Sayed Darwish - Music Features خصائص فن سيد درويش

خصائص فن سيد درويش

بحث وتحرير د. أسامة عفيفي

تتلخص مدرسة سيد درويش الفنية في مبادئ أساسية هي

سنعرض هنا كيفيات تطبيق هذه المبادئ الأساسية بتقسيمها إلى مدخلين واستخدام التسجيلات الصوتية المناسبة لكل فقرة لإيضاح كل فكرة بطريقة عملية 

خصائص فن سيد درويش

أولا : اختيار الموضوع كمدخل للتعبير الموسيقي 

ثانيا : مدرسة سيد درويش الموسيقية 

ا- في الغنـــاء 

ب- المدرسة التعبيرية في الموسيقى 

ج- في التأليف الموسـيقي والبنـــاء الفني

إبداع سيد درويش

فى معظم ما كتب ونشر عن سيد درويش اهتم الكتاب بتأصيل حياته والأحداث التى مر بها أكثر من اهتمامهم بموسيقاه. ويرجع ذلك إلى أن معظم من أرخوا لسيد درويش هم من غير الموسيقيين، أما الشأن الفنى فلم يحظ بالاهتمام الكافى. ونجد فى الفيلم السينمائى الوحيد الذى أنتج عن سيد درويش ضحالة تامة فى القصة والسيناريو والإخراج، بل وإساءة أيضا إلى شخص الفنان المبدع والثائر على الفساد والاستعباد، العاشق للوطن وللحرية، والغيور على فنه والمحترم له، والمجدد بل الباعث لنهضة فنية استمرت لعشرات السنين وألهمت أجيال كثيرة بعده، ورغم أن فنانا مثله يمكن أن نرى له عشرات الأفلام العظيمة دون أن يتكرر فيها مشهد واحد، ويكفيه ما قدمه من أوبريتات رائعة، أنتج بعضها على نفقته الخاصة

ومما يدعو للدهشة أنه رغم اعتراف الجميع، من أهل الفن ومن خارجه، بفضل سيد درويش إلا أننا لا نرى أيا من أعماله تدرس أو تبحث فى معاهد الموسيقى، ومازالت المناهج الموسيقية الشرقية فى مصر رائدة الفنون تعتمد على التراث التركى فى معظمها

وربما يقول قائل أن سيد درويش لم يترك ثروة أكاديمية يمكن أن تعين فى صياغة مناهج التعليم والتدريب، لكن الشيخ سيد ترك أكبر ثروة فنية فى تاريخ الموسيقى العربية على الإطلاق ، ليس بالكم بل بالكيف، إذ أن كل لحن وكل قطعة تستحق الدراسة والتأمل 

فى أدواره العشرة نجد كل دور من مقام مختلف عرض فيه سيد درويش الكيفية المثلى لمعالجة نغمات هذا المقام 

وفى ألحان رواياته هناك أكثر من 200 لحن  لم تتكرر فيها جملة واحدة ، وفيها من اختلاف المواقف ما يكفى لعرض كافة حالات الشعور الإنسانى وكيفية التعبير عنها 

* أضاف مقاما موسيقيا جديدا (!) للموسيقى الشرقية أسماه الزنجران أبدع منه أحد أدواره، ولحن منها الأساتذة اللاحقون 

* شرع فى تأليف كتاب موسيقى يضم نوت ألحانه 

* ومع انشغاله بتلك المهمة التاريخية لم ينس أن يكتب مقالاته فى الثقافة الموسيقية للصحف والمجلات يعلم وينور، وكان يوقع بإمضاء خادم الموسيقى سيد درويش

ولكن لم يمهله القدر أكثر من ست سنوات هى كل عمره الفنى، فقد بدأ فى سن 25 ورحل فى سن 31، ولم يكن ليتسنى له التفرغ لعملية أكاديمية وهو مشغول تماما بإنتاج أعظم ما أنتجته مصر من فن فى تاريخها الطويل 

* لقد قام سيد درويش فى مصر بما قام به بيتهوفن فى ألمانيا، حيث صعد الاثنان، كل بموسيقاه، إلى القمة، وفى حين مهد لظهور بيتهوفن عمالقة مثل باخ وهايدن وموتسارت فقد ظهر سيد درويش بانقلاب كبير لم يسبقه تمهيد 

امتد تأثير سيد درويش إلى كامل المنطقة العربية عن طريق من ساروا على نهجه بعد رحيله. وقد عاصر سيد درويش أواخر العصر الرومانسى الأوربى الذى شهد آخر مؤلف وهو إدوارد جريج النرويجى (1843 - 1907)، وترامت إلى مسامعه أعمال رواد الفن الموسيقى الأوربى حتى فيردى الإيطالى (1813 - 1901) الذى صاغ أوبرا عايدة المصرية لحفل افتتاح قناة السويس عام 1869. وكان رغم إعجابه بأعمالهم لا يقلدهم وإنما كانت موسيقاه معبرة تماما عن إحساس ومزاج الشعب المصرى الذى حرم طويلا من ممارسة الفنون الراقية بفضل الاستعمار التركى العثمانى الذى احتكر فن الموسيقى وصبغها بصبغته وقصر ممارستها على الطبقات الإقطاعية وأفراد الأسرالمالكة. وقد تشابه دوره هذا مع دور بيتهوفن حيث وصف كل منهما بأنه خلص موسيقى شعبه من الآثار الأجنبية وانتمى إلى موسيقى أمته مباشرة ثم وصل بها إلى أعلى المراتب 

وتنوع إنتاج سيد درويش ليشمل أنماطا عديدة من التأليف الموسيقى حاول بها إثبات أن كل شيئ مكتوب يمكن أن يلحن ويغنى مامدامت هناك فكرة ورأى وموقف وإحساس، حتى الأنماط الأقدم استعملها فى أساليب جديدة. وما يهمنا هنا هو أن موسيقى هذا الفنان قد احتوت على قدر عال من القيم الفنية يجعلها جديرة بالدراسة والتحليل والتأصيل والتنميط، ونحن نشعر بينما نستمع إلى ألحانه أننا نستمع إلى أصول وليس إلى فروع أو تقليد 

عندما سألت شيخ الملحنين الموسيقار السكندرى محمد عفيفى ، وهو أكبر حافظ لتراث سيد درويش، عن بدايات اهتمامه بالفن أجاب: لقد أعجبت بألحان محمد عبد الوهاب كثيرا، ولكن حينما استمعت إلى أعمال سيد درويش أدركت أننى أستمع إلى الأصل! 

