Om Kolthoum أم كلثوم – كوكب الشرق

أم كلثوم - بحث وتحرير د.أسامة عفيفي

كوكب الشرق أم كلثوم، هكذا عرفها الملايين في العالم العربي على مدى نصف قرن من العطاء المتواصل والنجاح الباهر بصوتها الجميل وأدائها الرائع وتعبيرها الأخاذ وبأحب ما تغنى به الناس من كلمات وألحان

من فلاحة بسيطة في إحدى القرى إلى كوكب الشرق، رحلة مليئة بالكفاح والإصرار على التفوق حتى آخر العمر، وفي وسط الحروب والصراعات والملوك والبسطاء غنت أم كلثوم لمجد الجميع ولرفعتهم وأنشدت ما اهتزت له مشاعر العرب شرقا وغربا على مدى عشرات السنين

قيل في أم كلثوم أنه لم يجتمع العرب على شيء مثلما اجتمعوا في صوت أم كلثوم ، أضحى الغناء بصوتها رمزا للعروبة إذ أنها كانت تتأنى كثيرا في اختيار ما تغنيه ، ولم تكن تقبل إلا شعر كبار الشعراء قديمهم وحديثهم ، وقد غذت أم كلثوم بأغنياتها فرعا هاما من فروع القومية العربية باستطاعتها توحيد الوجدان العربي وتعبيرها عن المشاعر العربية الأصيلة كلاما ونغما وأداء

وقد عرف عن أم كلثوم شخصيتها القوية واحترامها لنفسها ولفنها فاحترمها الملوك والزعماء كما احترمها عامة الشعب وأحبها الناس في كل مكان، وتفردت بمكانة عالية في الفن والمجتمع لم تصل إليها أية مطربة في الشرقولا شك أن النموذج الذي قدمته أم كلثوم يصب في خدمة الفن من عدة أوجه:

  • اختيارها للراقي من الكلمات وتفضيلها لشعر العربية الفصحى

  • اختيارها لأبرع الملحنين وأهمهم محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب

  • حفاظها على الصورة المحترمة للفن

  • تطويعها للفن في خدمة قضايا أمتها العامة

  • إخلاصها لجمهورها بتقديم الجيد والجديد

من أهم قصائد أم كلثوم: سلوا قلبي، نهج البردة، ولد الهدى لأحمد شوقي، رباعيات الخيام ترجمة أحمد رامي عن عمر الخيام، أراك عصي الدمع لأبي فراس الحمداني و الأطلال لإبراهيم ناجي

البدايات الأولى

عام 1904 ولدت فاطمة ابراهيم البلتاجي التى عرفت فيما بعد باسم أم كلثوم فى قرية صغيرة قرب مدينة المنصورة تسمى طماي الزهايرة ، لم يكن أحد يتوقع مستقبلا يذكر لطفلة أسرة فقيرة تقطن بقرية صغيرة ليس بها مدرسة واحدة ، لكن القدر خبأ لأم كلثوم مواعيد كثيرة

كان والد أم كلثوم الشيخ ابراهيم البلتاجى إمام مسجد القرية ، وإضافة لقراءته القرآن الكريم كان يحفظ الكثير من القصائد العربية والتواشيح الدينية التى كان أهل القرية والقرى المجاورة يدعونه لإنشادها فى المناسبات الدينية والاجتماعية ، حفظت أم كلثوم عن والدها بعض القرآن وألحقها الشيخ بكتاب القرية ثم بمدرسة بمركز السنبلاوين القريب لتكمل حفظ أجزاء من القرآن ولتتعلم اللغة العربية ، وكان يصطحبها وأخيها لليالى التى يحييها فحفظت عنه الكثير من التواشيح والقصائد

عام 1917 بدأت أم كلثوم الغناء وهى فى الثالثة عشرة من عمرها مع فرقة أبيها متجولة فى القرى والأرياف ، غالبا سيرا على الأقدام ، كمنشدة للتواشيح الدينية و القصائد ، وكانت ترتدى الزى العربى متشحة بعقال على رأسها ، وسرعان ما ظهرت موهبة أم كلثوم فأصبحت منشد الفرقة الأساسى ، وتقول أم كلثوم أن الأسرة بدت وكـأنها قد طافت بكل مكان فى دلتا النيل قبل أن تضع قدما لها فى القاهرة التى نصحها الكثيرون بالذهاب إليها

