طاغــــــــــــــــــــور يفصح

الترجمة: محمود عباس مسعود

لقد صغتني لا متناهياً.. بلا حدود

وفي ذلك مسرّتك.

وهذا الوعاء وعائي

تفرغه المرة تلو الأخرى

وتملؤه دوماً

بحياة عذبة جديدة.

وشبّابة القصب النحيلة هذه

التي تحملها فوق الهضاب والوديان

تنفخ فيها دوماً ألحاناً

متجددة طوال الأبد.

وباللمسة الخالدة ليديك

يفقد قلبي الصغير حدوده..

يذوب في الفرح..

ويهمس بعباراتٍ تعصى على الوصف.

عطاياك اللامتناهية تأتيني

فأتقبلها بكفيَّ الصغيرين.

وتمر العصور وتتوالى الدهور

وتتواصِل عطاياك

ويتواصل تقبّلي لها.

عندما تأمرني بالغناء

يكاد قلبي يتفجّر من شدة الفخر؛

وإذ أنظر إلى وجهك

تترقرق الدموع في عينيّ.

وكل ما في حياتي من خشونة ونشاز

يذوب في لحن عذب واحد

فيبسط ُ هيامي جناحيه كطائر تملؤه البهجة

لانطلاقه عبر البحر الفسيح.

إنني أعلمُ بأنك ترتاح لغنائي.

وأعلمُ بأنني لا أقف في حضرتك

إلا بصفتي منشداً.

وبطرف الجناح المنفرد لأغنيتي

ألمس قدميك اللتين لا يمكنني (بخلاف ذلك)

أن أطمح أبداً في الوصول إليهما.

وإذ أنتشي بفرح الغناء

أنسى نفسي فأدعوك صديقي

يا من أنت سيدي!

لا أعرف كيف تنشد يا سيدي!

لكنني أصغي لكَ دائماً وأبداً بانذهال واندهاش.

نور موسيقاك يضيء العالم.

وأنفاسُ الحياة في أنغامك

تمتد من سماء إلى سماء.

والجدول المقدس لألحانك يخترق العوائق الصخرية

ويواصل جريانه بقوة متعاظمة.

لكم يتوق قلبي لمشاركتك الغناء!

لكن بالكاد أعثر على صوتي.

أود أن أنطق لكن الكلام لا يترجم ذاته إلى غناء

فأصرخ إذ أحتار ويصيبني الإحباط.

آهٍ.. لقد أسرتَ قلبيَّ يا سيدي

في شبكة ألحانك التي لا حد لها ولا انتهاء.

أيا حياة حياتي..

سأحاول دوماً الإحتفاظ بجسمي نظيفاً مطهراً

لعلمي أن كل جوارحي قد باركتها لمستك الحية.

وسأحاول دوماً طردَ الزور والإفك من أفكاري

مدركاً أنك أنت الحقيقة التي تشعل نور البصيرة في عقلي.

وسأبذل دوماً غاية جهدي لطرد كل الشرور من قلبي

ولإبقاء محبتي ناضرة

لعلمي أن لكَ مكاناً في أقدس ركن من هيكل قلبي.

وسأحاول دوماً إظهارك في أفعالي،

مدركاً أن قوّتك هي التي تمدني

بالقدرة على العمل.

ألتمس منك السماح لي بالجلوس للحظة بجانبك وسأنهي العمل الذي بين يدي فيما بعد.

عندما لا أرى وجهك لا ينعم قلبي بالهدوء ولا يعرف طعم السكينة، ويصبح عملي عبئاً في بحر لا ساحل له من المشقة والجهد المضني.

في هذا اليوم أتى الصيف إلى نافذتي مع تنهداته ووشواشته وراح النحل يحوم ويطن في روضتي المزهرة.

لقد حان الوقت كي أجلس معك بهدوء، وجهاً لوجه، منشداً احتفائي بالحياة في هذا السكون البهيج النابض بغبطة الوجود.

هيا اقتطف هذه الزهرة وخذها دون إبطاء! فإني أخشى على أوراقها من الذبول والتساقط على الأرض.

قد لا تجد لها مكاناً في باقتك، ولكن أكرمها بلمسة من يدك واقتطفها. لأنني أخاف أن ينقضي اليوم على غفلة مني وتفوتني لحظة تقديم هديتي لك.

ومع أن عطرها باهت ولونها غير ناضر، مع ذلك اقتطفها ما دام فيها رمق وفي الوقت فسحة.

لقد نزعتْ أنشودتي عنها حليها وحللها فلا تباهي بثيابها الفاخرة وزينتها المزركشة. فالزخارف تفسد لقاءنا وتدخل ما بينك وبيني. وطنينها يطغى على همسك الخفيض فلا يمكنني سماع صوتك.

