المحتويات:
تعريفه
مشروعيته
حكمة مشروعيته
أنواع الصُّلح
الصُّلح في المعاملة:
ا- الصُّلح بين المدّعي والمدَّعىٰ عليه:
١- الصُّلح مع الإنكار
٢- الصُّلح مع الإقرار
- الصُّلح عن العين ( صلح الحطيطة، صلح المعاوضة)
- الصُّلح عن الدين ( صلح الحطيطة، صلح المعاوضة)
ب- الصُّلح بين المدَّعي وأجنبي
أركان الصُّلح وشروطه
التزاحم علىٰ الحقوق المشتركة
مبطلات الصُّلح
حكم الصُّلح بعد بطلانه
هو - في اللغة -: قطع النزاع والتوفيق بين الخصوم وإحلال السلم بينهم.
وشرعاً: عقد يحصل به التوفيق ورفع النزاع.
الصلح جائز ومشروع، وربما كان مندوباً إليه، وقد وصفه القرآن بأنه خير، قال تعالى: {والصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وذلك دليل على مشروعيته، لأن كل ما كان خيراً فهو مشروع، وكل ما كان شراً فهو في شرع الله تعالى ممنوع.
وقال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114].
[نجواهم: حديث الناس وكلامهم]
وستأتي أدلة أُخرى من القرآن على مشروعيته.
وقد ثبتت مشروعيته أيضاً في السنّة.
روىٰ عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً". [أخرجه الترمذي في أبواب الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله ﷺ في الصلح بين الناس، رقم 1352. وأبو داود في الأقضية، باب: الصلح رقم: 3594. وابن ماجه في الأحكام، باب: في الصلح، رقم 2353].
وخُصَ المسلمون بالذكر لأنهم المقصودون غالباً في الخطاب، ولأنهم ألأكثر انقياداً لشرع الله تعالى، وإلا فغير المسلمين في هذا كالمسلمين.
وقد أجمع المسلمون في كل العصور على مشروعية الصلح، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن). قال ذلك في حضور الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان ذلك إجماعاً منهم علىٰ مشروعية الصلح.
الإسلام دين الوحدة والأُخوة، والتعاون والتضامن، ونبذ التفرقة وأسبابها وما يؤدي إليها، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103].
ولذا نجد شرع الله تعالى يحثّ الناس على أداء الحقوق لأصحابها، لأن الإخلال بذلك هو الغالب في إثارة الخصومة والنزاع، فقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
وفي موضع آخر قرن بين ذلك وقتل النفس بغير حق، لأنه غالباً ما يؤدي إليها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29].
ورسول الله ﷺ يحذر من التباغض والتنازع، لأن نتيجة ذلك التقاتل الذي قد يعود بالناس إلى الكفر، فيقول: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً".
ويقول: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
[البخاري: العلم، باب: الإنصات للعلماء، رقم: 121، والأدب، باب: ما ينهي عن التحاسد والتدابر، رقم 5718. مسلم: الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي ﷺ: "ولا ترجعوا بعدي كفاراً .." ، رقم 65، والبر والصلة والآداب، باب: تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، رقم 2559].ويحثَ الناس على ما يُمتِّن عرى المحبة بينهم ويزيل بواغث الشقاق، فيحثّهم على التسامح بدل التشاحح، وعلى التواصل بدل التقاطع، فيقول عليه الصلاة والسلام: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى أقتضى" [أخرجه البخاري في البيوع، باب: السهولة والسماحة في الشراء والبيع، رقم 1970].
ولما كان الصلح بين الناس، والسعي في رفع الخصومات من بينهم في طليعة ما يحقّق الأهداف الإسلامية المشار إليها، شرعه الإسلام وحثّ عليه وجعله من الخير - بل هو الخير - الذي تتطلع إليه القلوب، وتهواه النفوس السليمة السامية، التي كانت كبحت جماح الهوى وتغلبت على الشحّ فيها، وارتقت فوق المطامع والدنِيِّ من الرغبات، فكان في ذلك خير للأُمة في كل زمان ومكان، وكل حادثة وحال.
