القديس المرتفع في الهواء


للمعلم برمهنسا يوغانندا



PARAMAHANSA YOGANANDA


من كتاب فلسفة الهند في سيرة يوغي

"الليلة الماضية رأيت يوغيا يظل معلقاً على ارتفاع بضعة أقدام في الهواء."

بتلك العبارة الشائقة استهل صديقي أوبندرا موهن شودهري حديثه.

وابتسمت بحماس قائلا: "ربما حزرت إسمه: ألا تقصد بهادوري مهاسايا الساكن في طريق الدوّار الأعلى؟"

هز أوبندرا رأسه بالإيجاب، وقد شعر ببعض الإحباط لأن الخبر لم يأتني عن طريقه. وقد كان أصدقائي يعرفون مدى فضولي بشأن القديسين، إذ كان من دواعي سرورهم أن يدلونني على قديس جديد.

وتابعت كلامي قائلا: "إن مسكن اليوغي قريب جدا من منزلنا، وأزوره بصورة منتظمة."

أثارت كلماتي اهتماماً كبيرا في نفس أوبندرا، إذ بدا الاهتمام ظاهرا على وجهه، وأضفت قائلا:

"لقد رأيته يقوم بأعمال خارقة، فقد أتقن طرق التنفس(1) الثماني لليوغا القديمة بحسب ما دونها الحكيم باتنجالي(2). وذات يوم قام بهادوري مهاسايا أمامي بتمرين بهاستريكا براناياما بقوة مدهشة جعلتني أحس كأن عاصفة قوية هبت فعلا في الغرفة! بعد ذلك أخمد هذا النفس العاصف وظل عديم الحركة في حالة الوعي السامي(3). وكان جو السلام الذي أعقب هذه العاصفة جلياً لا يمكن نسيانه.

امتزج صوت أوبندرا بعدم التصديق وهو يقول: "لقد سمعت أن القديس لا يغادر منزله أبدا، فهل هذا صحيح؟"

أجبت: "نعم تلك هي الحقيقة! فهو ظل حبيس منزله طوال العشرين سنة الماضية. إلا أنه يخفف قيود هذا القانون الصارم الذي فرضه على نفسه أثناء أعيادنا المقدسة، فيسير إلى الممشى الجانبي حيث يجتمع المتسولون، لأن القديس بهادوري معروف بطيبة قلبه."

قال: "ولكن كيف يظل القديس معلقاً في الهواء متحدياً بذلك قانون الجاذبية؟"

أجبته: "إن جسم اليوغي يفقد كثافته بممارسة بعض تمارين براناياما الخاصة بالتنفس، فيستطيع عندئذ الطيران أو القفز كالضفدع. وحتى القديسون الذين لا يمارسون اليوغا التقليدية يحلـّقون في الهواء أثناء دخولهم حالات سامية من الشوق المتعاظم لله."

لمع حب الاستطلاع في عيني أوبندرا وقال: "أود أن أعرف المزيد عن هذا الحكيم، فهل تحضر اجتماعاته المسائية؟"

قلت: "نعم، فغالبا ما أزوره، وإنني شديد الإعجاب بسرعة بديهته وروعة حكمته. وأحيانا تفسد قهقهتي وقار الاجتماع. ومع أن القديس لا ينزعج من ذلك، لكن تلاميذه ينظرون إليّ بغضب! "

ولدى عودتي من المدرسة إلى المنزل بعد ظهر ذلك اليوم عرّجت على بيت بهادوري مهاسايا وصممت على زيارته. وكان اليوغي بعيدا عن متناول الناس، يحرس بابه تلميذ في الطابق الأرضي. وهذا التلميذ كان كثير التدقيق مع الزائرين، وقد سألني إن كنت على موعد مع معلمه، ولكن ظهر معلمه على الفور وعيناه تبرقان، وقد أعفاني بذلك من الطرد الفوري، وقال للتلميذ:

"دع موكندا يأتي كلما رغب بذلك. فقاعدة الاختلاء هي ليست لراحتي بل لراحة الآخرين. الدنيويون لا يرتاحون لصدقنا الذي يحطم غرورهم. والقديسون ليسوا نادرين فقط لكنهم مربكون أيضا. وحتى في الأسفار المقدسة نجدهم أحيانا يتسببون في الإحراج للآخرين."

سرتُ خلف بهادوري مهاسايا إلى مأواه البسيط في الطابق الأعلى الذي قلما غادره. والمعلمون يتجاهلون عادة بهرج العالم وضوضاءه بتواريهم عن الأنظار. ونادرا ما يهتم بهم العالم قبل أن يصبحوا راسخين في ذاكرة الزمن، فمعاصرو الحكيم لا يقتصرون على الذين يعيشون في الحاضر المحدود والضيق.

