إلهامات عليا



للمعلم برمهنسا يوغانندا

PARAMAHANSA YOGANANDA

ترجمة محمود عباس مسعود



أيها المبدع الإلهي

يا سيد الكون

ويا مدبّر ومسيّر الكواكب والنجوم والمجرّات.

إن حكمك العادل يقضي بمنح الإرادة الحرة وحرية الإختيار لعيالك المواطنين، بما يساعدهم على التطور الذاتي والتقرّب من مبادئك ومثـُلك المقدسة.


لقد وهبتنا الحرية الأبدية وغرست بنا بذور الوعي الكوني. لكننا وللأسف قيّدنا وعينا الشمولي خلف قضبان الأنانية والكراهية وضيق الأفق والتعصب الأعمى.


ساعدنا يا رب كي نذيب - بمحبتنا الدافئة وفهمنا الأخوي – كل الحواجز والموانع الجليدية المصطنعة بيننا وبين الآخرين.


ساعدنا كي نستعمل يقظة الضمير والتمييز الحصيف في ضبط النفس والسير باستقامة على دروب الحياة.


وباركنا كي نضاعف ثراءنا الروحي وتعاطفنا الوجداني بتوسيع دائرة محبتنا الوطنية لتشمل كافة سكان الأرض، بصرف النظر عن اللون والطبقة والجنس والمعتقد.


يا سيد الكون، دعنا نحترم ونراعي استقلالية كل البشر المولودين أحرارا.


وباركنا كي نبني عالماً متحداً وننتخبك رئيسا روحيا علينا مدى الحياة.


من أعماق الروح


يا رب، لتتوهج جمرات أشواقي

بحضورك القدسي على الدوام.

لقد بنيتُ هيكلاً لأشواقي

في كل فكرة من أفكاري

فهلاّ افتقدتني بزيارة

وجلست على عرش حبي لك؟!

ألا فلتتبع أفكاري إرشاداتك الحكيمة

ولتكن الفرح الأعظم في حياتي.

من بوابة التفكير بالله والتأمل عليه

سأدخل إلى معبد السلام المستدام.

اليوم سأشعل حزمة أعواد الهموم والمخاوف

لأضيء معبد الله في روحي.

سأبحث عن الله في خلوة نفسي

وسأبتهل بحرارة إلى أن ينبض قلبي بحبه

وأشعر باستجابته لصلواتي.

ألا ليت شرارة حياتي تمتزج بشمس الله

وتومض في كل العيون المُحبة للخير.

سأرش العالم الممزق بالحروب

بأفكار سلامي ومحبتي.

سأدخل الصرح الرباني

وألامس الوعي الكوني

من خلال غبطة التأمل والحب الإلهي.

الحماية الإلهية تغمرني دائماً وأبداً

ونور الله يلازمني ويبدد الظلام من حولي..

وما دمت أمشي بنوره الهادي فلن أعثر

ولن أبتعد عن الطريق القويم.


وجدانيات حية


يا روح الوجود وسيد الأكوان

إنك خلف بصري الذي به أرى جمالك البادي.

وخلف مسمعي الذي به أصغي لخليط الأصوات الأرضية.

إنك خلف ملمسي الذي به أتحسس الأشياء في عالمك الأرضي.

وما وراء حجاب الطبيعة الذي يواري وجهك البهي.

أراك في نظرات الزهور المواسية

وأتذوقك في نكهة الطعام المغذي

وأستشعر جوهرك الإلهي وعذوبتك الأبدية

في كل ما في الوجود من خيرات وروائع.

أبتهل لك يا رب وأنت خلف صوتي المتهدج

وخلف عقلي الذي به أبتهل.

إنك ما وراء أبلغ مشاعري..

ما وراء أفكاري وطموحاتي القدسية وحنيني إليك.

إنك ما وراء تأملاتي.. وما وراء حبي الرقيق!

ألا ليتك تبزغ من خلف ستائر المشاعر البشرية

والمرائي الطبيعية الخلابة.

افتح عيني الروحية كي أراك تماما كما أنت!


الحياة بدون الله ناقصة


عندما نتصل بالله سيلهمنا الإدراك الحدسي ويوجّهنا في كل ما نفعله.


يجب أن نمتلك تلك القوة المباركة بصورة واعية. تلك القوة موجودة في داخلنا ولن نحتاج سوى للكشف عنها.


ستجدون أن تلك القوة تعمل في كل شيء لتحسين أحوالكم وتسهيل أموركم. وعندما تلامسون تلك القوة ستنبض عافيتكم بالطاقة الكونية وستصبح أفكاركم أكثر رهافة وتركيزاً وحدّة ونفاذاً.. وستدركون أن نفوسكم هي وعاء لحقيقة الله الحية وحكمته التي لا تعرف النضوب أو النفاد.


