المحتويات:
تعريف الطلاق
دليل مشروعية الطلاق
حكمة مشروعية الطلاق
أنواع الطلاق
ما يملكه الزوج من الطلقات
شروط صحة الطلاق ووقوعه
الكيفيات المشروعة للطلاق
تفويض الطلاق إلى الزوجة
خاتمة في بعض مسائل الطلاق
الطلاق في اللغة: الحلّ والانحلال. يقال: أطلقت الأسير: إذا حلَلْتَ إساره، وخلّيت عنه.
وأطلقت الناقة من عقالها: أرسلتها ترعىٰ حيث تشاء. ودابة طالق: مُرسلَة بلا قيد.
والطلاق شرعاً: حل عقدة النكاح بلفظ الطلاق ونحوه.
والأصل في مشروعية الطلاق: الكتاب، والسنّة، والإِجماع.
أما الكتاب: فقول الله عزّ وجلّ: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]
وقوله سبحانه وتعالىٰ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وأما السنّة: فقول النبي ﷺ: «أبغَضُ الحلالِ إلى اللهِ الطَّلاقُ».
[أبو داود: الطلاق، باب: في كراهية الطلاق، رقم: 2178)، وابن ماجه: أول كتاب الطلاق، رقم: 2018].
رو ىٰ الترمذي [في أبواب الطلاق، باب: ما جاء في الرجل يسأله أبوه أن يطلق زوجته، رقم: 1189]، وابن ماجه [في الطلاق، باب: الرجل يأمره أبوه بطلاق امرأته، رقم: 2088]، وأبو داود [ي الأدب، باب: في برّ الوالدين، رقم: 5138]، عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: «كانت تحتي امرأةٌ أحِبُّها، وكان أبي يَكرَهُها، فأمَرَني أبي أن أطَلِّقَها، فأَبيتُ، فذكَرْتُ ذلك للنَّبيِّ ﷺ، فقال: يا عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، طَلِّقِ امرأتَك».
أما الإجماع: فقد اتفقت كلمة العلماء علىٰ مشروعيته، ولم يخالف منهم أحد.
الأصل في الزواج هو استمرار الحياة الزوجية بين الزوجين. وقد شرع الله سبحانه وتعالىٰ أحكاماً كثيرة، وآداباً جمّة للزواج، لاستمرار وضمان بقائه، ونمو العلاقة الزوجية بين الزوجين. غير أن هذه الآداب والأحكام قد لا تكون مرعيّة من قبل الزوجين أو أحدهما: كأن لا يهتم الزوج بحُسْن الاختيار، أو بأن لا يلتزم الزوجان أو أحدهما آداب العِشْرة التي رسمها لهما الدين الحنيف ، فيقع بينهما التنافر، حتىٰ لا يبقىٰ مجال لإصلاح، ولا وسيلة لتفاهم وتعايش بين الزوجين. فكان لابدّ ـوالحالة هذه- من تشريع قانون احتياطي، يهرع إليه في مثل هذه الحالة، لحلّ عقدة الزواج علىٰ نحو لا تُهدر فيه حقوق أحد الطرفين، ما دامت أسباب التعايش قد باتت معدومة فيما بينهما. وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا } [النساء: 130].
فإن استعلمه الزوج وسيلة أخيرة عند مثل هذه الضرورة فذلك علاج ضروري، لا غِنىٰ عنه، وإن جاء مُرّاً في كثيرٍ من الأحيان. وأما إن استعمله لتحقيق رعوناته، وتنفيذ أهوائه، فهو بالنسبة له أبغض الحلال إلىٰ الله عزّ وجلّ.والله تعالىٰ يعلم المُصلِح من المُفسِد، وإليه مرجع هذا وذاك.
ومن خلال ما ذكرنا يتأكد لنا أن مشروعية الطلاق علىٰ النحو الذي نظّمت الشريعة الإسلامية أحكامه ونتائجه، تُعدّ من مفاخر الشريعة الإِسلامية، وتعدّ من أكبر الأدلة علىٰ أن أحكام هذه الشريعة متسقة تمام الاتّساق مع الفطرة الإِنسانية، والحاجات الطبيعية عند الإِنسان.
وقد تجلّت هذه الحقيقة عندما رأينا الأمم المختلفة، وهي تتراجع عمّا كانت تلزم نفسها به من حُرمة الطلاق، واعتبار عقد الزواج سجناً أبديّاً، يقرن فيه الزوجان أحدهما إلىٰ الآخر، كرها ذلك أو رضيا، وذلك بعد أن رأت هذه الأمم أن هذا الحظر لا يقدّم للمجتمع إلا أسوأ النتائج، وأخطر مظاهر الإِجرام، وبعد أن تنبهت إلىٰ أن اقتران اثنين أحدهما بالآخرلا يمكن أن يتم بالإِكراه، إلا إذا أريد أن يكون الإكراه ينبوع تعاسة وشقاء للأسرة كلها، أو بركان دمار وقتل وفتك.
