موسيقى المماليك - محمد عبد الوهاب

المماليك.wmv

موسيقى المماليك 

محمد عبد الوهاب

مقام حجازكار كورد 1948

تحليل موسيقي / د.أسامة عفيفي

العنوان

هذه هي المرة الأولى، والأخيرة، التي يطلق فيها محمد عبد الوهاب اسما تاريخيا على إحدى مقطوعاته

وبينما يسهل تحليل موسيقى المماليك على نحو فني يصعب تفسير مدلولاتها على نحو تعبيري لسببين

المماليك كما هو معروف جماعات من الفرسان المحترفين أقاموا دولة قوية في مصر في القرون الوسطى أثبتت قوتها خاصة في هزيمة جيوش التتار القادمة من الشرق والجيوش الصليبية القادمة من الغرب واستمر حكمهم مئات السنين

ولكن منذ نهاية عصر المماليك الكبار، وتحديدا بعد الغزو العثماني لمصر عام 1517 ضعفت شوكتهم بشكل كبير كقوة سياسية وأصبحوا تابعين للدولة العثمانية التي استغلتهم في فرض الإتاوات والاستيلاء على أملاك وأموال الشعب بالقوة، مما أثار الشعور بفساد الحكم

من هنا يظهر أن لقب "المماليك" على إطلاقه يشير إلى حكمين مختلفين في زمنين مختلفين استمر كل منهما نحو 300 عام، الأول يثير التأييد والإعجاب ويؤدي بالضرورة إلى مشاركة شعبية في التعبئة والبناء، والثاني يثير السخط والشعور بضرورة التخلص من المماليك، وهذا ما حدث بالفعل بانتهاء عصر المماليك بمأساة رهيبة لم يجرؤ على تنفيذها غير محمد علي باشا وجنوده

المقام الموسيقي

مقام حجازكار كورد أحد المقامات المثيرة للجدل من ناحية كيفية التسمية، وهو أساسا مقام كورد مصور على درجة الراست "دو"، وله تسمية أخرى هي "كورديللي حجازكار"، بينما يرتكز مقام الكورد (الأصل) على درجة الدوكاه "ري"

في الأعمال الغنائية يستخدم هذا التصوير لخفض طبقة السلم بمقدار تون كامل أو درجة كاملة عن الطبيعي لمساعدة الصوت البشري في التحكم في الدرجات العليا من السلم. في أعمال الموسيقى البحتة لا يبدو هذه التصرف ضروريا ويمكن الالتزام بالسلم الأصلي دون حاجة للتصوير أو خفض الطبقة الصوتية

يشتمل هذا العمل "المماليك" على أصوات بشرية تؤدى جملا تصويرية تنازلية تبدأ من قمة السلم، وربما رأى المؤلف أن أداء الصوت البشري في قمة السلم يحتاج إلى خفض هذه القمة

التكوين الفني

1. الحركة الأولى: موسيقى لحنية هادئة للأوركسترا على إيقاع رباعي في المقام الأساسي (حجازكار كورد)

2. الحركة الثانية: موسيقى متسارعة للكمان بمساندة إيقاع نغمي من الوتريات على إيقاع ثنائي في مقام نهاوند مصور على الدرجة الرابعة (نهاوند الجهاركاه)

التعبير

1. موضوع التعبير

لا أحد يعرف على وجه التحديد ماذا كان يدور في ذهن عبد الوهاب عندما قام بتأليف هذه المقطوعة ذات البعد التاريخي

أيهما قصد المؤلف من هاتين الفترتين؟ كعادته ترك عبد الوهاب التخصيص والتفصيل والإفصاح واستبدل بها الغموض والخيال والاحتمال

هل جاءت المقطوعة تعبيرا عن أي نوع من التعاطف مع المماليك، سواء في فترة أمجادهم أم في نهايتهم المأساوية، أم تعبيرا عن التعاطف مع الشعب المصري الذي عاني كثيرا من استبدادهم؟

القصة التاريخية لنهاية العصر المملوكي تقول أن محمد علي عندما كلفه المصريون بقيادة مصر عام 1805 في مواجهة المماليك من ناحية والغزو الأوربي من ناحية أخرى وجد أنه لن يستطيع توحيد البلاد وإنشاء قوة إقليمية جديدة دون التخلص نهائيا من كل أثر للمماليك. ومن أجل ذلك احتال عليهم بمائدة كبيرة دعا إليها قادتهم جميعا في قلعة القاهرة، فلما اجتمعوا أغلقت عليهم الأبواب وطاح فيهم رجال محمد علي تقتيلا حتى قتلوا عن آخرهم إلا واحدا حاول هرب قفزا من أعلى أسوار القلعة وهو الذي أطلق عليه "المملوك الهارب". بهذه النهاية فتحت صفحة جديدة في تاريخ مصر وأصبحت مصر بعدها مختلفة تماما عنها في القرون السابقة

ويذكر أن نابليون بونابرت حاول استمالة المصريين خلال الحملة الفرنسية عام 1798 بقوله أنه إنما أتى لتخليص المصريين من حكم المماليك. وواقع الأرض المصرية في ذلك الوقت يقول بأنه كان هناك 4 جيوش تتقاتل على أرض مصر ليس من بينها جيش مصري، الأتراك، الانجليز، الفرنسيون، المماليك