إن كبريائي كشاعر ليموت خجلاً عندما أقف في حضرتك. ها أنا أجلس عند قدميك يا سيد الشعراء. أناشدك بأن تساعدني كي أجعل حياتي بسيطة ومستقيمة كشبابة القصب لعلك تنفخ فيها وتملأها بأنغامك العذبة.

الطفل الذي تلبسه أمه أفخر الثياب وتعلق في رقبته قلائد مرصعة بالجواهر يفقد متعة اللعب ويعيق ثوبه النفيس سيره عند كل خطوة.

وخوفاً على ثوبه من التمزق أو التلطخ بالوحل أو الغبار ينأى بنفسه عن العالم ويخشى حتى من التحرّك.

أيتها الأم، لا حاجة لهذه القيود تكبلين بها طفلك. لا سيما أنها تبقيه بعيداً عن التربة الطيبة وتحرمه من حق المشاركة في مهرجان الحياة البشرية العادية.

أتظن أيها الأحمق أن بإمكانك أن تحمل نفسك فوق كتفيك؟

أتقرع أيها الشحاذ بابك وتستجدي الصدقات من بيتك؟

دع أحمالك بين يديّ القادر على كل الأثقال ولا تتحسر على شيء.

إن الأنفاس غير المقدسة لرغباتك لتطفئ على الفور نور المصباح الذي تلامسه. لا تقبل هبات ملطخة بأيدي الشهوات غير النظيفة. بل تقبّل فقط الهبات المباركة التي يجود بها الحب المقدس.

في هذه البقعة تخطر قدماك حيث يعيش المعدمون والمنبوذون والضائعون.

عندما أحاول الإنحناء أمامك يعجز سجودي عن بلوغ الأعماق التي تستقر فيها أقدامك بين المعدمين والمنبوذين والضائعين.

الكبرياء لا تقدر على الإقتراب من دروبك حيث تخطر بثيابك المتواضعة بين المعدمين والمنبوذين والضائعين.

ولا يستطيع قلبي العثور على مكانك حيث تمكث مع من لا صاحب له ولا صديق.. وسط المعدمين والمنبوذين والضائعين.

دعك من هذا الغناء والإنشاد ومن عد حبات المسبحة!

لمن تتعبد في هذه الزاوية الموحشة المظلمة في معبد موصد الأبواب؟

افتح عينيك ولن تبصر الله أمامك!

لأنه هناك حيث الفلاحون يشقون الأرض الصلبة بمحاريثهم..

وحيث العمال يقطعون الحجارة لتمهيد الطرقات.

إنه معهم في أشعة الشمس الساطعة والمطر المنهمر.

اخلع عباءتك المقدسة وانزل إلى ميدان العمل حيث الأرض الطيبة والتربة المباركة.

تعالَ من تأملاتك ودع الورود والبخور جانباً!

وماذا لو اتسخت ثيابك وتمزقت؟

تعالَ وقابل الله وأنت تعمل والعرق يتصبب من جبينك.

رحلتي ستستغرق وقتاً طويلاً..

والطريق الذي سأسلكه طويل وبعيد.

لقد أتيت ممتطياً أول إشعاعات الفجر،

وانطلقت في حال سبيلي عبر العوالم الموحشة

مخلفاً آثاري على العديد من الكواكب والنجوم.

المسافر سيقرع كل باب غريب

حتى يصل أخيراً إلى بابه.

والمتلمس سيضطر للترحال والتجوال في العوالم الخارجية

حتى يصل أخيراً إلى صميم ذاته ومَقدس روحه.

لقد شردت عيناي بعيدا قبل أن أطبقهما وأقول "إنك حقاً هنا!"

آه.. كم من مرة تساءلت بحرقة "أين أنت؟"

لكن ذلك التساؤل ذاب في فيض الدموع المنهمرة كالسواقي الغزيرة

وتحول إلى جواب يقيني أكيد.. "ها أنا ذا!"

الأغنية التي أتيت لأنشدها ما زالت خرساء في قلبي حتى هذه اللحظة.

لقد صرفتُ أيامي في دوزنة وحلحلة أوتار عودي.

فالوقت لم يكن ملائماً

والكلمات لم تكن لائقة

ولم يبق في قلبي سوى حرقة الأمل!

الوردة لم تتفتح

ولا من صوت سوى تنهيدة الريح.

لم أرَ وجهه ولم أسمع صوته..

فقط سمعت وقع أقدامه خافتاً وآتياً من الدرب الذي أمام بيتي.

مر النهار بطوله وأنا منهمك في مد فراشه على الأرض

لكنني أغفلت إشعال المصباح

ولذلك لا يمكنني أن أدعوه لزيارة بيتي.

ومع ذلك أعيش على أمل لقائه..

لكن ذلك اللقاء لم يحن بعد!

(وعندما يحين سأنشد بكل شوق ووجد: لقياك حبيبي مسك الختام)

يوماً بيوم تؤهلني لاستحقاق الهبات البسيطة والعظيمة

التي جدت بها عليّ دون أن أسألك.