ولقد اهتمت الشريعة الإسلامية بإيجاد أسباب التفاهم، والوداد والتعايش المستمر بين الزوجين. ولكنها لم تعالج ذلك بربط جسد كلٍّ منهما بالآخر، وإنما عالجته بالتنبيه والإِرشاد إلىٰ الضمانات الإِيجابية المختلفة التي تغذي الوداد بينهما، وتشبع أسباب التفاهم، وتطرد من بينهما موجبات المشاكسة والتنافر، ولقد كان من أهم هذه الضمانات التي أرشد إليها توفر الدين الصحيح في الزوجين، وقيام كلٍّ منهما بالواجبات المنوطة به، والتزام كلٍّ من الزوجين بالسلوك الأخلاقي السليم، علىٰ النحو الذي نظمته شرعة الله عزّ وجلّ.
هذه الضمانات هي التي تحمي بيت الزوجية عن أن يتهدم، وهي التي تجعل من شرعة الطلاق قانوناً موضوعاً علىٰ الرف، يستنجد به عند الضرورة، أي عندما يقصر أحد الزوجين عن تحقيق الضمانات والآداب التي شرعها الله تعالىٰ حفاظاً علىٰ الحياة الزوجية، ورعاية للمودّة والألفة بين الزوجين. والدليل علىٰ هذا الذي نقول: أن حوادث الطلاق لا تكاد ترىٰ لها وجوداً في البيوت والأسر الصالحة التي يتقيد أهلها بأحكام الإِسلام وآدابه. وإنما تبصر، أو تسمع بأكثر هذه الحوادث في الأسر المتحلِّلة من قيود الإِسلام، الخارجة علىٰ نُظُمه وآدابه.
الطلاق له ثلاث تقسيمات، باعتبارات مختلفة:
باعتبار وضوح اللفظ في الدلالة عليه، وعدم وضوحه ينقسم إلىٰ: صريح وكناية.
وباعتبار حال الزوجة، من طُهر وحيض، وكبر وصغر، ينقسم إلىٰ: بِدْعي، وسُنّي، وإلىٰ ما لا يوصف بسني، ولا بِدعي.
وباعتبار كَونه علىٰ بدل من المال، وبدون بدل ينقسم إلىٰ: خلع، وطلاق عادي.
فلنشرح كلًّا من هذه التقسيمات الثلاثة علىٰ حدة:
إذا لاحظت الألفاظ التي تستعمل للدلالة علىٰ الطلاق وجدت أن هذه الألفاظ:
-إما أن تكون ذات دلالة قاطعة علىٰ الطلاق، بحيث لا تحتمل غيره، فهذه الألفاظ تسمىٰ: صريحة.
-وإما أن لا تكون قاطعة في دلالتها، بحيث تحتمل غير الطلاق، فهذه الألفاظ تسمىٰ: كناية.
إذاً فالطلاق ينقسم إلىٰ القسمين التاليين:
صريح.
كناية.
١ـ فالطلاق الصريح: هو ما لا يحتمل ظاهر لفظه إلا الطلاق، وألفاظه ثلاثة: هي: الطلاق، والسراح، والفراق، وما اشتق من هذه الألفاظ.
-كقوله: أنتِ طالق، أو مسرّحة، أو طلّقتك، أو فارقتك، أو سرّحتك.
-وإنما كانت هذه الألفاظ صريحة في دلالتها علىٰ الطلاق لورودها في الشرع كثيراً، وتكرارها في القرآن بمعنىٰ الطلاق. قال الله تعالىٰ:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: 1].
وقال عزّ وجلّ: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلً} [الأحزاب: 28]. وقال سبحانه وتعالىٰ:{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2].
-ومن الصريح: ترجمة لفظ الطلاق بالعجمية ـ أي غير اللغة العربية ـ لشُهرة استعمال هذه اللغات عند أهلِها، كشهرة استعمال العربية عند أهلها.
٢ـ والكناية: وهي كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره. وألفاظها كثيرة: كقوله:
ـ أنتِ خلية: أي خالية مني.
ـ أنتِ بريئة: أي منفصلة عني.
ـ أنتِ بتّة: أي مقطوعة الوصلة عني.
ـ اِلحقي بأهلك.
ـ اذهبي حيث شئتِ.
ـ اعزُبي: أي تباعدي عني.
ـ اغرُبي: أي صيري غريبة عني.
ـ حَبْلُكِ علىٰ غاربكِ: أي خلّيت سبيلك، كما يخلّىٰ البعير. والغارب: ما تقدم من الظهر، وارتفع من العنق.
ـ أنتِ عليَّ حرام.
فكلّ هذه الألفاظ ـ وغيرها كثير ـ تعتبر كناية في دلالتها علىٰ الطلاق، لاحتمالها الطلاق وغيره.
