المحتويات:
حقيقته ومعناه
شروط تحقّق الإكراه
ما يقع عليه الإكراه من التصرفات وأثره فيها
أولاً: التصرفات الحسيّة وأثر الإكراه عليها
ثانياً: التصرفات الشرعية وأثر الإكراه فيها
في المصباح المنير: كَرُه الأمرُ والمنظرُ كراهةً فهو كريه، مثل قُبح قباحة فهو قبيح، وزناً ومعنىً، وكرهته أكرهه كرهاً -بضم الكاف وفتحها- ضد أحببته، فهو مكروه.
والكَره - بالفتح - المشقة، وبالضم: القهر، وقيل: بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة.
وأكرهته على الأمر إكراهاً حملته عليه قهراً، يقال: فعلته كَرهاً -بالفتح- أي إكراهاً، وعليه قوله تعالى: {طوعاً أوكَرْهاً} [فصّلت: 11] فقابل بين الضدّين.
والخلاصة: أن الإكراه في اللغة: حمل الغير على أمر يكرهه، أي إثبات الكره في نفس المكرَه، أي قيام معنى في نفسه ينافي المحبة والرضا، فالكره ضد لهما ويستعمل في مقابليهما، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]
ويسمى الإغلاق، فكأن المكرَه أُغلق عليه باب ومنع من الخروج منه إلا بما أُكره عليه.
وفي الاصطلاح: هو الإلجاء إلى فعل الشئ قهراً.
وعرّفه الشافعي رحمه الله تعالى في "الأُم" بقوله: أن يصير الرجل في يدَيْ مَن لا يقدر على الامتناع عنه.
ويحصل ذلك بالتخويف بمحذور كضرب وحبس وإتلاف مال، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الناس:
-فالتهديد بالاستخفاف للوجيه بين الملأ، والحبس القصير له، إكراه بالنسبة إليه، وقد لا يكون إكراهاً بالنسبة لغيره.
-والتهديد بالضرب اليسير لمن كان من أهل المروءات والهيئات إكراه بالنسبة إليه، بينما قد لا يكون إكراهاً بالنسبة لغيره.
-والمعتبر بالتهديد بإتلاف المال التضييق على المكره في ماله، فما يعتبر تهديداً للفقير في ماله غير ما يعتبر في الغني.
هذا وما يكون إكراهاً في حق نفسه يكون إكراهًا إذا كان في حق غيره، من الناس الذين يهمّه أمرهم ويغتمّ لإلحاق الأذى بهم، كالأُصول والفروع، والإخوة والأخوات ونحو هؤلاء، فلو هدِّد بقتل واحد منهم كان كالتهديد بقتل نفسه.
حتى يتحقق الإكراه وتترتب عليه آثاره شرعاً فلا بد أن توجد فيه بعض الشروط وهي:
١- أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدَّد به، وإلا كان هذياناً، لأن الضرورة الملجئة إلى فعَل ما أُكره عليه لا تتحقق إلا عند قدرة المكرِه.
٢- أن يغلب على ظن المستكرَه أن المكرِه سيحقّق ما أَوْعد به وهدّد، إذا لم يُجب إلى ما دُعى إليه ولم يقم بما طُلّب منه.
٣- أن يعجز المستكرَه عن التخلص من المكرِه وما أكره عليه، بهرب أو مقاومة أو استغاثة، أو نحو ذلك.
٤- أن يكون المستكرَه ممتنعاً عن فعل ما أُكره عليه قبل الإكراه لحقٍّ ما، أي لحق نفسه كإتلاف ماله، أو لحق شخص آخر كإتلاف مال غيره، أو لحق الشرع كشرب الخمر والزنا ونحو ذلك.
٥- أن يكون المهدِّد به أشد خطراً على المستكرَه مما أُكره عليه، فلو هدد إنسان بصفع وجهه إن لم يتلف ماله، وكان صفع الوجه بالنسبة إليه أقل خطراً من إتلاف المال، فلا يُعدّ هذا إكراهاً.