مابين 1916 و 1919 التقت أم كلثوم باثنين من كبار الفنانين هما الشيخ أبو العلا محمد والشيخ زكريا أحمد ، وقد استمع كلاهما إلى صوتها وامتدحا أداءها لكنها لم تتعامل معهما فنيا إلا عندما استقرت بالقاهرة

عام 1920 غنت أم كلثوم فى القاهرة لأول مرة ثم عادت إلى قريتها منبهرة بأضواء العاصمة متمنية العودة إليها مرة أخرى

الحياة في العاصمة

عام 1921 عادت أم كلثوم فعلا إلى لقاهرة لتغنى مع فرقة والدها وواتتها الفرصة لكى يسمع صوتها جمهور العاصمة وفنانوها مثل الشيخ على محمود والشيخ على القصبجى والد محمد القصبجى والشيخ ايو العلا محمد ، وقد أعجب بصوتها وأصبح معلمها الأول ثم غنت له بعض القصائد وشجعها على ارتياد مجالات جديدة فى الغناء غير التواشيح

عام 1923 بدأت أم كلثوم فى إحياء حفلات لبعض أعيان القاهرة التى تم ترتيبها بواسطة متعهدى الحفلات فى العاصمة ، وبدأ نجمها يسطع ودخلت فى منافسة مع أشهر مطربات ذلك الوقت مثل نعيمة المصرية ، منيرة المهدية ، فاطمة سرى وفتحية أحمد

عام 1924 قدم الشيخ أبو العلا أم كلثوم إلى الشاعر أحمد رامى الذى تولى تعليمها أصول اللغة والشعر ، وأظهرت استعدادا كبيرا للتعلم فتحسن مستواها وأضافت مهارات جديدة إلى مهاراتها الغنائية ، ومع استعدادها الشخصى للتطور أتيحت لها فرصة اكتساب أسلوب حياة المدينة باختلاطها بسيدات الطبقة الراقية من خلال حفلاتها فى العاصمة فغيرت من مظهرها وأسلوبها وأصبح لها كيان جديد

البدايات الكبرى

عام 1924 كان عام البدايات الكبرى لأم كلثوم ، وفى ذلك العام تعرفت على نخبة من صفوة الفنانين والشعراء كانوا لها أفضل معين على ارتياد الصحيح والجيد من آفاق الفن ، ولم يكن هؤلاء مجرد معلمين لها بل ساهموا بشكل كبير فى تشكيل شخصية أم كلثوم والانتقال بها من فتاة ريفية بسيطة إلى شخصية عامة ، ومن هؤلاء من الملحنين الشيخ ابو العلا محمد والأستاذ محمد القصبجى ومن الشعراء أحمد رامى وأحمد شوقى

أم كلثوم تغنى للقصبجي

عام 1924 سجلت أم كلثوم بصوتها لإحدى شركات الاسطوانات أحد ألحان الموسيقار محمد القصبجى قبل أن تتعرف إليه وهو طقطوقة "قال إيه حلف ما يكلمنيش" مقام راست من كلمات أحمد رامى ، وكمن عثر على كنز قرر صاحب الشركة تعريفها بالموسيقار صاحب اللحن فقدمها إليه ثم قام القصبحى بتدريبها بعد ذلك وتولى تعليمها المقامات الموسيقية والعود كما بدأ يلحن لها أغنيات خاصة بها ، وحتى عام 1928 كان قد لحن لها 17 أغنية ما بين الطقطوقة والمونولوج منها ينوبك ايه من تعذيبى ، قلبك غدر بى ، تراعى غيرى ، أحبك وانت مش دارى ونشأت بينهما صداقة فنية استمرت حتى وفاة القصبجى عام 1966