دليل استعمال ألفاظ الكناية في الطلاق:
ودليل استعمال ألفاظ الكناية في الطلاق: ما رواه البخاري (في الطلاق، باب: مَن طلّق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، رقم: 4955) عن عائشة- رضي الله عنها- «أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ : لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ».
حكم كلٍّ من ألفاظ الصريح والكناية:
إذا عرفت ما ذكر، فاعلم أن الطلاق بالألفاظ الصريحة يقع، سواء توفرت فيه نيّه الطلاق أم لا. لأن صراحة اللفظ، وقطعية دلالته علىٰ المعنىٰ، يغنيان عن اشتراط النيّة، عند التلفّظ به.
أما ألفاظ الكناية ـ ولو اشتهرت علىٰ ألسنة الناس في الطلاق: كعليّ الحرام، وأنت عليّ حرام، فلا يقع الطلاق بها إلا إذا قصد بها الزوج الطلاق.فإذا قصد بها شيئاً آخر غير الطلاق، أو لم يقصد بها شيئاً، لم يقع بها شيء. ودليل ذلك ما رواه البخاري [في المغازي، باب: حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ... رقم: 4156] ومسلم [في التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم: 2769] في توبة كعب بن مالك - رضي الله عنه - حينما تخلّف عن غزوة تبوك، فإن رسول الله ﷺ «أمره أن يَعْتزِلَ امْرأَته، فقال: أُطَلِّقُهَا، أَمْ مَاذا؟ قَالَ: لاَ بَلْ اعتْزِلْهَا فَلاَ تقربَنَّهَا، قال: فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: الْحقِي بِأَهْلكِ» .فلما نزلت توبته رجعت زوجته إليه، ولم يؤمر بأن يعقد عليها من جديد. فدلّ ذلك علىٰ أن (الحقي بأهلك) لا يقع به الطلاق إلا بالنيّة.وحيث إن كعباً - رضي الله عنه - لم ينوِ به الطلاق، فإنه لم يقع به شيء، ورجعت زوجته إليه.
المرأة التي يقع عليها الطلاق لا تخلو من واحد من أحوال ثلاثة:
-الحالة الأولىٰ: أن تكون المرأة طاهرة عن الحيض والنفاس، ولم يقربها زوجها في ذلك الطهر بعد.
-الحالة الثانية: أن تكون متلبسة بعد دخول الزوج بها بحيض أو نفاس، أو تكون في طُهر جامعها فيه زوجها.
-الحالة الثالثة: أن تكون صغيرة لم تَحضْ بعد، أو آيسة تجاوزت سن المحيض، أو حاملاً ظهر حملها، أو غير مدخول بها بعد، أو طالبة للخلع.
فإن وقع الطلاق في الحالة الأولىٰ، سمي: (طلاقاً سنيّاً).
وإن وقع في الحالة الثانية سمي: (طلاقاً بدعيّاً).
وإن وقع في الحالة الثالثة لم يكن: (سنيّاً، ولا بدعيّاً).
فأقسام الطلاق بهذا الاعتبار إذاً ثلاثة:
١ـ طلاق سني.
٢ـ طلاق بدعي.
٣ـ طلاق لا يوصف بسنّي، ولا بدعي.
حكم كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة:
١ـ الطلاق السني: إن الطلاق السني جائز وواقع، وهو الشكل المطابق للتعاليم الشرعية في كيفية الطلاق، إذا كان الزوج، ولابدّ مطلقاً، سواء أوقعَ الزوج طلقة واحدة، أم أوقع ثلاث طلقات مجتمعات.
ولكن يسنُّ أن يقتصر علىٰ طلقة، أو طلقتين في الطهر الواحد كي يتمكن من إرجاعها إذا ندم.ودليل الطلاق السني: قوله عزّ وجلّ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدّة، وهو الطهر، إذ زمن الحيض لا يحسب من العدّة.
٢ـ الطلاق البدعي: إن الطلاق البدعي محرم، ولكنه واقع، ويلزم من وقوعه الإِثم، لمخالفته للصورة المشروعة للطلاق التي وردت في قوله تعالىٰ: { إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]
ويسنّ له الرجعة، فقد روىٰ البخاري (في أول كتاب الطلاق، رقم 4953)، ومسلم(في الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، رقم: 1471) عن عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما -أنه طلّق امرأته، هي حائض، علىٰ عهد رسول الله ﷺ فسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال رسول الله ﷺ : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». أي بقوله تعالىٰ:} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي لاستقبال عدّتهن.
والمعنىٰ: ليتركها بعد الرجعة حتىٰ تطهر، وعندئذ يوقع طلقة واحدة إذا شاء، فإذا حاضت ثم طهرت أوقع طلقة أخرىٰ إذا شاء، فإذا طهرت للمرة الثالثة فلينظر: إن شاء أمسكها بعد الرجعة، وإن شاء أوقع طلقة ثالثة، وتكون قد بانت بذلك منه.
