المحتويات:
تعريفه
مشروعيته
حكمة مشروعيته
حكم عقد القراض
أركانه
شروطه
يد العامل المضارب
ما ليس للمضارب فعله
ما علىٰ العامل فعله
ما يطرأ علىٰ رأس المال من نقص
انتهاء عقد القراض
اختلاف العامل والمالك
القِراض: مشتق من القرض وهو القطع، سُمي به هذا العقد لأن مالك المال يقطع من ماله جزءًا يعطيه للعامل يتصرف فيه، كما يقطع له جزءًا من ربح هذا المال، ويُسمىٰ مقارضة، وهو المساواة، لتساويهما في الربح.
والمضاربة: مشتقة من الضرب في الأرض وهو السفر، سُمِّيت به هذه الشركة لأن الغالب فيها السفر لجلب البضاعة وتسويقها وجلب الربح ونحو ذلك.
وهذه الشركة في عُرْف الفقهاء: أن يدفع مالك المال مالًا لغيره ليعمل به ويتجر فيه، علىٰ أن يكون الربح مشتركًا بينهما، ومن هنا سُميّت شركة، لاشتراكهما في الربح.
هذا النوع من الشركة جائز ومشروع، دّل علىٰ مشروعيته السُنّة، وانعقد عليه إجماع المسلمين.
فقد روىٰ عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن أبيه العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه: أنه كان إذا دفع مالًا مضاربة اشترط علىٰ صاحبه: أن لا يسلك به بحرًا، ولا ينزل به واديًا، ولا يشتري به دابة ذات كبد رطبة، فإن فعل ذلك ضمن. فبلغ شرطه رسول الله ﷺ فأجازه. [أخرجه البيهقي في كتاب القراض: ٦/ ١١١].
وعن صهيب رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: «ثلاث فيهنّ البركة: البيع إلىٰ أجل، والمقارضة، وخلط البُرّ بالشعير للبيت لا للبيع». [أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب: الشركة والمضاربة، رقم: ٢٢٨٩].
وهذه الأحاديث وإن كان في سند كل منها ضعف، لكنها بمجموعها تقوىٰ فتصبح مقبولة صالحة للاحتجاج بها، ولاسيما وقد أيّدها عمل الصحابة رضي الله عنهم وإجماعهم علىٰ مشروعية هذا العمل.
وإليك نماذج من هذا العمل:
روىٰ زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبدلله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- في جيش إلىٰ العراق، فلما قفل مرّا علىٰ أبي موسىٰ الأشعري رضي الله عنه -وهو أمير البصرة - فرحب بهما وسهّل، ثم قال: لو أقدر لكما علىٰ أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلىٰ، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلىٰ أمير المؤمنين، فأسلفكماه، فتبتاعان به متاعًا من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلىٰ أمير المؤمنين ويكون الربح لكما. فقالا: وددنا ذلك. ففعل، وكتب إلىٰ عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال. فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلىٰ عمر قال: أكلَّ الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: أبنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أدّيا المال وربحه. فأما عبدالله فسكت، وأمّا عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه. فقال عمر: أدّياه، فسكت عبدالله وراجعه عبيدالله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا، فقال عمر: قد جعلته قراضًا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبدالله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال.
وعن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن جدّه: أن عثمان -رضي الله عنه- أعطاه مالًا قراضًا يعمل فيه، علىٰ أن الربح بينهما.
[أخرجهما مالك في الموطأ: أول كتاب القراض، باب: ما جاء في القراض:٦٨٧/٢ . والبيهقي في السنن: كتاب القراض:٦/ ١١١]
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أنه كان يشرط علىٰ الرجل إذا أعطاه مالًا مقارضة يضرب له به: أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي. [اخرجه البيهقي في السنن: القراض:٦/ ١١١].
فهذه الآثار عن أصحاب رسول الله ﷺ تدل علىٰ تعاملهم بالقراض، وجرت منهم علىٰ علم ومسمع من غيرهم، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار لها، فصار ذلك إجماعًا علىٰ مشروعيته. وعلىٰ هذا أجمعت الأمة في جميع الأعصار.
علمنا أن حكمة مشروعية الشركة عامة هو تنمية المال، وتحقيق التعاون بين أفراد المجتمع، وتحقيق التكامل بين القدرات والإمكانيات والكفايات، بالاستفادة ممّن لديه المال الكثير وقد تكون الخبرة لديه قليلة، والاستفادة ممّن لديه الخبرة الواسعة وربما كان المال لديه قليلًا، إلىٰ غير ذلك من الصور.
