أهون عليك - محمد عبد الوهاب

أهون عليك.wmv

أهون عليك

مونولوج - مقام كورد 1928

كلمات يونس القاضي

ألحان محمد عبد الوهاب

أهون عليك - تحليل موسيقي د.أسامة عفيفي

كان عهدى عهدك فى الهوى، يا نعيش سوا يا نموت سوا، لحن عبد الوهاب هذا المونولوج الغنائى فى منافسة مع أم كلثوم التى حققت نجاحا مع أول مونولوج لها من تلحين أستاذه محمد القصبجى، إن كنت أسامح، من كلمات أحمد رامى، وكان على عبد الوهاب ليعتلى القمة أن ينافس الاثنين معا، الملحن والمطربة. وسنعرض هنا تحليل هذا اللحن مع بيان خصائصه بترتيب أهميتها:

الفالس الراقص

عبد الوهاب هنا يمعن فى استخدام الفالس، ولكنه الفالس الراقص هذه المرة، فى الأبيات التى تبدأ بجملة كان عهدى عهدك فى الهوى، وقد زينها برد بصوت الناى بطريقة الفلوت الغربى وليس كما عهدناه فى جمل خاصة به، هذه الجملة لا تزال تحوز إعجاب أى مستمع فى الشرق للآن

والفالس الراقص هنا ليس بدعة من عند عبد الوهاب فنحن نسمع نفس القالب فى صياغة شبيهة بموشح من لحن كامل الخلعى على نفس المقام "العجم" يقول فى هوى حاوى البها ضاع مالى والنهى، والموشح كله على نفس الإيقاع. وكامل من أفذاذ الموسيقى الشرقية الذين سبقوا عبد الوهاب، كما أن الإيقاع الثلاثى موجود فى تراث الموشحات باسم "دارج" وتتفاوت سرعته بين 3/4 و 3/8 ولا شك أن أصداء ذلك الموشح وغيره قد علقت بذهن عبد الوهاب

ولتلك الجملة اللحنية قصة ، فقد سئل عبد الوهاب ذات مرة عما إذا كان قد وضع أيا من ألحانه قبل أن تكتب شعرا، أو بعبارة أخرى هل سبق له تركيب كلام على موسيقى سبق أن وضعها؟ّ! كانت إجابته بنعم ، وذكر هذا المقطع من أهون عليك تحديدا كمثال مع أمثلة أخرى لا تخطر على بال أحد لأنها من روائع أعماله ربما يأتى الحديث عن بعضها لاحقا. لقد دهشت عندما استمعت إلى عبد الوهاب وهو يعترف بذلك، ليس فقط  يعترف بل إنه لا يرى أى عيب فى هذا، ما دامت النتيجة توافق وانسجام بين اللحن والكلمة، وقد نعتبر أن هذا الأسلوب لا يتماشى مع المدرسة التعبيرية التى بدأها سيد درويش، فهل هى خطوة للأمام أم للخلف؟

هى خطوة فى عكس الاتجاه بلا شك، حيث أن هذا الأسلوب متبع منذ عصر الموشحات الأندلسية، والقدود الحلبية ملأى بهذا النوع من التلحين، وكان يشترط له التوافق التام بين اللحن والألفاظ من ناحية موسيقاها الداخلية أو الإيقاع الشعرى، ولكن هناك فرق ابتدعه محمد عبد الوهاب ، فهو قد أضاف شرطين آخرين:

والجديد هنا هو ظهور جانب آخر من جوانب فن عبد الوهاب وهو أنه موسيقى بالإضافة إلى أنه ملحن ومطرب. إن هناك موسيقى تعلق بذهنه يراها تستحق الإخراج للوجود لكنه لا يجد لها قالبا مناسبا، فهى جمل صغيرة لا ترقى إلى درجة تكوين مقطوعة موسيقية، لكنها تحمل قيمة فنية وجمالية عالية بحيث يمكن استثمارها فى لحن ما، وهو هنا يرى الموسيقى ويسمعها ويحسها دون كلام ودون تلحين

بدأ هذا فى مرحلة مبكرة من فن عبد الوهاب، لكنه سيقودنا بعد ذلك إلى عبد الوهاب المؤلف الموسيقى الذى سيضع الموسيقى البحتة بشكل جديد فى تاريخ الموسيقى العربية، وهى من إضافات عبد الوهاب الكبيرة