سنحاول أن نعرض هنا أمثلة عن التحولات التى أحدثها سيد درويش فى الموسيقى تحت عنوان خصائص فن سيد درويش 

أولا: اختيار الموضوع كمدخل للتعبير الموسيقى

إن الموضوعات التى طرقها سيد درويش لم تكن لتخطر على بال أحد فى ذلك الوقت ، ففى عصر اقتصرت فيه وظيفة الفن على التسلية ، والموضوع الفنى على العشق والغرام يقتفى سيد درويش شعور الإنسان فى مجال وحال بآلامه وأحلامه ويخاطب الجماعة كما يخاطب الفرد ، واستطاع بعد مئات من السنين أن ينتقل بالفن من حيز التطريب الضيق إلى آفاق التعبير الرحبة ويخطو خطوات كبيرة نحو عالم الإنسانية الواسع ، ويجعل من هذه الرسالة هدفا لحياته 

01 الحلوة دي.wmv

لحن الصنايعية - الحلوة دي 

هذا اللحن على سبيل المثال ومطلعه " الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية .. والديك بيدن كوكو كوكو فى الفجرية .." 

يبدأ بصورة شعبية بسيطة هى مدخل إلى قضية كبرى، العمال والصنايعية والصناعة ورأس المال ، موضوع غير قابل للغناء أصلا، وينتقل من غناء فئة من العمال إلى، وهذا هو الأهم، ربط هذه الصورة بحال البلد كلها .. 

كان باستطاعة سيد درويش أن يستمر كما فعل أسلافه من الفنانين فى طرق نفس الموضوعات والبعد عن الصور البائسة والمؤلمة لشعب بأكمله وليس لمجرد فرد لسعه الغرام، إنه يتعرض لقضية سياسية فى المقام الأول، ولم تكن هذه مهمة الفن فى عصره، كان الفن للمتعة فقط، ثم هو يجعل من هذه الطقطوقة البسيطة والمليئة بالشجن فى نفس الوقت قطعة فنية خالدة تحفظها الأجيال 

نأتي لبعض التفاصيل

من هى الحلوة التى يريد سيد درويش أن يتغنى بها؟ إنها امرأة بسيطة.. تعد خبز الصباح لأسرتها فىوسط شعبى بين عامة الناس الذين يربون الدواجن فى منازلهم المتواضعة 

يظهر وسطها الإنسانى فى الجملة التالية على لسان مجموعة من الصنايعية تخرج فى الصباح الباكر فى رحلة كل يوم للبحث عن الرزق تقول " ياللا بنا على باب الله .. ياصنايعبة .. يجعل صباحك صباح الخير يااسطى عطية" 

ما هو الجميل فى المرأة الكادحة التى تخبز خبز الصباح؟ إن هدف سيد درويش ليس الغزل هنا، إن نصب عينيه أمر أهم، الشعب الذى لم يكن يمثل على أى صعيد اجتماعى فى الطبقات العليا التى تستمتع بالفنون، حتى النساء لم تحظ بالغزل إلا فى التراث الشعبى الممزوج بطمى النيل..  ثم إن الفن الراقى كان حكرا على صالونات المستتركين من أتباع الدولة العثمانية، ولم يكن لبسطاء مصر غير الطمر التام فى طينها وترابها

إنه يتطرق للحديث عن بؤس فئة من الناس تشكو همومها إلى رب العالمين، لكن فئات أخرى عديدة من الشعب كانت تشعر بنفس الشعور، وتعانى من نفس الإحباط، فسرت أغنيته فى نفوس الناس تتحدث عنهم وباسمهم 

" طلع النهار فتاح يا عليم .. والجيب مافيهشى ولا مليم" 

مين فى اليومين دول شاف تلطيم .. زى الصنايعية المظاليم 

ثم يتصاعد كلاما ولحنا إلى صيحة الصنايعية 

" الصبر أمره طال .. وايش بعد وقف الحال " 

ثم يطلق دعوة إيمانية خالصة 

ياللى معاك المال .. برضه الفقير له رب كريم 

وينتقل إلى النظر حوله ، للأمم التى تقدمت ، ويبحث فى سر تقدمها 

" أولاد أوربا ما بيناموش .. عن الصنايع مايونوش" 

ويتساءل لماذا نحن مهمومون بينما لدينا كل المواهب 

" سبع صنايع فى ايدينا .. والهم جاير علينا " 

ثم يوجه اللوم ماشرة إلى أغنياء القوم 

ياما شكينا وبكينا .. يا أغنيا ليه ما تساعدوش 

وليس ما تغنى به سيد درويش من نظمه، وإن كان له  فى ذلك الكثير، ولكن اختياره للموضوع، وهو ملحن، قد أدخل الفن إلى عالم جديد 

وهذه هى المفاجأة .. إنه موضوع جديد، وجاد، وجرئ، ويحمل معه آفاقا جديدة من التعبير عن أحوال بسطاء الناس، الصنايعية هنا على سبيل المثال، الذين لم يكونوا من قبل فى أجندة الفن، ولا فى أى أجندة .. وتجاهل تام لموسيقى الصالون الحاكم. كانت مفاجأة سارة للشعب المصرى، لكنها لم تكن كذلك لا للقصر الملكى ولا للاحتلال الأجنبى 