وهذا المعنى في الشركة عامة يوجد في المضاربة علىٰ أتمّ وجه وأعلىٰ نسبة، لما فيها من تحصيل المال أصلًا لمن لا يوجد لديه غالبًا، وتحقيق الفائدة لمن عنده المال ولا خبرة عنده أصلًا، فكانت الحاجة ماسة إلىٰ هذا النوع من الشركة، لتحقيق التعاون والنفع بين هذين الصنفين من الناس، ورعاية للمصلحة العامة في الاستفادة من وظيفة المال التي هي قوام معاش الناس، والخبرة التي وهبها الله عز وجل لتسخر في أمور الناس: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}. [الزخرف: ٣٢].
عقد القراض والمضاربة عقد جائز، أي غير لازم، بمعنىٰ أن كلًّا من المتعاقدين -أي صاحب المال والعامل- له الحق أن يفسخ هذا العقد، سواء أبدأ العامل بالتصرّف -أي الشراء والبيع ونحو ذلك- أم لم يبدأ.
فإذا كان الفسخ قبل الشروع بالعمل لم يجز للعامل أن يتصرف بشيء من رأس المال، لأنه تصرف في غير ملكه بغير إذن مالكه.
وإذا كان الفسخ بعد الشروع بالعمل توقف العامل -أي الشريك المضارب- عن شراء شيء جديد، ووجب عليه بيع ما لديه من سلع بالنقد المتعامل به في البلد، واستيفاء الديون العائدة إلىٰ هذه الشركة، ثم يجري الحساب، ويسترد صاحب المال رأس ماله، ويتقاسمان الربح بينهما حسب اتفاقهما.
أركان عقد المضاربة ثلاثة:
صيغة
وعاقدان
ورأس مال.
١- الصيغة: وهي الإيجاب والقبول بألفاظ تدل علىٰ الرضا بهذا العقد وهذه الشركة.
فالإيجاب: كقوله: ضاربتك وقارضتك وعاملتك، وما يؤدي هذه المعاني من الألفاظ كقوله: خذ هذه الدراهم واتجر فيها، وما يحصل من ربح بيننا مناصفة، أو ثلث لي وثلثان لك، ونحو ذلك.
والقبول: أن يقول العامل المضارب: قبلت ذلك، أو رضيت أو نحو ذلك مما يدل علىٰ الرضا بهذا.
ويشترط في الصيغة:
أن تكون منجزة، فلا يصح تعليقها علىٰ شرط، كإذا جاء رمضان فقد قارضتك، ونحو ذلك.
كما يشترط أن يكون القبول متصلًا بالإيجاب عرفًا، فلو فصل بينهما سكوت طويل أو كلام لا علاقة له بالعقد لم يصح.
٢- العاقدان: وهما صاحب المال والعامل.
ويشترط فيهما أهلية الوكالة والتوكيل، لأن المالك كالموكِّل، والعامل كالوكيل، إذ أن العامل يتصرف في مال صاحب المال بإذن منه، فلو كان أحدهما محجورًا عليه لسفه -أي لسوء تصرفه بالمال- لم يصحّ العقد، وكذلك لو كان العامل أعمىٰ ، لأنه ليس أهلًا لأن يكون وكيلًا في البيع والشراء وأعمال التجارة. أما لو كان صاحب المال أعمىٰ لم يضرّ ذلك، لأنه يصح منه أن يوكل غيره بذلك.
٣- رأس المال: ويشترط فيه:
١) أن يكون من النقود، كالدراهم والعملات المتعارفة اليوم، ولا يصحّ أن يكون عروضًا -أي سِلَعًا- تجارية، لأن في ذلك غررًا فاحشًا، إذ يصبح كل من الربح ورأس المال مجهولًا، لأن العرض تختلف قيمته بين يوم قبضه ويوم بيعه أو ردّه. والأصل في عقد القراض أنه فيه غرر، لأن العمل فيه غير مضبوط، والربح غير موثوق به، وإنما جاز لحاجة الناس إليه كما بيّنا، فلا يضاف إليه غرر آخر، ولذا يقتصر فيه علىٰ ما يروج بكل الأحوال وتسهل التجارة به، وهو النقود.
٢) ويشترط أن يكون رأس المال معلوم المقدار، فلا تصحّ المضاربة علىٰ مال مجهول القدر، كي لا يكون الربح مجهولًا.
