المحتويات:
تمهيد
البحث عن الصفات التي ينبغي أن تطلب في كل من الزوجين
رؤية المخطوبة والنظر إليها
الخطبة
إن سعادة الأسرة، ونجابة الأولاد، واستمرار الحياة الزوجية تتوقف على حسن اختيار كل من الزوجين للآخر، اختياراً واعياً، غير متأثر بعاطفة هوجاء، أو مصلحة مؤقتة، وإنما يكون قائما على أساس يبقى، ويقوى مع مرور الزمن؛ ولما كان عقد الزواج عقداً خطير الأثر، طويل الأمد، كثير التكاليف، كان لابدّ قبل إجراء هذا العقد من خطوات تتخذ من قِبَل كل من الخاطب والمخطوبة، حتى إذا أقدما على عقد الزواج كانا قد أقدما عليه، وقد اطمأن كل منهما إلى الصفات والمؤهلات التي تحقق أغراضه، وتطمئن نفسه إلى مستقبل ارتباطه مع زوجه.
وهذه الخطوات هي:
أولاً: البحث عن الصفات التي تطلب في كل من الزوجين.
ثانيا: رؤية المخطوبة والنظر إليها.
ثالثاً: الخطبة.
لقد أرشد الإسلام إلى عدة من الصفات تكون في المخطوبة، كما تكون في الخاطب، وحث على تلمسها، والبحث عنه، وهذه الصفات هي:
١ـ الدين الصحيح والخلق القويم:
يُطلب في الزوج يُختار أن يكون ديناً، ذا خلق حسن، كما يطلب في الزوجة أن تكون دينة، وذات خلق حسن، وإلى ذلك أرشد النبي الأعظم-ﷺ-حين قال: «إذا خَطَب إليكم مَن تَرْضَوْنَ دِينَه وخُلُقَه ، فزَوِّجُوه . إلا تفعلوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ».
[رواه الترمذي في النكاح، باب: ما جاء إذا جاءكم مَن ترضون دينه فزوِّجوه، رقم: 1084]
وقال -ﷺ-: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَلِجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ».
رواه البخاري [النكاح، باب: الأكفاء في الدين، رقم: 4802] ومسلم [الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين رقم: 1466]
[تربت يداك: افتقرت، وهذه كلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولكن يريدون بها الحثّ والتحريض، والمراد بالدين والأخلاق: فعل الطاعات، والأعمال الصالحات، والعفّة عن المحرمات، والقيام بحقوق الزوجية].
٢ـ الحكمة من تفضيل ذات الدين والخلق:
إن الحكمة من ذلك هي أن الدين يقوى على مرور الزمن، والخلق يستقيم مع توالي الأيام وتجارب الحياة.
فإذا اختار كلِّ من الزوجين الآخر لدينه وخلقه، كان ذلك أضمن لاستمرار الحب، ودوام المودّة.
ولا يُفهم مما ذكرنا أن على الإنسان أن يعزف عن الحَسَب والجمال، وإنما يجب أن يفهم أنّ هذه الصفات إذا انفردت في المخطوبة، كان الدين أفضلها، وإذا اجتمعت كانت نوراً على نور.
٣ـ النسب في كل من الزوجين:
ومعنى النسب: طيب الأصل، وكرم المنبت، ودليل ذلك ما جاء في حديث الصحيحين السابق تنكح المرأة لأربع، وذكر منها: (ولحسبها).
كذلك يسنّ في الزوج أن يكون ذا حسب، وأصل طيب، لأن ذلك أعون على استدامة الحياة الزوجية، وأقرب إلى طيب العشرة، لأن صاحب الأصل الطيب لا يصدر عنه إلا العِشْرة الكريمة، إذا أحبّ أكرم، وإذا أبغض لا يظلم.
٤ـ أن لا يكون بين الزوجين قرابة قريبة:
وقد نصّ الشافعي رحمة الله تعالى على أنه لا يتزوج الرجل من عشيرته: أي الأقربين.