مثال آخر .. يجد الشيخ سيد كلاما منشورا فى إحدى الصحف لبديع خيرى، " قوم يامصرى مصر أمك بتناديك .. خد بناصرى نصرى دين واجب عليك"، يعجبه الكلام فيأخذ فى تلحينه ونشره كنشيد سهل الغناء يثير حماس الناس ووطنيتهم، والأمثلة غير ذلك كثيرة 

قوم يا مصري.wmv

مثال آخر .. يجد الشيخ سيد كلاما منشورا فى إحدى الصحف لبديع خيرى، " قوم يامصرى مصر أمك بتناديك .. خد بناصرى نصرى دين واجب عليك"، يعجبه الكلام فيأخذ فى تلحينه ونشره كنشيد سهل الغناء يثير حماس الناس ووطنيتهم، والأمثلة غير ذلك كثيرة 

ثانيا: مدرسة سيد درويش الموسيقية

ا- فى الغنـــاء 

ب- المدرسة التعبيرية فى الموسيقى 

ج- فى التأليف الموسـيقى والبنـــاء الفنى 

طرق سيد درويش منهجا جديدا فى التلحين اعتمد فيه أساليب متطورة، كما اهتم بتأصيل النغمات المحلية ووضع نصب عينيه مسألة هامة وهى أن تعبر الموسيقى عن الموضوع والمحتوى الكلامى بحيث تنطق بأفضل شعور يمكن أن يتولد عند سماع الجمل والكلمات. وقد تحرر من أجل ذلك من كل قيود الماضى التى كبلت الحركة الموسيقية فى قوالب جامدة وأوجد بذلك لأول مرة المدرسة التعبيرية فى الموسيقى  

ولم يكن الطريق سهلا، فالجديد دائما محل ريبة وشك وعدم ارتياح، وقد قوبل سيد درويش فى أكثر من مناسبة بالرفض والاستنكار وفشل فى إقناع جمهور الحفلات بفنه فى مراحله الأولى، لكنه فطن إلى أن صوته لم يكن لينافس أصحاب الحناجر الذهبية فى ذلك الوقت فامتنع عن تقديم أعماله بنفسه، وشجعه أحد أصحاب تلك الحناجر وهو الشيخ سلامة حجازى سلطان الطرب وقتها على المضى قدما فى التلحين دون الغناء، وعرض عليه تلحين أول أوبريت له لفرقة جورج أبيض التمثيلية وهى فيروز شاه، اقتناعا بموهبته وقدراته

وحتى يعرض إمكانياته الفنية قام سيد درويش بتلحين الدور، وهو أصعب القوالب الغنائية السائدة، ولحن عشرة أدوار كل منها من مقام موسيقى مختلف، فكانت أفضل عشرة أدوار فى تاريخ الموسيقى العربية. وهو بذلك قد أثبت تفوق موهبته على جميع ملحنى عصره فى مجالهم وميدانهم، وسطع نجمه عاليا كأفضل من لحن الدور، وبانتهائه من هذه المهمة خلا  له الطريق ليقدم ما يشاء دون أدنى انتقاد، ثم تنافست الفرق المسرحية على إنتاجه بعد أن تبين لها جماهيرية ألحانه وتأثير وقعها البالغ على النفوس 

وعنـد مقـارنة ألحان سيد درويش بما قبلها نجد عناصر قد اختفت وحلت مكانها عناصر جديدة أصبحت هى السمات الأساسية للألحان من بعده، وهو بذلك قد وضع أساليب جديدة فى التلحين 

الغناء قبل سيد درويش 

كان المطرب يبدأ فى الغناء بعد سلسلة من التمهيدات الموسيقية تبدأ عادة بأحد القوالب الموسيقية التركية وهو " السماعى"

والسماعى يتكون عادة من 4 فقرات أو حركات تسمى كل منها خانة ، ويتكرر بينها جملة موسيقية هى " التسليم" وينتهى بها أيضا 

ولكل سماعى نغمة أساسية أو مقام موسيقى أساسى وتتنوع الحركات الأربع بين مقامات قريبة ثم تعود إليه فى التسليم 

وبانتهاء تقديم السماعى الذى يستغرق حوالى 10 دقائق يقوم كل عازف بأداء بعض "التقاسيم" المنفردة على آلته بالتناوب مع بقية العازفين ومن نفس المقام الموسيقى والنغمات التى مهد لها السماعى لمدة 10 دقائق أخرى ، ثم يبدأ المطرب فى التمهيد لنفسه بأداء "موال" من 10 دقائق ثالثة يتصاعد فى حرارته ثم ينتهى "بقفلة" حارة يشد يها انتباه الجمهور وإعجابه وعندها يدخل فى الدور أو القصيدة فى 30 – 45 دقيقة ، وبهذا يكون قد أتم وصلة غنائية، وكلمة وصلة أتت من إيصال أو ربط عدة فقرات ببعضها ترتكز على نفس المقـام وإن تنوعت فى الداخل ، أى أن الوصلة تستغرق بين 60 و 90 دقيقة 

الغناء عند سيد درويش

تخلص سيد درويش من كثير من الطقوس الموسيقية التى صحبت الغناء فى عصره، وانتقل إلى أسلوب الدخول مباشرة فى الموضوع، وإذا ضربنا مثالا بالسفر إلى هدف معين يمكن الوصول إليه بعدة طرق فقد اختار سيد درويش أقصر وأسرع وأسهل الطرق للوصول إلى قلب المستمع وذهنه، ولا شك أن ذلك يتطلب براعة خاصة لم تتوفر لغيره وقد كمنت موهبة سيد درويش الأساسية فى هذه القدرة التى مكنته من الوصول للناس بتلقائية واضحة

02 زوروني - استهلال.wmv

فى هذا الجو فاجأ سيد درويش الناس بأغانى كاملة مدتها بين 60 و90 ثانية! وهى من الجاذبية بحيث تلتصق بذاكرة المستمع فيرددها تلقائيا بعد سماعها ولو لمرة واحدة! بل ويتذكرها الجمهور لعشرات السنين، وأمثلة ذلك كثيرة ومنها زورونى كل سنة مرة التى جابت شهرتها الآفاق بينما توارت أدوار العناتيل وراء الزمن!

