في نفس القارئ.. كما لو كان حديث قلب لقلب، لا مجرد خطبة رنانة على منبر غايتها استقطاب الإنتباه وكسب الإعجاب.

كما ينبغي أن يكون مزيجاً متوازناً بين الخيال والواقع؛ إذ لا يمكن التحليق إلى ما لا نهاية في دنيا الخيال، أو التركيز المتواصل على أحداث يعرفها ويعيشها الجميع، قد يكون وقع تكرارها ثقيلا على نفوس تعاني أصلاً من وصب العيش وهموم الحياة، حتى لو صيغت أوصافها بأجمل القوالب وأدقها صنعة.

هذا لا يعني عدم الإحتفاء بمحطات هامة في حياة الأفراد والشعوب والأمم، فذلك واجب لا ينبغي إغفاله. ما أقصده هو أن الإنسان المكدود يتطلع إلى الناطقين بلسانه لتخفيف أحزانه وتلطيف قسوة الواقع الذي يكتنفه، بكلمة مشجعة ولمسة وجدانية فيها عزاء.

أما الكلمات، التي هي اللبـِنات التي ينهض بها صرح الشعر، فيجب أن تكون غنية بحركتها..

متوهجة بإيحائها..

زاهية بهالتها..

شامخة بتعبيرها..

مريحة بإيقاعها..

ساطعة بموهبة صاحبها..

تحمل حروفها حباً وشوقاً وصدقاً وأملاً بحيث تغوص في نفس المتلقي فيحس بغبطة معنوية ورعشة مستعذبة، فيدرك أن تلك الكلمة الحيّة أفلحت في إيقاظ مشاعر جميلة في داخله،

وكذلك أزاحت عنه حجاباً صفيقاً من هَمّ جاثم وقنوط ثقيل.

الشعراء المبدعون هم أدق التراجمة لجمال الطبيعة ولما يعتمل في الرؤوس من أفكار ويجيش في النفوس من أحاسيس.

هم في كل عصر مؤثـّرون ويمتلكون القدرة على تجديد الحياة وإحداث حراك معنوي عميق وبعيد الأثر. فإن أرادوا تأثيرهم إيجابياً ولخير الناس تبقى نتائجه سارية المفعول على مدى أجيال ويخلـَّدون بخلود أعمالهم.

وكلما كان الشعراء متناغمين مع روح الحياة كلما اقتربوا خطوة من عالم المُثل أو عالم الأفكار، فيتحولون إذ ذاك إلى أسلاك حية تنقل أفكاراً جديدة فيها فوّارات ثرة تنضح بالأحاسيس المرهفة والآمال المنعشة والذوق الرفيع والفن البديع.. عندها يتحقق القول "الشعراء رسل إلهام".

عالم الشعر هو بُعدٌ لا متناهٍ من القوى والرؤى والمسرّات، ومن يمتلك الوسيلة لولوج ذلك القطر السعيد لن يعود خالي الوفاض بل سيضع يده على كنز لا ينفد من العطاء الموصول إلى ما شاء الله.

قلت "من يمتلك الوسيلة" لأن السبيل إلى تلك المنطقة اللطيفة شفافٌ، لا يمكن السير عليه إلا بشفافية في الفكر والقلب والدوافع جميعاً.

وعلى قدر التواصل مع ذلك المجال الحيوي تتحول كلمات مرتادي تلك الآفاق إلى شعر، مع أو بدون وزن أو إيقاع.. شعر صادق النطق، غني المضمون، قادر على إيقاظ أنبل المشاعر والرقي بالفكر وصولاً إلى منابع الإلهام. وتلك هي غاية الشعر.

أما النقد البناء فهو من أهم عوامل الرقي بالشعر، ما دام مدفوعاً برغبة صادقة في المساعدة والتشجيع على مواصلة المحاولة والإبداع بغض النظر عن النتاج. الساحة رحبة تتسع للجمع ولتـُترك التصفية لمصفاة الزمن.

يقال أن الشاعر الإنكليزي الشهير كيتس Keats قضى قبل أوانه بسبب هجمة النقاد الشرسة الصدّاعة على باكورة أعماله Endymion سنة 1818 التي مطلعها "A thing of beauty is a joy for ever"

(عنصر الجمال هو مصدر فرح لا انتهاء له)

ذلك الإستقبال الكاوي – بحسب بعض المصادر – هزه هزاً عنيفاً وعجل برحيله بعد أن سبب له حروقاً نفسية من الدرجة الثالثة.