-أما لو هدده بالقتل إن لم يقطع يده، فإن هذا إكراه، لأن القتل المهدد به أشد خطراً مما أُكره عليه وهو قطع اليد، فله أن يختار الأهون، وقد ثبت عن عائشة رضى الله عنها قالت: "ما خُيَّر رسول الله ﷺ بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما" [البخاري في المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم في الفضائل، باب: مباعدته ﷺ للآثام واختياره من المباح أسهله].
٦- أن يترتب على فعل المكرَه به الخلاص من المهدد به:
-فلو قال إنسان لآخر: اقتل نفسك وإلا قتلتك، لا يُعد هذا إكراهاً، لأنه لا يترتب على قتل النفس الخلاص مما هدِّد به.
-وكذلك لو هدَّد بقطع يده ما لم يقطعها بنفسه.
فلا يصحّ للمستكرَه أن يقدم على ما أُكره عليه لأنه لا يسمى مكرَهاً حقيقة، لأن المكره حقيقة هو ما ينجو مما هدَّد به بالإقدام على ما طُلب منه. بل هو إذا قتل نفسه أو قطع يده كان الخطر متيقِّناً، لأنه يفعله بنفسه. ولو لم يُقدم على ذلك لم يكن متيقِّناً مما هدِّد به، فربما كان الكره يخوِّفه بما لا يحقّقه.
٧- أن يكون المهدَّد به عاجلاً: فلو كان آجلاً لم يتحقق الإكراه، لأن التأجيل مظنة التخلّص مما هدِّد به بالاستغاثة والاحتماء بالسلطان، وما إلى ذلك.
٨- أن لا يخالف المستكرَه المكره بفعل غير ما أُكره عليه، أو بالزيادة عليه أو النقصان، لأنه في هذه الأحوال الثلاثة يكون طائعاً فيما أتى به، فلا يكون مكرهاً.
فلو أكره إنسان شخصاً على طلاق امرأته، فباع داره، أو أكرهه على طلقة واحدة رجعية فطلّقها ثلاثاً، أو أكرهه على طلاق امرأته ثلاثاً، فطلّقها واحدة، فهذه الصور الثلاثة نافذة، أي تترتب أحكامها على المكلّف كما لو فعلها باختياره، لأنها ليست من الإكراه في شئ.
٩- أن يكون المكرَه عليه معيّناً، بأن يكون شيئاً واحداً، فلو أُكره إنسان على طلاق إحدى امرأتيه، أو على قتل زيد أو عمرو، فلا يعدّ هذا إكراهاً.
١٠- ألاّ يكون المكره عليه أو المخوف به مستحَقّاً عليه: كما لو هُدِّد المفلسُ المحجورُ عليه ببيع ماله، أو هدِّد المُولى بالتطليق عليه، أو القاتل عمداً بالقصاص، فليس هذا بإكراه، لأن هذه الأمور المهدِّد بها مستحَقّه على المستكره.
١١- ألاّ يكون المهدِّد به حقاً للمكره، يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا واجباً، كتهديد الزوج زوجته بطلاقها إن لم تُبرئه من دَيْنها، فلا يكون إكراهاً، فإذا أبرأته فقد سقط الدَّيْن من ذمته، وليس لها أن تطالبه بعد ذلك.
وقال بعضهم: يُعتبر إكراهاً، لأن الزوج سلطان زوجته، فيتحقق منه الإكراه، وعلى هذا القول: لو أبرأته لتخلص من هذا التهديد لا تبرأ ذمته من الدَّيْن، وكان لها أن تطالبه به بعد ذلك.
التصرفات التي يمكن أن يقع الإكراه على فعلها أو تركها نوعان:
تصرفات حسيّة: أي أُمور تُعرف بالحواس، قولية كانت أم فعلية، كالأكل والشرب، والقتل والإتلاف، والشتم والكفر.
تصرفات شرعية: أي أُمور عرفت بالشرع، حيث أعطاها أسماءً خاصة، ورتب عليها أحكاماً معينة، كالبيع والنكاح والطلاق، وما إلى ذلك من عقود أو فسوخ.