ولأول مرة منذ عهود طويلة لم يعد الغناء مقصورا على المطرب الفذ وإنما غنت الجماهير ألحانه بسهولة. ونستطيع القول بأن الانقلاب الذى أحدثه سيد دروبش فى الموسيقى لم يكن فى الأوساط المحترفة فقط لكنه غير المتلقى أيضا وقد خلق جمهورا جديدا هو غالبية الشعب وخلق من الفن الشعبى فنا راقيا أخرج به الفن من الصالونات إلى المسارح والشوارع والبيوت والمقاهى وردد الناس أناشيده فى المظاهرات  

وكون هذه الموسيقى الجديدة قد اتجهت لعامة الناس لم يمنعها من الاحتفاظ بقيم فنية عالية تثير إعجاب الموسيقيين أنفسهم، وتجعلهم يتمنون لو أنهم تمتعوا بإمكانيات الشيخ سيد وقدموا مثل ما قدم، وهذا فى الواقع هو سر وجود روح سيد درويش الموسيقية فى أعمال العديد من الموسيقيين اللاحقين ، بل وجود جمل كاملة من أعماله فى أعمال غيره واضحة كالشمس 

ب - المدرسة التعبيرية فى الموسيقى

التعبير الموسيقى عند سيد درويش

تتلخص مدرسة سيد درويش الفنية فى مبادئ أساسية هى

والتعبير فى الموسيقى كاصطلاح غير التعبير بالموسيقى 

يندرج تحت التعبير بمفهومه العام أى إحساس يتولد لدى السامع نتيجة سماعه لأنغام معينة ، وهناك مقامات فى الموسيقى الشرقية معروفة بتعبيرها عن الحزن مثل الصبا والحجاز ومشتقاتهما ، وهى تحتوى على هذه القيمة سواء صحب الموسيقى كلمات أو لا 

ويختلف التعبير بالموسيقى اصطلاحا فى أنه لا بد من وجود معنى مسبق قبل وجود الموسيقى التى يراد لها التعبير بمادتها عن ذلك المعنى ، وبعبارة أوجز هو التعبير عن الكلمات باللحن ، فإن لم تكن الكلمات شعرا فموقفا مكتوبا فى أى صيغة حتى وإن كانت مجرد عنوان لقطعة موسيقية. وهذا النوع الأخير هو ما قصده سيد درويش وأراد العمل به ، وقد أجاد فى ذلك بل هو الذى اخترع هذه المسألة 

واتبع سيد درويش فى سبيل ذلك أسلوبين ناجحين هما: 

وقد استخدم سيد درويش الأسلوبين منفصلين وممتزجين  

لنأخذ مثالا على ذلك لحن الشيالين ولو أن ألحان الشيخ سيد كلها كذلك 

03 الشيالين.wmv

لحن الشيالين

شــد الحـــزام على وسطك غيره ما يفيدك .. 

لابد عن يوم برضه ويعدلها سيدك 

وان كان شيل الحمول على ظهرك يكيدك .. 

أهون عليك يا حر من مــــدة إيدك 

ماذا فعل سيد دروبش مع هذه الكلمات؟ تابع تحليل لحن الشيالين

04 عشان ما نعلا - استهلال.wmv

لحن الوصوليين ، مقدمة 

فى غناء المجموعات على المسرح ألبس سيد درويش كل دور ما يناسبه فى الموقف الدرامى بحيث بعد عن التطريب التقليدى وجعل حركات المجموعة تعبر تماما عن موقفها ولون فى أدائها وإيقاعاتها بحيث تتفق ما تغنيه مع ما يقوله الحوار 

ولحن الوصوليين الشهير " عشان ما نعلا ونعلا ونعلا .. لازم نطاطى نطاطى نطاطى " خير مثال على ذلك 

واللحن هنا لا يقتفى الكلمات فحسب وإنما يلبسها أفضل ما يمكن من تعبير إلى أدق التفاصيل .. ففى كلمة " نعلا " الأولى قفز من الدرجة الأساسية إلى الثالثة، ثم إلى الخامسة فى الثانية ثم إلى جواب السلم وقمته فى الثالثة وهى قمة العلو .. ثم يتراجع اللحن فى التعبير عن "نطاطى" (أى نهبط وننكس الرؤوس) هابطا من الخامسة إلى الثالثة ثم إلى الدرجة الأساسية ثم إلى قرار الخامسة إمعانا فى بيان الهبوط إذ جعلها تحت مستوى البداية وهو ما يوحى باستعداد هؤلاء إلى الهبوط لأدنى الحضيض فى سبيل وصولهم إلى مصالحهم  

وهنا يتبادر للذهن سؤال ، هل بإمكان أحد أن يقوم بوضع لحن يصور المعنى أفضل من هذا الذى وضعه سيد درويش لهذه الصورة؟  

ج- فى التأليف الموسيقى

البناء الفنى عند سـيد درويش

لم يعرض لنقد البناء الفنى عند سيد درويش إلا قلة معدودة من الموسيقيين، وحتى هؤلاء لم تحظ دراساتهم بالنشر، وكل ما نشر فى ذلك لم يتعد الحديث عن المدرسة التعبيرية عند سيد درويش وهى ما اشتمل على التعبير عن الموقف والشعور والجمل والألفاظ بالنغمة والإيقاع والتصوير اللحنى