ونجد رسول الله ﷺ يبيح للمسلم في سبيل الإصلاح أن يقول كلاماً لم يُقل، طالماً أنه من شأنه أن يزيل النزاع ويحل بدله الوفاق، فيقول: "ليس الكذِّابُ الذي يُصْلحُ بينَ الناس، فيَنْمي خيْراً ويقول خيراً". [البخاري: الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، رقم: 2546. مسلم: البرّ والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه، رقم: 2605].
[ينمي خيراً: من نمي الحديث إذا رفعه وبلغه ونقله بين المتخاصمين].
الصلح في الشرع أنواع، وكلها مشروعه، ومنها:
1 - الصلح بين دولة المسلمين وغيرهم، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفال: 61]. ومن ذلك صلح الحديبية، وأمثله كثيرة في سيرته ﷺ.
2 - الصلح بين أهل العدل من المسلمين وأهل البغي منهم، قال تعالىٰ: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
3 - الصلح بين الزوجين عند حصول النزاع بينهما، قال تعالىٰ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} [النساء: 128].
4 - الصلح بين المتخاصمين في غير الأمور المالية وليس منهم بغاة، فقد روىٰ سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أهل قباء اقتتلوا حتى ترامَوْا بالحجارة، فأخبر رسول الله ﷺ بذلك فقال: "اذهبُوا بنا نُصْلحْ بينهم". [البخاري: الصلح، باب قول الإمام لأصحابه: اذهبوا بنا نصلح، رقم: 2547].
5 - الصلح في المعاملة التي لها علاقة بالمال، وهو المقصود بالباب لدى الفقهاء عند عنونتهم للصلح، وأما أنواع الصلح الأُخرى فتبحث ضمن أبوابها.
قد يجري الصلح في المعاملة بين المتداعيين، وقد يجري بين المدعي وأجنبي، ولكل من الحالين أحكام.
قد يجري الصلح بين المدعي والمدَّعى عليه، والمدّعى عليه مقرّ بهذا الحق، الذي ادُّعى عليه به، ويسمى: الصلح مع الإقرار.
وقد يجري الصلح والمدَّعى عليه منكر وغير مقر بما ادُّعى عليه به، ويسمى، الصلح مع الإنكار.
فما حكم كلِّ منهما؟
وهو أن يدّعي إنسان على آخر حقاً - من دَْين كألف درهم مثلاً، أو عين كسجادة أو دار - فلا يقر المدعي عليه بذلك، وينكر أن للمدّعي عليه حقاً، أو يسكت، ثم يطلب من المدعي أن يصالحه عمّا أدّعاه، فما حكم هذا الصلح لو وقع؟
والجواب: أن هذا الصلح غير جائز وغير مشروع، ولو حصل وقع باطلاً لا يترتب عليه أيّ أثر أو حكم من أحكام الصلح التي سنعرفها إن شاء الله تعالى.
والحجة فيه بطلانه: أنه صلح يحلّ حراماً أو يحرّم حلالاً، وهو غير جائز بنص الحديث السابق الذكر، إذ قال ﷺ "الصُّلحُ جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً" (1).
(1) انظر: مشروعية الصلح، صفحة: 169.
وبيان ذلك:
إن المدّعي - إن كان كاذباً في دعواه - يكون بالصلح قد استحل مال غيره، وهو حرام عليه، فذلك صلح أحلّ حراماً، وهو ممنوع.
وإن كان صادقاً، فقد حرّم على نفسه جزء من ماله، وهو حلالا عليه، لأن المدَّعَي عليه اضطره بإنكاره إلى التنازل عنه، فيكون صلحاً حرّم حلالاً، وهو ممنوع.
وهو أن يدّعي إنسان حقاً على آخر، من دين أو عين، فيعترف المدّعىٰ عليه ويقرّ بهذا الحق، ثم يطلب المصالحة عن ذلك. فإذا حصل الصلح كان جائزاً ووقع صحيحاً، وترتبت عليه آثار الصلح وأحكامه، لأنه مما يدخل في أدلة مشروعيته الصلح دخولاً أوليّاً.
وفي هذه الحالة إما أن يكون الحق المدعى المصالَح عنه عيناً، وإما أن يكون ديناً، ولكل أحكامه.
