ضيعت مستقبل حياتي - سيد درويش

ضيعت مستقبل حياتي.wmv

دور ضيعت مستقبل حياتي - مقام شـوري (قارجغار)

ضيعت مستقبل حياتي في هواك                    وازداد عليّ اللوم وكتر البغددة

حتى العوازل قصدهم دايما جفاك               وانا ضعيف ما اقدرش احمل كل ده

ان كان جفاك يرضي علاك وانا في حماك أصل الحبيب ما يكونش أحسن من كده

علمتني يا نور عيوني الامتثال            واحتار دليلي بين تيهك والجوى

كنت افتكر حبك يزودني كمال            خيبت ظني والهوى ما جاش سوا

تبقى سبب كل التعب ونسيت مغرمك      ده اللي انكتب فوق الجبين مالوش دوا

دور ضيعت مستقبل حياتي - سيد درويش - تحليل موسيقي: د.أسامة عفيفي

استعراض المقام

مقام الشوري مقام شائع الاستخدام في الموسيقى العربية وهو فرع من مقام البياتي الأكثر شيوعا، ولكن غالبا كتنويع جذاب على البياتي خاصة قبل الختام، بينما استخدامه كمقام أساسي يظل نادرا

ومقام الشوري يوحي بشدة التأثر في مقطعه الحجازي بينما يعطي انطباعا تقريريا في مقطعه البياتي، والاثنان معا يؤلفان مادة جيدة للإيحاء بالقبول بالواقع رغم قسوته

يبدأ سلم المقام من الأساس وهو الدرجة الثانية أي الدوكاه (ري) صعودا لنهاية السلم في جواب الدرجة أي الثامنة ويتألف من جنسين رباعيين يتكون كل منهما من 4 نغمات وهما البياتي على أساس المقام والحجاز على رابعته (صول) المسماة بالنوا في الموسيقى الشرقية ، ولما كان سلم الحجاز الأصلي يرتكز على درجة الدوكاه (ري) فقد سمي هذا الجنس بحجاز النوا، أى مقطع يحتفظ بأبعاد نغمة الحجاز مرتكزا على درجة النوا، ويقسم الجنسان نغمات السلم السبع بينما يشتركان في النوا كنهاية للأول وبداية للثاني

اشتقاق مقام الشوري من البياتي

تحليل مقام الشوري

في البيانين الأول والثاني طريقة كتابة سلم المقام كما درجت عليه كتابة النوتة الموسيقية الشرقية في كثير من المراجع، وهي طريقة سهلة لتوضيح السلم لكنها لا تتوافق مع الأسلوب العالمي. والطريقة الأكاديمية الصحيحة لكتابة المقام هي نسبته أولا إلى سلم أكاديمي معروف ثم إجراء التغييرات اللازمة في مجرى النص الموسيقي وليس في المفتاح الأساسي، أي نسبة المقام إلى أقرب سلم ماجير أو مينير له ثم إضافة العلامات الإضافية كلما لزم. في البيان الثالث طريقة اشتقاق مقام الشوري من المقام الأصلي (البياتي)

استعراض اللحن

وقد اختار سيد درويش هذا المقام لهذه الإيحاءات التعبيرية، ولا يغيب عن الذهن أن هدفه الأول في الموسيقى والتلحين كان التعبير، ولا شك أنه قد وفق في ذلك الاختيار فإن كلمات النص مليئة بالشكوى. ومن أعاجيب هذا اللحن أنه أصبح أول وأكبر إشارة إلى المقام، فإذا سألت موسيقيا عما إذا كان يعرف لحنا على سبيل المثال من مقام الشوري تجده يجيبك فورا "ضيعت مستقبل حياتي لسيد درويش" !