وقد يجدر بنا التوقف لحظة عند هذا الحدث قبل متابعة رحلة أم كلثوم ، فإنه يظهر من متابعة أسلوب التعامل مع شركات الإنتاج فى ذلك الوقت أنها كانت تقبل ألحانا من ملحنيها دون غنائها بواسطة مطرب معين ، وتشترى من الملحن حق التصرف فى اللحن بتسجيله وطبعه ونشره وإسناده أيضا إلى مطرب أو آخر ممن يتعاملون معها دون ضرورة للقاء الملحن والمطرب ، وقد قام بهذا هذا محمد القصبجى وزكريا أحمد ، كما قام به قبلهم سيد درويش ، وهذا هو سر غناء أم كلثوم بل تسجيلها لأحد ألحان القصبجى قبل أن تلتقى به

أم كلثوم تغني أغنياتها الخاصة

فى نفس العام 1924 تعرفت أم كلثوم إلى طبيب أسنان موهوب يهوى الموسيقى هو أحمد صبرى النجريدى ، وغنت من ألحانه 14 أغنية منها قصيدة "مالى فتنت بلحظك الفتان" مقام بياتى من شعر على الجارم ، "أنا على كيفك" مقام بياتى من كلمات أحمد رامى ، مونولوج "الحب كان من سنين" مقام جهاركاه ، "الفل والياسمين" مقام نهاوند

والدكتور أحمد صبرى هو أول ملحن يلحن لأم كلثوم ألحانا خاصة بها، إذ أنها قبل ذلك كانت تغنى إما ألحانا سبق غناؤها بواسطة مطربين آخرين أو كما حدث مع محمد القصبجى تغنى لصالح شركات الإنتاج ما يعرض عليها من ألحان

عام 1926 تكونت لأم كلثوم فرقتها الموسيقية بقيادة محمد القصبجي الذى اختار لها أمهر العازفين وبدأ يزودها بألحانه ، ومع ازدياد نشاطها بدأ صوتها يلفت الانتباه وظهر اسمها فى بعض الصحف ودخلت بذلك فى منافسة قوية مع أكبر مطربتين من ذوات الألقاب الرنانة وهما سلطانة الطرب منيرة المهدية وكانت لها فرقتها الغنائية والمسرحية الخاصة ، ومطربة القطرين (مصر وسوريا) فتحية أحمد وقد غنت كلاهما لكبار الملحنين بما فيهم سيد درويش نفسه، وبدأت مع الفرقة الحديثة تقديم حفلاتها على نفس الدور الكبرى التى شهدت حفلات المشاهير

عام 1928 أيضا غنت أم كلثوم أول أغنية لها من قالب المونولوج من ألحان القصبجى هى إن كنت اسامح ، وقد لاقت نجاحا كبيرا ، وكانت حتى ذلك الوقت قد غنت له مجموعة كبيرة من الأغانى بدءا من عام 1924 معظمها من كلمات أحمد رامى ، وشهد نفس العام منافسة كبرى بينها وبين محمد عبد الوهاب ليس فقط من حيث الغناء بل من حيث تقديم الجديد الحديث ، ولمحمد القصبجى الفضل الأول فى هذه المنافسة الجديدة بألحانه المتطورة

عام 1928 أيضا سجلت أم كلثوم 4 قصائد للشيخ أبو العلا أعقبتها 4 قصائد أخرى عام 1930 أشهرها "أفديه إن حفظ الهوى" لابن النبيه المصرى، مقام بياتى، وحقك أنت المنى والطلب لعبد الله الشبراوى، مقام هزام، الصب تفضحه عيونه لأحمد رامى، مقام بياتى، وأراك عصى الدمع لأبى فراس الحمدانى، مقام بياتى، التى أعاد تلحينها رياض السنباطي لأم كلثوم من مقام الكورد عام 1964، وهي قصيدة غناها المطرب الشهير عبده الحامولي في القرن 19

ولنا وقفة قصيرة عند قصائد أبو العلا ، فقصائد الشيخ قد سبق تقديمها قبل أم كلثوم ولم تكن ألحانا خاصة بها ، وقد كان شائعا فى أوائل القرن العشرين أن يقدم المطربون قصائد بعينها بصرف النظر عن تفرد أحدهم بها ، وكانت المباراة ين المطربين تكمن فى كيفية أداء نفس القصيدة وهنا تظهر موهبة وإمكانيات كل صوت ، أما ما استجد بعد ذلك من تخصيص أغنيات معينة لكل مطرب لا يغنى سواها فقد أدى إلى انعدام هذا النوع من المنافسة القوية وظهور مطربين لا يجيدون غناء أى شيء إلا ما تم وضعه تحديدا لهم حسب إمكانيات أصواتهم ، وإلى أن وصل الحال مع نهاية القرن العشرين إلى دخول غير الموهوبين ميدان الغناء مما أحدث كثيرا من الفوضى الغنائية