فلنحسن الظن بكل من يمتلك رغبة صادقة في التعبير شعراً عن مكنونات نفسه، متشبهين بذلك القلب الكبير محمود تيمور الذي كان يهش ويبش ويشجع ويبارك بكل محاولة أدبية جديدة، باعثاً الهمة والحماس في نفوس أصحابها فيكررون المحاولة ويضاعفون الجهد بفضل ذلك الترحيب الودي لزهور وبراعم في طور التفتح.

بخلاف ذلك كان هناك بعض عمالقة فكر وفرسان كلمة بالمرصاد للناشئين من كتاب وشعراء، يحاسبوهم على كل صغيرة وكبيرة فيثبطون عزيمتهم ويوحون لهم بأن الطريق أمامهم طويل.. طويل، محفوف بالعوائق والنجاح عسير المرتقى وغير مضمون. وكم قضوا بتشددهم غير المبرر على موهبة ووأدوا في المهد إبداعات واعدة تصدّوا لها بقاماتهم المديدة فحجبوها وردّوا أصحابها على أعقابهم منكسري القلب نادبين حظهم العاثر.

فتحية إلى الشعر

وإلى شعرائنا المبدعين

والمتألقين في سماء الأدب الرفيع.

 

وقفة مع الفطنة

----------------

الفطنة كالأشباح التي غالباً ما يتحدث عنها الناس بالرغم من عدم رؤيتهم لها.

الفطنة كامنة في ذات الإنسان كمون النار المتوارية في قلب حجر الصوان: فهي لا شيء يذكر في طور الهجوع، ولا تعدو مجرد شرارات متطايرة عند ظهورها.

الفطنة ملكة طبيعية، يمكن تشبيهها بقطعة الألماس التي يفقدها الصقل بعض وزنها، وقيمتها أيضاً.

الفطنة كدالية العنب التي ما لم تسندها الفضيلة وتوجّهها للأعلى، نحو السماء، تأتي عناقيدها – بالرغم من نضرة أوراقها – مشوّهة وتصاب بالعفن بفعل ملامستها للتراب.

الفطنة غير المنضبطة كالمبطان الشره الذي لا قدرة له على التحكم بشهيته، فينغمس ويفرط في الأكل والشراب حتى التخمة (البشمة).

الفطنة الأصيلة كالحجر الثمين المستخرج من منجم شرقي، يمتاز بخاصتين فريدتين: القـَطع والبريق.

الفطنة كالبخيل الذي لا يقف طمعه عند حد.

الفطنة كالحُب الذي ينمو ويقوى حيثما وُجد اللطف والإحترام.

الفطنة كالسكران الذي لا يرى بأساً من استلال سيفه على أعز أصدقائه.

الفطنة تختلف عن الحكمة. فالفطنة تجوز عبر الشعاب والمنعرجات، في حين تسعى الحكمة لبلوغ الغايات.

الفطنة كالتوابل، القليل منها يعطي للطعام نكهة طيبة في حين يفسد الإكثار منها المذاق.

الفطنة بالنسبة للأنانيين هي كالفوانيس الداكنة (التي لا يرى ضوءها الخافت سواهم). فهي تساعدهم في تنقلاتهم الظلامية، لكن لا ينتفع بنورها الناس.

مثلما يشحن المِسنّ حد الموسى، هكذا يُكسبُ التأدّبُ الفطنة َ رهافة.

الفطنة تعني تجميع الأفكار بسرعة ورشاقة: أفكار فيها ما يكفي من مماثلة وانسجام لرسم صور ذهنية ممتعة والإيحاء بمشاهد خيالية ظريفة.

الحكمة أعظم من الفطنة، لأن الفطنة إن زادت عن حدّها تحولت إلى ما يشبه الرغوة. من الصعب الانغماس في المزاح دون تحول المزاح إلى تهكم وسخرية يغوصان في نفس الآخر إلى أبعد ما كان مقصوداً.

لتخدمك فطنتك كالترس في الدفاع عن نفسك من خلال إجابة ظريفة ذكية، لا كالسيف في جرح غيرك بكلمة نابية. وتذكر أن الكلمة تكون في بعض الأحيان أقطع من حد السيف، والجرح الذي تتركه يكون بطيء الإلتئام.