المقـــدمة

مقدمة الدور الموسيقية مختصرة كما في كل ألحان سيد درويش، ومع ذلك فهي تضم كل عناصر المقام وتظهر مكوناته جيدا، وهي تتكون من جزءين:

يبدأ الجزء الأول بحركتين الأولى تبدأ أعلى السلم بالجواب في تنازل سريع على حجاز النوا والثانية تبدأ من وسط السلم أي النوا مارة بالدرجات السفلى لتنتهي على الأساس، وبهما يتم استعراض المقام في ثوان، وبالتحديد في 4 ثوان نكون قد علمنا طريق اللحن ولونه ومقامه ونغماته

وكعادة سيد درويش في التأليف الموسيقي يؤلف هاتين الحركتين في صيغة تحاور رغم أن حركتهما الظاهرية تتابع سلّمي، تتكون كل حركة من جملتين نستطيع تتبع تحاور أصغر بينهما، فإذا نظرنا إلى الصورة الكلية أمكننا اكتشاف علاقات توازي وتقابل بين الحركات والجمل تعمل كلها لتوظيف بناء درامي كامل في المقطع الأول من المقدمة وهي تلخص اللحن كله

المقطع الثاني من المقدمة يتكون من حركتين أيضا، الأولى ما يسمى في الموسيقى بتصفية المقام أي توجيه اللحن نحو الركوز على الأساس لتركيز النغمة، والثانية هي تمهيد للتفصيل القادم في بداية الغناء، فبداية النص صارخة بكارثة حلت بصاحبها ولا يناسبها البدايات الاستهلالية المتأنية على بداية سلم المقام، والملحن يريد التعبير عن الصرخة ولن يعبر عن ذلك بصوت خفيض بل بأعلى صوت ممكن قائلا ضيعت مستقبل حياتي،  ولذا يتصاعد بالتمهيد الموسيقي حتى قمة السلم ليطلق صيحته من أعلى مكان!

المذهـــب

البنـــاء اللحني

يبدأ الغناء من بإطلاق الصيحة الأولى من جواب السلم بجملة ضيعت مستقبل حياتي تنحدر في تتابع قصير على حجاز النوا الحزين يتبعه وقفة قصيرة على ثالثة المقام، وتؤكد الوقفة برد موسيقي سريع، ثم يمتد اللحن بكلمة في هواك عند امتدادها اللفظى الطبيعي أي مع مد الألف ويشير هنا إشارة سريعة في درجة واحدة ولمرة واحدة إلى المقام الأصلي (البياتي) المشتق منه مقام اللحن بالصعود إلى الخامسة الطبيعية كما في البياتي بدلا من خامسة الشورى الناقصة، ويعبر عن تلك الإشارة موسيقيا بفتح الدرجة

ليس من المعتاد عند التلحين من مقام الشوري الوقوف على ثالثة المقام فضلا عن تأكيده لأنها ليست من درجاته الأساسية، فهو مكون من جنسين رباعيين الدرجة الرابعة هي الواسط بينهما وهي التى ينبغي عندها الوقوف بجملة ما صاعدة أو هابطة، فلماذا اختار سيد درويش التوقف هنا وتأكيده؟ الواقع أنه ينظر إلى الحركة التالية فهو يريد أن يلمس المقام الأصلي ( البياتي) الأكثر استقرارا من الشوري لتقوية ختام الجملة، وهو سوف يفعل هذا في الحركة التالية، فمهد لذلك تمهيدا خفيا بالوقوف على الثالثة التي هي من درجات البياتي الأساسية حيث أن للبياتي جنس ثلاثي خفي هو الجهاركاه الذي يستقر على ثالثة البياتي ( فا) وهو جنس شبيه بمقام العجم أو الفا ماجير، فإذا حدث الوقوف عليها تحددت أبعاده تلقائيا بثالثة الفا وخامستها، أي بدرجة لا الطبيعية ودرجة دو ، أي التكوين فا لا دو ، وهو تكوين يسمى في الموسيقى الغربية بالأكورد، فدعوة فا ماجير للحضور هنا هي دعوة لفتح درجة لا وهو ماحدث بعد لحظة. ويمكن تخيل أن هناك بديلين غير هذا التصرف، الأول عدم لمس البياتي مطلقا، والثاني الانتقال مباشرة إلى فتح درجة لا  دون ذلك التمهيد لكن هذا الأسلوب غير مستساغ ولا تقبله الأذن

