المحتويات:
تعريفه
تحريمه
أحكام الغصب
الغصب -في اللغة- أخذ الشيء ظلماً.
وشرعاً: هو الاستيلاء على حق غيره عُدْواناً.
والمراد بحق غيره: ما كان عيناً كدار ونحوها، أو منفعة كسكنى الدار بغير رضاه، أو اختصاصاً ككلب صيد ونحوه، وكحق الشرب ونحوه.
وقولنا: (عدواناً) أي على جهة التعدّي والظلم، أي بغير رضاً من صاحب الحق، بل قهراً عنه.
-فلو أكل طعام غيره بغير إباحة منه ولا عقد فهو غصب.
-ولو سكن دار غيره بغير رضاه، فهو غاصب، ولو أعطاه أُجرة.
-ولو جلس على فراشه بغير إذن منه فهو غاصب أيضاً، وهكذا.
وهنا ننبّه إلى ما يفعله الكثير من الناس في هذا الزمن من سكنى دور غيرهم، أو استخدام حوانيتهم، بأُجور لا يرضَوْن بها، فإن هؤلاء غاصبون، وتنطبق عليهم جميع أحكام الغصب الدنيوية والأُخروية، وإن كانوا يظنون أنهم يحسنون صنعاً حين يدّعون أنهم مستأجرون وأنهم يدفعون أُجوراً حسب الاتفاق القديم، فلا تنطبق عليهم أحكام الإجارة، لأنهم في الحقيقة غاصبون وليسوا بمستأجرين.
الغصب حرام شرعاً، وهو من الكبائر، لما ورد من زجر عن التعدِّي على الأموال، ووعيد على أخذها بغير حق، ومن ذلك آيات في القرآن وأحاديث من السنة.
أما آيات القرآن:
فمنها قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٨].
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠]
وأما الأحاديث:
- فمنها قولهﷺ : « إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ.» [أخرجه البخاري في العلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ أوعى من سامع، رقم: 67. ومسلم: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم: 1679].
- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» [أخرجه الدارقطني في البيوع، الحديث: 91، ج3، صفحة 26].
- ومنها قوله ﷺ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ». [البخاري: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع ارضين، رقم: 3026. ومسلم: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم: 1610].
وقد أجمع المسلمون على تحريم الغصب -بكل أشكاله وألوانه- في كل العصور، من لدن أصحاب رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا.
يترتب على الغصب حكم أُخروي وحكم دنيوي:
أما الحكم الأُخروي: فهو الإثم واستحقاق المؤاخذة والعقاب في الآخرة، إذا تعدى على حقوق غيره عالماً متعمداً، لأن ذلك معصية كبيرة كما علمت، وفعل المعصية عالماً متعمداً يستوجب العقاب والمؤاخذة عند الله عزّ وجل إذا لم يتب منها قبل فوات أوان التوبة.
وأما الحكم الدنيوي: فإنه يتناول ما يلي:
وتعزيره بما يراه رادعاً له ولغيره عن مثل هذه المعصية، بالضرب أو السجن ونحو ذلك، حتى ولو عفا المغصوب منه عن الغاصب. لأن ذلك حق لله تعالى، وحسم للشرّ، وإغلاق لباب الظلم والاعتداء.
وذلك بردّ المغصوب -إذا كان عينًا- ما دام قائماً، لأن الغصب معصية كما علمنا والخروج عن المعصية واجب فوري قدر الإمكان.
ودليل ذلك: قوله ﷺ: «لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لَاعِبًا أَوْ جَادًّا ، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ» [أخرجه الترمذي في الفتن، باب: ما جاء لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلماً، رقم: 2161. وأبو داود في الأدب: باب: مَن يأخذ الشئ على المزاح، رقم: 5003]
وترد العين المغصوبة إلى مكان غصبها، وكلفة الرد ونفقته إنما كون على الغاصب، لأن الردّ واجب عليه، وإذا كان لا يتم إلا بالنفقة كانت النفقة واجبة، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو معلوم.