الفطنة تفقد رونقها عندما يمازجها خبث. ومن يضحك لمنظر شوكة يشكـّها أحدهم في صدر آخر، يشارك – من خلال ضحكته - في الوخز الأليم.

التورية هي لعب على الكلام، كاستعمال كلمتين متشابهتين في اللفظ لكنهما مختلفتان في المعنى. والطريقة الوحيدة للتأكد من أن قولاً ما بديهة، هي محاولة ترجمته إلى لغة أخرى. فإن تـُرجم بنجاح مع الإحتفاظ بالمعنى عُدَّ فطنة، وإلا فهو مجرد تورية.

عندما تتجاوز الفطنة حدود اللياقة والإحتشام تتحول إلى سفاهة ووقاحة.

كم من فطنة لا يفصلها عن الحماقة سوى غشاء رقيق!

الفطناء يستعملون أقلّ قدر من الكلام، في حين يلجأ ذوو الفطن غير الناضجة إلى الكثير من الحشو والإسهاب.

الفطنة هي ملح الطعام، لكنها ليست الطعام.

بالفطنة يتألق المتحدثون في المجتمعات، أما الإنغماس في الهزل والتوافه فيُذهبان بالهيبة والإعتبار.

لقد منح الله عباده الفطنة

والذوق

والبهجة

والقدرة على الضحك

وكل ما هو لطيف وظريف

لتخفيف أعباء الحياة عن كاهلهم

وتسهيل رحلة العمر عليهم.

المصدر: موسوعات

 

ومضات من سماء الشرق

----------------------------

ذات يوم هبت نيران الشوق قلب شاب متعطش لرحيق المعرفة وسلسبيل الحقيقة فتوجه إلى العارف الحكيم والتمس منه أقباساً روحية وومضات من سماء الحكمة العتيدة.

فقال له الحكيم: "يا بني اصرف عاماً آخر في الثبات على الشوق ونقاء الضمير والرسوخ في الإيمان، بعدها إن رأيت أن الرغبة في المعرفة ما زالت قوية في نفسك عد إليّ واطلب ما تشتهيه من ثمار العرفان. فإن كان بمقدوري مساعدتك لن أتوانى عن تقديم العون من فضله تعالى."

بعد مضي عام على ذلك اللقاء عاد التلميذ إلى المعلم، وبعد أن سلم عليه بكل شوق قال له:

"ها قد عدت إليك يا سيدي بنفس الرغبة في المعرفة، فأرجو أن تتكرم عليّ بوصفات ذات صفات.. تكون زاداً لقلبي وغذاءً لروحي"

أجاب الحكيم: حسناً، فأية وصفة تريد أولاً ؟

أجاب: الوصفة العقلية:

قال الحكيم: قبل الشروع في القراءة اختر بعناية ما ترغب بقراءته، ولتكن مواد حيوية تستفيد منها وتفيد. اقرأ بعض الشعر كل يوم فالشعر يمرّن القلب ويليّنه مثلما يرقق الأحاسيس ويعمّقها. واقرأ بعض المواد العلمية والطبية وأموراً أخرى تتعلق بالصحة. ولا تغفل نصيبك من المرح، فاقرأ كتاباً أو موضوعاً فيه دردشات ونغمشات تنفرج لها الأسارير وتترجم ذاتها إلى ضحكات فيها فوائد عميمة للعقل والروح والجسد.

هذه يا بني بمثابة المقبلات النفسية التي من شأنها أن تستدر لعاب العقل بغية هضم الأفكار وتمثيلها بعد مضغها جيداً بأسنان التحليل وأضراس التعليل.

أما القوة المفكرة فيمكن تنميتها بالتمارين العقلية اليومية من خلال القراءة الجادة والتأمل بالمسائل المنطقية والفلسفية. ومن الأهمية بمكان أن تقوم بتكوين آرائك الشخصية بعد قراءة الكتب الجيدة، فتتمكن عندئذ من التفاعل مع الأفكار النافعة وتحويلها إلى غذاء عقلي مفيد.

إن قمتَ بخلط حبات رمل مع ذرات سكـّر وقدّمت الخليط لشخص ما فسيجد صعوبة في فصل السكر عن الرمل. لكن النملة الحكيمة تتمكن بكل سهولة من الإمساك بذرات السكر دون المبالاة بحبات الرمل.