والدليل على أن سيد درويش تعمد ذلك ولم يأت لحنه بالصدفة أنه استخدم درجة دو المنخفضة كبداية الرد الموسيقى الصاعد نحو الهدف المطلوب تأكيده وهو الفا، ثم عاد للركوز عليها لبرهة بعد أن تمت جملة البياتى، وهذه الدرجة كما أشرنا هى خامسة الفا ماجير فى الأكورد  فا لا دو أى من أساسياته بينما لا تتمتع بأى استقرار فى سلم الشورى

هناك مثال لهذا التطبيق في لحن آخر من مقام الشوري ربما يكون أقرب إلى المستمع وهو الكوبليه الثاني من أغنية أم كلثوم "هوه صحيح الهوى غلاب" لحن زكريا أحمد، وبدايته "نظرة وكنت احسبها سلام". التمهيد الموسيقي والغناء يدرجان على المقام مع التركيز على جنس حجاز النوا في جميع الحركات وتوقف التمهيد الموسيقي على النوا ثم بداية الغناء بنفس التركيز بحيث يخيل إليك أنه سيقتصر على الحجاز، وعدم التوقف إلا في نهاية المقطع "... وكلام" على أساس الشوري، ثم العودة للدوران حول محور النوا أي الرابعة إلى أن تجئ جملة " أقول يا ربي زدني كمان" فيتوقف اللحن تماما على الثالثة .. لماذا؟ لأن الحركة التالية هي العودة للمذهب من مقام الصبا وهو مقام الأغنية الأصلي، وفيه درجة لا أي الخامسة مفتوحة أي طبيعية، لذا وجب التوقف على الثالثة قبل الوصول إليها حتى يأتي الرجوع للصبا طبيعيا بغير تكلف أو نشاز

عودة إلى سيد درويش، بعد إتمام تقوية الختام بهذا التكوين يعود اللحن إلى التصفية على مقام الشوري بدءا من النوا في كلمة "اللوم" مؤكدا بذلك مقام اللحن لأن العبرة في تسمية مقام أي لحن هي بما ينتهي إليه وليس بما يبدأ به

التعامل مع الألفاظ

ذكرنا أن سيد درويش استخدم المد الغنائي عند المد اللفظي الطبيعي في حرف الألف من كلمة هواك، وهذا من خصائص التلحين عند سيد درويش فهو يخلص لنطق الحروف والكلمات ولا نسمع له مد أو شد في غير موضعه. وإذا استمعنا إلى أول كلمة في اللحن "ضيعت" نجده يركز على التشديد الطبيعي في حرف الياء والسكون الطبيعي على العين فيقول ضي / يع/ ت ولا يقول ضاى / ياع / ت ، ويظهر حرصه هذا في بداية الكوبليه أيضا عندما يقول عل / لم / تني ، ولا يقول عال / ليم / تني ، وواضح أن تركيب الكلمتين اللفظي متناظر، ولذلك جاء نطقهما في الغناء متناظرا أيضا

من أين لسيد درويش هذه القدرة على بيان اللفظ وإظهار تركيب حروفه بالتشكيل المكتوب والمنطوق؟ ثم لماذا حرص على هذا البيان؟ الحقيقة أنها قدرة وحرص يكتسبهما القارئ للقرآن الدارس لعلم التجويد، وهو علم إظهار الحروف ومدها أو إضغامها أو إخفائها، ولا عجب فهو "الشيخ" سيد درويش !