أ- الصلح عن العين:
قد يكون المصالح عليه عن العين بعضها، ويسمىَ صلح الحَطيِطة، وقد يكون عيناً أخرى غيرها أو منفعة، فيسمى صلح المعاوضة.
1- صلح الحَطيِطة:
إذا كان الحق المدعى والمصالح عنه عيناً، وجرى الصلح بين المدّعي والمدّعَىٰ عليه على جزء من هذا العين، كأن كان داراً فجرىٰ الصلح على أن يأخذ المدَّعي نصفها مثلاً، كان ذلك هبة للنصف الثاني من صاحب الحق المدَّعي لمن العين في يده وهو المدّعَىٰ عليه، وتأخذ هذه الصورة من الصلح أحكام الهبة التي عرفتها في بابها، والتي من جملتها اشتراط القبول من المدّعىٰ عليه ونحو ذلك.
ويسمى هذا النوع من الصلح: صلح الحَطيِطة، لأن صاحب الحق قد حط جزءا عن المدّعىٰ عليه.
2- صلح المعاوضة:
وإذا كان حق المدَّعَي المصالح عنه عيناً، وجرى الصلح بين المدّعي والمدّعَىٰ عليه على أن يدفع المدَّعَىٰ عليه - الذي في يده العين - عيناً أخرى غير المدعاة بدلاً عنه، كما لو كان المدعي - مثلاً - داراً، فجرى الصلح على أن يعطيه عوضاً عنها سيارة، فإن ذلك جائز وصحيح، ويكون في الحقيقة بيعاً للعين المدعاة بهذه العين المدفوعة، فيثبت فيه جميع أحكام البيع التي عرفتها: من العلم بالثمن، وكونه مالاً منتفعاً به شرعاً مثلاً، كما يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط وخيار الرد بالعيب، ويفسده ما يفسد البيع من الشروط على ما علمت، ويحرم فيه ما يحرم في البيع من الغرر ونحو ذلك.
ويسمى هذا النوع من الصلح في كل صورة: صلح المعاوضة، لأن صاحب الحق قد استعاض عن حقه بشيء أخر رضي به، عيناً كان أم منفعة.
وإن جرى الصلح على منفعة عين أُخرى، كأن صالحه عن الدار على استعمال سيارته سنه مثلاً، كان ذلك الصلح عقد إجارة، فيثبت فيه أحكام الإجارة لأنه في معناها.
وإن جرىٰ الصلح على منفعة نفس العين المدّعاة، كأن صالحه علىٰ أن يسكن المدّعي الدار المدعاة مثلاً عشر سنوات ثم يردّها إليه، فهو إعارة، تثبت فيه أحكامها، لأنه في معناها.
ب- الصلح عن الدين:
وهو أن يدّعي إنسان علىٰ آخر دَيْناً، ألف درهم مثلاً، فيقر المدّعَىٰ عليه بذلك ويتصالحان عنه، وقد يكون المُصالح عليه بعض الدين فيكون صلحه الحَطيِطة، أو عيناً أو منفعة فيكون صلح المعاوضة.
1 - صلح الحَطيِطة:
أن يختصم مع المدين وهو مقرّ بالدين، ثم يتصالحا على أن يحطّ عنه قسماً معيناً من الدين، كان يصالحه عن الألف التي له عليه بخمسمائة.
فهذا صلح صحيح، ويكون إبراءاً للمدين من بقية الدَّيْن.
روى كعب بن مالك رضي اله عنه: أنه تقاضىٰ عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه ديناً كان له عليه , في عهد رسول الله ﷺ في المسجد , فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله ﷺ وهو في بيت، فخرج رسول الله ﷺ إليهما، وحتى كشف سِجْفَ حُجْرته، فنادى كعب بن مالك فقال: "يا كعبُ" فقال: لبَّيك يا رسولَ الله، فأشار بيده: أن ضَعِ الشطر، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ "قم فاقْضِه". [البخاري: باب الصلح، باب: الصلح بالدَّيْن والعين، رقم: 2563. مسلم: المساقاة، باب: استحباب الوضع من الدين، رقم: 1558].
[تقاضي: طالب بالوفاء. سِجْف حجرته: ستر باب غرفته].