وإنما يحصل الردّ في العين المغصوبة بوضعها بين يَدَيْ من غُصبت منه، بحيث يتمكن من أخذها وإثبات يده عليها، ويخرج عن الغصب في الحقوق الأُخرى بتمكين صاحب الحق مما غصب منه، وإزالة الموانع من إثبات يده عليه والاستفادة منه.
وإذا حصل الرد للمغصوب خرج الغاصب من حكم الغصب وبرئ من الضمان.
إذا تلف المغصوب في يد الغاصب ضمنه، سواء أتلفه هو أم تلف بنفسه أو بآفة سماوية أو غير ذلك، لأنه متعدٍّ في إثبات يده عليه، ورسول الله ﷺ يقول:«عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ».
وهذا صريح في أنه مسؤول عن أداء ما أثبت يده عليه وردّه، فإذا عجز عن ردّه لهلاكه كان ضامناً له، وعليه أن يردّ بدله من مثل أو قيمة.
كيفية ضمان المغصوب:
إذا تلف المغصوب في يد الغاصب كان عليه أن يرد بدلاً عنه ما هو أقرب إليه وأشبه به:
فإن كان مثلياً وجب عليه ردّ المثل، لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126] أي بمثل ما وقع عليكم من الفعل الذي يستحق العقاب.
والمثلى من الأعيان: هو ما يوجد له في الأسواق مثيل لا يتفاوت عنه تفاوتاً يُلتفت إليه، والمثليات في هذه الأزمان كثيرة، لاسيما المصنوعات، لأنها تُصنع بآلة واحدة، ومن المثليات ما يُباع كيلاً كالزيت ونحوه، أو وزناً كالسكر ونحوه، وكذلك العدديات المتقاربة كالبيض والجوز، والذرعيات، وهي ما يباع بالذرع بالمقاييس المتعارفة كالثياب ونحوها، إذا كانت من نوع واحد.
فإذا كان المغصوب قيمياً، وهو ما لا مثيل له على النحو السابق، أو كان مثلياً ولكن تعذّر ردّ المثل، وجب ردّ القيمة بدلاً عن المغصوب نفسه، الذي وجب ردّه بذاه ما دام قائماً، دفعاً للضرر ما أمكن عن المغصوب منه.
ومن الأشياء القيمية الحيوانات، فكل واحد منها من نوعه يختلف عن الآخر في قيمته، لاختلاف الصفات المميزة له عن غيره.
وكذلك السيارات والدور وغيرها من الأمتعة التي تختلف قيمتها باختلاف مزاياها وصفاتها.
وإنما يتعذّر ردّ المثل في المثليات: إذا انقطع المثل من الأسواق، فلم يوجد بعد البحث عنه والسعي لتحصيله، أو وجد بثمن يزيد زيادة فاحشة عن مثله عادة، فلا يكلّف شراءه في هذه الحالة، وإنما يتوجب عليه ردّ القيمة.
القيمة الواجب ردّها:
إذا حكِم على الغاصب بقيمة المغصوب، لكونه قيمياً أو لتعذّر المثل، فما هي القيمة المقدّرة؟ والجواب:
- إذا كان المغصوب مثليًا: وجب ردّ أقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم تعذّر وجوده، إن كان موجوداً وقت التلف، فإن كان مفقوداً يوم التلف وجب ردّ أقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم التلف.
- وإن كان قيمياً: وجب ردّ أقصى قيمة له من وقت الغصب إلى وقت التلف. فلو كان عند الغصب قيمته ألفاً ونزل سعره بعد ذلك، وجب الألف.
ولو كان عند الغصب خمسمائة، وارتفع في يوم من الأيام إلى ألف، ثم نزل إلى سبعمائة، وجب الألف أيضاً وهكذا.
وإنما وجبت القيمة بأقصى ما بلغت إليه: لأنه كان غاصباً له في الوقت الذي زادت فيه قيمته، فلزمه ضمان قيمته في ذلك الوقت الذي غصبه فيه.
