تجربتي مع الصخور

قد يبدو هذا العنوان طريفاً بالنسبة للذين يعيشون قرب الصخور أو ربما يشْكون من كثرتها في أرضهم، ولكن ليس بالنسبة لكاتب هذه السطور.

أذكر أنني قرأت منذ سنوات موضوعاً للأديب الكبير أمين الريحاني عن الصخور وكذلك موضوعاً للأستاذ ميخائيل نعيمة.

الحجارة على اختلافها والصخور كانت شيئاً مألوفاً بالنسبة لي أثناء إقامتي في قرية الرحى. فلم يكن من نقص في تلك الجلاميد التي كنا نراها أينما اتجهنا وحيثما جلسنا في الطبيعة، بل وكنا نصرف اليوم بطوله في تعزيل قطعة من الأرض فنجمع حجارتها على هيئة كومة نسميها الرُجمة. وتلك الرجوم كانت متوافرة بكثرة لا سيما في مكان قريب من القرية اسمه الوعر. أما حجارة وصخور الشمّيس والدَرَج والمعقرات وأبو صبح والمرقب والمُغر فحدث ولا حرج!

إذاً فقد نشأتُ على مشاهدة ومعايشة الصخور والحجارة على أنها أمر طبيعي موجود في كل مكان من أرض الله الواسعة. ولكن لدى سفري إلى كندا لاحظت أن الحجارة آنذاك كانت شبه مفقودة من مدينة وندزر، باستثناء حجر أو اثنين هنا وهناك أمام بيت من البيوت أو في حديقة من الحدائق.

ولدى انتقالي إلى ولاية ميشيغان الأمريكية لم يختلف الأمر من حيث طبيعة الأرض التي تكاد تكون خالية من الحجارة الطبيعية. وبالحجارة الطبيعية أعني الموجودة بين البيوت وأمامها دون أن تكون مجلوبة من مكان آخر. وقد اتضح لي فيما بعد أن الحجارة والصخور متوفرة لمن يريد شراءها. وهي تباع بالباوند أي نصف الكيلوغرام تقريباً. فهناك شركات متخصصة في جلبها بشاحنات كبيرة من شمال ميشيغان أو من إحدى ولايات الغرب الأمريكي الأوسط. وقد ابتعت بعضاً منها، إنما ظل قلبي يحن لامتلاك الكثير من تلك الصخور وكم تمنيت لو وجدتها في الطبيعة وجلبتها بنفسي إلى حديقة المنزل. وكم حلمت بأنني أتمشى وسط الحجارة ألمسها وأقلبها بيدي فأشعر بنشوة تغمرني حتى في الحلم.

منذ حوالي عقدين من الزمن تقريباً ذهبت إلى بحيرة ميشيغان التي تبعد بضعة مئات من الكيلومترات عن المدينة التي أعيش فيها فوجدت شاطئ البحيرة يزخر بأجمل ما شاهدته في حياتي من الصخور والحجارة المتاحة لمن يريد أن يتزود بها. وبالفعل كانت بالنسبة لي ساعة الرحمن. فكنت أمضي ساعات طويلة متمشيا بين تلك الصخور ذات الألوان والأشكال والأحجام البديعة. وكنت – دون مبالغة – كمن عثر على منجم من الجواهر.

لدى عودتي كنت أحمّل السيارة بتلك الجواهر الحجرية. وذات مرة كان الحمل زائداً لدرجة أن السيارة لم تتمكن من الإنطلاق بسهولة بحملها الثقيل مما اضطرني إلى التخلي عن بعض الحجارة على مضض. وقد كررت زياراتي إلى تلك البحيرة وتواصل جلب الحجارة إلى أن أصبحت حديقة المنزل شبيهة بمتحف حجري يضم الكثير من الحجارة الفريدة. إذ لكل حجر لونه وشكله بل وشخصيته المميزة.

جدير بالذكر أن بعض تلك الحجارة كنت أحمله على كتفي لمسافة كيلومترين أو أكثر بالرغم من وزنه الثقيل المرهق!

الصخور بالنسبة لي تعني الثبات والرسوخ وعدم التغير على مر السنين والعصور وربما الدهور. فعندما عرضت حجراً على أحد علماء الفيزياء الطبيعية وسألته أن يقيّم عمره قال لي بعد أن تفحصه جيداً: لا يقل عن أربعة ملايين سنة. وهذا بالنسبة لي هو تاريخ طبيعي. فذلك الحجر وغيره الكثير – سواء هنا في هذه البلاد أو في أي بلد آخر – قد عاصر مراحل عديدة من تاريخ الطبيعة والإنسانية ومع ذلك بقي محتفظاً بشكله وتماسك جزيئاته. وربما ظل لمئات أو آلاف السنين مغموراً بماء البحيرات أو الأنهار دون أن يخترقه الماء لشدة صلابته وتماسكه العجيب.

أجل الحجارة أو الصخور بالنسبة لي هي من أجمل مظاهر الطبيعة وأكثرها ثباتاً. بل ولعلها الشيء الوحيد الذي ما زال على حاله منذ العصور السحيقة. ولو كانت سطوحها قد سجلت كل الأحداث التي حصلت قربها في الأيام الخوالي وتمكن العلم يوماً من نبش تلك الصور لرأينا الأعاجيب. ولو استطعنا استنطاقها لمعرفة أسرارها وخفايا الدهور لكانت لها حكايات لا تنتهي طوال عمر الإنسان.

الصخور والحجارة التي في حديقة المنزل يغطيها الثلج في فصل الشتاء وما أن يأخذ في الذوبان في فصل الربيع حتى تطل من جديد فيفرح قلبي بمرآها وربما التحدث إليها بلغتها الصامتة صمت الحجارة! وعندما أسقي الورود والرياحين في فصل الصيف أرش الحجارة أيضا بالماء فتزهو ألوانها وتصبح بهجة للنظر.

تلك هي قصتي مع الصخور التي ابتدأت مع محبتي لصخور الجبل.. تلك المحبة التي ترسخت في تربة الوعي وما زالت وستبقى ما دام في القلب نبض وفي العروق دم يجري.

محمود عباس مسعود