ويصح هذا الصلح بلفظ الصلح كما يصح بلفظ الإبراء والحطّ والإسقاط.
فإذا كان بلفظ الإبراء ونحوه لم يشترط فيه القبول، واشترط فيه تحقق شروط الإبراء، وهي:
1 - أن يكون المبرئ من أهل التبرع فيما أبرأ منه، فلا يصحّ من الولي عن الصبي، لأنه ليس من أهل التبرع بماله.
2 - أن يكون عاماً بما أبرأ منه، فلا يصح أن يقول، أبرأتك من جزء الدَّيْن، وكذلك لا يصح لو قال: من ربع الدين وهو يجهل قدره.
3 - أن يكون الإبراء عن دين، فإذا كان الصلح عن عين فلا يصحّ بلفظ الإبراء.
4 - أن يكون معلقاً على شرط ولا مؤقتاً بزمن.
وإذا جرى بلفظ الصلح اشترط فيه القبول كباقي أنواع الصلح.
إذا لم يؤدي المبرأ بقية الدين:
إذا أبرأ الدائن المدين من جزء من الدين ليؤدَّيَ له الباقي، ثم امتنع المدين عن أداء ذلك فهل يعود الدين كما كان، وللدائن أن يطالب بجميعه؟
والجواب: الأصح أنه لا يعود الدين كما كان، وليس للدائن أن يطالب إلا بما بقي بعد الإبراء، لأن الإبراء إسقاط للحق من الذمة، فبه سقط جزء من الدين من ذمة المدين، والقاعدة الفقهية تقول: (الساقط لا يعود).
ولذا ينبغي على أصحاب الديون أن ينتبهوا إلى هذا فلا يتلفظوا بالإبراء ونحوه من الألفاظ التي معناه كسامحتك - مثلاً - بما لي عليك، فإن ديوانهم تسقط من ذمة المدين، وليس للدائن بعد ذلك مطالبة بها، سواء أَقبل ذلك الإبراء أم لا، وسواء أقبل ذلك الإبراء أم لا، وسواء أكان ذلك في حالة غضب أو نشوة سرور - كما تفعل الزوجات أحياناً حين تبرئ إحداهنّ الزوج مما لها من مؤخَّر في ذمته - أم لا.
2 - وأما صلح المعاوضة في الدين:
فهو أن يدّعي ديناً على أخر، كألف مثلاً ويقّر له المدَّعَىٰ عليه بذلك، ثم يصالحه عنها أن يعطيه سلعة معَّينة، غسالة مثلاً فهذا معاوضة وبيع، تجري عليه أحكام البيع، وإذا صالحه على منفعة عين - كأن يُسكنه داراً سنة مثلاً - فهو إجارة، تجري عليها أحكام الإجارة، كما علمنا عن الصلح في العين.
وذلك بأن يدّعي إنساناً حقاً على أخر، فيأتي شخص ثالث غير المدَّعَىٰ عليه ويصالح المدَّعي عمّا أدّعاه.
ولهذا الصلح صور حسب حال المدََّعَىٰ عليه وموقف الأجنبي من ذلك، ولكل صورة حكمها، إليك بيان ذلك:
1 - أن يدّعي الأجنبي الوكالة عن المدّعىٰ عليه ويصالح له، كأن يقول: وكّلني المدّعىٰ عليه أن أصالحك، وهو مقر لك بما أدّعيت، ولم ينكر المدَّعي عليه الوكالة بعد ذلك، وصالح، كان الصلح صحيحاً، وصار المصالَح عنه - وهو الحق المدّعى - ملْكاً للمدّعي عليه موكِّل الأجنبي. وإن كان أنكر المدعى عليه الوكالة بعد ذلك كان الصلح باطلاً.
2 - أن يصالح الأجنبي لنفسه، بأن يقول: إن فلاناً الذي ادّعيت عليه الحق مقرّ لك به، وأنا أُصالحك عنه علة كذا، دون دعوى الوكالة، فهو كشراء الفضولي، أي شراء الإنسان لغيرة، والصحيح أنه باطل.