يتعلق بالتصرفات الحسيّة نوعان من الأحكام: نوع يرجع إلى الآخرة من حيث المؤاخذة وعدمها، ونوع يرجع إلى الدنيا من حيث الضمان وترتّب العقوبة وعدم ذلك.
-فما هو أثر الإكراه على هذه التصرفات في أحكامها الأخروية أو الدنيوية؟
يختلف أثر الإكراه على التصرفات الحسيّة بحسب نوع التصرّف المكرَه عليه، فقد يصبح التصرّف مباحاً بعد أن كان حراماً ومحظوراً، وقد يرخّص به مع بقاء أصل المنع، وقد يبى على حُرمته فلا يُباح ولا يرخَّص به.
وإليك بيانَ هذه الأنواع الثلاثة وأحكامها:
من هذا النوع أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر، ونحو ذلك من المحظورات.
فإذا أُكره المسلم على تعاطي شئ منها أُبيح له ذلك، لأن الله تعالى أباحها عند الاضطرار، فإنه سبحانه قال بعد تحريمها: {إلا ما اضْطُرِرْتم إليه} [الأنعام: ١١٩]، والاستثناء من التحريم دليل الإباحة.
وقال جلّ وعلا: {فمَن اضْطُرّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثَم عليه} [البقرة:١٧٣]. ونفى الإثم دليل الإباحة أيضاً.
والمستكرَه على تعاطيها مضطر، فيشمله الحكم.
فلو امتنع من تعاطيها حتى ناله الأذى كان مؤاخَذاً، لأنه بامتناعه يُلقي بنفسه إلى التهلكة، وقد نهى الله تعالى عن ذلك إذ قال: {ولا تُلْقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:١٩٥]
هذا من حيث المؤاخذة الأُخروية.
-وأما من حيث الأحكام الدنيوية: فقد بحث الفقهاء في أثر الإكراه على شرب الخمر: هل يُحَدّ شاربه أوْ لا؟ وما حكم تصرّفاته حال سكره؟ فقالوا: إن مَن أُكره على شرب الخمر لا يُقام عليه الحدّ، لأن الحدّ شُرع زجراً عن فعل هذه الجناية في المستقبل، والمستكره على شرب الخمر لم يكن فعله جناية، لأنه أُبيح له، بل صار واجباً عليه، طالما أنه يأثم إذا لم يفعله حتى وقع عليه ما هدِّد به.
-وكذلك قالوا: لا تنفذ تصرفات من أُكره على الشرب حال سكره، لأن نفاذ تصرفات السكران تكون حال إثمه بسكره -أي عند شربه المُسكر باختياره دون عذر- تغليظاً عليه وزجراً له عن فعله، ولا معنى لهذا التغليظ حال الإكراه على السُكْر، لأن الغرض منه غير متحقِّق، إذ لم يقدم المستكرَه على الفعل باختياره، وهو غير آثم به كما علمت.
-والعمدة في هذا والذي سبقه: عموم قوله ﷺ : " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". [أخرجه ابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المكرَه والناسي، وقد جاء الحديث من طرق عند غيره، مع اختلاف في بعض الألفاظ].
والمعنى: وضع عنهم حكم ذلك وما يترتب عليه، لا نفس هذه الأمور، لأنها واقعة.
وعليه: فما يترتب على الإكراه موضوع، أي غير معتبر، والحديث يشمل الحكم الدنيوي والحكم الأُخروي.
أ- قول أو فعلُ ما ظاهره الكفر:
كأن يُجْري ألفاظ الكفر على لسانه، أو يسبّ النبي ﷺ أو يسجد لصنم أو يعظّم ما يعظِّمه الكفّار تعظيم عبادة وتقديس، فمثل هذه الأقوال أو الأفعال يرخَّص له الإقدام عليها -وقلبه مطمئن بالإيمان- بسبب الإكراه.