كان هدف سيد درويش هو التعبير بالموسيقى عن كل تلك العناصر وكانت له أدواته الخاصة 

وسنعرض هنا إلى تفاصيل فنية ليست بغريبة على الموسيقى الدارس لكنها ليست أيضا بمستغربة على غير الموسيقى إذ يسهل ملاحظة وتتبع آثار وبصمات سيد درويش فى البناء الفنى عند الاستماع إلى موسيقاه 

1- الانتقال النغمى 

كيف كان ينتقل اللحن من نغمة إلى أخرى قبل مجئ سيد درويش؟ كان ذلك يتم بالتدريج من نغمة إلى أخرى تالية ثم إلى ثالثة مجاورة فى السلم الموسيقى وهكذا وبينما يسيطر على اللحن جو مقام معين تم التمهيد له طويلا قبل الشروع فى الغناء فإن التنويع فى اللحن يأتى من زخارف نغمية تخرج قليلا عن المقام الأساسى ثم تعود إليه على نفس درجة الركوز 

لنأخذ مثالا الأهات فى دور " كادنى الهوى" لمحمد عثمان ، يتصاعد لحن الآهات من بداية السلم للمقام الأساسى ( نهاوند) تصاعدا بالجملة الموسيقية إلى النغمة الأعلى فالأعلى إلى قمة السلم مع التلوين المقامى بين النهاوند المرصع والنوا أثر ثم النزول إلى درجة الركوز بقفلة متدرجة

05 آهات أنا هويت.wmv

آهات أنا هويت

بينما نجد فى آهات دور "أنا هويت" لسيد درويش تكنيكا جديدا تماما ومغايرا لكل ما جرى عليه العرف، فهو يبدأ بقمة السلم للمقام الرئيسى (كورد)، وليس بقاعدته، ثم يقفز قفزات بين درجات متباعدة بين قمة السلم وثالثته مشكلا جملة موسيقية ناقصة لا تحتمل التصاعد لكنها تحتمل شيئا جديدا هو "الرد" بجملة أخرى تبدأ بسادسة السلم مكونة من حركات متجهة إلى ركوز المقام. وبتتابع الجملتين يبدو لنا التصوير اللحنى كسؤال وجواب ينهى الموقف الموسيقى فى لحظات

06 لحن الوصوليين - استهلال.wmv

لحن الوصوليين - عشان ما نعلا

وفى لحن الوصوليين نجد النغمات المستعملة فى القفزات هى النغمات الرئيسية للسلم الموسيقى (أي سلم) أي الأولى والثالثة والخامسة مع استخدام التكرار الجوابى والقرارى لنفس النغمات عند الحاجة لأبعاد جديدة أكثر، وهو ما يسمى التوافق أو الأربيج فى الموسيقى الغربية. والنغمات الأساسية هى التى يعتمد عليها بناء التآلفات النغمية فى علم الهارمونى أو توافق الأصوات، وبهذا الشكل بنيت الجمل على أساس هارمونى قوى يقبل تآلفات قوية وواسعة المدى

2- الانتقال المقامى

استخدم سيد درويش انتقالات مقامية، أى من مقام موسيقى أو سلم إلى آخر، دون العودة إلى المقام الرئيسى وأمكنه إنهاء اللحن بهذه الطريقة دون أدنى خلل بل على العكس كان شديد المنطقية فى ذلك بحسب سير الكلام الذى يعبر عنه. وهذا التكنيك لم يعرفه ولم يقره أحد قبله، وكان سببا فى النقد اللاذع من معاصريه من الموسيقيين، لكنه أثبت أنه كان على حق بدليل نجاح أغنيته الشهيرة "الحلوة دى" وهى ما أطلق عليها " لحن الصنايعية". فقد جاءت الأغنية كلها من مقام الحجاز ثم انتهت بجملتين قصيرتين فى ختام اللحن هما أيضا عبارة عن سؤال وجواب من مقام البياتى على نفس درجة الركوز، ولم يعد ثانية للمقام الأساسى بعد ذلك. ويتضح هنا أهمية نظرة سيد دروبش للموقف الدرامى ووضعه فى أولوياته الموسيقية. فبعد مقدمة وصفية عن حال الصنايعية البسطاء والاسترسال فى شكواهم طوال اللحن يأتى الختام بموقف جديد وهو الدعوة للعمل والاعتماد على الله فى الرزق وبدء الصباح الجديد بهمة جديدة تخرج بنا من الموقف الشاكى الباكى إلى الموقف الواقعى العملى، ويخرج بنا من مقام الحجاز الحزين إلى مقام البياتى الشعبى المعبر عن الحياة اليومية، وقد صحب التغيير فى المقام تغيير أيضا فى الإيقاع سيجئ الحديث عنه فى النقطة التالية 

3- الانتقال الإيقاعى

مع انتقال اللحن من مقام إلى مقام فى نهاية " لحن الصنايعبة" انتقل الإيقاع إلى وحدة أطول وأبطأ  قليلا ، ولم يكن هذا جديدا فقد استخدم هذا التكنيك قبل سيد درويش للتلوين وخاصة عند الانتقال بين المقامات ، وحينما تتغير بحور الأبيات أو وزن الشعر ، ولكن الجديد الذى جاء به سيد درويش أنه أنهى العمل على الإيقاع الجديد ولم يعد إلى المذهب أو الإيقاع الأصلى ، وعند تحليل الموقف الدرامى نجد أن الذى دعاه إلى ذلك سيادة الموقف الجديد وتخطيه لكل ما سبق ، فبعد استغراق فى عرض حكاية كل يوم من مشقة وعمل دون تقدير وما يصحب ذلك من موقف نفسى سلبى تجىء الكلمات باستدراك كاستدراك شهرزاد التى أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح ، فالكلمات فجأة تقول ".. الشمس طلعت .. والملك لله .. ما تشيل قدومك .. والعدة ويالله .. اجرى لرزقك .. خليها على الله " ، ومن هنا نجد سيد درويش مخلصا لمدرسته التعبيرية ويقف مع تغليب الموقف الدرامى على أى شئ آخر حتى لو أدى ذلك إلى الانتهاء بغير ما بدأ به مغايرا بذلك العرف القديم ومحطما لقوالبه الجامدة 