3 - أن يكون المدعىٰ عليه منكراً ويقول الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، ويصالح عن الحقّ المدعىٰ لنفسه، فهو في حكم بيع المغصوب لغير الغاصب: فإن كان قادراً على انتزاعه من يد المدعىٰ عليه صحّ الصلح، وإن لم تكن قادراً على ذلك لم يصح.
4 - أن يكون المدّعىٰ عليه منكراً، ولم يعترف الأجنبي ببطلان إنكاره، وصالح المدّعي عن الحق المدعىٰ لنفسه، فالصلح في هذه الحالة باطل، لأنه في حكم شرائه للمدّعي ما لم يثبت له ملكه، فلا يصح.
للصلح أركان، لأنه عقد، ولكل عقد أركانه، وأركان عقد الصلح أربعة:
عاقدان، وصيغة، ومصالح عنه، ومصالح عليه.
وهما: المدّعِي المصالَح، والمدَّعَىٰ عليه المصالح، ويشترط في كل منهما شروط، هي:
1 - التكليف، أي أن يكون كل منهما عاقلاً بالغاً، فلا يصحّ الصلح من الصبي ولو كان مميِّزاً، ولا من المجنون، لأن الصلح عقد وتصرّف، وتصرفاتهما غير معتبرة شرعاً، وعقودهما باطلة ، كما علمت مراراً.
2 - ولاية التصرف في المال، إذا كان الصلح عن الصغير، وذلك كالأب والجدّ والوصيّ، لأن الصلح تصرّف في المال، ولا يملك التصرّف في مال الصغير من الأولياء غير هؤلاء.
3 - أن لا يكون في الصلح ضرر ظاهر، إذا كان الصلح من وليّ الصغير عنه، سواء أكان مدّعياً أو مدّعىٰ عليه.
فلو كان الصبي مدّعىٰ عليه، وصالح وليّه عما ادعىٰ به علىٰ شيء من مال الصبي:
فإن كان للمدّعي بيِّنة علىٰ مدعاه، وكان ما صالح عليه الولي مثل الحق المدعىٰ به، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها عادة، فالصلح جائز. لأن الصلح في معنى المعاوضة، والولي يملك المعاوضة لمن تحت ولايته بالغبن اليسير المألوف عادة.
وإن لم يكن للمدّعي بيِّنة على مدعاه، أو كان ما صالح عليه الولي أكثر من الحق المدّعي بزيادة فاحشة لا يتغابن الناس بمثلها عادة، فالصلح باطل. لأن فيه معنىٰ التبرع بمال الصبي، والتبرع ضرر محض في حقه، فلا يملكه الولي.
فلو صالح الوليّ من ماله الخاص جاز، لأنه ما أضرّ الصغير بل نفعه، حيث قطع الخصومة عنه.
ولو كان ولي الصبي هو المدَّعِي له، وصالحه المدَّعَىٰ عليه على حط بعض المدَّعىٰ به وأخذ الباقي:
فإن كان للولي المدَّعي بيِّنة علىٰ الدين لم يصحّ الصلح، لأن الحطّ من الدَّيْن تبرع، وهو لا يملك التبرع من مال الصبي.
وإن لم يكن للولي المدّعي بينة، وصالحه على مثل قيمة الحق المدعىٰ به، أو مع غبن يسير، صحّ الصلح، لأنه في معنى البيع من مال الصبي - كما سبق - وهو يملكه فإن كان مع غبن فاحش لم يصح، لأنه تبرع لا يملكه كما علمت.
وهي الإيجاب والقبول من المتصالحَيْن، كأن يقول المدّعىٰ عليه المصالح: صالحتك عن كذا علىٰ كذا، أو: من دعواك كذا على كذا. ويقول الآخر: قبلت، أو رضيت، أو صالحت، ونحو ذلك مما يدل على رضاه وقبوله بهذا الصلح.
وقد مّر معنا أنه يصحّ في بعض أنواعه بلفظ الإبراء والحط وما في معناه.
وهو الحق الذي يدّعيه المدَّعي، ويطلب منه أن يصالح عنه علىٰ عين أو دين أو منفعة، علىٰ ما سبق، ويشترط فيه شروط:
1 - أن يكون حقاً لآدمي:
مالاً أم ليس بمال كالقصاص، فإنه يصحّ الصلح عنه، فلو استحق إنسان علىٰ آخر القصاص، فصالحه علىٰ مال بدل القصاص جاز، سواء أكان البدل المصالح عليه عيناً - كدار مثلاً - أم ديناً - كألف دينار مثلاً - فإذا كان ديناً اشترط التقابض في مجلس الصلح، حتى لا يكون دَيْناً بدَيْن.