ودليل ذلك قوله تعالى: {مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه إلا مَن أُكره وقلبُهُ مطئمنُّ بالإيمان ولكن مَنْ شَرَح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 106].
وروى الحاكم عن محمد بن عمّار بن ياسر، عن أبيه رضى الله عنه قال: أخذ المشركون عمّار بن ياسر، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا وَرَاءَكَ؟» قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، قَالَ: «إِنْ عَادُوا فَعُدْ» قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك: كتاب التفسير - تفسير سورة النحل - باب: حكاية إسارة عمار بن ياسر بيد الكفار: 2/ 357).
وإنما رُخّص بذلك ولم يُبَحْ لأن الكفر لا يحتمل الإباحة بحال، فالحُرمة قائمة، إلا أن المؤاخذة سقطت بسبب الإكراه، فأَثَرُ الرخصة في تغيّر حكم الفعل -أي ما يترتب عليه من المؤاخذة وغيرها- لا في تغيّر وصفه وهو الحرمة.
ولما كانت الحرمة قائمة، وكان التصرّف في هذا مرخّصاً فيه وليس مباحاً، كان الامتناع عن ذلك أفضل.
وإن أدى امتناع المستكرَه عنها الى قتله أُثيب ثواب المجاهد في سبيل الله تعالى، لأنه جاد بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجل، وإظهاراً لإعزاز دينه
وقد دلّ على ذلك:
- ما روى البخاري عنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ [اخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة، رقم: 3416].
ووجه الاستدلال بالحديث: أنه ﷺ وصف الأُمم السالفة بالصبر على المكروه في ذات الله تعالى حتى أصابهم ما أصابهم، وأنهم لم يتظاهروا بالكفر ليدفعوا عن أنفسهم العذاب والقتل، وصفهم بذلك على سبيل المدح لهم وبيان فضيلتهم ومقامهم عند الله عزّ وجل، فدلّ ذلك على أن الصبر والاحتمال أفضل من التخلّص بالرخصة.
- وروى أن مسيلمة الكذّاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: وأنت ايضاً، فخلّى سبيله وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنا أصم، لا أسمع، فأعاد عليه ثلاث مرات، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئاً له»
-وكذلك ما ثبت من قصة خبيب رضي الله عنه، وأنه حين أخذه الكفار وباعوه لأهل مكة، أخذوا يعذِّبونه ليذكر النبي ﷺ بالسوء فلم يفعل، فقتلوه، فبلغ ذلك النبي ﷺ فلم ينكر صبره وعدم ترخّصه، بل روى أنه قال فيه: «هو سيد الشهداء وهو رفيقي في الجنة»
والذي سبق فيما يتعلق بأحكام الآخرة.
-وأما ما يتعلق بأحكام الدنيا من أثر الإكراه على الكفر: فإن المستكرَه على ذلك لا يُحكم بكفره، ولا يُعامل معاملة المرتد. قال الشافعي رحمه الله تعالى في معرض الكلام عن قوله تعالى: {إلاِّ مَن أُكره .. } وللكفر أحكام، كفِراق الزوجة، وأن يُقتل الكافر ويُغنم ماله، فلما وضع الله عنه سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس ما هو أصغر منه وما يكون حكمه بثبوته عليه
-الإكراه على الإسلام
إذا أُكره إنسان على الإسلام فأسلم اعتُبر إسلامه صحيحاً، وعومل معاملة المسلمين، لأنه إكراه بحق، ولا سيما في المرتد والحربي، وإن احتمل الكفر في قلبه، ترجيحاً لجانب الإسلام، لأن في ذلك إعلاءً للدين الحق، وإعلاء الدين الحق واجب.
ب- إتلاف مال المسلم أو النَّيْل من عرضه:
فلو أُكره على إتلاف مال المسلم رُخص له بذلك، ولا يأثم بالإقدام عليه، لأن مال غيره يرخص له باستهلاكه حال الاضطرار إليه، لدفع الهلاك عند شدة الجوع ونحوه، فكذلك حال الإكراه لأنه نوع اضطرار.