سبب تحريم الطلاق البدعي:
وسبب تحريم الطلاق البدعي ما يستلزمه من الإِضرار بالمرأة، إذ يطول بذلك أجَل عدّتها، لأن حيضتها لا تحسب من العدّة.
قال رسول الله ﷺ : «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».أخرجه مالك في الموطأ [الأقضية، باب: القضاء في المرفق، رقم: 2/ 745]، وابن ماجه في سننه [الأحكام، باب: من بنىٰ في حقه ما يضرّ بجاره، رقم: 188، 2340، 2341].
أما حرمة الطلاق في طهر جامع زوجته فيه: فلاحتمال الحمل فيه، وهو لا يرغب في تطليق الحامل، فيكون في ذلك الندم.
٣ـ الطلاق الذي لا يوصف بسنّة ولا بدعة: إن الطلاق الذي لا يوصف بسنّة ولا بدعة جائز، وواقع، وليس حراماً، إذ لا ضرر يلحق الزوجة بسببه، إذ الصغيرة والآيسة تعتدّان بالأشهر، فلا يلحقهما ضرر إطالة العدّة، وكذلك الحامل، فإن عدّتها علىٰ كل حال بوضع الحمل، وكذلك طالبة الخلع، لأن افتداءها نفسها من الزوج بالمال دليل علىٰ حاجتها إلىٰ الخلاص منه، ورضاها بطول التربص.
١ـ الطلاق العادي: وهو الطلاق الذي يقع برغبة من الزوج، وهذا الطلاق ينطبق عليه الأحكام التي ذكرناها قبل.
٢ـ الخلع: وهو الطلاق الذي يقع برغبة من الزوجة وإصرار منها علىٰ ذلك، وقد شرع لذلك سبيل الخلع، وهو أن تفتدي نفسها من زوجها بشئ يتفقان عليه من مهرها تعطيه إياه.
فالخلع إذاً قسم من الطلاق: وهو كل فُرْقَة جرت علىٰ عوض تدفعه الزوجة للزوج.
دليل مشروعية الخلع:
ويستدلّ لمشروعية الخلع: بالكتاب، والسنة.
أما الكتاب: فقول الله عز وجل: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
وأما السنّة: فما رواه البخاري (في الطلاق، باب: الخلع وكيف الطلاق، رقم: 4971) عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: «أنَّ امرأةَ ثابتِ بنِ قيسٍ أتتِ النَّبيَّ ﷺ، فقالَت : يا رسولَ اللَّهِ ، ثابتُ بنُ قيسٍ ، ما أعتبُ عليهِ في خُلُقٍ ولا دينٍ ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفرَ في الإسلامِ ، فقالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ : أتردِّينَ عليهِ حديقتَهُ ؟ قالَت : نعَم .فقالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ : اقبَلِ الحديقةَ ،وطلِّقها تَطليقةً ». [ما أعتب عليه: لا أعيب عليه. أكره الكفر في الإسلام: أكره جحود حقوق الزوج وأنا مسلمة].
أحكام الخلع:
للخلع أحكام نلخصها فيما يلي:
١ـ الخلع جائز، ولا يقع إلا بعوَض مالي تفرضه الزوجة للزوج. ثم إن كان العوَض في الخلع معلوماً مذكوراً في الخلع وجب ذلك العوَض المعلوم، وإن لم يكن مذكوراً علىٰ وجه التحديد صحّ الخلع، ووجب مهر المثل للزوج.
أما إن استعمل الزوج لفظ الخلع، ولم ينص علىٰ عوض، ولم يخطر بباله العوَض أيضاً، فهو طلاق عاديّ جرىٰ بلفظ الخلع كناية. أي فهو من كنايات الطلاق، ويقع به الطلاق رجعيّاً.
٢ـ لا يقع الخلع من غير الزوجة الرشيدة، لأن غير الرشيدة لا تتمتَّع بأهلية الالتزام، فلا تملك التصرّف، فإن خالعها الزوج وقع طلاقاً رجعيّاً عاديّاً، ولا يثبت له به شيء من مهرها.
٣ـ إذا خالع الرجل امرأته، ملكت المرأة بذلك أمر نفسها، ولم يبق للزوج عليها من سلطان، فلا رجعة له عليها أثناء العدّة، كما هو الشأن في الطلاق العادي، لأن الخلع طلاق بائن، وإنما السبيل إلىٰ ذلك عقد جديد تملك فيه المرأة كامل اختيارها، وبمهر جديد أيضاً.