وقد علّل الزنجاني ذلك بقوله: إن من مقاصد النكاح اتصال القبائل، لأجل التعاضد والمعاونة، وهذا حاصل في القرابة القريبة من غير زواج.
وقد روى: [لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يُخلق ضاوياً] أي نحيفاً، وذلك لضعف الشهوة بين القرابة. ذكر هذا الشربيني في شرحه لمنهاج النووي.
لكن ذكر ابن الصلاح أنه لم يجد لهذا الحديث أصلاً معتمداّ، وقد ذكره ابن الأثير في كتابه [النهاية في غريب الحديث والأثر].
ولا يطعن في هذا الحكم أن النبي -ﷺ- قد زوّج فاطمة من علي رضي الله عنهما، لأنه فعل ذلك لبيان الجواز، أو لأنه ليس بينهما قرابة قريبة جداً، ففاطمة هي بنت ابن عم علي، فهي بعيدة عنه بالجملة.
٥ـ الكفاءة:
ويقصد بالكفاءة: مساواة حال الرجل لحال المرأة اليوم في عدة وجوه:
أـ الدين والصلاح، فليس الفاسق كفؤاً لعفيفة صالحة، قال تعالى:
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة:١٨].
ب ـ الحرفة، فصاحب حرفه دنيئة، ككنّاس وحجّام وراع وقيِّم حمام، ليس كفؤا لبت عالم وقاض وتاجر.
جـ ـ السلامة من العيوب المثبتة للخيار في فسخ النكاح، فمَن به جنون أو برص ليس كفؤاً للسليمة منها.
والكفاءة في الزواج من حق الزوجة وأوليائها، وهي وإن لم تكن شرطاً في صحة النكاح، لكن مطلوبة ومقررة دفعاً للعار عن الزوجة وأوليائها، وضماناً لاستقامة الحياة بين الزوجين، وذلك لأن أسلوب حياتهما، ونوع معيشتهما يكونان متقاربين، ومألوفين لهما، فلا يضطر أحدهما لتغيير مألوفه.
فللزوجة وأوليائها إسقاط حق الكفاءة، فلو زوَّجها وليها غير كفء برضاها صحّ الزواج، لأن الكفاءة حقها وحق الأولياء، فإن رضوا بإسقاطها، فلا اعتراض عليهم. ويشير إلى مراعاة الكفاءة، قول النبي -ﷺ-: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ ».
رواه الحاكم [النكاح، باب: تخيروا لنطفكم .. ، رقم: 2/ 163 ]وصححه.
٦ - البكارة:
والبكر: هي التي لم يسبق لها أن تزوجت، وقد بيّن النبي -ﷺ-سبب اختيار الزوجة البكر، حين قال: « عَلَيْكُمْ بِالأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ».
رواه ابن ماجه في [النكاح، باب: تزوج الأبكار، رقم: 1860].
[أعذب أفواهاً: ألين كلاماً، فهو كناية عن حُسن كلامها وقلّة بذائها وفحشها مع زوجها، لبقاء حيائها، لأنها لم تُخالط زوجاً قبله. أنتق أرحاماً: أكثر أولاداً].
وروى البخاري ومسلم واللفظ له:
عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ :« تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ-، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ-ﷺ-، فَقَالَ : يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : بِكْرٌ ، أَمْ ثَيِّبٌ ؟ قُلْتُ : ثَيِّبٌ ، قَالَ : فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ ، فَخَشِيتُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُنَّ ، قَالَ : فَذَاكَ إِذَنْ ، إِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا ، وَمَالِهَا ، وَجَمَالِهَا ، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»
[البخاري: النكاح، باب: تزويج الثيِّبات. ومسلم: الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين].
وكذلك يستحبّ أن يكون الزوج بكراً، لم يسبق له أن تزوج، لأن النفوس جُبِلت على الاستئناس بأول مألوف.
الولود: وتُعرف البكر الولود بأقاربها، كأختها، وعمتها، وخالتها , ويُعرف الرجل الولود أيضاً بأقربائه.