الله هو ينبوع الصحة والرخاء والحكمة والفرح الأبدي. وعندما نتواصل معه تصبح حياتنا كاملة متكاملة.


الحياة بدون الله ناقصة يجب أن نفكر بتلك القوة العظمى التي تمنحنا الحياة والهمة والحكمة.


ويجب أن نبتهل كي ينساب ذلك الحق إلى عقولنا وتنساب تلك القوة إلى أجسامنا وينساب ذلك الفرح غير المنقطع إلى أرواحنا.


خلف ظلمة العيون المغمضة توجد قوى الكون العجيبة وكل النفوس الطيبة والأرواح الراقية

والإمتداد اللامتناهي لأفلاك الروح.


إن تأملتم ستدركون الحق المطلق وسترون عمله العجيب في حياتكم وفي كل ما هو رائع ومجيد في الخليقة.


على دروب الأشواق


إن الله يناديني

من خلال النفوس المتفتحة

والقلوب الطيبة.. النابضة بالمحبة

والعامرة بالإيمان.


كل عمل طيب يقوم به المريد

يقرّب وعيه خطوة

من مشارف الوعي الكوني.


دعني أتوجه إلى الداخل يا رب

لأبصر جمالك الإلهي

وأنعم برؤية أنوارك السنية.


إن كانت حياتي موجّهة بحكمتك الربانية

فلا بد أن تتكلل مساعيَ بالنجاح

ولن أضل السبيل.


باركني يا رب كي تصفو بصيرتي

وتتنقى روحي

فأبصر شمس اليقين

وأتلذذ بمعرفة الحق.


اليوم سأنسى مصاعبي السابقة

وسأواجه الحاضر والمستقبل

بجرأة وثقة بعون العلي القدير.


سأشحن جسمي بالطاقة الكونية

وأغسل كياني بنور الوعي الإلهي الشافي.


كالسديم الكوني

يغمر السلام وعيي

وأحس بحضور الله اللامتناهي.


نوّر يا رب بصيرتي

واملأ وعاء عقلي

بالفهم والمعرفة

وليسطع شعاع محبتك

على دروب حياتي.


في أرخبيل الجـُزر الزرقاء


من شرفتي رنوت ببصري نحو الغرب، فانطلقتُ على أجنحة الخيال ووقفت على شواطئ الأفق البعيد. وقد أبصرت عن يميني وشمالي سلسلتين من الجبال ما لبثتا أن تحولتا إلى لون بنفسجي غامض.


وعندما أعدت النظر إليهما كانت يد خفية قد غلفتهما بغلالة من اللون الأزرق الغامق. وكانت تقبع خلفي مدينة غوادالاهارا المغمورة بشفق الغروب. أما السماء الشرقية فقد باتت موشحة بألوان وردية خفيفة. وإذ تطلعت إلى الأمام أبصرتْ عيناي مدينة سحرية من الجـُزر الزرقاء السابحة في بحيرة من ذهب.


وفي أرخبيل الجـُزر الزرقاء السحرية هذا برزت تلة ضخمة من الكلس الأزرق كانت تحيط بها سحب بركانية بلون أبيض رمادي وهي تقذف فوارات من حمم بلون الذهب الأحمر الوهاج، تتساقط مائلة كقوس قزح نحو البحيرة الساكنة. أما اللهب الذهبي الكثيف فقد أحاط الجزر الزرقاء بهالات ضوئية مشتعلة.


القمة الزرقاء وتاجها اللهبي انعكسا كتوأمين على صفحة تلك البحيرة الذهبية الصامتة. وإلى أقصى اليمين كانت بحيرة هادئة صغيرة مشعشعة وقد توسدت صدر إحدى الجـُزر الزرقاء كالبدر السابح وسط أمواج الغيوم.


لقد تجولتُ طويلا في مدينة الغروب والغيوم السرابية، عائماً على سطح البحيرة ذات الضوء الذهبي الرقيق. ويا لروعة تلك المياه الذهبية المرصعة بعناقيد الجليد الحمراء المنتشرة في كل اتجاه حتى حافة الأبدية.


خِلتُ أن كائنات من نور كانت أرواحاً طيبة على هذه الأرض، وبعد اجتيازها بنجاح كل امتحانات الحياة سُمح لها كي تمرح وتجسد أحلامها حسبما شاءت.


كل يوم عند ساعة الغروب كانت تلك الكائنات تكثف أحلامها السماوية في مدن أثيرية تحيط بها بحور وبحيرات من ذهب.