٣) أن يكون معينًا، فلا تصحّ المضاربة علىٰ مال في الذمّة، إلا إذا أخرجه في مجلس العقد وعيّنه، وكذلك لا تصح علىٰ دين له في ذمة العامل، إلا إذا نقده في المجلس أيضًا.
٤) أن يكون مسلَّمًا إلىٰ العامل، أي أن يكون في يد العامل وهو وحده الذي يتصرف فيه، فلا يصح اشتراط أن يكون المال في يد المالك أو غيره، ليعطىٰ العامل منه ثمن ما يشتريه في كل صفقة، كما لا يصح أن يشترط عليه مراجعة صاحب المال في كل تصرف، لأنه قد لا يجده عند الحاجة إلىٰ ذلك، فيكون في ذلك تضييق عليه وإضرار به.
١- الإطلاق وعدم التقييد:
يشترط في المضاربة أن تكون مطلقة، أي لا تصحّ المضاربة فيما إذا قيّد صاحب المال العامل بشراء شيء معين كهذه السجادة مثلًا، أو نوع معين من شخص معين كحنطة زيد، أو من بلد صغير، كحنطة هذه القرية وهي صغيرة قليلة الإنتاج، أو معاملة شخص بعينه، كالشراء من عمرو وبيعه، أو المتاجرة بشيء يندر وجوده.
ولا يشترط تعيين مدة للقراض، فإن عيّن مدة لا يتحقق فيها الغرض أي لا يتمكن فيها من الشراء للبضاعة المطلوب المتاجرة فيها، وكذلك بيعها وتسويقها ليحصل الربح الذي هو المقصود من هذا التعامل، فسدت هذه الشركة.
وإن عيَّنَ مّدةً يتمكن فيها من الشراء، ومنعه من الشراء بعدها ولم يمنعه من البيع صحّ ذلك، لحصول الاسترباح بالبيع الذي له فعله بعد تلك المدة.
٢- اشتراكهما في الربح واختصاصهما به:
يشترط أن يكون الربح مشتركًا بين صاحب المال والعامل، ليأخذ المالك نماء ماله والعامل ثمرة جهده، فيملك صاحب المال الربح بملكه والعامل بعمله، فلو شرط الربح لأحدهما خاصة فسدت الشركة، لمخالفة هذا الشرط لمقتضىٰ العقد.
ولو شرط أن يكون الربح كله للعامل فسد العقد، وكان الربح كله لصاحب المال، واستحق العامل أجرة مثله، لأنه عمل طامعًا في المنفعة والربح.
ولو شرط أن يكون الربح كله لصاحب المال فسد العقد أيضًا، ولم يكن للعامل شيء، لأنه يعتبر متبرعًا في هذه الحالة بالعمل، إذ لم يكن لديه طمع في أن يحصل علىٰ شيء من الربح.
ويشترط أن يكون نصيب كل منهما من الربح معلوم القدر بالجزئية، أي أن يكون نصيبًا شائعًا معلومًا، كالربع مثلًا، أو خمسين في المائة، أو أكثر أو أقل.
فلا يصح العقد إذا لم يكن نصيب كل منهما من الربح معلومًا، لأن الربح في هذا العقد هو المقصود، فهو محل العقد، أي المعقود عليه، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، كجهالة المبيع في البيع.
وكذلك لا يصحّ العقد إذا كان الربح المشروط لأحدهما قدرًا معينًا بالعدد، كأن يشرط أن يكون لأحدهما ألف مثلًا من الربح، أو أكثر أو أقل، لاحتمال أن لا يكون الربح كله أكثر من هذا المقدار، فيختص به من شرط له، فلا يتحقق اشتراكهما في الربح، فلا تكون شركة، ولا يكون التصرّف قراضًا أو مضاربة، فيفسد العقد، وفي هذه الحالة يكون الربح كله لصاحب المال، ويكون للعامل أجرة مثله.
وكذلك الحال لو شرط للعامل نصيب جزئي من الربح ومقدار معين منه، كأن يشرط له راتب شهري قدره ألف -مثلًا- وخمسة في المائة من الربح، للمعنىٰ المذكور قبله، واحتمال أن لا يكون الربح أكثر مما عيّن له.
وعليه يتبّين فساد الكثير من تصرفات الناس في هذا الزمن، حيث يتعاقدون مع من يعمل بأموالهم، علىٰ أن يتقاضىٰ راتبًا شهريًا معينًا، ويكون له نسبة معينة من الأرباح عند الجرد السنوي أو غيره.