4- الحوار الموسيقى

بدأ سيد درويش بناء الحوار الموسيقى مبكرا وظهر فى أدواره التقليدية فبل عمله بالمسرح الغنائى المعتمد على الحوار الشعرى ، وهنا نجد الحوار عنده حوارين ، حوار الكلام وحوار الموسيقى ، ويهمنا أن نسجل له ريادته وتفوقه فى الناحيتين

أما تناوله الحوار الشعرى بالموسيقى فلم يسبقه أحد إلى تلحين الديالوج الذى لم يظهر قبل سيد درويش ، وكان أول ديالوج هو "على قد الليل ما يطول" فى أوبريت " العشرة الطيبة" 

وأما غناء المجموعات على المسرح فقد ألبس كل دور ما يناسبه فى الموقف الدرامى بحيث بعد عن التطريب التقليدى وجعل حركات المجموعة تعبر تماما عن موقفها ولون فى أدائها وإيقاعاتها بحيث تتفق ما تغنيه مع ما يقوله الحوار 

فى لحن الوصوليين نجد الحوار الموسيقى واضحا فى التباين بين الجملتين الصاعدة (عشان ما نعلا) والهابطة (لازم نطاطى) بما يتماشى مع التركيب اللغوى أى الجملة الشرطية التى توحى للسامع بانتظار جواب الشرط، وهو تكنيك مشابه لتكنيك السؤال والجواب 

فى نهاية أوبريت شهرزاد موقف معقد لكنه منطقى فهناك مجموعتان لكل منهما موقف يظهر فى ذات الوقت فهذه مجموعة تهتف بشئ وتلك أخرى تهتف بشئ آخر، فكيف تعامل سيد درويش مع هذا موسيقيا؟ لقد اختار أن تغنى المجموعتان معا، كل فى كلامه ولحنه الخاص، وأن يخرج اللحنين معا كلحن واحد ، فصحيح أنهما مجموعتان وموقفان لكن الحدث واحد، فأنشأ تكوينا متباينا يمكنهما من أداء اللحنين فى نفس الوقت دون أدنى اضطراب بل فى تكامل تام ، وهو مايسمى فى الموسيقى الغربية التأليف الكونتربونتى .. فعلها سيد درويش وهو لم يدرس حرفا واحدا من ذلك العلم العويص كما قال الدكتور حسين فوزى فى تحليله 

5- البناء الدرامى

من يستمع إلى لحن ( عشان ما نعلا ) يدرك مباشرة أن الجمل الموسيقية هى من مستوى حكمة التعبير اللغوى، ولا يجب أن تكون دون ذلك. ومن الواضح أن سيد درويش كان يؤمن بما يلحنه أولا، أى أنه لم يكن يصنع الألحان للتطريب المزاجى وإنما يهدف إلى نفس غاية المؤلف او الشاعر ويريد أن تصل الفكرة إلى الناس فى أوضح صورة ممكنة

07 استهلال أنا عشقت.wmv

الدراما الموسيقية

عبر سيد درويش عن الكلمة بموقف موسيقى تفوق فى بعض الأحيان على إمكانيات الكلمة نفسها، وإذا قرات بداية دور "أنا عشقت" ووقفت عند حد هاتين الكلمتين لن يقودك الخيال إلى أكثر من خبرهما ، ولكن انظر إلى ما فعله سيد درويش.. إنه يصور هذه الجملة البسيطة باللحن فيغنيها " آه .......... أنا عشقت! " إنه يتأوه من أولها , يتألم ويصيح من حيرته فى أعلى المقام ثم يهبط بالآه سريعا إلى قاع المقام وكانه يقول: "لقد أصابنى العشق .. إذاً فلا حول لى ولا قوة .. انتهى الأمر". يشعر السامع عندها بأن الملحن قد تجاوز الكلمات ليس فقط إلى التعبير بل إن هذا المطلع عندما يؤدى بهذا الأسلوب يغنى عن بقية الأغنية .. 

لقد حصلنا على القصة والموقف والمتوقع والحاصل والنتيجة فى جملة واحدة وبأسرع وأوضح ما يكون ! وفى الحقيقة فإن هذه الجملة هى أشهر ما فى ذلك الدور، وإذا سمعنها تشعر وكأنك قد استمعت إلى القصيدة كلها ! وسر ذلك هو بناؤها الدرامى اللحنى 

ومثال أنا عشقت ليس سوى أبسط الأمثلة ، فالدراما عند سيد درويش بحر عميق هادر الأمواج أحيانا ، لطيف منتشى أحيان أخرى ، وهو يتبدل حاله فيه من مبحر فى طريق طويل إلى مصارع للأمواج إلى مستمتع بالجمال إلى غارق يرجو النجاة إلى متفائل يطوى البحار إلى عائد إلى وطنه يستبد به الشوق 

6- ضبط البنــاء اللحنى 

فى مثال لحن الشيالين، نلاحظ تربيع الجمل اللحنية مع تربيع الشطرات، أى أن هناك 4 جمل كلامية تقابلها 4 جمل موسيقية. وهذا كلام جديد جدا فى التلحين إذ أن دور المغنى هنا قد تقيد تماما باللحن وتمت للملحن هندسة بنائه بما لا يترك مجالا لارتجال المغنى كما كان فى السابق، وضمن أن كل من يغنيه سيغنيه بنفس الطريقة أو ما يسمى فى العصر الحديث أسلوب Reproducibility بمعنى القابلية للإنتاج بنفس الشكل. وهو ما يشبه فى الصناعة وضع المواصفات للمنتج بحيث بحيث لا تختلف قطعة عن أخرى وأن تكون القطع قابلة للإنتاج مرة أخرى بنفس المواصفات 