عام 1930 شهد بداية طفرة كبيرة استمرت حتى عام 1932 فى إنتاج أم كلثوم من حيث كم الأغانى وعدد الملحنين. فقد قدمت فى تلك الفترة القصيرة أكثر من 50 أغنية جديدة، وغنت فى نفس الوقت لأربعة ملحنين هم محمد القصبجى داود حسنى والشيخ ابو العلا وزكريا أحمد. ولم يستمر هذا الوضع طويلا فقد فضلت أم كلثوم بعد ذلك الاقتصار على ملحن واحد لفترة زمنية طويلة تنتقل بعده إلى ملحن آخر لفترة أخرى، ماعدا فترة الأربعينات حيث كانت تغني للثلاثة الكبار معا، القصبجي وزكريا والسنباطي ، والستينات التي شهدت تنافسا كبيرا بين ثلاثة أيضا هم محمد عبد الوهاب والسنباطي وبليغ حمدي

أم كلثوم تغني لداود حسني

فى نفس العام 1930 بدأت أم كلثوم التعامل مع الموسيقار داود حسنى الذى لحن لها عشرة ألحان من قالب الدور ، منها شرف حبيب القلب مقام حجاز كار ، البعد علمنى السهر مقام بياتى ، يوم الحنة مقام راحة أرواح ، قلبى عرف معنى الأشواق مقام صبا ، كنت خالى مقام بياتى ، وطقطوقة واحدة هى جنة نعيمي مقام حجاز كار ، وداود حسنى وهو أحد اثنين من أساتذة الموسيقى الأكاديميين الكبار ثانيهما هو كامل الخلعى ، ظهرا قبل عصر سيد درويش واستمرا بعده

الشيخ زكريا يلحن لأم كلثوم

عام 1931 غنت أم كلثوم لأول مرة من ألحان الشيخ زكريا أحمد "اللى حبك يا هناه" وهى طقطوقة من مقام الراست من كلمات أحمد رامى. وفى خلال عامي 1931 و 1932 غنت من ألحانه 15 أغنية منها خمسة أدوار من الأدوار التسعة التي لحنها زكريا لأم كلثوم أشهرها "يا قلبي كان مالك" مقام راست، "هوه ده يخلص من الله" مقام زنجران و"إمتى الهوى" مقام راحة أرواح

أم كلثوم تجرب التلحين

عام 1932 أضافت إلى قائمة ملحنيها ملحن جديد هو أم كلثوم نفسها ، فقد قامت بوضع أول لحن لها فى طقطوقة على عيني الهجر، مقام راست، وكررت تجربة التلحين مرة أخرى فى مونولوج يا نسيم الفجر عام 1934 لكنها توقفت عن التلحين تماما بعد ذلك. وربما أدركت من تلك التجربة أنها لن تصل فى التلحين إلى قمة ما، وتعلمت أن التلحين موضوع مختلف تماما ومن ثم اقتصر نشاطها على الغناء

عصر الإذاعة

عام 1934 دعت الإذاعة المصرية أم كلثوم للمشاركة في افتتاح الإذاعة بصوتها

فى نفس العام بدأت إقامة حفلات شهرية استمرت كتقليد منتظم لمدة 40 عاما حتى عام 1973 ، وفى تلك الحفلات كانت تقدم أغنياتها الجديدة ، ولاقت تلك الحفلات نجاحا استقطب الجمهور من جميع البلاد العربية

وكان فضل الإذاعة كبيرا على أم كلثوم حيث ظلت تنقل حفلاتها الشهرية مباشرة على الهواء فى الخميس الأول من كل شهر فسمعها الملايين فى كل مكان

