الثواب والعقاب وحرية الاختيار

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ – قرآن كريم

الآراء التالية هي للفيلسوف والعلامة الروحي آلان كاردك الذي ما يزال إنتاجه يمثل مستوىً من أرفع مستويات الإنتاج الفلسفي في نطاق علم الروح، إلى حد أن غالبية من خلفوه في فلسفة الحركة الروحية الفرنسية لم يضيفوا إليه شيئاً يذكر ، إذ لا زال يُعتبر زعيماً للحركة الروحية الفرنسية، بل اللاتينية بوجه عام، ولا تزال بحوثه معتبرة أهم المراجع التقليدية لمن يريد أن يحيط بالجوانب الفلسفية لعلم الروح الذي أولاه عناية خاصة.

وقد ترجم إلى اللغة الألمانية بعض مؤلفات فرنسية في التعليم وفي الأخلاق، بالإضافة إلى أعمال الفيلسوف فنيلون وله مؤلفات عديدة في التربية وفي التعليم وفي الرياضة وفي اللغة الفرنسية. كان يميل إلى الاعتدال، وقد أنفق على الحركة الروحية كل ثروته تقريباً وظلت زوجته تسير على نفس الدرب حتى بعد انتقاله. وكانت شريكة له في الدراسات التي كان ينظمها في الفيزياء والفلك والتشريح. وكان كاردك عضواً في بعض هيئات علمية راقية من بينها (الأكاديمية الملكية) التي منحته في سنة 1831 جائزة أدبية عن أحسن بحث يوضع للإجابة عن السؤال الآتي: "ما هو أحسن نظام للتعليم، وأكثرها التئاماً مع حاجيات العصر؟"

إن مبادئ الثواب والعقاب التي أشار إليها كل علماء الروح هي نتائج محتومة لمقدمات طبيعية، تحدث طبقاً لرابطة العلة بالمعلول، وهي الرابطة الفلسفية التي تربط كل نتيجة بأسبابها في نطاق أي علم من العلوم، وذلك من تلقاء نفسها وبغير ما حاجة إلى إرادة إنسان معيّن كيما يتولى تطبيقها بأساليب مادية. وهذه الرابطة في نطاق ثواب الروح وعقابها يطلق عليها عادة وصف قانون الكارما وهو تعبير شائع الإستعمال في هذا الصدد، ويشير إلى قانون عادل طبيعي هو قانون "ما تزرع إياه تحصد أيضاً" أو "الجزاء من جنس العمل".

فدراسة مبادئ ثواب الروح وعقابها تكون على هذا الوضع جزءاً لا يتجزأ من دراسة قوانين الطبيعة، وهي بحث فلسفي بحسب أصله. البحث في الروح هو دراسة مستمدة من بحوث معملية لا من نظريات لاهوتية على طريقة أرسطو، وهو مؤسس علم ما وراء الطبيعة على أسس فلسفية جعلت منه نوعاً من اللاهوت... فإذا كانت دراسة الروح قد اعتبرت فيما مضى جزءاً مما وراء الطبيعة فإنها ستعتبر في المستقبل جزءا من علم الأحياء. إن أساس الناموس الخلقي هو أن جميع الأرواح خلقت في البدء متساوية، وعلى درجة واحدة من البساطة، وأنها أعطيت حرية الإختيار، كما فرض عليها منذ البدء أن تتطور كلها طبقاً لقانون التطور والإرتقاء خلال حيوات عدة متصلة ومتعاقبة هنا وهناك، حتى تستكمل سعادتها باستكمال أسباب رقيها العقلي والخلقي. وبقدر نموها في المعرفة وفي الفضيلة بقدر ما تنمو إرادتها وبالتالي حريتها في الاختيار. الفضائل التي تتطلبها الفلسفة الروحية في الإنسان، حتى يستكمل أسباب سعادته، تكاد تنحصر إجمالاً في فضيلة المحبة وشقيقها التواضع، حين تنبع الرذائل عن الأنانية وشقيقها الغرور، لذا كانا (الأنانية والغرور) يمثلان مجتمعين العدو الأول للإنسان والمسؤول الأوحد عن تعاسته حيثما وجد.