وقلت: "أيها الحكيم العظيم، إنك أول يوغي عرفته يبقى داخل منزله على الدوام."

فأجابني: "أحيانا يغرس الله قديسيه في تربة غير متوقعة حتى لا نظن أن بمقدورنا إخضاعه لقاعدة محددة."

وتربّع القديس للتأمل وقد ثبّت جسمه المليء بالحيوية في وضع اللوتس. ومع أنه كان قد تجاوز سن السبعين لكن لم تظهر على جسمه علامات الشيخوخة أو الترهل بفعل الجلوس الطويل. وإذ كان قويا مديد القامة فقد كان مثاليا من كل ناحية. وكان وجهه وجه الحكيم الذي تصفه الأسفار المقدسة بأنه نبيل الرأس، كث اللحية، يجلس دوما باعتدال مثبتاً عينيه الهادئتين على الحضور الكلي.

جلست مع القديس في التأمل، وبعد ساعة أيقظني صوته الرقيق:

"إنك غالبا ما تدخل حالة السكون، ولكن هل توصلت إلى حالة الإدراك الفعلي بالله؟"

وقد قصد القديس من ذلك تذكيري بأن أحب الله أكثر من التأمل، وأردف: "لا تخلط بين الطريقة والغاية، ولا تجعل الوسيلة هدفك."

وقدّم لي بعض ثمار المانغو، وببديهته الحاضرة التي وجدتها ممتعة بالرغم من طبيعته الجادة قال:

"إن لهفة الناس على الإتحاد بالطعام هي أكبر بكثير من تلهفهم على الإتحاد بالله."

وقد أحدث هذا الجناس اللفظي قهقهة عالية مني، فلمعت نظرته بالحنو وقال: "يا لها من قهقهة! " وكان وجهه يتسم بالجدية وفي نفس الوقت ترتسم عليه بسمة طوباوية. وكانت عيناه الكبيرتان الشبيهتان بزهر اللوتس تخفيان ابتسامة باطنية مقدسة.

وأشار القديس إلى عدد من مغلفات سميكة فوق منضدة قائلا: "هذه الرسائل جاءتني من أمريكا النائية. فأنا أراسل عددا من الجمعيات التي يظهر أعضاؤها اهتماما باليوغا. إنهم يكتشفون الهند من جديد بإدراك أفضل من الذي كان يتمتع به كولومبس! إنني سعيد لمساعدتهم، فمعرفة اليوغا هي مجانية، كنور الشمس، لكل من يطلبها.

"إن ما اعتبره الحكماء ضروريا لخلاص البشر لا يجوز تخفيف قيوده من أجل الغرب. الشرق والغرب متشابهان في الروح بالرغم من اختلاف تجاربهم الخارجية، ولا أمل لهما في التقدم والازدهار دون ممارسة إحدى طرق اليوغا الروحية."

وقد أمسكني القديس بعينيه الهادئتين، وما كنت أعلم وقتذاك أن كلامه كان نبوءة مستترة. بل لم أدرك حتى هذه اللحظة - وأنا أدون هذه الكلمات - المعنى الكامل لتلميحاته العادية بأنني سأنقل ذات يوم تعاليم الهند إلى الغرب.

وقلت: "أيها الحكيم الكبير، يا حبذا لو قمت بتأليف كتاب عن اليوغا لفائدة البشر! "

وأجابني: "إنني أدرّب تلاميذ سيصبحون مع تلاميذهم كتباً حية تصمد للتحلل والتحوّل الطبيعي للزمن والتفسيرات غير الطبيعية للناقدين."

بقيت مع اليوغي لوحدنا إلى أن حضر تلاميذه في المساء، حيث ألقى إحدى محاضراته المنقطعة النظير. وكالطوفان الهادئ فقد جرف الحطام والركام النفسي لسامعيه وقادهم نحو الله. وكانت أمثاله الرائعة بلهجة بنغالية لا عيب فيها.