ما يترتب على ضمان المغصوب:
إذا ضمن الغاصب العين المغصوبة لمالكها، ودفع له البدل، ترتب على ذلك:
أ- أن المغصوب منه يملك البدل الذي دفع له، فتصحّ جميع تصرفاته فيه من بيع وهبة وإجارة ونحو ذلك.
ب- لا يملك الغاصب العين المغصوبة بضمانها، فلو ظن هلاك العين المغصوبة -كما لو ضاعت أو سرقت- ضمنها الغاصب ووجب عليه ردّ بدلها للمغصوب منه، لأنه حيلَ بينه وبين ملْكه، فاستحق بدله، فإذا وُجد بعد ذلك وعاد إلى يد الغاصب فإنه لا يملكه بضمانه، بل عليه ردّه إلى المغصوب منه، لأن الأصل أن الواجب ردّ عين المغصوب، فحين تعذّر ذلك عُدل إلى البدل، وحيث تمكّن من ردّ الأصل لا يعدل عنه، فيجب ردّه، وبهذا يتبين أنه لم يملكه.
فإذا ردّ العين المغصوبة إلى المغصوب منه وجب عليه ردّ البدل الذي أخذه على الغاصب، فإن كان قد زاد زيادة متصلة -كالسِّمَن مثلاً- رُدّت مع البدل ضرورة، وإن كانت الزيادة منفصلة -كالولد أو أُجرة الدار- لم يردّها مع البدل، لأنها حدثت على ملكه.
إذا تصرّف الغاصب بالعين المغصوبة -بيعاً أو هبة أو إجارة أو إعارة أو وديعة ونحو ذلك- كان تصرفه باطلاً، لا يترتب عليه أيّ أثر شرعي له، وسرى حكم الغصب على مَن انتقلت العين إلى يده فكان ضامناً للعين المغصوبة كما لو كانت في يد الغاصب، لأن كلاًّ من هؤلاء قد وضع يده على ملْك غيره بغير إذنه، ولو كان يجهل أنها مغصوبة، لأن الجهل يُسقط الإِثم ولا يسقط الضمان، كما لو أتلف مال غيره بغير قصد أو علم، فإنه يضمن وإن كان لا يأثم.
وعليه: إذا تلف المغصوب كان للمغصوب منه أن يطالب مَن شاء من
الغاصب ومَن انتقلت إليه العين بالضمان، فإذا طالب غير الغاصب وغرمه رجع على الغاصب بما غرم، إن كان لا يعلم الغصب وكانت يده في تصرفه يد أمانة كالمودَع والمستأجر، أما إن كانت يده في الأصل يد ضمان كالمستعير والمشتري والمقترض ونحوهم، فلا يرجعون، لأنهم تعاملوا مع الغاصب على أنهم ضامنون، فلا تغرير من الغاصب بهم. وإن كان على علم بالغصب فليس له أن يرجع عليه، لأنه لم يغرر به، وهو يعلم أنه غاصب.
إذا تغيرت العين المغصوبة في يد الغاصب يُنظر:
أ- فإن كان تغيّرها بنفسها -كما لو غصب بيضاً فصار فرخاً، أو غصب زرعاً فصار حبّاً- فللمغصوب منه الرجوع به، لأنه عين ماله، وإن نقصت قيمته بالتغيّر كان له أن يطالب الغاصب بقيمة هذا النقص، لأنه حدث في يده، وإن زادت القيمة فليس للغاصب شئ، لأن الزيادة نماء الأصل وتبع له، فهي ملْك لمالك الأصل.
ب- وإن كان التغيّر بوصف العين المغصوبة بسبب عمل عمله الغاصب فيها يُنظر:
فإن كان التغيّر بالعمل وحده، دون إدخال عين أُخرى على المغصوب -كما لو كان ثوباً فقصّره، أو غزلاً فنسجه، أو خشباً فصنعه باباً- ردّه أيضاً على المالك لأنه عين ملكه، وليس للغاصب شئ بدل عمله وإن زادت قيمته، لأنه عمل بدون إذن، فهو متبرع بعمله، فلا يستحق بدلاً عنه.