وكذلك يشترط أن يكون الربح خاصًا بهما، أي بصاحب المال والعامل، ولا يجوز أن يشرط جزء منه لغيرهما، إلا إذا شرط عليه أن يعمل مع العامل، فيكون قراضًا بين صاحب المال وعامِلَيْن أو أكثر.
٣- استقلال العامل بالتصرّف والعمل:
فلا تصحّ المضاربة إذا شرط فيها أن يشارك صاحب المال العامل في العمل والتصرف، لأن شرط ذلك يعني بقاء المال علىٰ يد صاحب المال، وقد علمنا أنه يُشترط أن يكون المال في يد العامل.
فإذا لم يشرط ذلك، واستعان العامل بصاحب المال في العمل، جاز ذلك، لأن الاستعانة به لا تُوجب خروج المال من العامل إليه.
العامل المضارب يده يد أمانة علىٰ المال الذي استلمه، وكذلك السلع التي اشتراها به أو بجزء منه، والمراد بيد الأمانة: أنه لا يضمن ما تلف في يده من أموال المضاربة إلا إذا تعدّىٰ أو قصّر في واجبه، وذلك بخلاف من كانت يده يد الضمان علىٰ ما في يده، فإنه يضمن مطلقًا، سواء أقصّر أم لم يُقصّر، تعدّىٰ أم لم يتعدّ.
ومن التعدّي أن يفعل ما ليس له فعله، مما سنذكره بعد قليل.
الخسارة علىٰ صاحب المال:
ولما كانت يد المضارب يد أمانة كانت الخسارة عند انتهاء المضاربة علىٰ صاحب المال وحده، وليس علىٰ العامل منها شيء، لأنها في حكم تلف بعض مال المضاربة، وهو غير ضامن لذلك طالما أنه لم يتعدّ ولم يقصّر.
هناك أُمور لا بدّ للمضارب من التزامها وعدم مخالفتها، ومنها:
١- أن لا يشتري للقراض بأكثر من رأس المال المدفوع إليه وما يحصل معه من ربح، لأن المالك لم يرضَ أن يشغل ذمته بأكثر من ذلك.
٢- لا يسافر بالمال إلا بإذن من صاحبه، لأن السفر يغلب فيه الخطر علىٰ المال، فإن أذن له جاز بحسب الإذن إن قيّده، وإن أطلق الإذن سافر إلىٰ البلاد المأمونة بحسب ما جرت به عادة التجار.
٣- لا يبيع بالنسيئة، أي بتأجيل الثمن إلىٰ أجل، إلا إذا أذن له المالك بذلك، لاحتمال تلف المال في هذا.
٤- لا يجوز له أن يُقارض عاملًا آخر ليشاركه في العمل والربح علىٰ الأصح، حتىٰ ولو أذن له صاحب المال بذلك، لأن موضوع القراض: أن يكون أحد العاقدين مالكًا لا عمل له، والآخر عاملًا لا ملك له، ومقارضة العامل لآخر علىٰ خلاف ذلك، إذ إنه يجري بين عاملين لا ملك لهما.
فإذا حصل مثل ذلك كان العقد الثاني باطلًا، وبقي العقد الأول علىٰ صحته، فإن تصرّف العامل الثاني بما دفع له من مال كان له أُجرة مثله من صاحب المال، وكان ربح المال الذي دفع له كله لصاحب المال، وليس للعامل الأول منه شئ لأنه لم يعمل شيئًا لتحصيله.
٥- لا ينفق علىٰ نفسه مال المضاربة حال الإقامة في بلده قولًا واحدًا، لأن العرف لا يقضي بذلك، ولأن النفقة قد تستغرق الربح كله، فيلزم من ذلك انفراد العامل به دون صاحب المال، وهذا ينافي شروط هذا العقد، وإذا لم تستغرقه لزم أن يختصّ بجزء معين من الربح، وهذا ينافيه أيضًا.
والأظهر أنه ليس له الإنفاق أيضًا حال السفر، للمعنىٰ المذكور. وقيل: له أن يأخذ ما يزيد علىٰ النفقة بسبب السفر إذا أنفق بالمعروف.
وقال الحنفية رحمهم الله تعالىٰ : له أن يأخذ جميع نفقته من مال المضاربة إذا سافر، لأنه أصبح بالسفر محبوسًا لها، فاستحق النفقة مقابل احتباسه.
ولا نرى مانعًا من الأخذ بهذا الرأي إذا دعت الحاجة إليه، علىٰ أن يشرط ذلك في العقد، لأن شرط مثل ذلك في العقد يفسده.