هناك.. وخلف قبضة الأحزان وما وراء مصائد هذا العالم الأرضي بما فيه من مآس وآلام..


هناك.. ما وراء المنغصات كانت تلك الكائنات تتنفس أضواءً حمراء وتشرب أشعة برتقالية وتنأى وتدنو وتسرح وتسبح في خضم أنوار متعددة الألوان.


هنا كانت تلك الكائنات تحقق أحلامها وتجسد خيالاتها على الفور كما تشاء ، ثم تذيبها وتلاشيها بإرادتها.


هنا كانت تنعم تلك بكنوز القناعة والرضى وتجود بتحقيق أحلام كل من يزورها في عالمها السحري العجيب.


هنا لم يحتم عليها الإنتظار والتمني كالبشر كي تتحقق أحلامها وتدرك أمانيها، بل حلمت كما شاءت وحققت كل تلك الأحلام والأماني بمحض إرادتها.


مدينة الغروب تلك في جزر الأحلام كانت حلماً من أحلامي المتناومة في طيات اللاشعور وقد تحقق اليوم أيما تحقيق!


حقاً لقد أبصرتُ كنوز روحي الدفينة وذخائرها المخبأة فغمرني نورها وبهرني سطوعها!


برمهنسيات: طيوف الوجد الإلهي


التواضع يا رب، هو أضمن طريقة

للحصول على أمطار رحمتك الإلهية.


سأضع ثقتي في عدلك الإلهي وفي مبادئ الحق

مدركاً أنك تستجيب لنداء الحب وأشواق القلب.


بالتعاون الوثيق مع إرادتك الكلية

وبإيماني المطلق بك

سأحصل على عونك وأحس بقربي منك.


اليوم سأؤدي واجبي نحوك

مثلما أفي بالتزاماتي نحو العالم.


أيها المحبوب الأعظم

أنتَ الصدى الأثيري المتردد في محاريب القلوب

وأنت صوت المشاعر الذي لا تلتقطه الآذان.


الحظوة بحبك لأعظم بما لا يقاس

من كل الإعتبارات الدنيوية

وكل الأمجاد الأرضية.


بإيماني المطلق بك

أرى ظلال المرض تتوارى وتذهب دون رجعة.


سأراك يا رب من نوافذ الطبيعة وأبواب السلام.


أفِض علينا ببركاتك

واغمرنا بأمواج طاقتك الكونية

وابعد عنا الأنانية

التي تحول دون تقارب النفوس

والتقائها على حب الخير والنور.


دعني أسقي رياحين ابتهالاتي

بمياه التفكير بك والتأمل عليك يا إلهي

كي تنبت زهوراً جديدة ناضرة

من الإلهام والسلام والسعادة.


الطريقة الوحيدة لتلافي الأفعال الخاطئة هي بتنمية الحكمة السديدة لتمييز الخطأ والتصميم على عدم فعله.


إن خطأ يحارب خطأ آخر لا ينتج صوابا. الجهل هو عدو الإنسان الفعلي وينبغي إبعاده عن هذا العالم. لدينا كل ما نحتاجه في هذا العالم كي نأتي بعصر الرخاء والسعادة والعدالة المثالية.


العقبة الوحيدة هي أنانية الإنسان التي تجعل ذلك مستحيلا. إن آلاماً فظيعة لا مبرر لها تسببها أثرة الإنسان وحبه لمنافعه الذاتية دون أي اعتبار للآخرين.


فالمال الذي يمكن استخدامه في إطعام المحتاجين وكسوتهم يُستخدم بدلا من ذلك في التدمير والهلاك. إن علة وأصل المشاكل العالمية هي هذه الأنانية وليدة الجهل.


كل واحد يفكر أنه يفعل الصواب، ولكنه عندما يسعى لتحقيق مآربه الشخصية فقط فإنه يحرّك ويدفع عجلة القانون الكارمي للسبب والنتيجة الذي سيقضي حتما على سعادته وسعادة الآخرين.


كلما شاهدتُ المزيد من مآسي العالم الناجمة عن جهل الإنسان، كلما أدركتُ أن السعادة لن تكون دائمة حتى ولو صُبّت الشوارع ذهبا.


السعادة تكمن في إسعاد الآخري، ولو فعل كل واحد ذلك لأصبح الجميع سعداء

ولحصل كل واحد على نصيبه من خيرات الأرض.


بما أننا أتينا إلى هذا العالم من حيث لا ندري، فمن الطبيعي لنا أن نتساءل عن أصل وغاية الحياة.