وقد اتفق الباحثون في الأرواح على أن المحبة ليست مجرد عاطفة موقوتة بظروفها، بل هي طاقة حقيقية من شأنها أن تؤثر في اهتزاز الجسد الأثيري فترفع منه وتحافظ على تناسقه، وتعطي الإشعاعات التي تنبعث منه جمالاً خاصاً، وتجعله بالتالي جديراً بعوالم أرقى طبقاً لقانون التوافق، وهو القانون الطبيعي الذي يحدد للجسد الأثيري مكانه بعد تخلصه من مقابله المادي. وهذا الرأي أصبح شائعاً، بل مجمعاً عليه في الفقه الروحي.. أليس الله محبة؟

أما مبادئ الثواب والعقاب والتي أساسها جميعها حيازة الروح لقدر كافٍ من الإرادة وحرية الإختيار فهي كالآتي:

إن الروح تتحمل في حياتها الروحية نتائج كل ما لم تتخلص منه من رذائل أثناء حياة الجسد. فحالها من السعادة والشقاء يتوقف على درجة نقائها أو عدمه.

إن السعادة المطلقة متصلة بكمال الروح أي بنقائها المطلق. فكل رذيلة هي بذاتها مصدر للعذاب وللحرمان من النعيم، كما أن كل فضيلة اكتسبت هي بذاتها مصدر للتنعم ولتخفيف هذا العذاب.

أنه لا توجد في الروح رذيلة واحدة لا تحمل بذاتها نتائجها الأليمة التي لا مفر منها، كما أنه لا توجد فيها فضيلة واحدة ليست بذاتها مصدراً للتنعم. فعلى قدر الرذائل يكون القصاص، وعلى قدر الفضائل يكون التنعم.

فالروح التي لها عشر رذائل مثلا تتألم أكثر من تلك التي ليس لها سوى ثلاث أو أربع منها. وحينما تتخلص الروح من ربع هذه الرذائل أو نصفها يصبح ألمها أخف وطأة. ويزول هذا الألم وتصبح الروح سعيدة تماماً عندما تتخلص منها كلها. فمثلها مثل من لديه أمراض متعددةـ، فهو يتألم أكثر ممن لديه مرض واحد، أو ممن ليس مريضاً على الإطلاق. ولنفس السبب إن للروح التي لديها عشر فضائل قدرة على التنعم أكثر من تلك التي لديها أقل من ذلك.

إن كل روح تملك طبقاً لقانون التطور والإرتقاء المقدرة على استكمال ما ينقصها من خير، وعلى التخلص مما يشوبها من شر طبقاً لجهودها الخاصة ولقوة إرادتها، الأمر الذي ينتج منه أن يكون باب المستقبل غير مغلق في وجه أي مخلوق. فالله تعالى لا يطرد أحداً من رحمته، بل يفتح لعباده أبوابها بقدر ما يحصلون عليه من تطور نحو الكمال، تاركاً بذلك لكل منهم فضل أعماله.

طالما أن الألم مرتبط بالنقص، كما أن التنعم مرتبط بالرقي الخلقي والعقلي، فكل روح تحوي بين جنبيها جزاءها الخاص حيثما وجدت دون ما حاجة لوضعها في مكان خاص. فالجحيم يوجد في كل مكان توجد فيه أرواح متألمة، كما أن الجنة توجد كذلك في كل مكان توجد في أرواح سعيدة.

إن ما نقدمه من حسنات أو من سيئات إن هو إلا ثمار ما نحوزه من صفات حسنة أو رديئة، وحتى مجرد الإمتناع عن فعل الخير الذي يمكننا فعله إن هو إلا نتيجة نقص فينا، ومن ثم فالروح تشقى بما أقدمت على ارتكابه من سيئات، وأيضاً بما أحجمت عنه من حسنات كان في مقدورها إتمامها أثناء حياتها الأرضية.

إن الروح تتألم من نفس الإثم الذي أقدمت على ارتكابه، فيصير التفاتها موجهاً إلى عواقب هذا الإثم، مدركة بذلك أكثر من غيرها سوء هذه العواقب، ومدفوعة بالتالي إلى إصلاحها. ولأن عدالة الله غير محدودة فكل ما فينا من خير أو من شر موضع حساب دقيق. فما من عمل سيء واحد، بل ما من فكرة سيئة واحدة إلا ولها عواقبها المحتومة. كما أنه ليس من عمل صالح، بل ما من حركة طيبة من الروح، بل ما من فضل مهما كان شأنه ضئيلاً يضيع على صاحبه، حتى ولو صدر عن أشد الناس انحرافاً عن الصواب، لأنه يشير بذاته إلى بدء التقدم عنده.