فالسماء والنور والجسم والحياة والعقل.. كلها وهبتها لي

لكي تجنبني مخاطر الشهوات الكثيرة التي لا ترتوي ولا تقف عند حد.

أحياناً أتسكع على الدرب

وأحياناً أصحو من غفلتي وأسارع في البحث عن غايتي

ولكن يا حسرتي.. تحجب ذاتك عني..

ومع ذلك فإنك تؤهلني يوما بيوم لكي أكون مقبولاً لديك ومقرباً منك..

إنني هنا لأصدح بأناشيدي لكَ.

ولي مكان متواضع في إحدى زوايا ردهتك الرحبة.

ما من عمل لي في عالمك سوى الإنشاد والتغني بكل ما يخطر على بالي.

وعندما يحين موعد العبادة الصامتة في معبد منتصف الليل المظلم

اطلب مني يا سيدي كي أقف في حضرتك وأشدو ألحاني.

وعندما أدوزن قيثاري الذهبي مع نسمات الصباح الباكرة

أكرمني بدعوتك لي كي أنشد في حضرتك.

لقد دُعيت إلى مهرجان هذا العالم

فتباركت حياتي.

إذ قد أبصرت عيناي

وسمعت أذناي.

وكان دوري أن أعزف على قيثارتي في هذا المهرجان

فبذلت ما بوسعي وعزفت ألحاني.

والآن، هل آن الأوان كي أدنو منك

لأبصر وجهك وأقدم لك تحيتي الصامتة؟

السحاب يتراكم فوق بعضه أكداساً فتزداد الظلمة قتامة.

واحسرتاه! لماذا تركتني يا حبيبي أنتظر لوحدي خارجاً عند الباب؟

في زحمة الظهيرة أجد نفسي بين الجموع

ولكن في هذا اليوم الموحش المربد لا أتشوق لشيء سواك.

فإن لم تكشف لي عن وجهك..

وإن تركتني لوحدي خارجاً..

فلست أدري كيف سأمضي هذه الساعات الطويلة الممطرة.

ومع ذلك لا أنفك محدقاً في الأفق المعتم البعيد،

بقلب محتار يتأوه ويئن مع الريح المضطربة.

إن لم تخاطبني فسأملأ قلبي بصمتك.

سأبقى ساكناً ساكتاً كالليل بنجومه الساهرة

وبرأسه المنحني بصبر وأناة.

لا بد من أن الفجر سيبزغ وستتلاشى العتمة

وسينسكب صوتك شآبيبَ ذهبية منحدراً عبر طيات السماء.

عندها سترتفع كلماتك على أجنحة طيور ألحاني

وستنبثق أنغامك من ورود رياضي ورياحين بساتيني.

في اليوم الذي أينعت فيه زهور اللوتس

للأسف كان فكري شارداً دون أن أعرف ذلك.

فظلت سلتي فارغة من الزهور.

بين الحين والآخر غلفتني سحابة من الحزن

فنهضت من حلمي وشممت عبيراً غريباً

قادماً مع ريح الجنوب.

ذلك الأريج العذب حرك في قلبي حرقة الحنين

فشعرت أن ذلك كان نـَفـَس الربيع الهائم المتضوع.

لم أعرف آنئذ أن ذلك الأريج كان لي وكان قريباً كل القرب مني

وأن تلك العذوبة المتناهية قد تفتحت في أعمق أعماق قلبي.

يجب أن أبحر قاربي.

فقد مرت الساعات الوالهة وأنا ما زلت على الشاطئ

فيا حسرتي!

لقد أزهر الربيع وأورق،

والآن ها أنا أنتظر بحزن مع الزهور الذاوية الذابلة.

لقد ازداد صخب الموج

وعلى الضفة، في الدرب الذي تظلله الأشجار،

تتراقص الأوراق الصفراء وتتهاوى.

في أي فراغ تحدّق؟!

ألا تحس برعشة تسري في الهواء

على وقع أنغام الأغنية البعيدة

المنسابة من الشاطئ الآخر؟

في أعماق الظل حيث المطر المنهمر

تخطو خطواً غامضاً وصامتاً كالليل

فتعجز الأبصار عن معاينتك.

اليوم أغمض الصباح عينيه

متجاهلا ضوضاء الريح الشرقية الصاخبة،

وانسدل حجاب سميك على وجه السماء الزرقاء.

لقد هجعت أصوات الغابة

وأغلقت أبواب كل البيوت.

أنت العابر الوحيد في هذا الشارع المقفر.

فيا صديقي الأوحد.. ويا حبيبي الأقرب..

إن أبواب بيتي مشرعة

فلا تمر مرور الحلم (دون أن تجبر بخاطري)

(شرّفني زيارة وغيّر العادة... قلبي من جوّا فاتح لك بابه!)