إننا نسمع عن خالق لهذا العالم ونقرأ عنه ولكننا لا نعرف طريقة للتوصل إليه. كل ما نعرفه هو أن الكون بأسره يعلن عن وجود عقله الإلهي.


وكما أن القطع والأجهزة الصغيرة والدقيقة لساعة صغيرة تجعلنا نعجب بالساعاتي؛ ومثلما تثير آلات المصنع الكبيرة والمعقدة دهشتنا وإعجابنا بمخترعها، هكذا عندما نرى عجائب الطبيعة ندهش من الذكاء المحتجب خلفها، ونتساءل: "من أعطى الزهرة شكلا نابضا بالحياة ومتجها نحو الشمس؟ من أين أتى عبيرها وجمالها؟ وكيف تكونت بتلاتها بتلك الدقة المتناهية وخضبت بالألوان الرائعة البهيجة؟"


في الليل تحفزنا النجوم والقمر الناشر ضياءً فضيا من حولنا كي نتأمل على الوعي الذي يسيّر هذه الأجرام السماوية في الفضاء السحيق. ضياء القمر الناعم لا يكفي للنشاط اليومي، وهكذا فإن عقلا حكيماً حليماً يوحي لنا بالراحة في الليل. ثم تشرق الشمس فيجعلنا نورها الساطع نرى العالم من حولنا بوضوح وصفاء، ونأخذ على عاتقنا تحقيق ما يعرض لنا من احتياجات.


هناك طريقتان لتحقيق احتياجاتنا: الطريقة المادية والطريقة الروحية. عندما تسوء صحتنا، على سبيل المثال، يمكننا الذهاب إلى الطبيب قصد العلاج. ولكن يأتي وقت لا يمكن لطبيب أو غيره تقديم المساعدة فنتحول إلى الطريقة الثانية؛ إلى القوة الروحية التي صنعت جسمنا وعقلنا وروحنا.


القوة المادية محدودة، وعندما نفشل نتوجه إلى القوة الإلهية غير المحدودة. وهذا ينطبق أيضا على حاجياتنا المالية. فعندما نبذل ما بوسعنا دون الحصول على ما يكفي، نتوجه إلى تلك القوة.


كل واحد يظن أن مشاكله هي الأسوأ. بعض الناس يشعرون بالضغوط أكثر من سواهم لأن مقاومتهم ضعيفة. ونظرا للفوارق في قوى البشر النفسية فإنهم يبذلون مقادير مختلفة من الطاقة. إذا واجهت الشخص صعوبة كبيرة جدا، وكان عقله ضعيفا، فلن يتمكن من التغلب على المشكلة. ذوو العقول الجبارة يستطيعون التغلب على صعوباتهم بهدم حواجزها وزعزعة أسسها. ومع ذلك فقد واجه أقوى البشر الفشل أحيانا. عندما تواجهنا متاعب ومصاعب مادية وفكرية وروحية قاهرة ندرك كم هي محدودة قوى الحياة في هذا العالم المادي.


يجب ألا تكون جهودنا مكرسة لتحصيل الصحة الجيدة والضمان المادي وحسب، بل للبحث عن معنى الحياة أيضا.


ما هي غاية الحياة؟ عندما ترضـّنا الصعوبات رضّاً نلجأ إلى محيطنا أولا، محاولين القيام بكل التعديلات المادية التي نظن أن العون يكمن فيها. ولكن عندما نصل إلى طريق مسدود ونقول: "إن كل محاولاتي باءت بالفشل، فماذا يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك؟" نبدأ بالتفكير الجاد حول إيجاد حل ناجع لمشكلتنا. وعندما نبلغ بتفكيرنا عمقاً كافياً نحصل على الجواب من داخلنا. وهذا شكل من أشكال الصلاة المستجابة.


في هدأة روحي

دعني ألتقيك يا رب!

تملَّكني، ودعني أشعر بحضورك الأبدي

في داخلي ومن حولي.

في خلوة أفكاري أحنُّ لسماع صوتك

أبعد عني الأصوات الأرضية الكثيفة

المتوارية في ذاكرتي.

أود الإصغاء لصوتك الهادئ الهادي

والشادي على الدوام في سكينة نفسي.

إلهي، حيثك كلي الوجود

فلا بد وأنْ تكون موجوداً

في أعماق كياني ووجداني.

ساعدني كي أظهر ولو جزءاً يسيراً

من الكنوز المخبوءة في منجم روحي!

أيها النور الوهَّاج

يقظ قلبي

صحِّ نفسي

واملأ هيكل روحي بمجدك.


أيا نجم القطب الأزلي!

