المحتويات:
حكم تعدد الزوجات
الحكمة من مشروعية التعدّد
مبررات تعدد الزواج
تعدّد الزوجات مُباح في أصله، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
ومعنى الآية: إن خفتم إذا نكحتم اليتيمات أن لا تعدلوا في معاملتهنّ، فقد أُبيح لكم أن تنكحوا غيرهن، مثنى وثلاث ورُباع.
ولكن قد يطرأ على التعدّد ما يجعله مندوباً، أو مكروهاً، أو محرماً، وذلك تبعاً لاعتبارات وأحوال تتعلق بالشخص الذي يريد تعدد الزوجات:
أـ فإذا كان الرجل بحاجة لزوجة أخرى: كأن كان لا تعفّه زوجة واحدة، أو كانت زوجته الأولى مريضة، أو عقيماً، وهو يرغب بالولد، وغلب على ظنه أن يقدر على العدل بينهما، كان هذا التعدد مندوباً، لأن فيه مصلحة مشروعة، وقد تزوج كثير من الصحابة رضي الله عنهم بأكثر من زوجة واحدة.
بـ إذا كان التعدّد لغير حاجة، وإنما لزيادة التنعّم والترفيه، وشك في قدرته على إقامة العدل بين زوجاته، فإن هذا التعدد يكون مكروهاً، لأنه لغير حاجة، ولأنه ربما لحق بسببه ضرر في الزوجات من عدم قدرته على العدل بينهنّ.
والنبي ﷺ يقول: «دْع ما يريبُك إلى ما لا يَريبُك»، أي دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه.
رواه الترمذي [أبواب صفة القيامة، باب: اعقلها وتوكل، رقم: 2520] عن حسن بن علي رضي الله عنهما.
جـ- وإذا غلب على ظنه، أو تأكد أنه لا يستطيع إن تزوج أكثر من واحدة أن يعدل بينهنّ: إما لفقره، أو لضعفه، أو لعدم الوثوق من نفسه في الميل والحيف، فإن التعدد عندئذ يكون حراماً، لأن فيه إضراراً بغيره، والنبي ﷺ يقول: «ضرر ولا ضرَارَ».
[ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب: من بني في حقه ما يضرّ جاره. موطأ مالك: الأقضية، باب: القضاء في المرفق].
وقال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3].
[فواحدة: أي فانكحوا واحدة فقط. ذلك أدنى أن لا تعولوا: أي أقرب إلى عدم الميل والجور، لأن أصل العول: الميل].
ويجب أن يعلم أنه لو عدّد الزوج في الحالتين الأخيرتين، وعقد على ثانية، أو ثالثة، كان العقد صحيحاً، وترتبت على آثاره: من حلّ المعاشرة، ووجوب المهر، والنفقة وغيرها، وإن كان مكروهاً في الثانية، وحراماً في الثالثة، فالحُرمة توجب الإثم، ولا تبطل العقد.
ما هو العدل المطلوب حصوله بين الزوجات؟
والعدل الذي أوجبه الإسلام على الرجل الذي يجمع بين أكثر من زوجة، إنما هو
-العدل والمساواة في الإنفاق، والإسكان، والمبيت، وحُسن المعاشرة، والقيام بواجبات الزوجة.
-أما المحبة القلبية التي لا تولّد ظلماً عملياً لإحداهنّ فليست مقوِّمات العدالة المفروض تحصيلها بين الزوجات، لأنه لا سلطان للإنسان على قلبه في موضوع المحبة، ولعلّ هذا هو الذي عناه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}. [النساء: 129]. أي لا تستطيعون أن تمسكوا بزمام قلوبكم في تحقيق المساواة في المحبة، فلا يحملنكم الميل القلبي إلى إحداهما أكثر من الأخرى على الظلم والإضرار.
أما العدل فيما ذكرنا من النفقة والإسكان، والمبيت وحُسن المعاشرة، فهذا أمر ممكن لكثير من الناس.
وكان النبي ﷺ يقول ـ بعد عدله في القسمة والمعاملة بين نسائه ـ:«اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك».
رواه أبو داود [في النكاح، باب: في القسم بين النساء، رقم: 2134] والترمذي [في النكاح، باب: التسوية بين الضرائر، رقم: 1140] وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما.
وذلك فيما يتعلق بأمر الحب وميل القلب، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب عائشة أكثر من بقية نسائه.
إن الإسلام أباح تعدد الزوجات من حيث الأصل، ولم يجعله فرضاً لازماً، ولقد أباح الإسلام هذا التعدّد، لأنه يرمي إلى أهداف بعيدة الغور في الإصلاح الاجتماعي، لا يدركها إلا نافذ البصيرة. وإليك بعض هذه الحكم:
أـ ليحمي من لا يمكن أن تعفّهم زوجة واحدة، وهذا أمر فطري، فيمكن أن يجرهم ذلك إلى ما ليس بمشروع.
فخير لهم وللمجتمع أن يتزوجوا امرأة أخرى في ظل سياج من الرعاية، وتشريع من الحقوق الملزمة، والكرامة اللائقة، من أن يقعوا في الزنى.
ب ـ وشرعه أيضاً ليحمي المرأة من أن يلهث وراءها أصحاب الشهوات، لا بعقد يضمن ويحمي أبناءها، وإنما عن طريق المسافحة والمخادنة، مما يجعل تلك المرأة عُرضة للطرد والحرمان من كل حق، ويجعل أولادها محرومين من حقوق النسب، وعطف الأبوة.