ظهور السنباطي

أول ألحان السنباطي - على بلد المحبوب

عام 1936 غنت أم كلثوم لرياض السنباطى لأول مرة من كلمات أحمد رامى أغنية "على بلد المحبوب" من قالب الطقطوقة مقام بياتى. وقد أدى ظهور السنباطى فى حياة أم كلثوم الفنية إلى مرحلة جديدة فى فن أم كلثوم تقودها ألحانه استمرت لأربعة عقود حتى عام 1973. وهو الملحن الوحيد الذى استمر يلحن لها بانتظام دون انقطاع تقريبا، وكاد طوال الخمسينات أن يكون ملحن أم كلثوم الوحيد

ام كلثوم في السينما

عام 1936 ظهرت أم كلثوم فى أول فيلم سينمائى بعنوان وداد قصة أحمد رامى قامت ببطولته تمثيلا وغناء ، تلته خمسة أفلام أخرى قدمت فيها العديد من الأغانى لكبار الملحنين كان آخرها فيلم فاطمة 1947 وهو آخر ظهور لها فى السينما ، والأفلام هي

ومن المناسب هنا عقد مقارنة بين كل من عبد الوهاب وأم كلثوم في ظهورهما في السينما فهناك ملاحظات لافتة للنظر

من هذه المقارنة يتضح لنا اقتراب كل المؤشرات من بعضها وقد اجتمع الاثنان فى أن أهم أعمالهما وهى القصائد الكبرى كانت خارج نطاق السينما، ماعدا مؤشر واحد هو أخطرها جميعا ، فتكفى نظرة سريعة إلى الفرق فى الألحان لندرك من هو محمد عبد الوهاب. إذ أنه لم يكن يواجه فقط منافسة صوت أم كلثوم وإنما مع صوتها ثلاثة ملحنين فطاحل هم محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي ، وقد أثبت بذلك أنه مدرسة مستقلة متكاملة!

من أشهر أغاني أم كلثوم فى السينما عن العشاق سألوني، مقام شوق أفزا، سلام الله، مقام راست، قوللى ولا تخبيش با زين، مقام هزام، وغنى لى شوى شوى مقام راست، وجميعها من فيلم سلامة ومن ألحان زكريا أحمد وكلمات بيرم التونسي

عام 1938 غنت أم كلثوم آخر ما قدمه الشرق من الأدوار الغنائية التى ابتدع قالبها محمد عثمان فى القرن التاسع عشر وهو دور عادت ليالى الهنا لزكريا أحمد مقام بياتى من كلمات أحمد رامى ، ولا يذكر بعد هذا الدور أية أدوار جديدة لها أو لغيرها من المطربين ، وهو أحد تسعة أدوار أبدعها لها الشيخ زكريا أشهرها هوه ده يخلص من الله من مقام الزنجران المقام الذى ابتكره الشيخ سيد درويش و إمتى الهوى مقام راحة أرواح ويضاف إلى قائمة أدوار زكريا لأم كلثوم أدوار داود حسنى العشرة ، أما الملحنين الآخرين فلم تغن لأحد منهم من ذلك القالب

عام 1939 قدم رياض شيئا جديدا رقيقا لأم كلثوم في "أغنية فاكر لما كنت جنبي" من كلمات أحمد رامي، مقام بياتي، وبدت أم كلثوم في هذا الرداء الجديد بأداء جديد. والأغنية ليست من نوع الطقاطيق الخفيفة كما أنها ليست قصيدة وليست من قالب الدور في شيء ، وبدأت معها سلسلة من أغاني أم كلثوم العاطفية المطولة لكنها حديثة الروح والقالب استمرت بعد ذلك لسنوات طويلة من صنع رياض ورامي ، لكنها لم تكن سهلة التحقيق فقد مرت سنوات قبل أن يقدم السنباطي لحنه الثاني في تلك السلسلة غلبت اصالح عام 1946 ثم اللحن الثالث ياللي كان يشجيك أنيني عام 1949 ثم سهران لوحدي 1950 وجددت حبك ليه عام 1952 إلى آخر السلسلة التي استمرت في الستينات أيضا

لم يتوقف السنباطى تماما فى السنوات التالية عن التلحين لأم كلثوم فى تلك الفترة فقد قدم لأم كلثوم لحن يا ليلة العيد عام 1940 لكنه بقى بعيدا حتى عام 1945 حين عاد إليها فى فيلم سلامة بلحن أحب القس سلامة. ثم كان عليه أن ينتظر عاما آخر ليفجر ينابيعه الكبرى الثلاث، سلوا قلبى ، نهج البردة ثم ولد الهدى عام 1949 من شعر أحمد شوقى