وقد بلغت دقة سيد درويش فى وضع الجمل الموسيقية أنه لا يمكن تغيير أى حركة دون أن يفقد اللحن ملامحه الأساسية   

وفى أدواره العشرة تعرض سيد درويش لمقطع الآهات وهو مقطع أساسى فى الدور، بطريقة جديدة. فقد وضع لحنا ثابتا للآهات من ناحية بعد أن كان هذا المقطع يترك تماما للمغنى لارتجاله كل مرة. ومن ناحية أخرى فقد استخدم أسلوبا مختلفا يعتمد على القفز بين الدرجات بدلا من التدرج البطئ وتكوين الجمل بحيث تتألف من حركات متباينة تتتابع فى حوار بدلا من الاسترسال، وآهات دور أنا هويت خير مثال على هذه النقلة الجديدة 

7- اختصار اللزم الموسيقية: 

نلاحظ كما ذكرنا فى ألحان سيد درويش الشعبية  اختفاء "اللـزم" الموسيقية بين المقاطع، وهى سمة من سمات موسيقى الصالونات رأى سيد درويش أن يتخلص منها كلما أمكن فسهل بذلك تداول ألحانه على ألسنة الجمهور  

8- استخدام التباين محل التلوين: 

لا يذكر لسيد درويش أنه أنهى جملتين متعاقبتين على نفس الدرجة، وهذه سمة من سمات الموسيقى الحديثة، على عكس ما كان سائدا قبله من تكرار الوقوف على نفس الدرجة مرات ومرات بعد تلوين الجمل بحركات مختلفة

08 الجرسونات.wmv

ولكن للمفارقة فقد عمد سيد درويش إلى استعمال الوقوف على درجة واحدة فى عدة حركات متعاقبة فى لحن "الجرسونات" من مقام الماجير، وهو هنا يتعمد الوقوف على نفس الدرجة فى عدة حركات متعاقبة، وهو لا يلون فى هذه الحركات مقاميا ولا زخرفيا بل تأتى متشابهة البناء فى لحن متكرر تقريبا .. كيف فعل ذلك سيد درويش وهو المجدد الذى التزم باستئصال الرتابة والتكرار من الموسيقى؟ 

الإجابة أنه فى هذه الجمل، وهى استثنائية بالنسبة لأسلوبه، عمد عمدا إلى منع التباين بل ومنع التلوين، والسبب فرضه الكلام نفسه، وكما هو الحال مع سيد درويش فإن التعبير له الأولوية القصوى، لنتأمل الكلمات لنرى ..

إن الجرسونات يشتكون من " رتابة" عملهم , ولسان حالهم يقول أن اللى نبات فيه نصبح فيه ، وأن عرض كل ليلة من الزبائن أصبح مملا   

اهى شغلتنا كده يا افندية .. نفضل كده ....  نهاتى .. ، اللى نقوله نعيده .. كأننا بنقرا ف عدية .. 

ده الجرسون منا يا بيه .. وحياتك له الجنة .. ياما بنقاسى ف خوتة ، ودوشة ومرمطة يا اخواننا .. 

نفضل شايلين .. صوانى وماشيين .. زى المكوك .. رايحين جايين .. 

ويبدأ سيد درويش فى عرض الصورة التى تتكرر كل يوم بتكرار نفس الجملة اللحنية من أول كأننا بنقرا ف عدية .. 8 مرات لـ 8 جمل متعاقبة إلى المقطع رايحين جايين ، حتى يصور الملل الحادث! وهى أطول جملة تكرر فيها التوقف على نفس الدرجة ليس عند سيد درويش فقط بل فى أى لحن لأى ملحن ، يكفى هذا العرض لبيان أنه تكرار متعمد استلزمه تصوير المعنى المراد من الكلام ، ولكنه عند انتهاء بيان التكرار يجد الجمل التالية تصف الصور المختلفة التى يتم تكرارها كل ليلة ، وأصبحت المواقف هنا متابينة وليس متشابهة ، فالكلمات تقول: 

يبقى ده يسقف، وده يهاتى، وده يخبط كده .. هنا يتوقف اللحن بكل صورة، رغم قصرها الشديد، على درجة مختلفة، فالصورة الأولى تقف على الدرجة الخامسة، والثانية على الأولى، والثالثة على الثانية مما يوحى باختلاف تلك الصور عن بعضها ويدعو للعودة لاستعمال التباين 

وعند الخروج من الموقفين إلى ختام المقطع تأتى الجملة الختامية كمن يتنفس الصعداء بعد طول معاناة، منهية سرد المواقف التى تم تعليقها طويلا على درجة غير مستقرة، وهى الدرجة الثانية، بختام يتضمن كل درجات السلم فى تدرج ديناميكى حتى يستقر تمام الاستقرار على درجة الركوز

9- بساطة الألحان - الألحان الشعبية: 

استخدم سيد درويش فى ألحانه جملا بسيطة اعتمدت أساسا على التراث الشعبى المتداول كفولكلور ، فى صياغة فنية حديثة أكسبتها روحا جديدة ، وليس أدل على بساطة الألحان أكثر من سهولة ترديدها وحفظها على ألسنة الناس ، ولم تكن هناك حاجة لمطرب محترف لأدائها فيما عدا الأدوار والموشحات ، وأفضل وصف لموسيقاه هو السهل الممتنع ، حيث لم يستطع أحد إبداع مثل ما أبدعه من ألحان من نغمات بسيطة التركيب 

موسيقى الأناشيد:

يعتبر سيد درويش أفضل ملحن للأناشيد على الإطلاق ، ولم يعرف لمصر أناشيد قومية قبله، وأناشيد سيد درويش وصفها الشاعر بديع خيرى بقوله أنها تبث الحماس فى الجبان! 