٤ـ لا يلحق المرأة المُخالعة أي طلاق، أو ظهار، أو إيلاء أثناء العدّة من زوجها الذي خالعها، أي لا أثر لشيء من ذلك عليها، لأنها أصبحت بالخلع أجنبية عن الزوج، فلا يسري إليها تطليق، ولا ظهار، ولا إيلاء. بخلاف المطلّقة طلاقاً عاديّاً رجعيّاً، فإن الزوج يملك أن يطلّقها طلقة ثانية، أو يظاهر منها أثناء العدّة، ويسري أثر ذلك عليها.
٥ـ يجوز أن يُخالع الرجل زوجته في الحيض والطهر الذي جامعها فيه، ما دامت رشيدة. ذلك لأنها لا تتضرر بذلك، إذ الخلع إنما هو تحقيق لرغبتها في التخلّص من الزوج، فلا يرد فيه ما يمكن إيراده علىٰ الطلاق العادي الذي يكون برغبة من الزوج، من الإِضرار بالزوجة.
من المعلوم أن الطلاق حقٌ للزوج في الأصل. ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ:{ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. والذي بيده عقدة النكاح إنما هو الزوج.غير أن الزوجة أيضاً تصبح صاحبة حق في ذلك، في حالات خاصة، من أهمها:
ـ أن ينالها ضرر من الزوج.
ـ أن يقصر في أداء شيء من حقوقها، ثم يتعذّر إصلاح الأمر بينهما. فعندئذ يُوقع عليها القاضي طلقة بناءً علىٰ رغبتها.
بعد هذا نقول:كَم هي الطلقات التي يملكها الزوج، ما دام هو صاحب هذا الحق في الأصل؟
- لقد أجاب القرآن علىٰ ذلك، وقرر عدد الطلقات التي يملكها الزوج: قال الله عزّ وجلّ:{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. [البقرة: 229]. ثم قال سبحانه وتعالىٰ: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
أي إن الزوج يملك أن يطلّق زوجته ثلاث تطليقات، اثنتان منها رجعيتان، والثالثة تسريح لا رجعة بعده، إلا بشروط سنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالىٰ.
-روىٰ أبو داود [في الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، رقم: 2195]، والنسائي [في الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث: رقم: 6/ 212] عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إن الرجل كان إذا طلق امرأته، فهو أحقّ برجعتها، وإن طلّقها ثلاثاً، فَنَسخ ذلك، وقال: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي الطلاق الذي يملك الزوج فيه الرجعة مرتان فقط. ومن ثم فقد انعقد الإِجماع علىٰ أن الزوج يملك ثلاث تطليقات، ثالثتها بائنة لا رجعة بعدها، إلا بما سنذكره من الشروط إن شاء الله تعالىٰ.
لابدّ لكي يملك الزوج ما ذكرنا من الطلقات، ولابدّ لكي يقع ذلك منه، من أن تتوفر في الزوج المطلِّق الشروط التالية:
فلا يقع طلاق الرجل من المرأة التي لم يعقد نكاحه عليها، ولا من التي سيعقد نكاحه عليها، سواء كان ذلك بأسلوب التنجيز، أو التعليق: كأن يقول لامرأة لم يعقد عليها: أنت طالق، أو يقول: إن تزوجتك فأنت طالق.
ودليل ذلك من القرآن الكريم قول الله عزّ وجلّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. فقد علّق سبحانه وتعالىٰ نتائج الطلاق وأحكامه علىٰ ثبوت النكاح أولاً.
والدليل من السنة أيضاً: قول النبي ﷺ «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ». رواه الحاكم (في الطلاق، باب: لا طلاق لمن لم يملك، رقم: 2/ 205) وصححه.
وروىٰ أبو داود [الطلاق، باب: في الطلاق قبل النكاح، رقم: 2190]، والترمذي [الطلاق، باب: ما جاء لا طلاق قبل نكاح، رقم: 1181]عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ :«لا نذرَ لابنِ آدمَ فيما لَا يَمْلِكُ ولَا عِتْقَ لَهُ فيما لَا يَمْلِكُ وَلَا طلاقَ لَهُ فيما لَا يَمْلِكُ».
فالصبي والمجنون والنائم لا يقع طلاقهم.
ودليل ذلك: ما رواه أبو داود [في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدّاً، رقم: 4403] وغيره عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ : «رُفِع القَلمُ عن ثلاثةٍ: عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبي حتَّى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتَّى يَعقِلَ» والاحتلام هو البلوغ والكبر.
-ويدخل في حكم هؤلاء الثلاثة: الساهي، والجاهل بمعنىٰ الكلام الذي يقوله: ولكن لا تقبل دعواه أنه ساهٍ، أو جاهل بمعنىٰ ما يقول إلا بقرينة أو بيِّنة.
طلاق السكران:
-أما السكران، فإن سكر بدواء لا مندوحة له عن استعماله، وغاب من جرّائه عقله، أو أكره علىٰ شرب مُسكِر، بالتهديد، أو صُبَّ المُسكِر في جوفه، فإن حكمه كالصبي والنائم والساهي، بجامع العذر في كلٍّ.