وهكذا الحال بالنسبة للقارئ المعميّ البصيرة الذي يزدرد أفكاراً جيدة ورديئة معاً دون تمييز، فيصاب بعسر الهضم العقلي والإرتباك النفسي والتشويش الذهني. أما القارئ الحصيف فيشبه النملة الذكية بفرزه الآراء المغلوطة الضارة عن الأفكار الصحية النافعة في الكتب التي يطالعها فلا يصيبه أذى.

لذلك عليك بالمواد الجيدة، وعلاوة على ذلك استعمل قوة التمييز ومحّص محتوياتها تمحيصا أثناء القراءة. وتذكر أنك لست جهازاً يسجل آراء وأفكار الغير ولا بوقاً يردد ما يقولونه. انتق ما يناسبك من الأفكار والآراء في الكتب والمواد التي تقرؤها.

قال التلميذ: رائع يا سيدي! فهل من وصفة للنجاح؟

أجاب الحكيم: اسعَ دوماً لأن تكون بحجم المسؤوليات التي في انتظارك (أي قدها وقدود!) استعمل قوة إرادتك وعقلك الخلاق لخلق فرص نجاح جديدة. معظم الناس يسيرون على دروب مطروقة. أما الروّاد فيستكشفون طرقاً جديدة لم يخطر عليها أحد من قبل، فكن رائداً في أفكارك ومتميزاً في كل ما تفعله.

قال التلميذ: وهل تنصحني بوصفة للصحة؟

أجاب المعلم: اعلم يا بني إن الإفراط في تناول الطعام عادة ضارة. كما أنه لا حاجة لك لأن تتناول ثلاث وجبات يوميا على أساس منتظم. إذ كم من الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم! فلا تأكل حتى تجوع ومتى أكلت استمتع بطعامك لكن التزم الاعتدال في كمية الطعام التي تتناولها.

واعلم أنه من المفيد لك نفسيا وبدنيا أن تتناول طعامك عند أوقات منتظمة، لأنه والحالة تلك تتوقع خلايا الجسم الغذاء في أوقات محددة مما يساعد على فرز العصارات الهاضمة في مواعيدها.

الخلايا الواعية تشبه الحيوانات الجائعة في حديقة الحيوانات، تنتظر الساعة المحددة لتناول طعامها. عندما تكون جائعاً قلل من كمية الطعام التي تتناولها حتى لا تجهد الجهاز الهضمي، ولا تأكل شيئاً ما لم تحس بالجوع. استعمل إرادتك لمقاومة تناول ثلاث وجبات كل يوم وستشعر بارتياح (فيما لو تناولت وجبتين فقط بدل الثلاث وجبات)، ولن يضطر الجسم بما في ذلك الخلايا والقلب والأعصاب والمعدة للعمل المتواصل دون راحة.

حاول الإستغناء عن وجبة واحدة (بين الحين والآخر على الأقل) وستلمس الفرق بنفسك، إذ سترتاح جسدياً ونفسياً وسينشط ذكاؤك إذ سيتحرر عندئذ من مطالب الجسد المتواصلة وسيتصل مع مستويات العقل وعالم الأفكار السعيدة.

ولكن إن كان عملك الجسدي مجهداً فلا بأس من تناول ثلاث وجبات يومياً (بالهنا والعافية). أما إن كان العمل خفيفاً ففي وجبتين كفاية وزيادة.

قال التلميذ: وبعد هذه الوجبة الصحية الثمينة، فهل من وصفة روحية تنصحني بها؟

أجاب المعلم: يكفيك اليوم هذه الوصفات وسنتحدث عن وصفات أخرى في جلسات قادمة بعونه تعالى.

 

هل يفلس الإبداع؟

-------------------

غالباً ما يُقرن الإبداع بأفكار كبيرة تترجم ذاتها إلى إنجازات عظيمة. هذا رائع بالنسبة للذين يمتلكون تلك الينابيع الثرة الفياضة أبداً بإشعاعات الأفكار الأصيلة والمعاني النبيلة.

لكن لا ينبغي حصر الإبداع فقط في تلك الفئة من الناس. فالإبداع موجود كالهواء، لا تجف مصادره ولا ينقطع مدده. والناس – كل الناس – يحاولون الإبداع في ما يكتبون أو يفكرون أو ينطقون. وهم بذلك يقلدون الطبيعة التي لا تتوقف لحظة واحدة عن التعبير عما في ذاتها من قدرات خفية وطاقات جبارة دأبها الإنتقال المتواصل من طور الكـُمون إلى حيّز الظهور.