استخدام آلة جديدة

آلة التشيلو الرخيمة، وهى آلة غربية جديدة يستخدمها عبد الوهاب ، ترد فى انفراد على جملة "وانا أبات ليالى باكى" ، كان هذا تجديدا جميلا حيث لم يكن من المألوف سماع أى آلة أخرى تعزف على انفراد غير آلات التخت الشرقى التقليدية

القفـز النغمى والانتقال المقامى

فى جملة يشوف حالى فى البيت الرابع تتكرر كلمة حالى بعدة أشكال تتميز بالقفز النغمى غير الاعتيادى، فيقفز اللحن ست درجات مرتين بادئا فى الأولى من الفا إلى الرى بيمول و فى الثانية من المى بيمول إلى السى بيمول. وهو لا يكتفى بالقفز بل يجمع بين القفز والتغيير المفاجئ فى المقام من الماجير إلى المينير على نفس الدرجة التى ينتقل إليها وربما أراد بذلك التعبير عن الحيرة التى لازمت الكلمات لثلاثة أبيات ثم لخصت فى كلمة حالى!

ومما يؤكد أن التعبير عن الحيرة كان فى ذهن عبد الوهاب منذ بداية اللحن عزوفه عن الرسو على أي مقام وتنقله من البداية بين الكورد والنهاوند والعجم والصبا، وهو يدخل ويخرج من المقامات دون نهاية مؤكدة رغم انتهاء النغمات بما يشبه القفلة قبل أن يقرر الركوز أخيرا على الكورد مشيرا إلى أن ذلك مقصده النهائى، ثم يقف فى البيت التالى على مقام ماجير ولكن فى درجة مي هذه المرة ممهدا لغناء المقطع الأخير من مقام مى بيمول ماجير، وهنا نجد أنه أنهى لحنه بمقام غير الذى بدأه به 

وقد كان من سمات ألحان عبد الوهاب بعد ذلك التنقل كثيرا بين المقامات لكنه عمد إلى الانتهاء بمقام مختلف فى لحن وردة الحب الصافى على سبيل المثال الذى بدأه بمقام المينير وأنهاه ببياتى الخامسة، والنهاية هنا على اشتقاق منطقى، لكنه بعد سنوات أنهى لحن فكرونى لأم كلثوم على مقام الكورد على نفس درجة النهاوند الذي بدأ به

وقد خرجت أصوات موسيقية ناقدة فى ذلك الوقت تقول إن عبد الوهاب قد خالف العرف والأصول، ولم يكترث هو لهذه الأقوال كثيرا فقد فات أصحابها أنه فعلها قبلها بعقود ولم ينتقده أحد. ويظهر من دراستنا هذه أن عبد الوهاب يبدو كما لو كان قد تورط فى هذا ولم يتعمده من قبيل التجديد، وقد وضع اللحن قبل الكلمات للمقطع الفالس الأخير لم يكن بوسعه غناؤه لا من مقام العجم حيث سيضطر لغناء المقطع كله فى الطبقة المنخفضة، ولا من مقام الفا ماجير وهو التالى فى الاختيارات الأقرب بعد سى بيمول ماجير أى ماجير على خامسته لأنه بذلك يضطر إلى الغناء فى جواب الفا وهى درجة عالية لا تتيح التحكم الكامل فى الصوت. وهو قد اختار ماجير الرابعة مع صعوبة اشتقاقه ليناسب صوته، ولهذا نجده قد تفنن فى تغيير النغمات بطريقة غير مطربة ولا تتماشى مع كم الطرب فى هذا اللحن حتى يصل فى النهاية إلى مفتاح المى بيمول وينهى غناءه فى جوابه

لكن هناك مفارقة غريبة، هل أراد عبد الوهاب إثبات أن تلحين المونولوج يختلف عن تلحين الطقاطيق من حيث عدم عودته من حيث بدأ؟  إن هذا الاتجاه فى الحقيقة اتجاه منطقى حيث أن المونولوج ليس به رجوع إلى البداية

تطويع الأبيات للصياغة اللحنية

فى البيت "رضيت أنا بما ترضاه يا روحى"، وموقعه فى وسط الأغنية تماما، يعود اللحن على نفس أنغام البيت الأول بالتمام، مكونا بذلك ما يشبه المذهب وقد مهد له بلازمة موسيقية قصيرة، أى أنه يعيد تكرار الاستهلال. وهذا غريب على التعامل مع المونولوج الذى ليس له مذهب أو مطلع يتكرر كما فى الطقطوقة أو الأغانى الشائعة. وربما أراد عبد الوهاب بهذا ربط المستمع بما كان يقوله سابقا فى أول الغناء، لكن اللحن اختلف بعد ذلك إلى النهاية