 وقد صاغ أناشيده غالبا على إيقاع المارش الرباعى وإن شذ عن ذلك فى نشيد قوم يا مصرى وإيقاعه من الفالس الثلاثى  ، وهذه التجربة لم تحدث قط من قبل ، لا فى الشرق ولا فى الغرب ، ولذلك وصفه المحللون الغربيون بأنه فنان مجدد ومبتكر 

ولعرض الخصائص الأربعة السابقة فى عمل واحد نأخذ مثالا من نشيد بلادى بلادى 

09 بلادي.wmv

نشيد بلادي

نجد فى لحن هذا النشيد الخصائص الأربعة السابقة واضحة تماما وهى: ضبط البنــاء اللحنى، اختصار اللزم الموسيقية واستخدام التبـاين محل التلوين ، إلى جانب بساطة اللحن 

والنشيد عموما يختلف غيره من الأشكال الموسيقية بكونه أداة تعبير عن الجمهور ، ولذلك يلزم له تلك الخصائص الأربع بالذات وإلا احتاج لأحد المطربين ليقوم بغنائه 

ولنتأمل جمل النشيد لنرى كيف تظهر تلك الخصائص: 

يتكون نشيد بلادى من مقطعين رئيسيين هما المذهب والكوبليه 

المذهب مكون من جملة كاملة من بيت واحد فى شطرتين هما 

بلادى بلادى  .. لك حبى وفؤادى 

ويتكون الكوبليه من بيتين شطرتان فى كل منهما 

مصر يا أم البلاد .. أنت غايتى والمراد 

وعلى كل العبـاد ..  كم لنيلك من أيادى 

ضبط البنــاء اللحنى 

إذا قمنا بعد الأزمنة الموسيقية فى أى شطرة نجدها مماثلة لعدد الأزمنة فى الشطرة المقابلة فى نفس البيت ، وأيضا لعدد الأزمنة فى الشطرات التالية حتى نهاية النشيد ، وهناك وحدتان زمنيتان فى كل شطرة من المذهب ، ونلاحظ هنا أيضا مسالة تربيع الجمل الموسيقية أى جعلها فى وحدات تتكون كل منها من 4 مازورات 

اختصار اللزم الموسيقية: 

لا توجد أية لزم موسيقية فى هذا اللحن 

استخدام التبـاين محل التلوين: 

الشطرة الأولى تقف على معلقة الدرجة الثانية ، تتبعها الثانية لتقف على الدرجة الأولى منهية المذهب على درجة ركوز المقام 

الشطرة الأولى من البيت الأول فى تقف على الدرجة الثانية ، فالشطرة الثانية على الدرجة الثالثة ، فالشطرة الثالثة على الدرجة الخامسة ، فالأخيرة منهية الكوبليه على أساس المقام 

بساطة اللحن 

تتجلى بساطة هذا اللحن فى أن أبعاده الغنائية لم تتعد الدرجات الخمس الأولى من السلم الموسيقى ، وتبدأ الحركة الأولى بقفزة تأتى من خارج الزمن من الدرجة الخامسة للأوكتاف الأدنى وكأنها استعداد وتحضير لبدء الغناء المنظم للمجوعة مع أول دقات المارش 

ويضاف إلى ذلك تكرار اللحن فى الكوبليهات ، بحيث تتغير الكلمات فقط ، وهذا الأسلوب ضرورى للتركيز على وحدة اللحن والجو العام من ناحية ومن ناحية أخرى لتسهيل ترديده على الناس 

بين سيد درويش وبيتهوفن! 

وهذا ليس فقرا من سيد درويش فإن نشيد بلادى من أعظم أعماله جميعا على بساطته، وهذا يذكرنا بأعظم أعمال بيتهوفن فى السيمفونية التاسعة المسماة بالكورالية، وهى الوحيدة التى تضمنت غناء، فبعد أن أدلى كل بدلوه موسيقى وغناء جاءت قمة العمل بصوت مجموعة الكورال تؤدى لحنا اشتهر فى العالم كله ومازال يغنى للآن حتى فى أبسط الصور دون أوركسترا ويعزفه الكبار والصغار، ولم يكن نجاح هذا المقطع، وبالتالى السيمفونية كلها، إلا بسبب بساطة لحنها، فهى أيضا لم تتعد الخمس درجات الأولى من السلم الموسيقى، ومن الملاحظ أيضا لجوء كل منهما إلى استعمال الدرجة الخامسة فى الأوكتاف الأدنى لمرة واحدة أو مرتين خلال اللحن! 

 بنى بيتهوفن سيمفونية كاملة من أجل أن يصل إلى هذه الذروة، لكن سيد درويش، كعادته، دخل فى الموضوع مباشرة  

10- استخدام الأوركسترا 

كان لسيد درويش مايسترو إيطالى يدعى سنيور كاسيو هو قائد الأوركسترا التى أدت ألحانه المسرحية حية على المسرح ، وهنا نراه قد أحل الأوركسترا الغربى محل التخت الشرقى ، وعمد إلى إدخال تراكيب جديدة متطورة من التآلفات النغمية إلى موسيقاه اتسقت مع الآلات الغربية مثل البيانو ، وقد وجد فى التكوين الأوركسترالى أداة جيدة للتعبير عن خياله الموسيقى 

الواقع أن البحث فى موسيقى سيد درويش يتسع لأكثر مما جاء فى هذا البحث بكثير  ولكن نكتفى هنا بالقول بأنه لهذه الأسباب ولغيرها ذكرنا بداية أنه عنـد مقـارنة ألحان سيد درويش بما قبلها نجد عناصر قد اختفت وحلت مكانها عناصر جديدة أصبحت هى السمات الأساسية للألحان من بعده ، وهو بذلك قد وضع قواعد وأساليب جديدة فى التلحين، بحث وتحليل: د.أسامة عفيفى - موسيقى سيد درويش