فلأن تكون زوجة ثانية محفوظة الحقوق والكرامة خير لها ألف مرة من أن تظل أيِّما، أو تعيش خدينة أو عشيقة، مما يعرضها في النتيجة للبؤس والشقاء، وحماية المجتمع من الانحلال والفساد، والفوضى الخلقية.
وهناك مبررات تجعل تشريع تعدّد الزواج أمراً بادي الحكمة، واضح الفائدة، وسنضرب لذلك بعض الأمثلة:
١ـ رجل عنده نهم في النساء، وعنده امرأة عزوف عن الرجال، إما فطرة، أو لمرض.
فهل الأفضل أن يزني هذا الرجل، فيضيع الدين والمال والصحة؟ أو يبقى منطوياً على حاجته، معذباً نفسه، أو أن يتزوج امرأة أخرى، بشرط القدرة على الإعالة والعدالة، وعدم الظلم في المعاملة؟
ولا شك أن الحل الثالث هو الأفضل لهذا الرجل، وأنفع للمجتمع وأطهر.
٢ـ اندلعت نار الحروب ـ والحروب أصبحت اليوم سنّة الحياة ـ فأبادت الكثير من الرجال، أو شوّهتهم، وأصبح عدد النساء وافراً يزيد على عدد الرجال كثيراً.
فهل من الخير للنساء أن يقتصر كل رجل على زوجة واحدة، وتبقى كثرة كاثرة من النساء محرومة من عطف الرجل المُعيل، ومحرومة من إنجاب الولد الذي لا تجد غيره معيناً ومعيلاً عند كبرها، مما قد يضطرها ـ إرواء لحاجتها ـ إلى ارتكاب الإثم والفواحش؟.
أم الأفضل أن نبيح للرجل أن يضمّ إليه أكثر من زوجة في ظل رعاية شرعية كاملة؟.
-إننا لا نظلم المنطق والحق في شيء إذا قلنا: إن التعدد في مثل هذه الظروف يعتبر عملاً إنسانياً تفرضه المروءة والغيرة.
-ولا نخالف الواقع إذا قلنا: إن زواج الرسول ﷺ بأكثر من واحدة من نسائه كان معظمه من هذا النوع الإنساني الشريف.
لقد هاجرت بعضهنّ وحيدة، وتركت أهلها، أو مات عنها زوجها شهيداً، وتركها أرملة من غير مُعيل، فخفّ رسول الله ﷺ إلى نجدتها، وضمّها إلى بيته، فكان لها خير مُعيل، وكان لها شرف أمومة المؤمنين، وفضيلة الاقتران بسيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولما حرمت أوربة المسيحية التعدّد، فماذا جنت غير الخيانات الزوجية، أو العذاب النفسي، أو الحرمان لكثير من الزواج؟
٣ـ إنسان متزوج من امرأة تحبه ويحبها، لكنها عقيم لا تنجب، وهو يتوق إلى الولد، ويحنّ إليه.
فهل من الأفضل أن نحرم هذا الإنسان الزواج من ثانية، وندعه مظلوم الفؤاد محروم الولد؟
أم نأمره بأن يطلق زوجته التي يحبها، أم نبيح له الزواج بامرأة أخرى، مع حماية الأولى من الظلم؟
إن هذا الحل هو الأفضل من كل ما سبق، فقد راعى مصالح الرجل والمرأة على السواء.
٤ـ إن الشعوب التي حرمّت تعدد الزوجات وقعت بما هو أشدّ خطراً، وأكثر ضرراً من ضرر التعدّد المزعوم. لقد كثر فيهم الفساد، وانتشرت فيهم الخيانات الزوجية، والمخادنات السريّة، مما يجعل عُقلاءهم يصرخون مُطالبين بتشريع يحل التعدّد، ويقضي على تلك المفاسد المدمرة لحياتهم الاجتماعية.
تنبيه:
إن إساءة استعمال بعض الجَهَلة لحق التعدّد لا يغضّ من حكمة الإسلام، ولا يحمِّله تبعة رعونة وسفاهة أولئك الجاهلين، وسوء تصرفهم.
فالإسلام، ما أباح التعدّد ليكون سلاحاً للجرح، أو الذبح، أو سوء المعاملة، وإنما شرعه تلبية للحاجة، ووقاية للمجتمع، ورعاية للأفراد، وقضاء على الرزيلة.
لكن تلك المبررات، وبتلك الشروط الشرعية أباح الإسلام التعدّد، ولم يوجبه، وأحاطه بسياج من الضمانات الأخلاقية الحقوقية.
فالإسلام أشبه (بصيدلية) وَعَت جميع الأدوية التي تفي بحاجة الناس جميعهم، يأخذ كل فرد الدواء الذي يتفق وحاجته ومرضه، ليس معقولاً أن نقلِّل من أهمية هذه (الصيدلية) أو نقلِّص من موادها بحيث لا تفي بالحاجة العامة لجميع الأفراد، أو نُبيح جميع ما فيها لكل فرد، ولو بغير حاجة.
هذا وإذا كان أعداء الإسلام لا يعجبهم هذا التشريع، لأنه لا يتفق وأمزجتهم المنحرفة، وأذواقهم الفاسدة، وشهواتهم الرخيصة، فليموتوا بغيظهم، والله من ورائهم محيط.