قد نلمح الإبداع في قصيدة فصحى أو عامية..

في رقصة تختلف حركاتها قليلاً عن المألوف من الرقصات أو الدبكات..

في معزوفة جديدة الطابع، حتى ولو لم تخلُ من هناتٍ فنية.. في حديقة ورد تنمّ أغراسها – نوعاً وترتيباً – عن ذوق جميل وإن كان بسيطاً..

في أسلوب الحديث وانتقاء الكلمات..

في تحضير الطعام وطريقة الأكل..

في إدارة الحوار بكيفية هادئة، هادفة ومتحضرة..

في اختيار ما ترتاح له النفس من أصدقاء وموسيقى ومناظر ومنابر..

في امتطاء جنح الخيال نحو "مصائد" الكنوز حيث مصادر الإلهام..

في كيفية النوم لإحراز أكبر قسط ممكن من الراحة..

في نكتة لطيفة وعبارة لبقة..

وفي كل ما يزيد الموهبة سطوعاً والعقل إشعاعاً..

المجال رحب لمن يريد الإبداع والإتيان بكل جديد. والأدوات في متناول الجميع ما دام الإنسان لا يحرم نفسه من تعاطيها والإستفادة منها.

الرغبة في الإبداع وتمرين الملكات الكفيلة بتحقيقها يستقطبان كل ما من شأنه أن يساعد صاحب تلك الرغبة على تحقيقها.

كلمة الإبداع وثيقة الصلة بالمبدع.

وبما أن المبدع الأول في الوجود هو الله سبحانه وتعالى..

وأنه لا يبدع إلا ما هو خيّر ونافع لأنه الخير الأعظم في الوجود..

فلا بد أن يقترن الإبداع بكل ما هو جميل ونافع ويساعد على إيقاظ عواطف الإنسان العليا وتفعيل طاقاته الهاجعة ووضعها في القنوات الصحيحة.

هذا هو مفهومي المتواضع عن الإبداع بشكل عام. لا أدّعي أنه الأصوب أو الأقرب إلى الحقيقة، فلا بد من وجود تعريفات أخرى قد يفاجئنا أو يتحفنا بها الأصدقاء.

بقي أن أقول أن كل إنسان قادر على الإبداع ما دام يملك شروط الإبداع الأساسية المتمثلة في الدافع النقي والضمير الحي والإرادة الطيبة المقترنة بعزيمة ماضية لا تكف عن المحاولة حتى بلوغ الهدف.

أما إن أراد أن يبدع باستعمال أدوات مهترئة متآكلة فسيأتي النتاج هزيلا وغير صالح للإستهلاك. ويكون بالتالي قد أفلس إبداعياً لعدم التجانس بين الأفكار الصدئة ومستوى الإبداع الذي لا يمكن النفاذ إليه إلا عبر قنوات نظيفة وسالكة.

 

النبحة الأليمة

----------------

كان اليوم شتاء، وكان البرد قارساً، وكان عشرات من رجال الشرطة يجوبون البريّة التي تقع وراء القرية، يبحثون عن الطفلة التي خرجت مع كلبها ولم تعد.

وكان أخشى من يخشاه هؤلاء الرجال مستنقعات كثيرة هناك، وأعشاباً عالية وأدغالاً يضلُ سالكها. ودخل الليل فدخل اليأس إلى قلوبهم.

إنهم قد يبحثون عن الطفلة الساعات، فلا يعثرون عليها. والطفلة ليس لها من القوة ما تدرأ به الجوع. وكانت في منتصف الرابعة من عمرها.

والكلب.. نعم الكلب، لم لا ينبح؟

إن الكلب لا يستطيع أن ينبح. إنه منذ أيام ضربته سيارة في فكه فكسرته، وفي يده فشجّتها. وعصبوا يده، وعصبوا فكّه. ومنذ هذا الحادث لم ينبح نبحة صغيرة واحدة. إن النبح يؤلمه أشد الألم.

عرف رجال الشرطة ذلك، وعرف ذلك من صحبهم من أهل القرية، فزاد ذلك في وجومهم وحيرتهم.