ويعود تأخر ظهور سلسلة العاطفية لثنائى السنباطي وأحمد رامي لسببين هامين:

  • أولهما أن هذا الثنائي، على قدرته، لم يستطع حتى مواجهة التيار الجارف الذى شكله الثنائى الخطير زكريا أحمد وبيرم التونسي اللذين قادا موجة أم كلثوم لقرابة عقد كامل سيطرا فيه على الساحة الفنية بأغاني أم كلثوم التي اعتمدت على خلفيات موغلة في الشعبية كلمة ولحنا أكسبتها المكان الأقرب إلى قلوب الجماهير

  • ثانيهما انشغال أم كلثوم بالسينما تمثيلا وغناء من الحان الشيخ زكريا والقصبجي

وشكل تيار الشيخ زكريا - بيرم تنوعا من الأعمال العاطفية والدرامية في سلسلة كلها من أبدع ما أنتجت الموسيقى العربية

1940 يا ليلة العيد.wmv

ياليلة العيد - ألحان رياض السنباطي 1940

أما أغنية يا ليلة العيد لحن السنباطي وكلمات أحمد رامي فقد أضحت من معالم الاحتفال بليلة العيد في الأقطار العربية ، وكتبت أصلا للتهنئة بالعيد قائلة في مطلعها يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا

ســـر أحمد رامي

هناك ملاحظة جديرة بالتسجيل فى اعمال أم كلثوم ، فرغم اختلاف الملحنين وتقاسمهم فترات التلحين لها إلا أن الشاعر أحمد رامى كان القاسم المشترك بينهم. وقد لحن كلماته لأم كلثوم منذ عام 1924 وحتى عام 1972 كل من أحمد صبرى النجريدى، محمد القصبجى، داود حسنى، زكريا أحمد، رياض السنباطى، محمد عبد الوهاب، وسيد مكاوى، وقد بلغ ما كتبه لها عدة مئات من الأغاني على مدى نصف قرن من الزمان

رق الحبيب - أم كلثوم.wmv

عام 1941 رق الحبيب - محمد القصبجي

فى ذلك العام تم الاختراق الفني الأكبر لجدار أم كلثوم القديم الذى أحاط بأم كلثوم من كل جانب على يد الموسيقار محمد القصبجى. وقد تم له ما أراد ليس فقط فى كسر الحصار بل والتفوق على منافسيه فى رائعته الرومانسية رق الحبيب من مقام النهاوند التى جابت شهرتها الآفاق وربما ساهمت فى إفاقة الناس من الانغماس الشديد فى أجواء التطريب والسلطنة إلى التحليق فى سماء التعبير وارتقاء درجات جديدة فى التطور الموسيقى، وتعتبر بحق من أفضل كلاسيكيات الموسيقى العربية

وعشاق تلك الأغنية لا يملون سماعها حتى لو أعيدت عشرات المرات لما لها من جاذبية فى اللحن والأداء وهى قمة فى اللحن والموسيقى الشرقية لا تتقادم رغم مرور الزمن، وبها صعدت أم كلثوم إلى مكانة أعلى فى الغناء ولم يعد أحد قادرا على اللحاق بها فضلا عن منافستها

ورغم ذلك فإن تلك الأغنية كانت ختام ألحان القصبجي الطويلة لأم كلثوم، وقيل عن القصبجي فى أسباب توقفه عن التلحين لأم كلثوم عام 1947 أنه قد نضب فنه ولم يعد قادرا على تقديم ألحان جديدة. لكنا نعتقد أن هذه تهمة باطلة القصبجى برئ منها تماما ولا يعقل أن من يجود بلحن كهذا تفلس قريحته فجأة عن غير مرض يصيبه فى صميم عقله ونفسيته وهو الملحن الموهوب معلم الأساتذة وسابق عصره فى التطوير والتحديث. ويكفي دليلا على توهجه الفني في ذلك العام تحديدا تلحينه للأيقونة الساحرة "قلبي دليلي" التي غنتها ليلى مراد في فيلم بنفس الاسم عام 1947. وقد أشرنا فى مواضع أخرى من هذا الموقع إلى ألأسباب المحتملة لذلك التوقف، وقد تكون لنا فيه عودة إن استلزم الأمر