-وكذلك لو أُكره على شتم المسلم والطعن في عرضه وما إلى ذلك.
-ولو امتنع المستكرَه على الإتلاف أو الطعن كان أفضل، وإذا أصابه أذى في سبيل ذلك أُثيب عليه، لأن حُرمة مال المسلم وعرضه ثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» [أخرجه مسلم في البرّ والصلة والآداب،باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه، رقم: 2564]. فلا يجوز التعرّض لها على كل حال، إلا أنه رخص بذلك بسبب الإكراه، والرخصة -كما سبق وعلمنا- تؤثر في سقوط المؤاخذة لا رفع الحرمة، فإذا امتنع عن الرخصة كان ذلك إيثاراً لحفظ حق حُرمة أخيه المسلم على حق نفسه، فكن مأجوراً غير مأزور.
ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:«منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ» أي مَن قاتل دفاعاً عن ماله فقُتل كان له أجر الشهيد. [أخرجه أبو داود في كتاب السنّة، باب: في قتال اللصوص، رقم: 4771. والترمذي في أبواب الديات، باب: ما جاء فيمن قُتل دون ماله فهو شهيد، رقم: 1418].
وهذا يدل على أنه إذا أُكره على إتلاف مال نفسه فامتنع كان أفضل، وإذا كان الامتناع في حق مال نفسه أفضل، كان في حق مال غيره من باب أولى.
ومن حيث الحكم الدنيوي:
فقد قال الفقهاء: إذا أُكره إنسان على اتلاف مال غيره فأتلفه، كان لصاحب المال تضمين المكرِه أو المستكرَه، بمعنى أن له أن يطالب أيّهما شاء، لأن المكرِه تسبب بالإتلاف، والمستكرَه هو الذي باشره، والتسبّب بالفعل ومباشرته سواء. ولكن الضمان يستقر في النهاية على المكرِه، أي إذا ضمن المستكرَه رجع بما غرمه على المكره في الأصح.
هناك تصرفات محظورة شرعاً، وحرمتها ثابتة بالعقل كما هي ثابتة بالشرع، ولذلك لا تُباح ولا يرخّص بها في حالٍ من الأحوال، من ذلك:
أ- قتل المسلم بغير حق:
لأن القتل حرام محض، ولا يُستباح للضرورة ولا يرخص فيه.
قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151].
وقالﷺ:"«لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّب الزَّانِي، والنَّفْس بِالنَّفْسِ، والتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ» [أخرجه البخاري في الديات، باب: قوله تعالى: {وأن النفس بالنفس}، رقم: 6484. ومسلم في القسامة، باب: ما يُباح به دم المسلم، رقم: 1676].
[النفس بالنفس: أي القاتل عمداً وعدواناً يقتل. الثَّيب الزاني: المتزوج الذي ارتكب الفاحشة، المفارق لدينه: المرتد عن الإسلام. التارك للجماعة: الخارج على جماعة المسلمين وعامّتهم، والمخالف لمنهجهم وطريقتهم].
ومثل القتل من حيث الحرمة وعدم الترخيص بالإكراه قطع عضو من أعضائه، أو الضرب المهلك الذي يُلحق به أذىً شديداً، لأنه اعتداء، والاعتداء حرام.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الاحزاب: 58].
وعليه: فمَن أُكره على شئ مما سبق فأقدم عليه كان آثماً عند الله عزّ وجل باتفاق الفقهاء، سواء أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً.
وأما من حيث الأحكام الدنيوية:
-فالأصح عند الفقهاء: أنه يُقتص من المكرِه والمستكرَه، لأن المستكره باشر القتل ووُجد منه حقيقة، والمكرِه متسبِّب بالقتل وحامل عليه، والمتسبِّب كالمباشر، فيُقتص منهما، تغليظاً لأمر الدماء وزجراً عن الاعتداء.
ب- الزنى:
فهو من المحرّمات التي لا تُباح ولا تُرخّص في حال من الأحوال، لاتفاق الشرائع والعقل على حرمتها، لفحشها ونكارتها.
قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء: 32).
فإذا أكره إنسان على الزنا لم يرخَّص له بالإقدام عليه، رجلاً كان أم امرأة، فإن أقدم عليه كان آثماً ومؤاخذاً عند الله عزّ وجل.
وأما من حيث إقامة الحدّ على المستكرَه على الزنى:
-فقد قال الفقهاء: لا حدّ على المستكرَه على الزنى، رجلاً كان أم امرأة، لوجود الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، أي تُدفع وتُسقط إذا لابَسَتْها شبهة، والشبهة هنا قائمة بسبب الإكراه.
التصرفات الشرعية إما أن تكون إنشاءً أو إقراراً.
والتصرفات الإنشائية نوعان:
نوع لا يحتمل الفسخ والردّ: كالطلاق، والنكاح، والرضاع، والرجعة، واليمين، والنذر، والظهار، والإيلاء، والفيء في الإيلاء، والعفو عن القصاص. فهي تصرفات لازمة تلزم بمجرد انعقادها، ولا تقبل فسخاً ولا ردّاً.
ونوع يحتمل الفسخ والردّ: كالبيع والشراء، والإجارة، والهبة، ونحو ذلك. فإنها تصرفات لا تلزم بمجرد انعقادها، فهي تقبل الفسخ أو الرد.
-قال الفقهاء: إن الإكراه على إيقاع شئ من هذه التصرفات يفسدها ويجعلها غير معتبرة، فلا يترتب عليها شيء من آثارها المعتبرة شرعاً، فالإكراه يجعلها كأنها لم تكن، ولو وقعت من المستكرَه عليها.
-واستدلوا على ذلك عموماً: بأن التلفّظ بالكفر حالة الإكراه لم يعتبره الشرع، ولم يترتب عليه أثراً من الآثار، وهو أشد من أيّ قول شرعاً، وإذا سقط حكم الأشد سقط حكم الأخف من باب أولى، فلا يترتب أثر على أيّ تصرّف قولي مع الإكراه.
-فلو أكره على النكاح: فإن العقد لا يثبت، ولا يترتب عليه آثاره: من وجوب المهر، وحِلّ الاستمتاع وما إلى ذلك، لما ذكرناه.
وذلك على هذا أيضاً: ما رواه البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية رضي الله عنها: أن أباها زوّجها وهي ثِّيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله ﷺ، فردّ نكاحها، [أخرجه البخاري في النكاح، باب: إذا زوّج الرجل ابنته وهي كارهة
فنكاحه مردود، رقم: 4845. واخرجه النسائي ايضا في النكاح، باب: الثيب يزوجها أبوها وهي كارهة: 6/ 86].
-ويؤيده أيضاً: ما رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها: أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوّجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته: فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها. [أخرجه النسائي في النكاح، باب: البكر يزوِّجها أبوها وهي كارهة: 6/ 86].
[ليرفع بي خسيسته: ليُزيل بسب تزويجي منه دناءته].
-وكذلك لو أُكره على الطلاق، فإنه لا يقع طلاقه.
-روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طلاقَ ولا عتاقَ في غَلاق» وعند ابن ماجه والحاكم: "في إغلاق" وفُسِّر الإغلاق بالإكراه، لأن المكرِه كأنه أغلق عليه أمره وتصرفه. [أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على غلط، رقم: 2193. وابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2046. والحاكم في المستدرك: الطلاق، باب: لا طلاق ولا عتاق في الإغلاق: 2/ 198].
-وهكذا سائر هذه التصرفات لا تُعتبر مع الإكراه، ولا يترتب عليها أيّ أثر من آثارها الشرعية، للأدلة الخاصة والعامة، ومنها ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: "وما استُكرهوا عليه" الذي دلّ على رفع حكم الإكراه، ورفعه لا يكون إلا بانعدام ما يتعلق بالتصرّف المكرَه عليه من أحكام.