إن كل معصية ارتـُكبت هي دَين علينا مستحق الوفاء إن لم يكن في حياتنا الأرضية ففي حيواتنا الأخرى لأنها كلها متضامنة معا. وحين يوفى الدَين مرة لا يوفى ثانية.

إن الروح تتحمل قصاص سيئاتها سواء في عالم الروح أم في عالم المادة، فكل ما نقاسيه من عناء ومن تقلبات في حياتنا الأرضية إن هو إلا نتائج نقائصنا الخلقية، أو تكفير عما ارتكبناه من أخطاء سابقة في حيواتنا الحالية أو السابقة، ومن طبيعة هذه الآلام وتقلبات الحياة التي نقاسيها في حياتنا المادية يمكننا أن نحكم على نوع الأخطاء التي ارتكبناها فيما مضى، وعلى نقائصنا التي دفعتنا إليها.

إن التكفير عن الخطأ يخفف طبقاً لطبيعة هذا الخطأ ومدى خطورته. وبالتالي إن نفس الخطأ قد يولد طرقاً مختلفة للتكفير عنه طبقاً لما أحاط بارتكابه من ظروف مخففة أو مشددة. إنه لا توجد فيما يتعلق بطبيعة القصاص ومدّته قاعدة عامة وموحّدة، إنما الناموس العام الوحيد هو أن كل خطأ يلاقي قصاصه، كما أن كل عمل صالح يلاقي جزاءه بحسب أهميته.

إن مدة العقاب متوقفة على تقدم الروح الآثمة، فليس هناك من حكم بالإدانة لأجل محدد يصدر ضدها. بل إن كل ما يتطلبه الله تعالى كيما يضع حدا لآلامها هو تقدم وارتقاء جادان وحقيقيان، وعودة مخلصة إلى طريق البر.

ومن ثم فالروح هي صانعة مصيرها الخاص، فيمكنها أن تطيل آلامها بإصرارها في طريق المعصية، كما يمكنها أن تخففها أو تختصر أمدها بجهودها لعمل الخير... فالله العادل يعاقب الشر طالما كان موجوداً ويوقف العقاب عندما يقف الإثم. أو بعبارة أخرى إنه طالما كان الشر الخلقي هو مصدر تعذيب النفس، فلا يطول هذا التعذيب إلا بقدر ما يطول الشر. وتضعف حدته بقدر ما تضعف حدة هذا الأخير.

وما دامت مدة القصاص متوقفة على تقدم الروح الآثمة، فإن توقف الروح عن التقدم يؤلمها، ويبدو لها قصاصها أبدياً.

إن من نتائج حطة الروح إنها لا ترى نهاية لآلامها وتعتقد أنها ستتألم دائما، ومن ثم يبدو لها عذابها أبدياً.

إن التوبة هي الخطوة الأولى نحو التقدم، لكنها لا تكفي وحدها، بل يتعين دائماً التكفير عن الخطأ وإصلاح نتائجه. فالتوبة والتكفير والإصلاح هي الشروط الثلاثة الضرورية لمحو بقايا الخطأ ونتائجه المحتومة.

فالتوبة تخفف آلام التكفير من ناحية أنها تمنح صاحبها الأمل وتمهد السبيل لرد اعتباره، لكن إصلاح الخطأ وحده يمكنه أن يبطل هذه الآلام بإزالة دواعيها، والمغفرة تصبح بالتالي عفواً عن الخطأ وليست محواً لعواقبه.

إن التوبة ممكنة دائماً في كل مكان وزمان، فإذا ما تأخرت تألمت الروح لمدة أطول. والتكفير يكون بالآلام الحسية والمعنوية التي هي نتائج أي خطأ يُرتكب سواء في الحياة الحاضرة أم بعد الموت، وسواء في أي وجود جسدي جديد، وذلك إلى أن تزول آثار هذا الخطأ. وأما الإصلاح فيكون بالعمل الصالح لمن نكون قد أسأنا إليهم، ومن لا يصلح أغلاطه في حياته الحاضرة بسبب عجزه أو سوء نيته سيجد نفسه في حياته الأخرى على صلة بمن يكون قد آلمهم، وذلك إلى أن يثبت تفانيه نحوهم، وإلى أن يقدم إليهم خيراً على قدر ما قدّم إليهم من شر.