قال رسول الله-ﷺ-«زَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ يوم الْقِيَامَة ».
رواه أحمد، وابن حبّان، والحاكم، وصحّح إسناده.] [المستدرك: النكاح، باب، تزوّجوا الودود الولود: 2/ 162].
ومن الأمور المستحبّة التي رغّب فيها الإسلام أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة قبل الخطبة، إذا قصد نكاحها، ورجا رجاءً طاهراً أن يجاب إلى طلبه، وإن لم تأذن له، أو لم تعلم بنظره، اكتفاء بإذن الشرع له، ولئلا تتزين له، فيفوت غرضه.
وله تكرير النظر ثانياً وثالثاً إن احتاج إليه، ليتبين هيئتها، فلا يندم بعد النكاح، إذ لا يحصل الغرض غالباً بأول نظرة.
روى الأمام الترمذي وحسّنه [النكاح، باب: ما جاء في النظر إلى المخطوبة، رقم: 1087]، وابن ماجه [النكاح، باب: النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، رق: 1865] وغيرهما: أن النبي-ﷺ-قال للمغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وقد خطب امرأة ـ أي عزم على خطبتها ـ: «انظر إليها فإنه أحرى أنْ يؤدَمَ بينكما».
ومعنى يؤدم بينكما: أن تدوم المودّة والألفة بينكما.
وروى البخاري [النكاح، باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج، رقم: 4833]، ومسلم [النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن .. ، رقم: 1524]عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن امرأة جاءت رسول الله -ﷺ- فقالت: يا رسول الله، جئت لأهبَ لك نفسي، فصعَّد النظر إليها وصَّوبه، ثم طأطأ رأسه.
[لأهب لك: أجعل أمري لك: تتزوجني بدون مهر، أو تزوِّجني لمن ترى. فصعد النظر إليها وصوبه: نظر إلى أعلاها وأسفلها وتأملها. طأطأ رأسه: خفض رأسه، ولم يُعد النظر إليها].
وروى مسلم [النكاح، باب: ندب النظر إلى وجه المرأة وكفّيها لمن يريد تزوجها، رقم: 1434] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:« كنتُ عندَ النَّبيِّ فأتاه رجلٌ فأخبره أنَّه تزوَّجَ امرأةً من الأنصارِ فقال رسولُ اللهِ أنظَرتَ إليها ؟ قال : لا قال : فاذهَبْ فانظُر إليها فإنَّ في أعيُنِ الأنصارِ شيئًا» أي يختلفن عن أعين غيرهنّ ربما لا يعجبك.
وعن أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -ﷺ-: " «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ ».
رواه أحمد (5/ 424)
هذا ويحق لها أيضاً أن تراه، إذا أرادت الزواج منه، لتتبين هيئته، ولا تندم بعد النكاح، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها.
حدود النظر:
ولا يجوز للخاطب أن ينظر من المخطوبة إلاّ وجهها وكفّيها ظهراً وبطناً، لأنها مواضع ما يظهر من الزينة المُشار إليها، في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]
والحكمة من الاقتصار على الوجه والكفّين، أن الوجه يستدل به على الجمال، واليدين يستدل بهما على خصب البدن ولينه.
وإن لم يتيسر له أن ينظر إليها، أرسل امرأة تتأملها، وتصفها له.
لأنه-ﷺ- بعث أم سليم إلى امرأة، وقال: «انْظُرِي إِلَى عُرْقُوبَيْهَا، وشُمِّي عَوَارِضَهَا»
رواه الحاكم (في النكاح: 2/ 166) وصححه.
[العرقوب: عصب غليظ فوق عقب الإنسان. وشمّي عوارضها: أي رائحة جسمها "
ويؤخذ من الحديث أن للمبعوث أن يصف للباعث زائداً على ما ينظره بنفسه، فيستفيد بالبعث ما لا يستفيده بنظره.