ولكن هل فت ذلك من عزمهم؟

بالطبع لا. إنها روح لا بد أن تُنقذ. وهي طفلة عرفها أهل القرية، لطيفة، عزيزة، جميلة.

وامتد بحثهم على المصابيح هزيعاً من الليل. لقد تابعوا الأثر من بعد الأثر. وتمضي الساعة بعد الساعة، وتسقط قلوبهم في صدورهم أكثر فأكثر بمضي الساعات.

وعادوا إلى البحث في الصباح، بدأوا من حيث كانوا قد توقفوا. ومضوا يبحثون ساعة.

ثم سمعوها..

ثم سمعوا هذه النبحة الواحدة التي كان فيها الرجاء كل الرجاء. نبحة الكلب الذي كان يؤلمه النباح أكبر الألم.

كانت نبحة واحدة، وكانت نبحة ضعيفة تخرج من حلق مريض.

واقتربوا وهم يزيحون الأحراش عن يمين وشمال.. ثم وصلوا.

قال رئيس الشرطة يصف ما وجدوا:

كانت الطفلة نائمة، وكان الكلب قد لفّها بجسمه ليدفئها، وغطاها حتى لم نرَ غير رأسها. وأخذت تستيقظ عندما اقتربنا، ولم يكن قد مسّها سوء. كانت ملابسها خفيفة، فأدفأها الكلب. وبهذا نجت، وهو نجّاها مرة أخرى بنبحته هذه الأليمة الواحدة.

واستطرد رئيس الشرطة حديثه بصوت كاد يدمع:

إن هذه النبحة لا بد آلمت الكلب ألماً شديداً، أخرجها من حنجرة جريحة، كادت تلتئم ولم تكد. إنه لا بد عرف أنه لا يستطيع غيرها، فاحتفظ بها حتى سمعنا.

مجلة العربي – العدد السابع – يونيو/حزيران 1959

 

في بحر الروح

---------------

إننا نعيش ونتحرك ونعوم في بحر الروح

كالأسماك في الماء والطيور في الهواء.

ألا فلنجتذب لأنفسنا القوة والصحة والسعادة

من بحر الحياة الذي لا ساحل له

ولا نضوب لمعينه.

لكل مشكلة حل

وفي داخلنا الحلول لما يعترض سبيلنا

من مشاكل ومعضلات.

الفهم السديد والإيمان الوطيد

كفيلان بفتح الأبواب الموصدة

مهما بدت عصية على الفتح.

إن كل عقبة نتخطاها وصعوبة نجتازها

هي اختبار ومعيار

لمدى تقدمنا على دروب الحياة.

القوة والحكمة في داخلنا

وما علينا إلا استكشافهما والإستفادة منهما

لمساعدة أنفسنا والآخرين.

وبدلاً من الشعور بالإحباط

عندما تواجهنا ما نعتبرها مشكلات

فلنبتهل لله العلي القدير

كي يفتح أبصارنا ويجلو بصائرنا

ويدلنا إلى أنسب الطرق

للتعامل مع الظروف المعاكسة.

الشدائد تأتي للأقوياء والفهماء

ويُمنحون أيضاً القوة لمواجهة الأزمات والملّمات.

كل تجربة صعبة هي نداء لنا

كي نطلق ما نختزنه في داخلنا من طاقات

وكلما أطلقنا مزيداً من الطاقة ورفضنا الهزيمة

كلما ازددنا إصراراً وعزماً وعزيمة..

حقاً أن الفوز من نصيب المثابرين

حتى الشوط الأخير.

في كل لحظة نمتلك كل ما نحتاجه

من إقدام وقوة وفهم لقهر الصعاب.

فلنتوجه نحو الداخل لاستجماع أفكارنا

واستقطاب قوانا

والطلب من الله الكريم

كي يشع علينا بنوره

ويوجّه عقولنا في المسارات الصحيحة

ويشحن إرادتنا بقوى الخير

ويحررنا من الأفكار المثبطة

ويبعدنا عن السلبيات

التي تسلبنا راحة النفس وبهجة العمر.

حررنا الله وإياكم من الهموم

وبدد من آفاقنا الغيوم

وغمرنا بفيوض نعمته

 

وقفة مع النمل

----------------

على ذمة مجلة الهلال: نمل يحلب القمل ويزرع الجنائن!