-وإن كان التغيّر بإضافة عين له -كما لو كان ثوباً فصبغه، أو داراً فطلاها أو طيّنها- ينظر:
-إن لم تزد قيمة المغصوب مع التغيير استردّه المغصوب منه وليس للغاصب شئ، لأن قيمة ما أضافه استهلكت بفعله.
-وإن نقصت قيمته مع التغيير عمّا كانت عليه قبله: وجب على الغاصب ضمان ما نقص، لأن النقص حصل بفعله.
-وإن زادت القيمة بعد التغيير يُنظر:
أ- فإن صارت القيمة تساوي قيمة المغصوب وقيمة العين المضافة: اشتركا في ثمنه بنسبة ما لكل واحد منهما، فلو كانت قيمة المغصوب مائة، وقيمة المضاف إليه خمسين، كان ثمنه بينهما أثلاثاً، وإن كانت قيمة كل منهما مائة كان الثمن بينهما نصفين، وهكذا.
-وإن لم تُساوي القيمة قيمة المغصوب والعين المضافة، كما لو صارت القيمة مائة وخمسين، وكانت قيمة المغصوب مائة وقيمة المضاف مائة، كان للمغصوب منه قيمة ملكه -وهو مائة مثلاً- وللغاصب خمسون، وهو فرق زيادة القيمة بفعله وما أضافه.
ب- وإن زادت القيمة عن قيمة المغصوب والمضاف إليه -كما لو صارت القيمة ثلاثمائة في المثال السابق- كان لكلٍّ منهما من الزيادة -بالإضافة إلى قيمة عينه- بنسبة ملْكه. فإذا كان ملْك كلٍّ منهما مائة كانت الزيادة مناصفة بينهما، وإن كانت قيمة ملْك أحدهما ضعف قيمة ملْك الآخر مثلاً، كانت الزيادة بينها أثلاثاً، وهكذا.
جـ- وإن كان التغيّر في ذات المغصوب واسمه بفعل -كما لو كان حنطة فطحنها، أو شاة فذبحها- لم ينقطع ملْك المالك عنه، وكان له استرداده، فإن نقصت قيمته بذلك كان له أن يطالب بأرش النقص، لأنه نقصان في عين المغصوب حصل في يد الغاصب وفعله، فوجب ضمانه.
ولو طالب المغصوب منه ببدله لم يكن له ذلك، لأن عين ماله باقية، فلا يملك المطالبة ببدلها.
النقص في المغصوب قد يكون نقصاً حسياً، وقد يكون معنوياً:
فالنقص الحسي: إن كان له بدل مقدّر يضمن به، كنقص جزء من العين فإنه مضمون على الغاصب حتى ولو لم تنقص قيمة العين، كما لو غصب أشياء مثلية فتلف بعضها، وكانت قيمة ما بقى تساوي قيمة الجميع، أو غصب شاة فذهبت عينها، ولم تنقص قيمتها بذلك، فعليه ردّ مثل ما تلف أو قيمة ما نقص.
وإن لم يكن للنقص الحسيّ بدل مقدّر يضمن به، ولا يضمن إلا بنقص القيمة، كما لو كانت الشاة سمينة فهزلت، فإن نقصت قيمتها ضمن ذلك النقص، وإن لم تنقص قيمتها لم يلزمه شئ.
والنقص المعنوي: أن تنقص القيمة دون أن تنقص العين، ذلك بسبب انخفاض الأسعار، فإن الغاصب لا يضمن هذا النقص إذا ردّ العين المغصوبة كما غصبها، لبقاء المغصوب على حاله، والذي فات هو رغبات الناس. أما لو تلفت أو تلف جزء منها: فإنه يضمن قيمتها أو قيمة ما تلف منها بأرفع ما وصلت إليه القيمة كما علمت.
إذا زادت العين المغصوبة في يد الغاصب كانت تلك الزيادة ملكاً للمغصوب منه، لأنها نماء ملكه، ودخلت تلك الزيادة في حكم الغصب كالأصل، وكانت مضمونة على الغاصب كأصلها، لأنها تبع له، والتابع في الوجود تابع في الحكم.