-أما إن سكر متعديا ـ أي عن قصد واختيار وبدون عذر ـ فإن طلاقه
يقع، ويعتبر كالرشيد حكماً، وعقوبة له علىٰ تعدّيه بشرب المُسكِر، لأن السكران مكلّف، ولأنه بإجماع الصحابة مؤاخذ بما يتلفظ به حال سكره، من عبارات القذف، ونحوه.
فلا يقع طلاق المكره. لكن مع مراعاة الشروط التالية في الإكراه:
١ـ أن يكون الإكراه بغير حق، فإن أُكره علىٰ الطلاق بحق ـ كأن كان مُضارّاً لزوجته، فأكرهه الحاكم علىٰ تطليقها ـ فإن الطلاق يقع.
٢ـ أن يكون الإِكراه معتمداً علىٰ التهديد له مباشرة، بما يحصل منه ضرر شديد: كالقتل، والقطع، والضرب المبرح، ومثله الضرب القليل والإِيذاء البسيط بالنسبة لمن هو من ذوي الأقدار.
٣ـ وأن يكون المكره قادراً علىٰ تنفيذ ما هدد به.
ودليل ذلك قول النبي ﷺ : «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ».
رواه ابن ماجه [في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2046]أي في إكراه، لأن المكره يغلق عليه أمره، وتصرّفه.
وروىٰ ابن ماجه [في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2045] وغيره: أن النبي ﷺ قال:«إنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتي الخطأَ ، و النِّسيانَ ، و ما اسْتُكرِهوا عليه». أي وضع عنهم حكم ذلك، لا نفس هذه الأمور، لأنها واقعة.
٤ـ أن لا يصدر من الزوج المُكْرَه إلا القدر الذي أكره عليه، فلو أكره علىٰ الطلاق مرة، أو مطلقاً، فطلّق طلقتين، أو ثلاثاً، وقع الطلاق.
طلاق الهازل واللاعب:
إذا تأملت في الشروط التي ذكرناها لوقوع طلاق المكره علمت أن
-طلاق الهازل واللاعب واقع، إذا كان رشيدًا بالغاً عاقلاً مختاراً، ولا يُعدّ لعبه وهزله عذراً في عدم وقوع الطلاق.
ودليل ذلك: ما رواه الترمذي [في الطلاق، باب: ما جاء في الجدّ والهزل في الطلاق، رقم: 1184]، وأبو داود [في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل، رقم: 2194)] وابن ماجه [في الطلاق، باب: مَن طلّق أو نكح أو راجع لاعباً، رقم: 2039] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: « ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وهَزْلُهنَّ جِدٌّ:النكاحُ، والطلاقُ، والرجْعةُ».
يمكن إيقاع الطلاق علىٰ كيفيات مختلفة:
ـ كالجمع بين الطلقات بلفظ واحد، أو التفريق بينها.
ـ أو إيقاع الطلاق منجزاً، أو معلقاً علىٰ شرط، أو مع استثناء.
الكيفية الأولىٰ للطلاق:
واعلم أن الكيفية التي هي أفضل في الطلاق شرعاً، والمتفقة مع الحكمة من جعل الشّارع طلاق الرجل زوجته موزعاً علىٰ ثلاث مراحل، هي: أن يطلّق طلقة واحدة في طهر لم يجامع الرجل زوجته فيه، فإذا بدا له وندم أرجعها إليه أثناء العدّة.فإن عاودته الرغبة في الطلاق طلّقها طلقة ثانية، وكان في يده بعد ذلك طلقة واحدة، تبين بها زوجته عنه بينونة كبرىٰ، ولا ترجع إليه إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره نكاحاً شرعيّاً كاملاً، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالىٰ.
وهذه الكيفية هي المفهومة من صريح قول الله عزّ وجلّ: { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [البقرة: 229].
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
إذا لم يلتزم بالكيفية المفضلة للطلاق، فلا يعني أن الطلاق لا يقع، بل يقع كيفما كان، ما دامت الشروط التي تحدّثنا عنها مجتمعة في الشخص المطلّق. وعلىٰ ذلك، فلو جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد في وقت واحد، فقال: أنتِ طالق ثلاثاً، بانت منه بثلاث طلقات، كما لو نطق بهنّ متفرقات. ولا يعتبر ذلك محرّماً، بل هو خلاف السنّة، وجنوح عن الطريقة المفضلة.
ودليل ذلك ما رواه الترمذي [في الطلاق، باب: ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتّة، رقم: 1177]، وأبو داود [في الطلاق، باب: في البتّة، رقم: 2208]، وابن ماجه [في الطلاق، باب: طلاق البتّة رقم: 2051] أن ركانة طلّق زوجته البتَّة ـ أي قال لها أنت طالق البتّة ـ فقال له النبي ﷺ : ـ وقد سأله ركانة عن سبيل لرجعتها ـ «آاللَّهَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً ؟ قَالَ: اللَّهَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً. فردّها إليه».