جاء في الجزء الثامن من السنة الثالثة والعشرين من مجلة الهلال لسنة 1915، ص 680 و 681 ما يلي:

من أغرب غرائب النمل إتقانه مهنة حلب اللبان، فإنه يعرف أن شجر الورد يكثر فيه وقت الصيف نوع من القمل العجيب له لبن حلو عذب.

يخرج النمل إليه أفواجاً وينقل ذلك القمل إلى المخازن التي يهيئها له بنوع خاص على شكل زريبة البقر أو حظيرة الإبل، وهناك يعد له القوت الضروري فيعيش برفاهية ويكثر لبنه، ومتى شاء حلبه واغتذى بلبانه.

وذلك أن النملة تمسك بمقدم رجليها أحد ضرعي القملة وتحلبه حتى تستخرج كل ما فيه من اللبن. ومتى فرغت منه قبضت على الضرع الثاني وحلبته.

---

وفي بلاد البرازيل نمل غريب جداً من ديدنه أن يجمع تراباً ويصعد به إلى أعلى ذروة من الأشجار ويشكل منه هنالك حدائق صغيرة ثم ينقل بذور بعض الأزهار من بقية الحدائق ويأتي بها ويزرعها في حدائقه المعلقة على ذرى الأشجار مثل الحدائق التاريخية التي كانت سميراميس ملكة بابل قد علقتها على أعلى قصرها وسقتها بماء الدجلة المرفوع إليها بواسطة النواعير.

أما حدائق النمل فيسقيها النمل نفسه بما يحمله بفمه من المياه. فسبحان الخالق!

وفي أميركا الجنوبية نمل مشهور بأعماله الهندسية، فإنه يحفر أقبية تحت الأرض يبلغ طولها ثلاثة أميال ويشتغل كل تلك المسافة في ظلام حالك. وإذا قابلنا قوة هذا النمل بقوة الإنسان وجدنا أن مثل هذا القبو يعادل نفقاً تحت البحر من إنكلترا إلى أميركا بالنسبة للإنسان.

إن النمل على صغر جسمه هو أكثر "الحيوانات" همة ونشاطاً فقد وجد المدققون في أحواله أنه يبني أعشاشه أو مساكنه بنظام وترتيب عجيبين ويأتي إليها بكل ما يحتاج إليه لراحته. وفيها المخازن الخاصة لخزن المؤونة التي يجمعها في فصل الصيف ويعتني كل الإعتناء في بنائها حتى تحفظ القمح والشعير وغيرها من الفساد تحت الأرض. ومنعاً لفسادها يقضم من الحبوب رؤوسها حتى لا تنبت تحت الأرض. ويجعل هذه المخازن طبقات فوق طبقات بهندسة غريبة.

 

إلى شاعر راحل

-----------------

قيلت في تأبين الشاعر الفلسطيني خميس لطفي، زميلنا في الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب.

عندما تنبجس فوارات الحب من أعماق القلب

وتعانق ألحانُ الرجاء خلجاتِ الوجدان

ويبحر الوجد بعيداً في فضاءات الروح...

عندما تومض نجوم الحنين في سماء الشوق

وتنتثر الآهاتُ عبراتٍ على بتلات اللهفة

ويشع ويشتعل شفق الخيال البرتقالي

بوهج العاشق الواله

وتفوح طيوب الطيبة، يعبق بها الشعور...

عندما يلتهب الشعر ظمأً

لا ترويه سوى عيون الحب

وتتساءل الدهشة الصامتة: أهو الرحيل؟

عندما يذوب الحنين في بحيرة الأحلام

وتسبح الخلجات مع أمواج العواطف المرتعشة

سارية إلى الشاطئ البعيد

وتطلّ من سديم الذكريات وجوه الأحبة...

عندما يبحث قلب نازح الديار عن إكسير الراحة

ويأمل بارتشافه من ينابيع الخلد...

عندما يبصر الفكر منارات الأمل والإيمان

ما وراء دياجير العبث

وتلمح النفس واحة الفهم الودّي

خلف القفار الكئيبة

وتـُسمع همسات العزاء آتية من المحبين والأصدقاء...

عندما ترفرف الأماني في فضاء المعاني السامية

وتنبثق الإيحاءات عذبة، نقية

نبيلة، جليلة

سامية، صافية

وتتألق قمم الحياة

بأنوار الخير

والأحاسيس الجميلة...