حيثما تجولتُ وكيفما تحوّلتُ

تظل إبرة بوصلة عقلي المغناطيسية تشير إليك.

وسواء كنت ملفوحاً برياح سوء الطالع

أو مبللاً بأمطار المحن والبلايا

ارشد مع ذلك عقلي

للتوجّه نحوك على الدوام.

إن طائر محبتي الضارب بجناحيه

وسط غيوم الحيرة

وعواصف التشويش

سيعثر بكل تأكيد على طريقه إليك.


في غابر الأزمان

في قلب الأثير

عندما أتينا إلى الوجود كأرواح

كنا جميعنا نغفو

تحت لحاف الحب الإلهي.

وعندما أيقظنا الله

انطلقنا بعيداً عنه

كما في قصة الإبن الشاطر


فنسينا صلة الرحم الإلهية فيما بيننا

وأصبحنا غرباء عن بعضنا.

وإذ هجرنا بيتنا السماوي

أصبحنا في هذ العالم

رحّالة نجوب أصقاع الأرض

ونسير على دروب القـَدَر.

لقد أوغلنا في السير

وابتعدنا كثيراً عن بيتنا الأصلي.

مع ذلك.. وبين الحين والآخر

توقظ بنا بعض الأماكن والتجارب والوجوه

ذكريات دفينة وأحاسيس باطنية عميقة

تهمس لنا

فنحس بأننا نختبر من جديد

أموراُ عرفناها من قبل

ونلتقي ونتواصل مع أحبة

كنا منهم قريبين

في الماضي السحيق.


يا مبدع الأكوان..

إن نورك يسطع في العظماء

فلتلهم معرفتهم الإلهية فهمنا

ولندرك أنك الهدف الأسمى

الذي نسعى لبلوغه

والطموح الأعظم

الذي نتطلع لتحقيقه.

أنعشنا بنسائم وجودك العاطرة

واملأنا شوقاً لحضورك المجيد

وليختمر كياننا بحكمتك الربانية.

دعنا نشعر أن نورك القدسي

يتخلل كل جوانب حياتنا

ويشحن عزائمنا

ويبدد ظلامنا

ويغمرنا بالسلام

والتفاؤل

والهمة للقيام بالأعمال الخيّرة.


بين الأمير والناسك المستنير


ذات مرة، ذهب أحد الأمراء المتجبرين في رحلة صيد مع خدمه وحشمه، كاملي العدة والعتاد، فتوغلوا في الغابة نافخين الأبواق، قارعين الطبول.


وبعد اصطياد بعض الطيور والغزلان والنمور الشرسة، أدرك الأمير وحاشيته أنهم ضلوا سبيلهم.


كان لديهم الكثير من الطعام لكن ليس الماء. وبالرغم من بحثهم الحثيث عن الماء في الغابة لكنهم لم يعثروا عليه. ولم يكن لديهم ملجأ يقيهم هجمات وحوش الليل الضارية، في حين كان الظلام يدنو متسارعاً.


توارت الشمس عن الأنظار، فأتى الأمير الذي كان يتقدم الركب إلى كوخ عتيق متداعٍ، وبعد أن ترجّل دفع الباب غير المقفل ودخل الكوخ فكان كل شيء داخله معتماً باستثناء بصيص من الضوء في أحد أركانه، ففكر يائساً "حتى أن الكوخ مهجور."


لكن بدافع الأمل صاح قائلاً "سلام. هل من أحد هنا؟"


ولفرط دهشته سمع صوتاً هادئاً يجيبه برزانة قائلاً: "نعم، أنا هنا. هل تبحث عن ماء؟"


حدّق الأمير لبرهة في الظلام إلى أن لمح شبح إنسانٍ، وذهل لمعرفة ذلك الرجل أفكاره حتى قبل أن يقابله أو يتعرف عليه.


وسأل الأمير مضيفه: "من أنت؟" فأجابه "ناسك فقير لله."


أشعل الناسك سراجاً ونادى الأمير حاشيته، فشعروا بفرح عظيم لعثورهم على الماء والفاكهة في تلك الغابة النائية.


وسألَ الأميرُ الناسكَ: "ألا تخشى النمور والأفاعي؟"


فأجاب الشيخ الناسك: "بالطبع لا، فالنمور هي قططي الأليفة، والأفاعي مسالمة بالنسبة لي، فنحن أصدقاء نصطلي دوماً بشمس محبة الله التي تسطع على كل شيء في هذا الوجود."