بالطبع كسر سيد درويش هذه القاعدة في نهاية البيت وتفسير ذلك سيأتي في حينه 

في التعبير

ذكرنا كيف كان تعبير سيد درويش عن الصيحة المتألمة في بداية النص وكيف مهد لها موسيقيا. وفي التعبير عن جملة "وازداد عليّ اللوم ..." في الشطرة الثانية قد نتساءل لو أن المراد هو التعبير فهل نعبر عن اللفظ المطلق أم عن المعنى والحالة النفسية؟ ولو نظرنا إلى كلمة "وازداد" لفظا فهي تفيد الزيادة والترجمة الحرفية لهذه الزيادة موسيقيا هي بالزيادة أيضا بالصعود على السلم وليس بالهبوط عليه. وقد يفعل ذلك ملحنون كثيرون في محاولة التعبير عن الكلمات، لكن سيد درويش فعل عكس ذلك، فقد نزل بهذه الكلمة إلى آخر السلم، وأعتقد أن المغزي واضح من هذا السياق فهو قد قصد التعبير عما يحدث للإنسان إذا زاد عليه الضغط فخارت قواه وأحس بنهاية أمله

أما في كلمة البغددة في آخر البيت الأول فمعناها اصطلاحا في العامية المصرية الدلال والتمنع ، ويقال فيها تعبير معروف لدى المصريين يقول أحدهم للآخر " ح تتبغدد علينا وللا إيه.. ؟!"  في إشارة عاتبة إلى إهمال طرف لآخر وتعاليه رغم تقربه منه، وهذا بالضبط هو موضوع الدور كله الذى يلحنه سيد درويش، إذا فالكلمة هامة وتختزل معاني بقية الأبيات، فكيف يتعامل معها الشيخ سيد، إنه أولا يدللها فيمد في أدائها، ويهيئ بهذا الدلال اللفظي صورة لدلال المحبوب تظهر في تلوي الكلمة على محور كاللولب لا تعرف من أين يمسك!  وهو هنا يمد ويلوي في اللفظ الذي لا تتحمل حروفه ذلك ولا تشكيله ، فيكسر قاعدة التعامل مع الألفاظ التي أشرنا إليها في سبيل التعبير عن الموقف والمعنى. نأتي عندئذ لنهاية هذه الكلمة كيف ينتهي موقفها؟ بعد الحركة اللولبية العنيفة، وكلها في حرف الدال الأول، يأتي الختام بمد نسبي على نفس الحرف قبل أن ينهي الموقف كله في آخر حرفين "دة" فيقف بهما على السكون المقطوع على آخر السلم فكأنه قد مد اللولب إلى آخر عزمه ثم أطلقه ليصيب هدفه، مشيرا إلى تكملة التعبير عن جملة "وازداد علىّ" أي زاد الأمر حتى أصبحت كمن أصابه سهم فتوقف تماما عن كل شيء

قد يتساءل أحدنا هل كان كل ذلك في ذهن سيد درويش أثناء التلحين؟ الإجابة نعم ولا ، فمن المؤكد أنه قصد التعبير بذلك الأسلوب أما التشبيهات فهي أدوات يستعملها الناقد لتقريب الصورة

الأداء

ولنستمع إلى أداء سيد درويش في هذا المطلع، تعجب كثيرون من أدائه على هذا النحو، وقد اتضحت لنا حتى الآن مبررات كافية لكن هناك إضافة تعبيرية، إن أداء سيد درويش يختلف عن أداء غيره لنفس اللحن. وقد أشرنا في موضع سابق إلى أنه سجل جميع أدواره بنفسه ما عدا دور واحد لم يتمكن من تسجيله قبل وفاته، ولابد من أنه كان في ذهنه شيئ يعلم أنه قد يضيع في أداء الآخرين لأنه أول من يعلم أن صوته ليس صوت المطربين. وإذا استمعنا إلى أول كلمة في هذا الدور وكيف يؤديها نجده يصيح كمن عض أنامله ! ضيعت .. إنه الأسف والندم والحيرة والألم، إنه في غاية الانفعال بهذه الأحاسيس، والواقع أن انفعال الشيخ سيد شيء نادر الوجود في عالم الغناء، والمتتبع للحظات انفعالاته القوية في ألحانه يشعر بأن الرجل يكاد يذوب في الكلمات .. إلى هنا مازلنا في البيت الأول .. وللحديث بقية! أدوار سيد درويش - تحليل موسيقي د.أسامة عفيفي - ضيعت مستقبل حياتي