عودة إلى ما كان يدور في ذهن عبد الوهاب، يمكن تخيل أنه كان تصورا أو "تصويرا" للأحداث في مقطع معين. ولكن ربما تخطى هذا التصوير النهاية الدرامية للمماليك إلى سيناريو أشمل وأعمق رؤية، وهو تصوير أن قصة المماليك هي قصة عرضية، بما لها وما عليها، في تاريخ بلد عريق تعود الحياة فيه بعدها إلى سيرتها الأولى التي تعني الاستقرار والهدوء كما تعودت مصر أن تكون

يؤيد هذا التخيل أن المقطوعة منقسمة تماما إلى نصفين. الأول موسيقى هادئة ذات إيقاع ممتد يمكن اعتبارها موسيقى "سمعية" أي يمكن الاستمتاع بسماعها كموسيقى لحنية، والثاني موسيقى مندفعة متسارعة لا تثير الرغبة في الاستماع بقدر ما تثير القلق والتوتر، وتتحرك مقاطعها فلا تكاد تستقر كأنها تصف معركة حربية مما يجعلها موسيقى "تصويرية". لكن هذا ليس كل شيء

2. إشارات تعبيرية

ما بين النصفين تسمع آهات وأنات بشرية ليس لها لحن واضح (على درجات السلم الملون)

هذا بالضبط ما يجعلك تفكر في "مذبحة المماليك"، لكنها على وجه آخر قد تكون أنات الشعب الذي عانى الأمرين من حملات وهجمات المماليك عي بيوتهم وممتلكاتهم

فإذا افترضنا أنها أنات الضحايا من المماليك فسيكون ترتيبها منطقيا بعد الحركة الصاخبة إذا كانت إشارة إلى أحداث القلعة. ولكن كيف نفسر ورودها قبلها إلا إذا كانت إشارة إلى معاناة "ضحايا المماليك" أو بعبارة أخرى إما ضحايا قتال الغزاة الأجانب أو الضحايا من الشعب

في هذه الحالة لن تكون الحركة السريعة تعبيرا عن "مذبحة القلعة" بل ربما عن معارك المماليك وانتصاراتهم ضد الغزو الخارجي في عصرهم الأول، أو حملات ومداهمات فرسان المماليك ضد السكان الآمنين في عصر المماليك المتأخر، وبهذا نعود إلى التصور التاريخي الأشمل باعتبار أن قصة المماليك قصة عرضية، على طولها، تعود الحياة بعدها إلى سيرتها المستقرة

وقد لا يكون هذا ولا ذاك، إذ أنه بإمكان من يتجول في شوارع القاهرة القديمة مشاهدة الأبنية العريقة ذات الطراز المملوكي من مساجد ومساكن وبوابات وغير ذلك، وأن يستشعر مدى الاستقرار القديم الذي عم الحياة في المدينة وما زال يشع روحه للآن، ثم يستحضر صورة بناتها من فرسان المماليك في صولاتهم وجولاتهم، وهو تخيل يحاكي القصة الموسيقية إلى حد بعيد

على أي حال فإن القفز إلى تصور معين يحدد موضوع التعبير قد لا يخدم الخيال الذي قدمه عبد الوهاب، فهو وقد أبقى الموضوع غامضا ترك حرية التأمل للمستمع

3. أدوات التعبير

   - الزمن الرباعي الطويل في الحركة البطيئة

   - الزمن الثنائي القصير في الحركة السريعة (الكمان)

   - تسريع الإيقاع

   - توقف الإيقاع

   - استعادة الإيقاع

أصداء في موسيقات أخرى

هناك تشابه كبير في الصياغة الموسيقية بين الحركة الثانية من موسيقى المماليك وموسيقى الكوبليه الثالث في أغنية "فكروني" ناتج عن استخدام نفس الفكرة وهي تسارع اللحن والانتهاء بوقفة حادة وصوت بشري دون إيقاع

هناك تشابه بين أول جملة في الحركة الثانية من موسيقى المماليك والتيمة الأساسية في أغنية للمغني العالمي ديميس روسوس، وهو يوناني الأصل مصري المولد والنشأة

Say You Love Me يمكن الاستماع إليها من هذا الرابط 

ولا يمكن أن يكون عبد الوهاب قد اقتبسها عام 1948 من روسوس الذي ولد عام 1946

لكن موسيقى روسوس هذه مقتبسة أصلا من الفولكور اليوناني القبرصي عن أغنية بعنوان Ta Rialia يمكن الاستماع إليها من هذا الرابط

هل اقتبس عبد الوهاب هذه التيمة المكونة من مازورة واحدة ليبني عليها دراما موسيقية كاملة مؤلفة من 8 مازورات؟ الواقع أنها جملة شعبية راقصة تتكرر بصور مختلفة بينما موسيقى عبد الوهاب حوار موسيقي درامي متكامل في بناء محكم أعقد بكثير من أي تيمة موسيقية، وذات إيقاع مختلف. ولذلك يبقى التشابه في حدود التشابه البسيط الذي لا يرقى إلى درجة الاقتباس، نقد وتحليل د أسامة عفيفي، مؤلفات عبد الوهاب الموسيقية، المماليك