وإذ دقق الأمير النظر بالناسك تملكه الرعب عندما رأى زوجاً من ثعابين الكوبرا متدليين من عنق الناسك. وعندما دنا أكثر للتأكد مما رآه أصدر الثعبانان فحيحاً وصفيراً ونفشا رأسيهما لأنهما أحسا باهتزازات الخوف الكريهة وحب الإنتقام المختبئ في صدر الأمير.


وأكثر من ذلك، دخل في تلك اللحظة أحد نمور الغابة إلى الكوخ وربض بهدوء عند قدمي الناسك، وبعد أن لاطفه رجل الله وربت على رأسه غادر النمر بهدوء متجهاً إلى قلب الغابة.


وفكر الأمير المغرور في نفسه "لا بد أن هذا الشيخ صالح وطيّب السريرة، إذ حمانا من الحيوانات الكاسرة والعطش المميت، ومكافأة له على صنيعه هذا سأجعله من الأغنياء." ثم خاطب الناسكَ قائلاً:


"يا شيخ، إن وجهك يلتمع بالطيبة والإخلاص، وإنني أقدّر كل ما فعلته معي ومع حاشيتي، لذلك أريد أن أستودعك سراً به تصبح غنياً موسرا. وهذا السر أفصح عنه للمرة الأولى ولك أنت فقط."


وما أن نطق بهذه الكلمات حتى أخرج الأمير حجراً من تحت عباءته، وواصل حديثه قائلاً:


"أريد أن أستأمنك على كنز العائلة هذا. إنه حجر الفلاسفة لعلك تصبح غنياً باستعماله. فهذا الحجر يصنع ذهباً، وقد منحه لوالدي أحد علماء الكيمياء العظام، وله القدرة على تحويل كل شيء يلامسه إلى ذهب خالص. بإمكانك استعمال هذا الحجر لسنة كاملة وتحويل الأحجار إلى ذهب ثم بيعها لتشتري لك قصراً من ذهب، وسأعود إليك بعد عام لأزورك وأسترد حجري الذي أعتبره أثمن من حياتي.


لم يرغب الناسك بقبول تلك المسؤولية، لكن استجابة لإلحاح الأمير المتواصل رضي بالإحتفاظ بحجر الفلاسفة، وقد رأى الأميرُ الناسكَ يضع الحجر دون اكتراث تحت حزام زناره (حيث كان الناس في الماضي يضعون نقودهم خوفاً من النشالين!) ثم مضى الأمير في حال سبيله.


بعد عام عاد الأمير مع حاشيته متوقعاً أن يرى بدل الكوخ المتداعي قصراً منيفاً، لكن خاب ظنه عندما رأى أن الكوخ ما زال قائماً وقد ازدادت حالته سوءاً عن ذي قبل. فترجل عن جواده ودفع الباب منادياً بأعلى صوته: "هل ما زلت على قيد الحياة يا ناسك؟"


فأجابه الناسك بصوت قوي وعميق: "نعم والحمد لله يا أمير. أهلاً بك في بيتي المتواضع."


وعلى الفور وبدون مقدمات صاح الأمير: "ما الذي دهاك وماذا خطْبك يا رجل؟ ما الذي فعلته بحجر الفلاسفة الذي تركته معك؟ لماذا لم تستعمله كي تصبح غنياً؟"


فكر الناسك للحظة ثم أجاب: "ما هذا حجر الفلاسفة الذي تتحدث عنه، وماذا تقصد بقولك كي أصبح غنياً؟ في الحقيقة لا أريد أن أكون أغنى مما أنا عليه."


استولى الهلع على الأمير إذ ظن أن حجره قد أضاعه الناسك العجوز لعدم اكتراثه به، فقال بصوت تشوبه مسحة الإستعطاف: "أقصد حجر الفلاسفة الذي لا يقدر بثمن والذي وضعته تحت زنارك منذ عام؟ [إيدي بزنارك] تخبرني ما فعلت به؟"


فأجاب الناسك: "صحيح.. صحيح.. الآن تذكرت حجرك الثمين، فقد كنت في أحد الأيام مستغرقاً بالتفكير في الله عندما ذهبت للإستحمام في النهر وأعتقد أن الحجر أفلت حينها من ثيابي وابتلعته المياه، والعوض بسلامتك."


فصاح الأمير بأعلى صوته "يا خسارتي التي لا تعوّض، لقد فقدت كل شيء" وكاد يغمى عليه من شدة الذهول. فرش الناسك على وجهه ماءً بارداً وأعاده إلى الوعي، في حين اقترب أزلام الأمير من الشيخ وعيونهم تقدح شرراً محاولين إيقاع الأذى به، لكن الناسك ضحك وقال: "يا حضرة الأمير ذا الشأن الخطير، لم أكن أعلم بأنك ستقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل حجر. تعال معي إلى النهر وسأبحث عن حجرك وأحاول العثور عليه."