وفي تلك الأمسية تناول بهادوري نواحي فلسفية متنوعة تتعلق بحياة أميرة راجبوتانية في القرون الوسطى تدعي (ميراباي) نبذت حياة القصر الباذخة رغبة في مصاحبة القديسين. في البداية رفض أحد كبار النساك (ساناتنا غوسوامي) قبولها في عداد تلاميذه كونها امرأة، لكن جوابها له جعله يخضع عند قدميها، عندما قالت:

"اخبروا المعلم إنني لا أعترف بمذكـّر في الكون سوى الله. ألسنا جميعا إناثا أمامه؟"

(هناك فكرة مقدسة بأن الله هو المبدأ الإيجابي الخلاق الأوحد في الكون، وما خليقته سوى وهمٍ سالب. )

وكانت ميراباي تقرظ الشعر، وقد ألفت قصائد عديدة ملؤها الفرح الروحي لا زالت تعتبر من كنوز الهند الأدبية، وإنني أترجم إحداها هنا إلى الإنكليزية (وقد ترجمها نظماً إلى العربية محمود عباس مسعود):

لو بغسل الجسم ِ دوماً يُعرفُ

لغدوتُ قيطساً وسْط َ البحار

لو بأكل النبتِ حتماً يُدركُ

لاتخذتُ شكلَ عنزة بافتخارْ

لو بعدّ السُبّحاتِ يظهرُ

كنتُ سبّحتُ بحباتٍ كبارْ

لو بسجدٍ للنصوبِ يبرزُ

لانحنيتُ للجبالِ والصخورْ

لو بشرب اللبنِ يُرتـَشفُ

لتذوّقـْهُ العجولُ والصغارْ

لو بهجر الزوجةِ يُستحضرُ

لاختصى الآلافُ فوراً باختيارْ

كلُ هذي تعجزُ عن كشفهِ

لا ولن تقوى على رفع الستارْ

يظهرُ اللهُ بشرطٍ واحدٍ:

حبُ قلبٍ واشتياقٌ مثلَ نارْ

وضع بعض الطلبة روبيات في حذاء بهادوري الذي كان ملقى بجانبه وهو يجلس في وضع اليوغا. وهذه التقدمة المألوفة في الهند هي تعبير عن الاحترام والتقدير، بما يعني أن التلميذ يضع عند قدمي معلمه ممتلكاته المادية. الأصدقاء الحافظون للجميل هم مظهر من مظاهر الله الذي يرعى محبيه من خلالهم ويعتني بشؤونهم.

ونظر أحد التلاميذ بحماس إلى المعلم الجليل وهو يستأذن بالانصراف قائلا: "حقاً إنك رائع يا سيدي! فقد نبذت الغنى والراحة الشخصية من أجل البحث عن الله وتلقيننا الحكمة." إذ كان معلوما للجميع أن بهادوري مهاسيا قد تخلى في شبابه عن ثروة عائلية ضخمة عندما صمم تصميما قاطعا على المضي في طريق اليوغا. )

فأجاب القديس: "ولكنك تعكس الآية! " وعبّرت تقاطيع المعلم عن زجر لطيف، وتابع قائلا: "لقد زهدتُ بروبيات قليلة ومسرات ضئيلة زائلة حبا بمملكة كونية لا حد لنعيمها ولا انتهاء. فكيف تقول أنني حرمت نفسي من أي شيء؟ إن قصيري النظر من أهل الدنيا هم التاركون فعلا! فهم يهجرون مملكة مقدسة لا نظير لها طمعا بمسرات أرضية هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع! "

ضحكت لهذه النظرة المتباينة عن الزهد والزاهدين: ففي حين يجعل أحدهم القديس الفقير أغنى من قارون وأرفع شأنا، يحوّل الآخر أكبر مليونيريّ العالم إلى فقراء معدمين لا يعرفون ما يعانون من ذل الفاقة."

ختم المعلم حديثه بالحض على الإيمان الثابت قائلا: "إن النظام الإلهي يدبر أمورنا وينظم مستقبلنا بحكمة تفوق ما توفره لنا شركات التأمين. العالم مليء بالقلقين الذين يضعون ثقتهم في وسائل الحماية الخارجية. وأفكارهم المؤلمة هي كالندوب (آثار الجروح) على جباههم. إن الواحد الأحد الذي وهبنا الهواء واللبن من لحظة ولادتنا يعلم كيف يزود متعبديه يوما بيوم بكل ما يحتاجون إليه في حياتهم."

واصلتُ زياراتي للقديس بعد انتهاء فصول الدراسة، وبحماس صامت ساعدني على إدراك الحضور الإلهي. وذات يوم انتقل القديس إلى طريق رام موهان روي بعيدا عن منزلنا في طريق غوربار، إذ ابتنى له أتباعه المحبون صومعة جديدة عُرفت باسم تاجندراماث(4).

ومع أن ما سأذكره الآن هو سابق لأوانه في سيرة حياتي هذه، إلا أنني أذكر هنا الكلمات الختامية التي قالها لي بهادوري مهاسيا. فقبل سفري إلى الغرب بقليل ذهبت لتوديعه وانحنيت أمامه في تواضع ملتمسا منه بركة الوداع، فقال:

"يا بني، اذهب على بركة الله، واتخذ من مجد الهند القديمة درع وقاية لك. النصر مكتوب على جبينك، والنبلاء البعيدون سيحسنون استقبالك."