فجميع الأخطاء لا تنتج ضرراً فعلياً ومباشراً. لذلك فإن الإصلاح يتم بفعل ما كان ينبغي أن نفعله وأغفلناه، وبالقيام بالواجبات التي أهملنا القيام بها أو تجاهلناها، وبأداء الرسالة التي قصّرنا في أدائها، وبفعل الخير المضاد لما فعلناه من شر. بمعنى أن يصبح متواضعاً منا من كان متكبراً، ورقيقاً من كان قاسي القلب، وبارّاً من كان أنانياً، وطيّب الطوية من كان خبيثاً، ونشيطاً من كان خاملاً، ومفيداً من كان عديم الجدوى، ومعتدلاً من كان متطرفاً، وقدوة حسنة من كان قدوة سيئة، وعلى هذا النحو تتقدم الروح في ترقيها متخذة العبرة من ماضيها.

وضرورة إصلاح الضرر مبدأ مبني على العدالة المطلقة، ويمكن اعتباره القانون الحقيقي لإمكان استرداد الروح لاعتبارها ومكانتها، وهو من هذه الوجهة ضرورة... ومع ذلك يرفض بعض الأشخاص هذا المبدأ واجدين أن من اليسر لهم أن يعتقدوا أن بمقدورهم محو آثار رذائلهم بعبارة ندم بسيطة لا تكبّدهم شيئاً، تكفي كيما يحسبوا أنفسهم بعد تلاوتها أنهم قد سددوا دَينهم بالكامل.

هؤلاء سيجدون فيما بعد إن كان ذلك يجديهم نفعاً. ألا ينبغي أن نسألهم لماذا فرض قانون البشر مبدأ إصلاح الضرر، وهل القانون الإلهي أقل من قانون البشر؟ وهل الندم مهما بلغ مداه يكفي لتعويض إنسان لحقـَهُ خراب من جراء أي عمل من أعمال، ولماذا نتراجع أمام التزام يعتبره كل إنسان حقاً مقضياً، عليه أن يؤديه في حدود طاقته؟

وعندما يصبح هذا الإيمان بضرورة إصلاح كل ضرر نسببه للآخرين جزءاً من عقيدة الجماهير، فإن ذلك سيصبح حائلا دون الخطأ... لأنه مستمد من صميم حياتنا الحاضرة، ولأن الإنسان سيدرك حينئذ أسباب ما قد يصيبه من ظروف أليمة.

إن الأرواح البعيدة عن الكمال تظل بعيدة عن المناطق العالية حتى لا تفسد تناسقها، بل تبقى في مناطقها الدنيا إلى أن تجعلها صروف الدهر تكف عن أخطائها وتتخلص من نقائصها، فتستحق الإنتقال إلى عوالم أرقى معنوياً وماديا. ولو كان لنا أن نتصور مكاناً معيناً للقصاص فلن يكون هذا المكان إلا في مناطق التكفير عن الأخطاء، لأنه في هذه المناطق تهيم الأرواح السفلى في انتظار وجود جديد يمكنها من إصلاح أخطائها ويساعدها بالتالي في تقدمها.

نظراً لأن الروح تملك دائماً حرية الاختيار فقد يحدث أن يكون تقدمها بطيئاً وعنادها في الشر شديداً، بل يمكنها أن توغل فيه سنوات وقروناً. لكن يحل دائماً وقت ينهار فيه إصرارها على تحدي العدالة الإلهية، وذلك تحت وطأة شدة الألم فترغم رغم مكابرتها على التسليم بالقوة العظمى التي تحكمها. وبمجرد ما تبدو عليها أولى دلائل التوبة، فإن الله يلهمها أن تلمح بصيصاً من الأمل. فما من روح في حالة تمنعها من التقدم أبداً، وإلا صارت إلى انحطاط أبدي ولشذت عن قانون الإرتقاء الذي يسود – لحكمة إلهية – جميع الكائنات.