فأجاب الأمير: "وهل فقدت عقلك؟ تريد أن تبحث الآن عن حجر سقط منك وأخذه التيار الجارف منذ عام؟"


لكن الناسك لم يأبه لقوله، بل صاح به قائلاً: "أيها الأمير الصغير لا حاجة لكل هذا الهرج والمرج، انتظر إلى أن نفتش عن الحجر في النهر، هيا تعالوا معي جميعاً."


وكما لو وقع الأمير وحاشيته تحت تأثير سحري، استجابوا لمغناطيسية الناسك الشفافة وتبعوه صامتين إلى النهر. وهناك طلب الناسك من الأمير أن يخرج منديله من جيبه وأن يمسكه من أطرافه الأربعة ويغمسه في النهر مبتهلاً على هذا النحو:


"يا أمير الأمراء وملك الملوك وصانع كل أحجار الفلاسفة، أعد لي حجري."


وما أن فعل الأمير ذلك ورفع منديله من الماء حتى استولى عليه الذهول لأن يرى بعينيه غير المصدقتين أكثر من عشرين حجر فلاسفة بنفس مواصفات حجره الأصلي الذي فقده. وإذ اختبر كل واحد من تلك الحجارة وجد أن كلاً منها يحوّل حجارة الشاطئ العادية إلى ذهب. عندها ربط الأمير الحجارة في المنديل ورمى بالصرّة في النهر.


فصاح به الناسك ومعه الحاشية: "لماذا فعلت ذلك؟" لكن الأميرنظر إلى رجل الله وانحنى أمامه احتراماً وقال:


"أريد يا سيدي أن أحصل على ما لديك.. ذاك الذي يعتبر الأحجار التي تصنع ذهباً حصوات لا قيمة لها."


وهكذا هجر الأمير مملكته الأرضية لكي يتعلم من الشيخ الحكيم طريقة الحصول على مملكة الروح التي لا يسعها الفضاء ولا يحيق بها الفناء.


مغزى القصة هو أن الثراء الأرضي، مهما بدا عالي القيمة، لكنه إلى زوال ويتعين تركه في هذه الدنيا الدنية عندما يصبح الجسد جثة هامدة باردة.


وبدلاً من استخدام حجر الفلاسفة الذي يرمز هنا إلى المقدرة على جمع الثروات الزائلة فقط، يجب أن نكون كالناسك الذي كرّس وقته وقدرته في الحصول على الثروة الإلهية التي لا تنضب ولا تفنى.


فمن يتعرف على الله سيمتلك ثروات تفوق الأحلام ، وإن اقتضى الأمر سيتخلى عن الممتلكات المادية كما لو كانت حجارة طمعاً بتحصيل الثراء الروحي والتمتع بالغنى الحقيقي.


في تعاملنا مع الآخرين

من المهم جداً التعرف على - وتقدير

السمات المميزة والشمائل النبيلة

التي استقطروها من تجاربهم

و صاغوها من كيانهم.


إن درسنا الناس بعقول متفتحة

سنتمكن من فهمهم والتعامل براحة معهم

كما سنستطيع على الفور

معرفة طبيعة الشخص الذي نتعامل معه.


لا تحدّث فيلسوفاً عن سباق الخيل

ولا تناقش عالِماً في الترتيب المنزلي

أعرف ما الذي يهم الشخص ويستقطب انتباهه

وحدثه عن ذلك الموضوع

وليس بالضرورة عن الأمور التي تهمك أنت.


إن كنا نرغب في فهم الآخرين

فيجب أن نتحاشى انتقادهم وإدانتهم

ويجب بدلاً من ذلك أن ننظر في مرآة تمييزنا

لمعرفة ما ينبغي إصلاحه وتحسينه؟


تلك المرآة النفسية تختلف كثيراً

عن المرآة المألوفة التي ننظر فيها كل صباح.


إنني أنظر كل يوم في تلك المرآة الذاتية

وإن وجدتُ شيئاً لا يروق لي

أعاتب نفسي وأعمل جاهداً على تقويمه.


بهذه الطريقة يرى الإنسان صورته

معكوسة على حقيقتها في مرآة روحه

ويتقدم يوماً بعد يوم

على الطريق المؤدية إلى السعادة وراحة النفس.


أسعدكم الله والسلام عليكم


شبكة الأشواق

ها أنا أرمي بشبكة أشواقي

في بحر فكري الفسيح.

كثيراً ما أفلتت مني أيها الصيد الإلهي الثمين!