حكم نظر الأجنبي إلى المرأة:
ويحرم نظر رجل بالغ عاقل مختار ـ ولو شيخاً، أو عاجزاً، وكذلك المراهق وهو مَن قارب البلوغ ـ إلى أيّ جزء من جسم المرأة أجنبية كبيرة. والكبيرة هي من بلغت حدّاً تشتهى فيه، ولو كانت غير بالغة، ولو كان ذلك الجزء الوجه والكفّين، ولو لم تكن هناك فتنة على الصحيح في المذهب.
وكذلك يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل لغير حاجة. قال الله تعالى:
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 3 - 31].
وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:« كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةُ فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَنَا بِالْحِجَابِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : احْتَجِبَا مِنْهُ . فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَيْسَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا ؟ قَالَ : أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا ، ألَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ ؟! ».
رواه الترمذي [الأدب، باب: ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، رقم: 2779] وقال: حديث حسن صحيح.
هذا، وحيث حرّم النظر فيما ذكر حرّم المسّ، لأنه أبلغ منه في التلذذ وإثارة الشهوة.
أما النظر إلى الصغيرة التي لا تُشتهى، والصغير الذي هو دون المراهقة، فإنه لا يحرم النظر إلا إلى الفرج منهما. لأن النظر إليهما ليس في مظنة شهوة، فلا يحرم ذلك.
النظر إلى المحارم:
ويجوز نظر الرجل إلى محارمه من النساء إلا ما بين السرّة والركبة.
وكذلك المرأة تنظر إلى محارمها من الرجال ما عدا ما بين السرّة إلى الركبة.
متى يباح النظر إلى الأجنبية؟
واعلم أن ما تقدم من حُرمة النظر إلى المرأة الأجنبية، والمسّ لها، إنما هو حيث لا تدعوا الحاجة إليهما، وأما إذا دعت الحاجة إلى النظر، أو المسّ، فإن ذلك يُباح، وليس فيه حرج.
والحاجة تظهر في الأمور الآتية:
١ـ عند المداواة، لأن في التحريم حرجاً، والإسلام دين اليُسْر ورفع الحرج. قال تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحرج: 78]. فيُنظر إلى المواضع التي يحتاج إليها.
روى مسلم [السلام، باب: لكل داء ودواء واستحباب التداوي، رقم: 2206] عن جابر - رضي الله عنه -: (أن أم سلمة رضي الله عنهما استأذنت رسول الله -ﷺ- في الحجامة، فأمر النبي-ﷺ- أبا طيبة أن يحجمها). فللرجل مداواة المرأة إذا كانت الضرورة تتطلب ذلك، ولم توجد امرأة تعالجها، وكذلك للمرأة مداواة الرجل إذا لم يوجد رجل يعالجه، ودعت الضرورة إلى ذلك، لكن لا يعالج الرجل المرأة إلا بحضرة مَحرَم، أو زوج، أو امرأة ثقة.
وإذا وجد الطبيب المسلم، لا يعدل إلى غيره.
٢ـ عند المعاملة من بيع وشراء، إذا كانت هناك حاجة لمعرفة تلك المرأة، ولم تعرف دون النظر إليها.
٣ـ عند الشهادة تحملاً وأداء، لأن الحاجة تدعو إلى النظر إلى المشهود عليه، أو المشهود له
٤ـ عند التعليم: وذلك فيما ذكر، فإنما يُباح بقدر الحاجة فقط، لأن النظر إنما أبيح للضرورة أو الحاجة، والضرورة والحاجة تقدر بقدّر ما يرفع الحرج ويحقق الغرض.
فإذا تمّ الوثوق من الصفات الحسنة، وتحقق بالرؤية والنظر الرضا والرغبة، جاء دور الخطبة.
والخطبة ـ بكسر الخاء ـ هي التماس الخاطب النكاح من جهة المخطوبة.
متى تحل الخطبة، ومتى تحرم:
١ـ تحل الخطبة تصريحاً وتعرضاً، إذا كانت المخطوبة خليَّة من نكاح، وعدة، ومن كل موانع النكاح التي مر ذكرها في المحرمات.