وتصح المصالحة عن القصاص، سواء أكان في النفس أم فيما دون النفس من ألأعضاء والجراح.
عن أنس رضي الله عنه: أن الرُّبَيّع - وهي ابنة النضر - كسرت ثِنَيّة جارية، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي ﷺ فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتُكْسَر ثَنِيِّة الربيع يا رسول الله؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال: "يا أنسُ، كتاب الله القصاصَ". فرضي القوم وعفوا- وفي رواية وقبلوا الأرش - فقال ﷺ "إنَّ من عباد الله مَن لو أقْسم على الله لأبَرَّه" [البخاري: الصلح، باب: الصلح في الدية، رقم: 2556. مسلم: القسامة، باب: إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، رقم: 1675].
[ابنة النضر: أي عمّة أنس بن مالك بن النضر، رضي الله عنه وعن عمّه وعمته. ثنية: هي إحدى السنين التي في مقدّم الأسنان. جارية: امرأة شابة أو بنتاً صغيرة. فطلبوا: أي أهل الجانية. الأرش: أن يصالحوا على أن يدفعوا مالاً يقابل الجناية، القصاص: لكثر سنها. كتاب الله القصاص: أي حكم كتاب الله تعالى يقضي بالقصاص، فكيف تقول ذلك. لأبرَّه: لحقق له ما أقسم عليه كي لا يقع في الإثم، لعلمه بصدقه وإخلاصه].
فلو كان المصالح عنه حقاً من حقوق الله تعالى، كأن يصالح زانياً علىٰ مال يأخذه منه مقابل أن لا يرفع أمره إلىٰ القضاء - مثلاً - كي لا يقيم عليه الحد، لم يصح الصلح، لأن الحدّ حق الله تعالى، ولا يصح الاعتياض عن حق الغير علىٰ أن الصلح عن الحدود صلح يحلّ الحرام فلا يجوز.
عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، اقضِ بيننا بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق، أقض بيننا بكتاب الله - وفي رواية: وائذن لي - فقال رسول الله ﷺ: "قل". فقال: إن ابني كان عَسِيفاً على هذا، فزنىٰ بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديتُ ابني منه بمائة من الغنم ووليدةٍ، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام. فقال النبي ﷺ " لأقْضيَنَّ بينكما بكتاب الله، أما الوليدةُ والغنمُ فردُّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنَت يا أَنْيسُ - لرجل - فأغْدُ على امرأة هذا فارْجُمها " [رواه البخاري في الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جَوْر فالصلح مردود، رقم: 2549 مسلم في الحدود، باب: مَن اعترف على نفسه بالزنا، رقم: 1697].
[عسيفاً: أجيراً. وليدة: امرأة مملوكة. أهل العلم: الصحابة العلماء رضي الله عنهم].
فقوله ﷺ: " أما الوليدة والغنم فردّ عليك " دليل صريح في بطلان هذا الصلح الذي جرىٰ علىٰ حق من حقوق الله تعالىٰ، والذي مقتضاه تحليل ما حرّم الله عز وجل، وهذا ما صرّح به البخاري رحمه الله تعالى بترجمته للحديث.
ويقاس على حدّ الزنا جميع الحدود التي تغلب فيها حق الله تعالىٰ، كحدّ السرقة وحدّ القذف، وإن كان فيها حق للعبد، ولكن الغالب حق الله تعالى، وحق العبد مغلوب، والمغلوب تابع للغالب، فلا يلتفت إليه شرعاً.
وكذلك لا يصحّ الصلح على أن لا يشهد عليه، أي أن يعطيه مالاً كي لا يؤدي الشهادة التي تحمّلها عليه، لأن الشهادة حق الله تعالى، قال جلّ وعلا: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]. وقال: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ} [النساء: 135].