إنه مهما بلغ من مقدار انحطاط بعض الأرواح وانحرافها عن الصواب فإن الله تعالى لا يتخلى عنها أبدا، بل يهيئ لها دائماً أرواحاً تحميها وترشدها وتسهر عليها مترصدة خلجات نفسها، ومحاولة أن تثير فيهلا نزعة الخير والرغبة في التقدم، كيما تصلح في وجودها اللاحق ما اقترفته من آثام في وجودها السابق. ومع ذلك فالروح المرشدة تعمل بطريقة غير منظورة دون ما ضغط، لأن كل نفس ينبغي أن تتقدم بمحض إرادتها ودون أي إكراه عليها، فهي تتصرف تصرفاً حسناً أو قبيحاً طبقاً لحريتها في الاختيار، ودون أن يدفعها القدر في اتجاه أو في آخر. فإذا اقترفت إثما تحملت نتائجه طالما ظلت في طريق الإعوجاج، أما إذا خطت نحو الخير خطوة واحدة أحست على الفور بطيب النتائج. من الخطأ الإعتقاد بأنه طبقاً لقانون الإرتقاء يصبح يقين المرء من الوصول إلى الكمال، وبالتالي إلى السعادة عاجلاً أم آجلاً سبباً لتشجيعه على التمادي في غيه، أو إرجاء وقت التوبة إلى ما بعد، وذلك أولاً لأن الروح الدنيا لا ترى نهاية لعذابها، وثانياً لأن الروح – وهي صانعة شقاءها بيديها – تنتهي بأن تفهم بأنه يتوقف عليها هي أن تضع حداً لهذا الشقاء، وأنه بقدر ما يطول إصرارها على الشر بقدر ما يطول شقاؤها، وأن آلامها ستطول إلى ما لا نهاية إذا لم تحدد هي أجل انتهائها، وبالتالي يكون ذلك من جانبها حساباً خائباً هي ضحيته الأولى. وعلى العكس من ذلك إذا كان كل أمل في المستقبل مغلقاً في وجهها... فلا فائدة للروح من العودة إلى طريق الخير ولا سبيل لها إلى ذلك. إن الله بخلقه روحاً يعلم مقدماً أن هذه الروح لها كما تشاء – طبقاً لحريتها في الإختيار – أن تسلك سبيل الخير أو الشر. فإذا ما تنكبت الطريق السوي تلقى عقاباً مؤقتاً، وهذا العقاب مجرد وسيلة كيما تدرك خطأها وتعود إلى الطريق السوي حيث تصل إلى الكمال إن عاجلاً أو آجلاً.

كل امرئ مسؤول عن أخطائه الخاصة، فلا تحمل نفس وزر أخرى إلا إذا كانت هي السبب في خطيئتها بأن دفعتها إليها عن طريق القدوة السيئة، أو لأنها لم تمنعها عنها إذا كان في مقدورها ذلك. فالإنتحار معاقب عليه، ولكن إذا دفع إنسان بقسوته إنساناً آخر إلى اليأس من الحياة وبالتالي إلى إهلاك نفسه، فإنه يتحمل وزراً أشد منه.

رغم تباين صور العقاب إلى مدى غير محدود، فإن هناك طريقاً ينجم عن انحطاط الروح وتتشابه نتائجه بوجه عام. ذلك أن العقاب العاجل لأولئك الذين يتعلقون بالحياة المادية مهملين تقدمهم الروحي هو في بطء انفصال أرواحهم من أجسادهم أثناء الاحتضار، وفي بطء استيقاظ حواسهم في الحياة الأخرى، وهي لديهم فترة قد تطول أشهراً أو أعواماً. وعلى العكس من ذلك يكون الإنفصال سريعاً وبدون أي قلق، كما تكون اليقظة مطمئنة والإضطراب لا أثر له تقريباً، لمن كان نقي الضمير قد أعدّ نفسه لحياته الروحية أثناء حياته الأرضية، متحرراً من أغلال المادة وقيودها.

كثيراً ما يتوهم بعض الأرواح الدنيا أنه لا يزال على قيد الحياة الأرضية، وقد يمتد وهمه إلى سنين يعاني أثناءها كل احتياجات الحياة الأرضية، وآلامها ومتاعبها.