٢ـ تحل الخطبة تعريضاً فقط لا تصريحاً، إذا كانت المرأة معتدّة من وفاة، أو طلاق بائن. قال الله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة " 235]
[لا جُناح: لا إثم ولا حرج. أكننتم: أخفيتم. لا تواعدوهنّ سرّاً: لا تعدوهن بالنكاح خفية. قولاً معروفاً: موافقاً للشرع، وهو التعريض. ولا تعزموا عقدة النكاح: لا تحققوا العزم على عقد الزواج. حتى يبلغ الكتاب أجَلَه: حتى تنقضي العدّة، وهي المدة التي فرضها الله على المعتدّة في كتابه أن لا تتزوج خلالها].
٣ـ وتحرم الخطبة تعريضاً وتصريحاً فيما عدا ما ذكر، في الفقرة الأولى والثانية.
فتحرم خطبة امرأة ما تزال على عصمة زوجها. كما تحرم خطبة كل امرأة ذكرت في محرمات النكاح، سواء كانت محرمة مؤبدة أم محرمة مؤقتة.
وتحرم خطبة المرأة المعتدّة من طلاق رجعي، سواء كان ذلك بالتعريض أم بالتصريح، لأنها زوجة، أو في معنى الزوجة، لأن لزوجها الحق في مراجعتها، قال تعالى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ً} [البقرة: 228].
معنى التصريح بالخطبة:
والتصريح في الخطبة معناه: كل لفظ يقطع بالرغبة في النكاح: كأُريد أن أنكحك، أو: إذا انقضت عدتك تزوجتك.
معنى التعريض بالخطبة:
والتعريض بالخطبة معناه: أن يستعمل لفظاً يحتمل الرغبة في النكاح، وعدمها، كأن يقول للمعتدّة: أنت جميلة، أو: ربّ راغب فيك، مَن يجد مثلك، أو نحو ذلك.
الخطبة على الخطبة:
وتحرم خطبة إنسان على خطبة أخيه، إذا كان قد صرح له بالإجابة، إلا بإذنه.
فإن لم يجب ولم يرد لم تحرم الخطبة.
وهذه الحرمة حرمة توجب الإثم، ولا توجب بطلان العقد، فيما إذا خطب على خطبة أخيه، وعقد عقد الزواج.
ودليل هذا التحريم: قول النبي-ﷺ-:«لا يَخطُبَ الرَّجلُ على خِطبَةِ أخيه، حتَّى يَترُكَ الخاطِبُ قَبلَه أو يَأذَنَ له الخاطِبُ » .
رواه البخاري [النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه .. ... ، رقم: 4848]، ومسلم [النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه .. ، رقم: 1412] عن ابن عمر - رضي الله عنه
حكم الاستشارة في خاطب أو مخطوبة:
مَن استُشير في خاطب أو مخطوبة وجب عليه أن يذكر من العيوب والمساوئ ما يعرف بصدق، ليحذر، وذلك بذلاً للنصيحة، ولا يعدّ ذلك من الغيبة المحرّمة. هذا إذا احتيج إلى ذكر العيوب، أما إذا اندفع بدون ذكر ذلك، كقوله مثلاُ: هذا لا يصلح لك، أو هذه لا تصلح لك، وجب الاقتصار على ذلك. دليل هذا الحكم حديث فاطمة بنت قيس رضي الله
عنهما عند مسلم [الطلاق، باب: المطلّقة ثلاثاً لا نفقة لها، رقم: 1480]، والترمذي [النكاح، باب: ما جاء في أن الرجل لا يخطب على خطبة أخيه، رقم: 1135] أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله-ﷺ-:«أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ " . قَالَتْ فَكَرِهْتُهُ ثُمَّ قَالَ " انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ . فَنَكَحْتُهُ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَاغْتَبَطْتُ به».
عرض الوليّ موليته على ذوي الصلاح والتقوى:
ويسن لولي المرأة التي يرغب في تزويجها أن يعرض زواجها على أهل الصلاح والتقوى، تأسياً بما فعل شعيب عليه الصلاة والسلام مع موسى-ﷺ- حين عرض ابنته عليه، لما عُرِف من أمانته وعفافه. قال تعالى حاكياً قصتهما:
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ {26} قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {27} قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 26 ـ 28] .. وتأسياً أيضاً بما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما عرض ابنته حفصة رضي الله عنها على عثمان، ثم على أبي بكر، وتزوجها النبي-ﷺ-.
[البخاري: النكاح، باب: عرض الإنسان ابنته أو أُخته على أهل الخير].
[سنن الخطبة]:
ويستحبّ للخاطب، أو وكيله، تقديم خُطبة ـ بضم الخاء ـ قبل الخطبة ـ بكسر الخاء ـ وقبل العقد، يبدؤها بحمد الله والصلاة والسلام على النبي-ﷺ-لحديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر»
[ابن ماجه: النكاح، باب: خطبة النكاح، رقم: 1849].
ثم يوصي بتقوى الله عز وجل، ثم يظهر رغبته، فيقول: جئتكم خاطباً كريمتكم.
ويستحب أيضا لوليّ المخطوبة أن يخطب، ويقول: بعد حمد الله والصلاة والسلام على النبي وآله والوصية بتقوى الله عز وجل: ليس بمرغوب عنك.
والخُطبة قبل العقد آكد من الخُطبة قبل الخِطبة، لورود ذلك عن السلف الصالح - رضي الله عنه -.
وقد تبرك الأئمة رضي الله عنهم بما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً ومرفوعاً قال: إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من نكاح وغيره، فليقل: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70ـ 71]
[انظر شرح الشربيني على المنهاج: كتاب النكاح: 3/ 138].
حكم الخلوة بالمخطوبة والاختلاط بها قبل العقد:
لقد شاع وانتشر في بعض الأوساط المسلمة، البعيدة عن روح الإسلام في الزواج، أن الخاطب بمجرد أن يعلن خطبته يبدأ بالاختلاط بخطيبته، والخلوة بها، مدعياً أنه يفعل ذلك ليتعرف أخلاقها وطباعها، وهو مقتنع في قرارة نفسه أنه لن يستطيع أن يكشف من حقيقة أخلاقها شيئاً، لأنه كان يفكر هو بأن أمامها ـ تصنعاً ـ بأنه فارس أحلامها المنشود في كرمه، وتسامحه، وكياسته، فإنها هي أيضاً تتصنع له أكثر مما يتصنع لها، وتحاول أن تفهمه أنها هي الفتاة التي رسمها في خيالها رقة وأنوثة، وذوقاً، وأدباً وأخلاقاً وسلوكاً.
إن اختلاط الخاطب بالمخطوبة وخلوته بها قبل عقد الزواج أمر حرام لا يقره شرع الله عز وجل، ولا يرضى به. قال رسول الله-ﷺ- ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم ".
رواه البخاري [النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة ... ، رقم: 4935] ومسلم [الحج، باب: فرض الحج والعمرة مرة في العمر، رقم: 1314].
عن ابن عباس رضي الله عنهما. والخطيبة قبل العقد تعتبر امرأة أجنبية.
إن الفتاة العاقلة هي التي تمتنع عن الظهور أمام خطيبها بعد أن رآها رؤية الخطبة حتى يتم العقد، لأن من الواجب عليها أن تفكر في مستقبلها، وتحسب الحساب للعواقب التي يمكن أن تواجهها، وتفكر بأن هذا الخاطب إذا فسخ خطبته لها فلن يتقدم شاب آخر لخطبتها، وهو يعلم علاقتها بخطيبها السابق.
أما إذا تم العقد، فقد حلّت الخلوة والخلطة لأنها أصبحت زوجة له، يرى منها وترى منه ما بدا لهما، من غير إثم ولا حرج.