فالصلح عن هذه الحقوق صلح باطل، ويجب علىٰ مَن أخذ المال بدلاً عنها ردّه إلى مَن أخذه منه، لأنه أخذ بغير حق وكسب خبيث، فهو فسوق تردّ به الشهادة عند القاضي إذا علم به.
2 - أن يكون حقاً للمصالح:
فإن لم يكن حقاً له لم يصح الصلح، إلا إن كان يصالح عن الذي تحت ولايته وفي حجره كما علمت.
فلو ادّعت امرأة مطلقة أن الولد الذي في يدها ابن زوجها المطلق، فأنكر زوجها ذلك، فصالحته عن النسب إليه على شيء، فالصلح باطل. لأن النسب حق الصبي لا حقها، فلا تملك المعاوضة عنه.
3 - أن يكون حقاً ثابتاً للمصالح في محل الصلح:
أي ما يرد عليه عقد الصلح. فلو صالح الشفيع - أي الشريك في العقار ونحوه، الذي باع شريكه حصته لغيره دون علمه، فإن يحقّ له أخذ هذه الحصة من المشتري بثمنها، كما ستعلم في باب الشفعة - فلو صالح هذا الشفيع المشتري عن حق الشفعة الذي ثبت له بالشرع على مال معلوم يأخذه منه، على أن يترك الحصة لهذا المشتري، فإن الصلح باطل، لأن الشريك الشفيع لا حق له في محل الصلح - وهو حصة شريكه المباعة - حتى يحق له أن يصالح عنها، وإنما أثبت له الشرع حق التملك القهري لما اشتراه المشتري، دفعاً لما يتوهم من ضرر الشريك الجديد عليه، فإذا رضي به فقد سقط حقه، فليس له أخذ المال منه، لأنه أخذ لمال غيره بغير عوض.
4 - أن يكون معلوماً:
فلو كان المصالح عنه مجهولاً للمتصالحين أو أحدهما كان الصلح باطلاً، لما فيه من الغرر المنهي عنه، فيكون داخلاً في معنى الصلح الذي أحلّ حراماً
وهو البدل الذي يأخذه المدّعي من المدّعىٰ عليه مقابل ما ادّعاه من الحق، ويُشترط فيه:
1 - أن يكون مالاً شرعاً:
فلو صالح من الحق الذي ادّعاه على خمر أو خنزير أو أداة لهوِ - مثلاً - لم يصحّ الصلح، لأن هذه الأشياء ليست بمال شرعاً، وعقد الصلح فيه معنى المعاوضة، فالمصالح عنه والمصالح عليه كالمبيع والثمن في عقد البيع، وما ليس بمال شرعاً لا يصلح عوضاً في البيع، وما لا يصلح عوضاً في البيع لا يصلح بدلاً في الصلح.
ولا مانع أن يكون المال المصالح عليه عيناً كسجادة مثلاً، أو ديناً كألف دينار، أو منفعة كسكنى دار سنة مثلاً، لأن مثل ذلك يكون عوضاً في المبايعات وعقود المعاوضات، فيصح أن يكون بدلاً في الصلح، وقد مرّ معنا أمثلة كثيرة علىٰ ذلك.
2 - أن يكون مملوكاً للمصالح:
فلو صالح على شيء ثم تبين أنه لا يملكه، كما لو خرج مسروقاً أو مغصوباً أو نحو ذلك، فإن الصلح يبطل حتىٰ ولو كان المصالَح قد قبضه، لأنه تبيّن أنه صالح على ما لا يملك، فتبين أنه لا صلح، لأنه لا يملك أن يصالح علىٰ مال غيره.
3 - أن يكون المصالح عليه معلوماً للعاقدين:
لأن جهالة البدل تؤدي إلى المنازعة، وذلك من شأنه أن يفسد العقد.
جرت عادة الفقهاء أن يعقدوا في كتاب الصلح فصلاً للتزاحم على الحقوق المشتركة، ويبينوا ما يجوز فيه الصلح منها وما لا يجوز، ونحن نذكر فيما يلي طرفاً من هذه الحقوق المشتركة:
1 - بناء الروشن والساباط والميزاب:
الروشن: هو الخشب الخارج من الحائط الممتد في الهواء، ويسمى جناحاً تشبيهاً بجناح الطائر، ويسمى شرفة أيضاً.