سنحس بقربك

وحبك

يا خميس

فمن يسكن الذاكرة لن يغلفه النسيان

ومن تستضيفه القلوب

يشعر بخفقها

ويسمع أنباضها.

 

لماذا أنتِ في غاية السعادة؟"

---------------------------------

الأصدقاء الأعزاء:

بينما كنت أبحث عن مادة جديدة أطرحها، عثرت على هذا الموضوع فترجمته لفائدة الجميع، آمل أن يروق لكم.

كتبت الأديبة والمربية الأمريكية البارزة جين هيوستن:

لن أنسى ذلك اليوم عندما زارت (معجزة الزمان) هيلين كيلر مدرستنا وأنا في الصف الثالث الإبتدائي آنذاك. وأذكر أنها كانت وقتئذٍ في أواخر الستينات من عمرها - كبيرة الحجم، فارعة الطول، وعلى درجة فائقة من التألق.

لم ترَ عيناها شيئاً ومع ذلك كانتا تبصران كل شيء. أما بسمتها فكانت مفعمة بالطيبة والمحبة والترحيب بالعالم. ولم أكن قد رأيت في حياتي إنساناً بهذا الحضور القوي وبهذا الفرح الطاغي من قبل.

وعندما شرعت في الحديث أحسست أنني أسمع صوت ملاك – صوتاً ذا انعطافات مميزة ونغمات فريدة مع أن صاحبته لم تكن قادرة على سماع الأصوات.

ما أن فرغت من حديثها حتى كان التأثر قد بلغ مني كل مبلغ وتغلغل في كل ذرة من ذرات كياني وشعرت برغبة عارمة في التحدث إليها.

لم أعرف ما أقوله، ومع ذلك عرفت بأنني يجب أن أخاطبها.

وعندما سألتْ رفيقتـُها إن كان هناك من يرغب في طرح أية أسئلة على الآنسة كيلر، استولى الهلع على التلامذة وبدا عليهم الذهول وراحوا يحدّقون في وجوه بعضهم. لكنني وجدت نفسي أرفع يدي وأتقدم نحوها.

وضعت الآنسة كيلر كفها على وجهي حتي تتمكن من قراءة سؤالي، وقرأتْ بأصابعها تعابيري، في حين قرأ منتصف كفها شفتيّ. ومع ذلك لم أعرف ما يتعين عليّ أن أقوله، ولم تبتعد يدها عن وجهي.

أخيراً قلت بسرعة ما جال في خاطري في تلك اللحظة، فسألتها:

"لماذا أنتِ في غاية السعادة؟"

ضحكتْ كثيراً كما لو كانت ضحكتها آتية من بُعدٍ آخر أو من إحدى أشجار السيكويا العملاقة.

ثم قالت بصوتها الهادئ الرخيم:

"يا بنيتي، لأنني أعيش كل يوم كما لو كان آخر أيام عمري. والحياة في كل لحظة من لحظاتها تزخر بالمجد والتهلل والإبتهاج."

فأبهج الله خاطركم وأسعدكم دنيا وآخرة.

المصدر: 

Self-Realization Magazine

RE-1-22

 

أبصرت الحياة

-------------

بينما كنت أتمشى بين الروابي الناضرة والأودية المعشبة

متنقلاً بين الأشجار والأزهار

أبصرت الحياة تلهو وتمرح..

أبصرت إشعاعاتها الذهبية في قرص الشمس

ورأيتها تتوارى في خمائل السحاب.

.

سمعتها تقهقه في السواقي المبتهجة

وتذرف الدمع سخياً من زخات المطر..

رأيتها تتمايل في أغصان الأشجار

والأقاحي ترقص معها فرحاً..

سمعتها تصدح في زقزقة العصافير وشدو العنادل،

رأيت ظلالها تغلف المنحدرات

وطلـّها يرطب قلوب الورود ويقبل وجناتها..

أبصرت الحشائش الندية تتشبث بأقدامها

مثلما رأيتها ترش أعشاب الحقول

بقطرات الحب البليلة فتزيدها نضرة ورواء..

وشممت أنفاسها العاطرة محمولة على أنسام الصباح

أحسست بسلامها ورأيت يديها تنثران البركات

في كل فج وصقع

فما أروع الحياة

وما أعذب السير معها

يداً بيد

على دروبها المباركة!

September, 2012