فالحديث دليل علىٰ أن ركانة لو أراد بقوله: (البتَّة) ثلاثاً لوقعن، ولما أذن له النبي ﷺ بردّها، وإلا لم يكن لسؤاله وتحليفه له أيّ معنىٰ.
تعليق الطلاق بصفة أو شرط:
كما يصحّ الطلاق ويقع منجزاً، فإنه يصح معلقاً.
-ومعنىٰ تعليق الطلاق: أن يعلّق الزوج وقوع الطلاق علىٰ حدوث صفة، أو شرط، سواء مما قد تتلبس به الزوجة أو غيرها، كتعليقه طلاقها علىٰ قدوم غائب، أوعلىٰ تصرّف معين قد تقوم به الزوجة أو غيرها.
-مثال تعليق طلاقها علىٰ صفة: أن يقول: أنت طالق عند قدوم أبيك،أو أنت طالق في شهر رمضان فتطلق إذا قَدِم أبوها أو إذا دخل شهر رمضان.
-ومثال تعليقه بالشرط أن يقول لها: أنت طالق إن خرجت من الدار، أو أنت طالق إن دخل أخوك الدار، فتطلق إن هي خرجت من الدار، أو إن دخل أخوها الدار.
ودليل صحة تعليق الطلاق على صفة أو شرط، ووقوعه إذا تحقق ذلك الشرط، أو تلك الصفة، قول النبي ﷺ : « المُسْلِمُونَ عِندَ شُرُوطِهِمْ».رواه الحاكم [البيوع، باب: المسلمون على شروطهم والصلح جائز: 2/ 49].
إذ يُفهم من الحديث أن الشروط التي يعلّق الإِنسان عليها إبرام شيء تكون محل اعتبار وتقدير من الشارع، ما لم تكن تحرم حلالاً، أو تحلّ حراماً.
الآثار التي يترتب علىٰ الطلاق المعلّق:
ويترتب علىٰ الطلاق المعلّق ما يلي:
١ـ عدم وقوع الطلاق ما دام الشيء الذي عُلِّق الطلاق به لم يحصل بعد.
٢ـ تظل الحياة الزوجية مستمرة بكامل أحكامها ومستلزماتها، ما دام الشرط المعلّق عليه لم يتحقق بعد، وإن كان حصوله علىٰ حكم المحقّق. كقوله: إذا جاء شهر رمضان فأنت طالق.
٣ـ يقع الطلاق بمجرد حصول الشرط الذي علّق الزوج الطلاق به، دون حاجة إلىٰ أن ينطق نطقاً جديداً بالطلاق.
الاستثناء في الطلاق:
وكما يصحّ الطلاق المعلّق بصفة، أو شرط، كما ذكرنا يصحّ الطلاق الذي دخله الاستثناء.
والمقصود بالاستثناء في الطلاق: أن يجمع بلفظ واحد أكثر من طلقة واحدة، ثم يطرح بعضاً منها بأداة الاستثناء، وهي (إلا) بأن يقول: أنت طالق ثلاثاً، إلا طلقة واحدة، أو إلا طلقتين. وذلك لأن الاستثناء من المعدود أسلوب عربي متّبع، ومستعمل في كلٍّ من الكتاب والسنة، للتعبير عن المعاني، وضبط الكميات والأعداد. قال الله تعالىٰ حكاية عن نوح عليه السلام: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [العنكبوت: 14] لذلك جاز استعمال الاستثناء في التعبير عن الطلاق، وضبط عدد الطلقات المراد إيقاعها.
شروط صحة الاستثناء في الطلاق:
يشترط لصحة الاستثناء في الطلاق مراعاة الشروط التالية:
١ـأن ينوي المطلّق إلحاق الاستثناء بكلامه قبل فراغه من النطق بالكلام الأصلي المستثن منه. فلو أتم كلامه الأصلي، ثم طرأ علىٰ باله أن يستثني منه شيئاً، لم يصحّ الاستثناء، ووقع الطلاق كما يقتضيه كلامه الأصلي قبل تعليق الاستثناء به.
٢ـ أن يتصل لفظ الاستثناء بلفظ المستثنىٰ منه عرفاً.
فلو فصل بينهما بفاصل زمني يعتبره العرف فاصلاً: كدقيقة مثلاً، بطل استثناؤه، ووقع الطلاق كما يقتضيه لفظ المستثنىٰ منه.
٣ـ أن لا يكون الاستثناء مستغرقاً لكمية المستثنىٰ منه: كأن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاث طلقات، فمثل هذا الاستثناء يعتبر لاغياً، ويستقر الحكم علىٰ ما يقتضيه لفظ المستثنىٰ منه. وينبغي أن تعلم بعد هذا أن الاستثناء من الكلام المثبت يعتبر نفياً، وأن الاستثناء من الكلام المنفي يعتبر إثباتاً، لأن الاستثناء يعطي نقيض الحكم الأصلي للمستثنىٰ، فلو قال: ما طلّقتك إلا طلقتين، وقعت طلقتان.