تكون صور الضحايا، وكذلك ظروف ارتكاب الجريمة، ماثلة بغير انقطاع في ذهن المجرم، وفي ذلك له عذاب أليم. تغمر بعض الأرواح ظلمة كثيفة، حيث يشعر بعضها بعزلة تامة في الأفق يعذبها جهلها التام بحالها ومصيرها. وأشدها إثما يشعر بآلام يضاعف من قسوتها أنه لا يرى نهاية لها. كما أن البعض منها محروم من أعزائه. والأرواح تقاسي من الآلام على قدر ما سببته لغيرها، إلى أن تخفف منها في النهاية توبتها ورغبتها في الإصلاح، فترى أن نهاية آلامها تتوقف عليها هي نفسها.

من تعذيب المتكبر أن يرى أن من كان يحتقرهم على سطح الأرض أصبحوا أعلى منه مكانة تحوطهم أسباب المجد والنعم، حين يرى أن مكانه في المؤخرة. ومن تعذيب المنافق أن يرى الضوء يكشف للناس أجمعين عن خبيئة صدره، وبذلك يقرأون أفكاره دون ما قدرة منه على إخفائها أو على إخفاء نفسه. ومن تعذيب الشهواني ألا يستطيع إشباعاً لشهواته. ومن تعذيب البخيل أن يرى ذهبه ينتزع منه ولا يستطيع له إمساكاً. ومن تعذيب الأناني أن يجد نفسه مهجوراً من الناس وحيداً، وأن يقاسي ما قاساه الآخرون منه. فكما أنه لم يفكر إلا في نفسه أثناء حياته الأرضية فإن أحداً لا يفكر فيه ولا يرثي لحاله بعد مماته.

الطريقة المثلى لتفادي آثار نقائصنا في الحياة المستقبلة أو تخفيفها هي في التخلص منها على قدر الإمكان في الحياة الحاضرة. هي في إصلاح أخطائنا حتى لا يكون علينا بعدئذ أن نصلحها بطريقة أشد قسوة علينا، لأننا بقدر ما نتأخر في إصلاح عيوبنا بقدر ما تكون العواقب أكثر سوءاً، وبقدر ما تكون الجهود لإصلاحها أشد عناء.

مركز الروح عند دخولها إلى عالم الروح يتوقف على ما أعدته لنفسها في حياتها الجسدية. وقد تعطى الروح فيما بعد حياة أخرى للتكفير ولإصلاح أخطائها عن طريق محن جديدة، وتستفيد الروح من ذلك بدرجة تتفاوت طبقاً لملكتها في التمييز، فإن لم تستفد من ذلك، فعليها أن تبدأ العمل من جديد في ظروف أشد قسوة، بحيث أن من يتألم أكثر من غيره على سطح الأرض يمكنه أن يقول لنفسه أنه كان عليه أن يكفـّر عن الكثير. أما أولئك الذين يتمتعون بنعيم زائف رغم مساوئهم وانعدام الجدوى منهم، فليكونوا على يقين من أنهم سيدفعون ثمن ذلك غالياً في حياتهم اللاحقة، وهذا هو المعنى الذي قصده السيد المسيح بقوله "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون."

إن رحمة الله – ولو أنها غير محدودة – إلا أنها ليست عمياء. فالمجرم لا يغتفر له ما لم يمحُ آثار جرمه، وإلا فليتحمل نتائجه، لكن رحمة الله غير المتناهية ينبغي أن يفهم منها أن الله غفور رحيم، وأنه يفتح بابه دائماً لمن يريد العودة إلى الصراط المستقيم.

العقوبات مؤقتة، ومتوقفة على التوبة والإصلاح، والتسوية رهينة بحرية الاختيار لدى الإنسان. وهي في نفس الوقت قصاص وبلسم شاف يساعد على التئام جروح المريض. فالأرواح التي تحت العقاب ليست كمحكوم عليهم بالسجن لمدة محدودة، إنما تعامل كمرضى يعانون في مستشفى مرضاً نجم في الأغلب عن خطئهم، كما يعانون من سبل العلاج العاجلة المؤلمة، لكن لديهم الأمل في الشفاء، وسيحصلون عليه سراعاً كلما كانوا أكثر اتباعا لتعليمات الطبيب الذي يسهر على راحتهم. أما إذا أطالوا آلامهم بأخطائهم فليس للطبيب من حيلة إزاءهم.