ومع ذلك فإنني أتابع الغوص في أعماق السلام

وبلا توقف أرمي بشباك حبي نحوك .. الواحدة تلو الأخرى

ولا بد أن أصطادك يوماً في شبكة حنيني اللامتناهي لك.

شبكة حبي هذه أرميها في كل مكان..

فوق أمواج الحياة المتلاطمة

وحول النجوم المتوامضة

وفي لجج النفوس الطيبة.

كل ما أعرفه هو أنني صياد

وسأتابع محاولتي الإمساك بك

يا أعز منية وأعظم كنز في الوجود!


أطلب من أن يمزق حجب الجهل ويبدد ظلمة الوهم وأن يكون الطموح الأعظم في حياتك والشوق الأقوى على عرش رغباتك وأن يساعدك على تحويل الخمول والتسويف إلى نشاط روحي نابض بالبهجة والتجدد والهمة.. وأن يسقيك من شراب العشق الإلهي حتى الإنتشاء.. ويفتقدك بزيارة قدسية فيها الإيناس ويغسل قلبك بمياه المحبة والشكران .. ويضيء في كيانك مصابيح اليقين.. وأن يذيب أحلامك في حقيقة بحره المبارك.. وأن تجد فيه القناعة والرضا، فتسكن الطمأنينة روحك وتحل عليك بركات السماء.


السكون معناه تسكين الأفكار

وتهدئة الجسد والتحكم بمتطلباته.


فمن يقدر على ذلك سيختبر هدوءاً منعشاً

وسيحس بموجات وانطباعات سامية من عوالم راقية.

ومن يتعمق بالسكون أكثر فأكثر

سيكتشف مملكة الله في داخله.


ما دام الإنسان سائراً على الطريق

فكل لحظة من وقته ثمينة جداً.


إننا هنا على هذه الأرض (دار الممر) لفترة وجيزة.

كل شيء إلى زوال لكن الإحساس بالله مستدام

ولا يقوى شيء على محوه من القلب والروح.


يجب أن لا نسمح لمغريات الدنيا

بأن تصدنا عن مقصدنا الأعظم وغايتنا الأسمى: الله.


التعرف على الله أمر ممكن.

يجب أن نعثر على سيد الأكوان

الذي من نوره تومض النجوم

وبقوته تنبض القلوب.


يجب أن نبحث عنه في معبد السكون.


عندما ننادي الله بشوق ولهفة

وعندما نفكر به بحنين لاهب

سوف نعثر عليه.


لا أتحدث عن إله مجهول

بل عن رب تعرفت عليه

وهو حقيقي بالنسبة لي

بل أنه أكثر حقيقة من كل الأشياء المادية.

إنه البحر الإلهي الذي يسند ويعيل أمواج حياتنا البشرية.


بإمكاننا الإستغناء عن كل شيء

ما عدا الله.


{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}


و (طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله)


طبيعي أن يشعر الإنسان بالحاجة لأن يَحب ويُحب. لكن حنين القلب هذا هو في الأصل لمصدر ذلك الحب الذي هو الله.


الحب البشري يقوم على توقعات وحسابات واعتبارات ذاتية كثيرة لذلك لا ضمانة لديمومته لأنه مقيد بشروط.


أما الحب الإلهي فهو غير مشروط وهو ثابت ودائم. وإن لامس قلبك ستجده معك على الدوام

في كل الظروف والأحوال وستحس به كحماية وطمأنينة حتى في قلب الشدة والشقاء

وفي خضم المعاناة والتجارب العاتية.


قد يهجرك الجميع لكن ذلك الحب القدسي لن يتركك ولن يخذلك ولن يدعك فريسة للهموم والأوهام لأنه قوة واقية ونور هادٍ من السماء وسط منعرجات الحياة ومطباتها.


عندما يُشحن الحب البشري بالحب الإلهي يصبح نقياً صافياً ولكن إن فصلتَ الساقية التي هي الحب البشريعن النبع الذي هو الحب الإلهي فإنها تكف عن الجريان وتفقد ذاتها في رمال العالم.


وما دام الحب البشري متصلاً بالحب الإلهي فإنه يرطب القلب وينعش الوجدان ويروي بساتين الروح بماء الحياة.


الحب: منشط للإرادة


إن كل ما أفعله أفعله بكل الحب الذي في قلبي.

إن حاولت ذلك ستجد أنك لا تشعر بالإعياء على الإطلاق

لأن الحب هو أعظم منشط للإرادة، والإرادة التي تحت تأثير الحب تمتلك قوة غير عادية لعمل أشياء قد تبدو غير مستطاعة للبعض.