علىٰ العامل أن يقوم بكل عمل يلزم للمضاربة إذا كان من عادة أمثاله القيام به، أو كان من عادة التجّار ونحوهم القيام به بأنفسهم، حتىٰ ولو لم يعتد هو بالذات فعل ذلك.
فإذا استأجر علىٰ القيام بما يلزمه عرفًا كانت الأُجرة في ماله خاصة، لا في مال القراض ولو شرط علىٰ المالك الاستئجار عليه من مال المضاربة لم يصحّ العقد، لأنه شرط ينافي مقتضىٰ العقد، إذ أن مقتضاه أن غير المالك للمال هو الذي يقوم بالعمل، وما لا يلزمه القيام به من العمل حسب العُرْف له أن يستأجر عليه من مال المضاربة، لأنه من تتمة التجارة ومصالحها، والعُرْف لا يلزمه بالقيام به، حتىٰ ولو اعتاد فعله، ولكن لو قام به بنفسه كان متبرعًا، ولم يجز له أن يأخذ أجرة مثله من مال المضاربة، لأنه يكون قد استأجر نفسه، وذلك غير صحيح.
متىٰ يملك العامل حصته من الربح؟
إذا أستلم العامل رأس مال المضاربة وتصرّف به في البيع والشراء، وظهر فيه ربح بهذا التصرف، فالأظهر أن العامل لا يملك حصته من هذا الربح حتىٰ ينض جميع المال، أي تباع السلع جميعها ويعود المال نقدًا، ثم يتقاسم المالك والعامل الربح بعد تمييز رأس مال المضاربة منه، لأنه من المحتمل أن تحصل خسارة قبل القسمة، فتُجبر من الربح، لأن الربح في هذه الشركة وقاية للمال.
علىٰ أن حق العامل في هذا قبل القسمة مؤكد، ولذا لو أتلف المالك مال المضاربة أو استردّه قبل القسمة غرم للعامل نصيبه من الربح الذي ظهر، ولو مات العامل كذلك قبل القسمة ورث عنه هذا النصيب.
إذا طرأ علىٰ رأس مال المضاربة بعد العقد نقص، فمّن يتحمل هذا النقص؟
للجواب علىٰ ذلك نقول: يُنظر:
فإن كان النقص قد طرأ قبل تصرف العامل به ودون تعٍّد منه أو تقصير: فالأصح أنه يكون من رأس المال، ويتحمله المالك، لأن عقد المضاربة يتأكد بالعمل والتصرف، وذلك لم يحصل بعد.
وإن طرأ النقص بعد التصرف يُنظر:
- فإن كان ذلك بسبب رخص الأسعار بعد الشراء به، أو عيب حدث كمرض في الحيوان أو فساد في الثمار مثلًا، فهو محسوب من الربح ومجبور به ما أمكن قولًا واحدًا، لاقتضاء العُرْف ذلك، ولأن الربح وقاية للمال كما علمنا.
- وإن كان ذلك النقص حصل بسبب آفة سماوية كحريق أو غريق ونحو ذلك، أو غصب أو سرقة، فالأصح -أيضًا- أنه يحسب من الربح ويُجبر به.
ينتهي عقد المضاربة بأمور، هي:
١- الفسخ:
فقد علمنا أن عقد القراض عقد جائز، لكلٍّ من المالك والعامل فسخه متىٰ شاء، قبل تصرّف العامل أو بعده، وسواء أكان الطرف الآخر حاضرًا أم غائبًا، رضي أو لم يرضَ.
فإذا فسخه أحدهما أو كلاهما فقد انتهت المضاربة من تاريخ الفسخ، ولو لم يعمل الآخر بذلك، ويحصل بقول المالك: فسخت القراض أو أبطلته، أو لا تتصرف بعد الآن، ونحو ذلك.
وليس للعامل بعد الفسخ أن يشتري شيئًا من مال المضاربة، ولو اشترىٰ شيئًا به قبل العلم لم ينفذ شراؤه، ولو أن يبيع ما عنده من عروض إذا توقع فيها ربحًا ظاهرًا، وعليه أن يبيعها ليصبح رأس المال نقودًا ويظهر الربح، إن طلب المالك منه ذلك. كما يلزمه استيفاء الديون الراجعة لمال القراض.