دليل صحة الاستثناء في الطلاق:
ويستدل لصحة الاستثناء في الطلاق بقول النبي ﷺ :«مَن أعْتَق أو طلَّق ثم اسْتَثْنىٰ فله ثُنْيَاه».أي استثناؤه. ذكر ابن الأثير في النهاية مادة: (ثنا).
يصحّ للزوج أن يفوَّض إيقاع الطلاق إلىٰ زوجته، وهذا التفويض إنما هو بمثابة تمليك الطلاق لها.
شروط وقوع طلاق التفويض:
يشترط لوقوع هذا الطلاق الشروط التالية:
١ـ أن يكون الطلاق منجزاً، فلا يصحّ تعليقه علىٰ شيء: كإذا جاء الغد فطلِّقي نفسك.
٢ـ أن يكون الزوج المفوِّض مكلفاً، فلا يصحّ تفويض الصغير والمجنون.
٣ـ أن تكون الزوجة أيضاً مكلفة، فلا يصحّ تفويض صغيرة أو مجنونة.
٤ـ أن تُطلِّق نفسها علىٰ الفور، بعد تفويضها مباشرة، فلو أخّرت بقدر ما ينقطع به القبول من الإِيجاب، لم يصحّ طلاقها.
دليل جواز تفويض الطلاق إلىٰ الزوجة:
ويستدلّ علىٰ جواز ذلك، بأن النبي ﷺ خيّر نساءه من بين المقام معه، وبين مفارقته، وذلك لمّا نزل قول الله عزّ وجلّ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28].
فلو لم يكن لاختيارهنّ الفرقة أثر لم يكن لتخييرهنّ معنىٰ.
١ـ إذا تلفظ بالطلاق باللغة العربية رجل غير عربي، وهو لا يدري معناه، فإنه لا يقع طلاقه، لانتفاء قصده، ولو تلفظ به بلغته وقع ولو لم ينوه، إذا كان اللفظ الذي استعمله في الطلاق صريحاً في لغته، أي لا يحتمل إلا الطلاق، وإذا كان غير صريح اشترط لوقوع الطلاق النيّة، كما هو الشأن في اللغة العربية.
٢ـ قال رجل لزوجته: أنا منكِ طالق، فإن نوىٰ تطليقها طلقت، وإن لم ينوِ لم تطلق، لأن اللفظ خرج عن الصراحة إلىٰ الكناية، بإضافته إلىٰ غير محله، فشرط فيه ما شرط في الكناية من قصد إيقاع الطلاق.
٣ـ قال رجل لزوجته: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق. فإن تخلّل سكوت بين هذه الجمل بما يعدّ فاصلاً عُرفاً، وقعت ثلاث طلقات، ولا يقبل قضاءً قوله :أردت التأكيد، لأنه خلاف الظاهر، وإن لم يتخلل هذه الجمل فاصل، فإن نوىٰ التأكيد وقعت طلقة واحدة،وإن نوىٰ الثلاث وقعت ثلاثاً، وإن أطلق، ولم ينوِ شيئاً، وقعت أيضاً ثلاثاً. عملاً بظاهر اللفظ.
٤ـ إذا قال لزوجته: إن شاء الله فأنتِ طالق: لم تطلق إن قصد التعليق بمشيئة الله عزّ وجلّ، لأن المعلّق عليه من مشيئة الله تعالىٰ غير معلوم. فإن لم يقصد بالمشيئة التعليق، وإنما قصد بها التبرك، أو لم يقصد شيئاً، فإن الطلاق يقع.
٥ـ لو خاطبت الزوجة زوجها بمكروه، فقالت له يا سفيه، أو يا خسيس، فقال لها: إن كنتُ كما تقولين فأنتِ طالق.فإن قصد بذلك مكافأتها بإسماعها ما تكره، وإغاظتها بالطلاق، كما أغاظته بالشتم، فإن الطلاق يقع، وإن لم يكن سفيهاً، ولا خسيساً. وكأنه قال: إن كنت بزعمكِ كذلك فأنتِ طالق. أما إذا أراد تعليق الطلاق علىٰ وجود السفه والخسّة، أو أطلق، ولم يرد شيئاً اعتبرت الصفة المعلّق عليها كما هو سبيل التعليقات، فإن لم يكن سفيهاً أو خسيساً، لم يقع الطلاق، وإن كان كذلك، وقع.
والسفيه: هو مَن يستحق الحَجْر عليه لسوء تصرفه بأمواله.
والخسيس: قيل :هو مَن باع دينه بدنياه. وقيل: هو من يتعاطىٰ غير لائق به بخلاً.