ولا فرق في ذلك بين أن تكون الزيادة متصلة كالسِّمَن، أو منفصلة كالثمرة للشجر والولد للحيوان.
فإذا تلفت الزيادة المنفصلة في يد الغاصب ضمنها كما يضمن أصلها لو تلف، وكذلك لو هزلت الدابة بعدما سمنت عنده ضمن الفرق بين قيمتها سمينة وقيمتها هزيلة.
إذا كان للعين المغصوبة منفعة، كسكنى الدار وركوب الدابة أو السيارة ونحو ذلك، فإنها تدخل في ضمان الغاصب، سواء استوفاها بنفسه أم بغيره أم لم يستوفها، فيلزمه أُجرة المثل أقصى ما كانت، من حين الغصب إلى حين ردّ العين المغصوبة، أو تلفها في يده، إذا كانت المدة مما يقابل بأُجرة عادية، وذلك لأن المنافع أموال، وقد عطلها على مالكها بغصبه لأصلها، فهو غاصب لها أيضاً، فيلزمه ردّ بدلها وهو أُجرة المثل، ويلزمه أقصى أُجرة لها لأنه معتدٍ وغاصب، وقد فوّتها على المالك حين ارتفع أجْرها وهو غاصب لها.
وهذه الأُجرة التي تلزمه هي بدل المنافع، فإذا تلفت العين في يده لزمه ضمانها أيضاً.
إذا غصب أرضاً وبنى عليها بناءً أو غرس فيها أشجاراً كلِّف بنقض البناء وقلع الغراس، وتسوية الأرض كما كانت، ووجب عليه أرش نقص قيمة الأرض إن نقصت بذلك، وأُجرة مثل الأرض إن مضت مدة لمثلها أُجرة، لأنه متعدٍّ في ذلك كله، ورسول الله ﷺ يقول: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ». [انظر تخريجه صفحة: 51].
ولو أراد المالك تملك البناء أو الغراس بقيمته لم يُلزم الغاصب بذلك، لأن البناء والغراس ملكه، فلا يتملك منه بغير رضاه، فإن توافقا على ذلك صحّ.
ولوكان البناء والغراس مغصوبين أيضاً من صاحب الأرض، ورضي المالك ببقائهما، لم يكن للغاصب هدم البناء أو قلع الغراس، ولا شئ له على عمله لأنه لم يؤذن له به، ولا شئ عليه أن لم تنقص قيمة الجميع بفعله، وإلا لزمه النقص.
وإذا زرع الغاصب الأرض كان للمالك أن يجبره على إخراج البذر وتسوية الأرض، ويلزمه أرش النقص وأُجرة المثل.
وإذا رضي المالك بإبقاء البذر في الأرض بقيمته امتنع على الغاصب إخراجه، لأنه لا ينتفع به في الغالب.
إذا اختلط المغصوب بغيره أو خلط: فإن أمكن تمييزه وجب ذلك على الغاصب وإن شقّ عليه، وإن لم يكن تمييزه فقد تعذّره ردّه أبداً، فأشبه التالف، فللمالك تغريمه بدله من مثل أو قيمة على النحو الذي علمت.
وللغاصب أن يعطيه من المخلوط، إن خطله بجنسه وكان المخلوط به مثله أو أجود منه، فإن خلطه بأقل منه فليس له ذلك إلا أن رضي المالك به.
علمنا أن الواجب على الغاصب ردّ العين المغصوبة فوراً، وأنه لا يبرأ من الإثم وعُهدة الضمان إلا بالرد، فلو كان يترتب على ردّه العين المغصوبة ضرر بالغ به كلِّف بذلك، ولا يلتفت إلى ما يناله من ضرر، لأنه ظالم ومتعدٍّ بغصبه.
فلو غصب خشبة، فوضعت في بناء أو سفينة، وجب نزعها وردّها، وإن تهدم البناء أو غرقت السفينة، ويلزم الغاصب أرش النقص للمغصوب منه ولصاحب البناء أو السفينة إن كان غير الغاصب ويجهل الغصب، كما يلزمه أُجرة المثل إن كان لمثلها أُجرة.