٢- موت أحد المتعاقدين:
لأن من شرطها أهلية التوكيل كما علمت، وبالموت تبطل الوكالة، ولكن لو مات المالك كان للعامل بيع ما في يده لينضّ المال،أي يصبح نقودًا، بغير إذن ورثة المالك، استصحابًا لإذن المالك السابق، وليظهر الربح. بخلاف ما لو مات العامل، فإنه ليس لورثته تنضيض المال إلا بإذن المالك، لأنه لم يرض بتصرفهم، وإنما رضي بتصرف مورثهم.
٣- جنون أحد العاقدين أو إغماؤه، وإن زال ذلك عن قرب، لأن كلًّا منهما لو قارن العقد لم يصح، فكذلك إذا طرأ عليه قطعه. ويقوم العامل بتنضيض المال لو كان الذي جُنّ أو أغمي عليه المال، وولي العامل بإذن المالك لو كان الذي جُنّ أو أغمي عليه العامل.
٤- هلاك رأس مال المضاربة:
لأنه محل العقد، فإذا هلك لم يبق معنىٰ للعقد، وسواء أكان ذلك التلف بآفة سماوية كالحريق والغريق، أم بإتلاف المالك، أم العامل، ولكن يستقر نصيب العامل فيما إذا كان المُتْلِف هو المالك.
فإذا كان المتلف هو العامل: فإذا لم يُؤخذ منه البدل انتهت المضاربة، وأن أُخذ منه البدل استمرت. وكذلك الأمر إذا اتلفه غيرهما: إن لم يؤخذ منه بدل انتهت المضاربة، وإن أُخذ منه بدل لم تنته.
والمُطالب بالبدل في هذه الحالة: المالك إن لم يكن ربح، فإن كان ربح كانت المُطالبة للمالك والعامل، لأنهما مشتركان في البدل.
١- لو اختلف العامل والمالك في الربح، فقال العامل لم أربح شيئًا، أو: لم أربح إلا كذا، صُدّق العامل بيمينه، لأن الأصل عدم الربح. فإذا أقرّ بربح قدر معين، ثم أدّعى غلطًا في الحساب، لم يقبل قوله، لأنه رجوع عمّا أقرّ به من حق لغيره، فلا يقبل.
٢- ولو اختلفا في شئ: فقال المالك: اشتريته للقراض، وقال العامل: اشتريته لنفسي، أو بالعكس، صُدِّق العامل أيضًا بيمينه إن كان الشراء في الذمة، لأنه مؤتمن، وهو أدرىٰ بقصده، ولو كان الشراء بعين مال القراض: فإنه لا يقبل قوله ولو نواه لنفسه، فيقع المشترىٰ للقراض.
٣- ولو اختلفا في قدر رأس المال أو جنسه، فالمصدَّق العامل أيضًا بيمينه، لأن الأصل عدم دفع زيادة عليه.
٤- ولو اختلفا في دعوىٰ تلف رأس المال: فقال المالك: تلف بتعدٍّ أو تقصير، وقال العامل: بل بلا تعدٍّ ولا تقصير، صدِّق العامل بيمينه، لأنه مؤتمن، والأصل عدم الخيانة والضمان.
٥- ولو اختلفا في ردّ رأس المال: فادّعىٰ العامل ردّه، والمالك عدم ردّه، صُدِّق العامل بيمينه، لأنه مؤتمن، وكل أمين ادّعى الرد علىٰ من ائتمنه صُدّق بيمينه.
٦- ولو ادّعىٰ المالك بعد تلف المال أنه قرض، وادّعىٰ العامل أنه قراض، صُدِّق المالك بيمينه، لأن العامل اعترف بالقبض وادّعىٰ سقوط الضمان، والأصل عدم سقوطه.
ومثله: لو ادّعىٰ العامل القراض، وادّعىٰ المالك التوكيل، صُدِّق المالك بيمينه، لأنه أعلم بقصده. ولا أجرة للعامل، لأنه مُقر بعدم استحقاق الأجر.
٧- ولو اختلفا في المشروط له: أهو الربع أم الثلث ونحو ذلك؟ تحالفا، أي حلف كل منهما علىٰ ما ادّعاه، لاختلافهما في عِوَض العقد مع اتفاقهما علىٰ صحته، فكل منهما مدَّعٍ ومدّعىٰ عليه، فيحلف كل منهما علىٰ إثبات دعواه ونفي دعوىٰ الآخر، فإذا حلفا كان للمالك جميع الربح لأنه نماء ملْكه، وللعامل أُجرة مثل عمله، لأنه لا يمكن رجوعه بعمله، فيرجع بقيمته، وهي أُجرة المثل.