يضاف إلى الآلام التي قد تقاسيها الروح في حياتها الروحية آلام حياتها الأرضية التي هي نتائج نقصها وانقيادها لشهواتها، وسوء استخدامها لملكاتها للتكفير عن أخطائها الحاضرة والماضية. ففي الحياة الأرضية تصلح الروح شرور حيواتها السابقة، وتنفذ ما كانت قد اعتزمت عمله في حياتها الروحية. وعلى هذا النحو يفسر البؤس وصروف الدهر التي تبدو لأول وهلة بلا سبب مفهوم، مع أن مصدرها عادل كل العدالة ما دام هو سداد ديون ماضينا، وما دام أنها تخدمنا في ترقينا.

ربما سأل سائل: ألم يكن بمقدور الله تعالى أن يظهر محبة أعظم لمخلوقاته بخلقها معصومة من الخطأ منذ البداءة، وبالتالي معفاة مما تجلبه عليها نقائصها من تقلبات الحياة؟ إنه كان ينبغي تحقيقاً لهذا الغرض خلق كائنات ليست بحاجة لأن تكتسب شيئاً من المعرفة أو الفضيلة.. وبلا ريب كان في مقدوره تعالى ذلك، فإذا كان لم يفعل فلأنه بسامي حكمته أراد أن يجعل من التطور والإرتقاء قانوناً عاماً. وهذه حقيقة ينبغي أن نتقبلها لأنها موجودة فعلاً. وأما القول بأن الله غير رحيم ولا عادل فهو ينطوي على الثورة عليه. وإنما كان يتحقق الظلم لو أنه خلق كائنات مختلفة، وميّز بعضها على البعض الآخر، فأعطى بعضها – دون أي عمل - النعيم الذي قد يحصل عليه البعض الآخر بعد الكد والعناء، أو ذلك الذي لا يمكن أن يحصل عليه البعض الثالث مطلقاً.

لكن عدالته تبدو واضحة للعيان في المساواة المطلقة التي سادت خلق جميع الرواح، فكلها تبدأ من نفس نقطة البدء دون أن يكون لإحداها عند خلقها ملكات أكثر من غيرها، ودون أن يتيسر لبعضها سبيل الإرتقاء بطريق الإستثناء، ولا يتيسر ذلك للبعض الآخر. كلا وإنما يصل منها إلى الهدف من يجوز الطريق الوعر بنجاح متخطياً عثرات المحن، ومتحدياً دواعي الإنحطاط.

فإذا قبلنا ذلك فماذا يكون هناك أعدل من حرية الإختيار التي تركت لكل منا؟ إن طريق السعادة مفتوح أمام الجميع، والهدف واحد للجميع، والظروف للوصول إلى هذا الهدف واحدة لهم، والقانون المنقوش في ضمير البشر أعطي للجميع. فالله تعالى جعل من العمل ثمناً للسعادة كيما يكون لكل منا فضل اكتساب هذه السعادة. فكل منا حرّ في أن يعمل أو لا يعمل شيئاً في سبيل ترقيه. لكن من يعمل كثيراً وبسرعة يلاقي جزاء أوفى وأسرع. أما من يضل الطريق ويضيع وقته عبثاً فهو يعوق نفسه ولا يلومن إلا إياها. فالخير والشر إراديان واختياريان، لأن الإنسان حر لا يدفعه قدر محتوم إلى جانب مرسوم.

يمكن تلخيص قانون العقاب للحياة المستقبلة – رغم تعدد أنواع العقاب ودرجاته – في هذه المبادئ الثلاثة: الألم مرتبط بالنقص. إن كل نقص وما يستتبعه من خطيئة ينطوي بنتائجه الطبيعية المحتومة على عقابه الخاص به، كالمرض نتيجة الإفراط، أو كالملل نتيجة الكسل، دون ما حاجة لحكم يصدر بالإدانة ضد أي عمل أو ضد أي شخص كان. إن كل إنسان يمكنه أن يتخلص – عن طريق إرادته – من نقائصه موفراً على نفسه المتاعب، ومحققاً بذلك سعادته المستقبلة، إذ أن هذا هو في كلمة ناموس العدل الإلهي: إن لكل بحسب أعماله، كما في السماء كذلك على الأرض. والسلام عليكم.

المصدر: الإنسان روح لا جسد

إعداد بتصرف: محمود عباس مسعود