فإن كان يترتب على ردّه هلاك آدمي معصوم الدم، أو حيوان محترم أي غير مأمور بقتله شرعاً ويجوز تملكه أو حيازته، أو إتلاف مال مسلم أو ذمّي، فإنه لا يجب ردّه، فيعدل إلى تضمين البدل من مثل أو قيمة.
قد يقع اختلاف بين الغاصب والمغصوب منه في أُمور، هي:
أ- تلف المغصب وبقاؤه: كأن يدّعي الغاصب أن العين المغصوبة قد تلفت فعليه بدلها، ويدّعي المغصوب منه أنها لا تزال قائمة عنده فعليه ردّها.
فالصحيح أنه يصدق الغاصب بيمينه، لاحتمال صدقه وعجزه عن إقامة البيِّنة على دعواه -إذ الغالب عدم البيِّنة على التلف- فإذا لم يصدّق أدّى ذلك إلى تخليده في الحبس.
فإذا حلف غرم للمالك بدل المغصوب من مثل أو قيمة على الأصح، لعجز المالك عن الوصول إلى عين ماله بيمين الغاصب.
ب- قيمة المغصوب: وذلك يعني أنهما اتفقا على تلفه، ولكنهما اختلفا في قيمته، فقال المالك: قيمته ألف، وقال الغاصب: قيمته ثمانمائة، صدق الغاصب بيمينه، لأن المالك يدّعي عليه الزيادة عمّا اتفقا عليه -فقد اتفقا في قولهما في المثال المذكور على الثمانمائة واختلفا في الزيادة، فالمالك يدّعيها والغاصب ينكرها- والأصل براءة ذمته منها، فيكون القول المصدِّق قوله بيمينه.
فإذا أقام المالك بيِّنة على أن القيمة أكثر مما قاله الغاصب سمعت بيِّنته، وكلّف الغاصب الزيادة عمّا ادّعاه هو إلى حدٍّ لا تقطع البيِّنة بالزيادة
عليه بأن تجوز الزيادة عليه وعدمها، كأن تفيد البيِّنة أن قيمته -مثلاً- ألف أو تسعمائة، مع احتمال أن تكون أكثر أو أقل.
جـ- صفة المغصوب أو قدره: كأن يدّعي المغصوب منه أن الدار المغصوبة كانت مطليّة مثلاً، ويدّعي الغاصب أنها لم تكن كذلك، أو يدّعي المالك أنه غصبه عشرين رطلاً قمحاً، ويقول الغاصب: بل عشرة أرطال. ونحو ذلك من الاختلاف في القدر أو الصفة التي هي صفة زيادة.
فالمصدّق هو الغاصب بيمينه في ذلك، لأنه هو الذي سيغرم، والأصل براءة ذمته، وهو منكر لشغلها، فالقول قوله بيمينه.
-وإن اختلفا في عيبٍ حادث: وهو الاختلاف في صفة نقص، كأن ادّعى المالك أن المغصوب كان سليماً من العيوب، وأدعى الغاصب أنه كان معيباً.
-فإن كانت العين تالفة صدّق المالك بيمينه على الصحيح، لأن الأصل والغالب السلامة من العيوب، والقول قول مَن يتمسك بالأصل.
وإن كانت العين باقية، وردّها الغاصب معيبة كما ادّعى، صُدِّق الغاصب بيمينه، لأن الأصل براءة ذمته من ضمان ما يزيد على تلك الصفة القائمة.
د- ردّ العين المغصوبة: فلو ادّعى الغاصب أنه ردّ العين المغصوبة على المغصوب منه، وأنكر المغصوب منه ذلك، فالقول قول المالك بيمينه، فيصدّق أنه ما ردّ عليه المغصوب، لأن العين المغصوبة كانت في يده، والاصل عدم الردّ، فيصدَّق مَن يتمسك به وهو المغصوب منه، فإما أن يردّه الغاصب عليه، وإما أن يضمن له بدله.