حبيبي يسعد أوقاته.wmv

حبيبي يسعد أوقاته - ألحان زكريا أحمد 1943

اشتهرت كأغنية عيد رائعة زكريا أحمد "الليلة عيد" من كلمات بيرم التونسي وهي في الأصل أغنية عاطفية تبدأ "حبيبي يسعد أوقاته" لكنها عبقرية الشيخ زكريا التي حولت المقطع الليلة عيد .. ع الدنيا سعيد إلى مناسبة اجتماعية وفرح شعبي يتغنى به الناس ليلة ظهور هلال العيد كل عام

عام 1946 عام القصائد الكبرى

كان 1946عام القصائد الكبرى لأم كلثوم وشهد عودة السنباطى للتلحين لأم كلثوم، وقد قدمت فيه قصيدتين لأمير الشعراء أحمد شوقى من ألحان رياض السنباطي، "سلوا قلبي" و"نهج البردة"، أتبعتهما بثالثة "ولد الهدى" عام 1949 واعتلت بها قمة جديدة ليس فى الغناء الشرقى فقط بل فى تقديم نفسها كشخصية ثقافية مؤثرة فى العالم العربى. فقد كانت أصداء شعر شوقى تعبر مسافات كبيرة فى الجغرافيا والتاريخ بسرعة الصوت على موجة صوت أم كلثوم الشجي فتدخل القلوب وتهز المشاعر

1946 سلوا قلبي.wmv

سلوا قلبي - ألحان رياض السنباطي 1946

تتحدث سلوا قلبي عن المجد العربى الإسلامى بكل فخر واعتزاز كما أنها تدعو للصبر عند الشدائد وتحفز الهمم لاعتلاء قمم المجد القديم وتعزز من شعور الناس بقوميتهم؟ وقصيدة نهج البردة هى على نمط قصيدة البردة التاريخية فى مدح الرسول الكريم، وقصيدة ولد الهدى تتحث فى نفس الموضوع. ولا شك أن هذه الأفكار قد تلقاها الناس بكل ترحاب بل ساعدتهم على إذكاء روح الانتماء إلى الشخصية العربية الأصيلة ذات الجذور التاريخية العميقة وذات التأثير فى تاريخ العالم كله، وذلك فى وقت سادت فيه القوى الأجنبية التي احتلت معظم أنحاء العالم العربى وحاولت محو الهوية العربية تماما في بعض أجزائه

عام 1946 شهد أيضا مولد ثانى أغنية عاطفية طويلة لأم كلثوم من ألحان رياض السنباطى الذى تألق ايضا فى هذا الميدان كملحن فذ ، وهى غلبت اصالح فى روحي مقام نهاوند من كلمات أحمد رامي

عام 1947 آخر أفلام أم كلثوم

قدمت أم كلثوم آخر أفلامها فاطمة فى ذلك العام عن قصة مصطفى أمين، وقامت ببطولته تمثيلا وغناء أمام أنور وجدى، وبه عدد من الأغانى الدرامية

  • ح اقابله بكرة - أم كلثوم - أحمد رامي - السنباطي

جاءت أغنية ح اقابله بكرة من كلمات أحمد رامى لتلخص لهفة وترقب المحب فى أبسط وأصدق صورة، واكتملت الصورة التعبيرية بلحن السنباطى الخفيف السريع الذى لا يوحى أبدا بالهدوء بل بالنشاط الممزوج بالفرح والترقب، وقد أدتها أم كلثوم بشكل نموذجى جعلها محبوبة جدا من الأصوات الجديدة. وكنمط من تلحين رياض السنباطى (مقام راست) تأتى كاستمرار لنموذج الأغنية الخفيفة السريعة المتطورة لحنا وإيقاعا، وهو النموذج الذى ابتدعه وبرع فيه محمد القصبجى

  • نصرة قوية - ألحان زكريا أحمد

ولنتوقف قليلا عند أغنية نصرة قوية لزكريا أحمد ولنتأمل صوت أم كلثوم الممتد فى ختام تلك الأغنية لنعرف لماذا يقال عن صوت أم كلثوم أنه معجزة، إن هذا الختام وحده يكفل لها استحقاق هذه الصفة