-ويُستثنى مما سبق: ما لو أُكرهت المرأة على الرضاع، أو أُكره الرجل على الوطء، فإنه لا أثر للإكراه هنا، بل يترتب على ذلك ما يتعلق به من أحكام شرعية: فتثبت بالرضاع الحُرمة، إذا وُجدت شروطها، كما يترتب على الوطء كامل المهر بعد العقد وغير ذلك من أحكام.
-قال الفقهاء: إذا وقع الإكراه على شئ من هذه التصرفات أبطلها، فلا يترتب عليها شيء من آثارها المعتبرة شرعاً، لأن شرط صحة هذه التصرفات الرضا، وهو معدوم حالة الإكراه، فلم تصحّ ولم تُعتبر شرعاً، لعدم تحقّق شرطها. قال في [مغني المحتاج]: فلا يصحّ عقد مكرَه في ماله بغير حق، لقوله تعالى: {إلا أن تكونَ تجارةٌ عن تراضٍ منكم} (النساء: 9).
-والعقد المالي يشمل البيع والإجارة والهبة والحوالة والوكالة، وغير ذلك من العقود التي لها علاقة بالمال.
اتفق الفقهاء على أن الإكراه على الإقرار يُلغيه، ولا يرتب عليه أي أثر، سواء أكان المقرّ به:
-تصرفًا حسيّاً، كمن أُكره ليقرّ بالزنا، أو شرب الخمر، أو القتل، أو غير ذلك.
-أو كان تصرفاً إنشائياً لا يحتمل الفسخ، كالنكاح والطلاق ونحوهما.
-أو كان تصرفاً إنشائياً يحتمل الفسخ، كالبيع والإجارة ونحوهما.
والعمدة في هذا:
١- أن الإقرار بالكفر لم يُعتبر حال الإكراه، ولم يترتّب عليه أيّ أثر، فمن باب أولى أن لا يُعبتر الإقرار بغيره ولا يترتب عليه أثر ما.
٢- عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «وما استُكرهوا عليه» فإنه يدل على رفع حكم كل تصرف أُكره عليه، والإقرار تصرّف من التصرفات، فالإكراه عليه يرفع حكمه، فلا يترتب عليه أيّ أثر من آثاره.
٣- الإقرار خبر يحتمل الصدق والكذب، ورُجِّح جانب الصدق حالةَ الاختبار وصحّ الإقرار، لأن الإنسان لا يُتّهم بالكذب على نفسه.
وحالةَ الإكراه يترجح جانب الكذب بسبب التهديد القائم، فلا يصحّ الإقرار.
٤- الإقرار من باب الشهادة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. والشهادة على النفس ليست إلا إقراراً، فكان الإقرار في حكم الشهادة، والشهادة تردّ بالتهمة ولا تصح، والمقرّ حالة الإكراه متهم في شهادته على نفسه، فلا يقبل إقراره.
ما سبق من كلام عن أثر الإكراه في التصرفات إنما هو حال كون المكرَه عليه أمراً واحداً معيناً.
فإذا كان الإكراه على أمر غير معين، كأن يكرهه على شرب الخمر أو إتلاف المال، أو يكرهه على الطلاق أو الإيلاء، أو يكرهه على البيع أو الإجارة، ثم يقدم المستكره على أحد الأمرين، ويوقعه، فما هو أثر الإكراه على هذا التصرف؟
والجواب: أنك قد علمت أن من شروط تحقّق الإكراه أن يكون المكره عليه معيناً، فإذا كان مخيَّراً فيه لم يتحقق الإكراه، وبالتالي لا أثر للإكراه على التصرف المخير فيه، أي على احد أمرين دون تعيين، فإذا أقدم المستكرَه على تصرّفٍ ما في هذه الحالة كان تصرفه صحيحاً، وترتبت عليه آثاره المعتبرة شرعاً كما لو فعله مختاراً، لأن إقدامه عليه مع التخيير بينه وبين غيره على أنه فعله مختاراً غير مستكره.
ويستوي في هذا ما إذا كان الأمران من التصرفات الحسيّة أو الشرعية أو غيرها.