هناك ملاحظة أيضا تدل على ذكاء عبد الوهاب والتقاطه موسيقى الكلمات بأذن الملحن الواعى، ففى البيت الأول أهون عليك تزيد نارى ولسانى يشكيلك لم ترحم حالى ، يحول عبد الوهاب الكلمات " لك لم  ترحم" وهى على سجع إلى كلمات على وزن فيقابل المقطع لك / لم بالمقطع تر/ حم وواضح هنا إدخاله موسيقى إضافية للألفاظ تجعل وقعها على الأذن أجمل وأكمل بصرف النظر عن لحنها ، لكنه أضاف فى لحنها أيضا أربع حركات متكافئة متتالية فى نزول متدرج أوضح الوقع الذى أراده

التعليق النغمى الطويل

علق عبد الوهاب بداية الغناء على نغمة واحدة ممتدة لنصف البيت الأول، وكرر نفس الجملة فى وسط المونولوج، وهو أسلوب غير محبذ فى التلحين لكن بالاستماع إلى لحن البيت التالى نتبين أن البيتين يكونان وحدة لحنية واحدة من جزئين ، وأغلب الظن أن الموسيقى كانت فى ذهنه قبل الكلمات  

الاستغراق فى الإرسال

لم يستعمل الإيقاع فى هذا المونولوج إلى حتى قرب نهايته فى مقطع الفالس الشهير، وهو فى ذلك يتشابه مع فى الليل لما خلى فى تغليب الإرسال على التوقيع عدا أن الإيقاع فى الأخيرة كان فى الوسط

الكروماتيك مرة أخرى

هناك ما هو أخطر من الفالس  إن الكروماتيك هنا ليس زخرفا، إنه يتعمد الغناء على السلم الملون من أول السلم لنهايته بفارق نصف درجة بين كل نغمة وأخرى، أى على البيانو مفتاح أبيض يعقبه مفتاح أسود ثم أبيض ثم أسود وهكذا. هذا ليس من الموسيقى العربية فى شئ، إنه دم جديد يدخل على الألحان العربية. هل يتقبله الجمهور؟ لا أحد يدرى، عبد الوهاب خائف يترقب، والجمهور لا يرحم، لكن التجربة تنجح، والجمهور الذى قيل عنه أنه يسقط فى بعض الأحيان ينجح هو الآخر فى استيعاب الجديد القادم من الغرب، ويصعد مطربنا من قمة الغناء إلى قمة الموسيقى .. 

قرب النهاية، ومع بداية الجملة "ليه روحي تهون" نسمع سلم الكروماتيك الصاعد في صوت عبد الوهاب في امتداد كلمة "تهون" يصاحبه سلم موسيقي كروماتيك هابط، أي سلمين في اتجاهين متعاكسين. هذا النوع من الهارموني ليس شائع الاستخدام وليس سهل التذوق والاستيعاب، وهو في نطاق التعبير قد يعبر عن تحطم وتكسر شيء ما .. فهو لا يكوّن ميلودي ذات قيمة لحنية غنائية، ولا يعبر عن تصاعد فقط ولا عن تهابط فقط، واجتماع الأضداد بهذا الشكل لا ينبيء إلا بالحيرة والاضطراب. كرر عبد الوهاب غناء الجملة مرتين لكنه في المرة الأخيرة جعل السلم تصاعديا فقط. وربما أراد من هذا تأكيد الاستنكار في السؤال "ليه" مقارنة بتأكيد الانكسار في "روحي تهون" في المرة الأولى 

أهون عليك تزيد ناري      ولسانى يشكيلك لم ترحم شاكي

وليه بلحاظك تضحيني                    وانا أبات ليالي باكي

أرى النجوم أناجيها من وجدي      وان لاح البدر يواسيني

يشوف حالي ينظر إلى حسنك    تشوف خيال حبيبي عيني

رضيت أنا بما ترضاه يا روحي    بس اتعطف وانظر عاني

أخاف تبعت لي طيف خيالك          يروح ولا يجنيش تاني

كان عهدي عهدك في الهوى  يا نعيش سوا يا نموت سوا

أحلام وطارت في الهوا          تركت مريض من غير دوا

ليه طول الجفا     ليه ضاع الوفا  

ليه زاد الأسى   ليه روحي تهون