  • الورد جميل - ألحان زكريا أحمد

عام 1947 أيضا غنت أم كلثوم من ألحان الشيخ زكريا احمد أغنيتها الشهيرة الورد جميل وهى لا تزال تذاع لليوم. وهى أغنية وصفية يصف فيها بيرم التونسى لغة الزهور وألوانها ويقابل فى تأملات فلسفية بينها وبين لغة البشر وتعبيراتهم

بعد ذلك العام خلت ساحة أم كلثوم لثنائي رياض - رامي من جديد بعد أن اختلفت مع كل من القصبجي وزكريا أحمد لأسباب مختلفة جاء ذكرها على صفحات كل منهما

عام 1949 قدمت أم كلثوم لحنين من روائع الألحان العربية أحدهما ياللى كان يشجيك انيني، مقام كورد، وهى أغنية غاية فى العذوبة تقطر شرقية، وإن عابها من ناحية الكلمات نموذج المحب الذليل خاصة فى البيت "عزة جمالك فين من غير ذليل يهواه" ولا شك أن هذا الذل الصريح لم يكتب له الحياة طويلا فى دنيا الفن فى ظل القيم التحررية الصاعدة وكان نموذجا من الماضى بكل المقاييس. أما لحنا فقد شكلت في مجملها مع سابقتيها غلبت اصالح وفاكر لما كنت جنبى قاعدة أساسية لما سارت علبه ألحان السنباطى العاطفية لأم كلثوم بعد ذلك، إذ أنه لم يخرج كثيرا عن الخطوط العريضة التى وضعها في تلك الألحان الثلاثة. وقد أحبت أم كلثوم هذا اللون من الغناء وأصبح أسلوبها المفضل فى الغناء العاطفى لعقدين من الزمان، ويظهر فى أغاني السنباطي تلك كثير من أساليب محمد القصبجي الذى تأثر به السنباطي كثيرا

1949 رباعيات الخيام.wmv

عام 1949 رباعيات الخيام- ألحان رياض السنباطي

رباعيات الخيام نقلة نوعية كبيرة في الأغنية العربية، فهى أولا تراث مترجم وليس عربي الأصل، وشاعرها الأصلي هو الشاعر الفارسي عمر الخيام، لكن يجمع بين الثقافتين الثقافة الإسلامية الواضحة في المعانى فبينما يشترك كل البشر في نفس التساؤل في الأبيات

لبست ثوب العيش لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكـر

وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت أين المفر

فإن الإجابة بالقطع إجابة إسلامية كما يظهر في الأبيات:

إن لم أكن أخلصت في طاعتك فإنني أطمع في رحمتــــك

وإنمـــــا يشــــفع لي أنني قد عشت لا اشرك في وحدتك

وقد ترجمها عن الفارسية الشاعر أحمد رامي الذى صاغها في هيئة رباعيات أي في مقاطع صغيرة كل منها يتكون من أربع شطرات على قافية واحدة ماعدا الثالثة منها ، وكل مقطع يأتي على نفس النمط ولكن بقافية جديدة ، وهو شكل جديد فى القصيدة العربية أقرب إلى أشكال الزجل منه إلى القصيدة العمودية التقليدية

بانضمام هذه القصيدة الفلسفية إلى قائمة قصائد أم كلثوم الدينية لشوقي أصبح لها رصيد ثقافي هائل امتلكت به أدوات الرقي والسمو والترفع عن اللهو ، وأضاف ذلك الرصيد ايضا إلى مكانة الملحن، وبذلك ضمت قافلة الرواد ملحنا جديدا وميدانا جديدا جعلت للفن والفنانين عموما صورة جديرة بالاحترام ومكانة عالية بين الناس

صاغ السنباطي لحن الرباعيات من مقام الراست الشرقي الأصيل ولكنه تنقل بين المقامات على طول القصيدة. وهي لحنا من أمتع ما يستمع إليه من موسيقى عربية - بحث وتحرير د.أسامة عفيفي، أم كلثوم، كوكب الشرق 1904 - 1975

للحديث بقية ، تابع معنا رحلة أم كلثوم الشيقة في الزيارة التالية