المصدر: مذكرات يوغي السيرة الذاتية (فلسفة الهند في سيرة يوجي) للمعلم برمهنسا يوغانندا



الحواشي


(1) طريقة التنفس هذه تعرف باسم (براناياما) وهي التحكم بقوة أو نشاط الحياة (برانا) بواسطة تنظيم عملية التنفس. وبرانا ياما بهاستريكا ("المنفاخ:" تعمل على تهدئة العقل.


(2) باتنجالي هو أعظم الشارحين القدماء لليوغا.


(3) قال البروفسور جول بوا الأستاذ بجامعة السوربون، في محاضرة له سنة 1928، أن العلماء الفرنسيين قاموا بتجارب حول الإدراك السامي واعترفوا بوجوده. وهو "المقابل للعقل الباطن في مفهوم فرويد. وهذا العقل السامي هو الذي يشتمل على المواهب والمزايا التي تجعل من المرء إنسانا حقا، لا مجرد حيوان متطور." وبيّن العالم الفرنسي أن يقظة الإدراك السامي "يجب التمييز بينها وبين الاستهواء أو التنويم المغناطيسيٍ. فوجود العقل السامي معترف به فلسفيا، وهو في حقيقته النفس الراقية التي قال بها أمرسون ولم يعترف بها العلم إلا مؤخرا." قال أمرسون في مقالته (النفس العليا): "الإنسان هو واجهة لمعبد به تكمن كل حكمة وخير، وعادة إن ما ندعوه إنسانا: إنسان الأكل والشرب والزرع والحساب. . . يعطي صورة خاطئة عن حقيقته الجوهرية. لكن النفس التي هو أداتها وتعبيرها. . . لو سُمح لها بالظهور من خلال أفكاره وأفعاله لاضطرنا إلى السجود. . . لأننا سنقف عندئذ أمام الطبيعة الروحية، وأمام كل الصفات الإلهية.


(4) كان أسمه الكامل تاجنراماث بهادوري، وماث بالهنديه معناها مكان العبادة، وتطلق غالبا على الصومعة أو المنسك. ومن بين القديسين (السابحين في الفضاء) سان جوزيف قديس كوبرتينو، وهو من قديسي القرن السابع عشر الذي تم توثيق حالاته غير العادية بمعاينة الشهود. وقد أبدى القديس جوزيف ذهولا عن العالم هو في حقيقته تذكـّر لله وهيام به. ولم يكن إخوته في الدير يسمحون له بأن يخدم المائدة المشتركة لئلا يطير بالأواني الخزفية. وفعلا كان القديس غير كفؤ للقيام بالواجبات الدنيوية بسبب عدم استقراره على الأرض لفترة كافية! وأحيانا كانت رؤيته لتمثال مبارك كافية لأن تدفعه للتحليق في طيران عمودي، فيشاهد القديسان – الإنسان والحجر – وهما يحلقان في أجواز الفضاء.


وسانت تريزا قديسة آفيلا ذات السمو الروحي هي أيضا وجدت الارتفاع الجسدي مزعجا. وإذ كانت مثقلة بواجبات إدارية كثيرة فقد حاولت دون جدوى وقف اختبارات التحليق وكتبت في هذا الخصوص: "إن التدابير لا تجدي نفعا إذا أراد الله عكس ذلك." وقد ظل جسم القديسة تريزا الذي دُفن في إحدى كنائس ألبا في أسبانيا لأربعة قرون دون أن يصيبه التحلل والفساد، بل ظل متماسكا يتضوع منه شذا الورود، وقد حدثت عنده معجزات لا حصر لها.


(هذه الكرامات تذكرنا أيضاً بما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة مثل قصة أصحاب الكهف والطلب من مريم عليها السلام كي تهز جذع النخلة اليابس ليسقط منه الرطب الجني في غير أوانه، وأيضاً كيف أن الله كان يرزق مريم بحسب ما جاء في سورة آل عمران (كلَّما دخَلَ عليها زكريا المحرابَ وَجَدَ عندَها رِزْقاً قال يا مريمُ أنَّى لكِ هذا قالَتْ هوَ مِنْ عندِ اللهِ.) وكذلك قصة جريج العابد والغلام الذي تكلم في المهد، والثلاثة الذين دخلوا الغار وانفراج الصخرة عنهم..وغير ذلك من الكرامات.)



ملاحظة: البعض يكتب إسم المعلم برمهنسا على هذا النحو: باراماهانسا يوغاناندا