الساباط: هو السقيفة على حائطين والطريق بينهما.
الميزاب: مسيل الماء من السطح، وهو المزراب.
وهذه الأشياء الثلاثة إما أن تنشأ في طريق نافذ، أو في طريق غير نافذ، ولكلّ منهما تفاصيل وأحكام نوجزها فيما يلي:
أ - إنشاء هذه الأشياء في الطريق النافذ:
الطريق النافذ: هو ما يستحق المرور فيه كل إنسان، ولا يختص به واحد دون آخر. هذا الطريق لا يجوز أن يُتصرف فيه بما يضر المارّة، كإشراع جناح وبناء ساباط ووضع ميزاب. لأن الحق ليس له بل هو للمارة، فإن فعل ما هو ممنوع منه وجبت إزالته، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضرر ولا ضرار "
[أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب: مَن بني في حقه ما يضرّ بجاره، رقم: 2340، 2341. ومالك في الموطأ: الأقضية، باب القضاء في المرفق: 2/ 745].
والذي يقوم بإزالته الحاكم خوفاً من وقوع فتنة، لكن لكل واحد المطالبة بإزالته لأنه منكر. فإن كان إنشاء ما ذكر غير ضارّ بالمارة، وكان الطريق خاصاً بالمشاة اشترُط ارتفاعه بحيث إذا مرّ الماشي الطويل وهو حامل على رأسه أو ظهره شيئاً لم يتضرّر به عادة، واشترط أيضاً أن لا يكون حاجباً للنور بحيث يظلم المكان إظلاماً لا يحتمل.
وإن كان الطريق غير خاص بالمشاة، بل هو ممر للفرسان والقوافل ومثلها السيارات في عصرنا هذا، فيشترط أن يرفع بناء الروشن والساباط بحيث يمر تحته المحمل على البعير مع أخشاب المظلة التي فوق المحمل ومثلها حمولة الشاحنات الكبيرة على اختلافها.
والأصل في جواز البناء حيث لا ضرر حديث " نصب بيده الكريمة ﷺ ميزاباً في دار عمه العباس وكان شارعاً إلى مسجد الرسول ﷺ" [ذكر في نيل الأوطار [5/ 278] في كتاب الصلح، باب: إخراج ميازيب المطر إلى الشارع: أنه أخرجه أحمد والبيهقي والحاكم].
فورد النص في الميزاب وقيس عليه الباقي.
وهذه الأشياء يحرم الصلح عليها سواء أكان الصلح من جانب الإمام أم من غيره، لأن الهواء لا يفرد بالعقد وإنما هو تابع للقرار، وهو الأرض الموازية له، ولأنه إن ضرّ لم يجز فعله بعوض أو غير عوض، وإن لم يضرّ فالباني مستحق له، وما يستحقه الإنسان في الطريق لا يجوز أخذ العوض عنه كالمرور.
ب - إنشاء هذه الأشياء في الطريق غير النافذ:
الطريق غير النافذ إن كان لواحد فقط فهو ملك له، وإن كان مشتركاً بين جماعة فلا يجوز له بناء شيء مما ذكر إلا بإذن بقية الشركاء، ولا يصحّ الصلح على ذلك.
هذا ويعدّ شريكاً فيما بين رأس الدرب كلُّ مَن نفذ باب داره إليه، لاَ مَن لاصق جداره الدرب، ويكون شريكاً فيما بين رأس الدرب وباب داره فقط. أما ما يلي باب داره إلى آخر الدرب فلا حق له فيه، ولا يعتبر إذنه في البناء أو عدم إذنه.
2 - فتح باب جديد في الدرب:
يحق لمن كان شريكاً في الدرب أن يفتح باباً جديداً إذا كان الباب المفتوح أقرب إلىٰ رأس الدرب، لأنه تنازل منه عن بعض حقه بشرط سدّ القديم. أما إذا كان أبعد من القديم عن رأس الدرب وأقرب إلى نهايته فلا يجوز له فتحه إلا بإذن الشركاء. وكذلك الحكم إذا فتح باباً ثانياً ولم يسدّ الأول. وحيث منع من فتح الباب فصالحه أهل الدرب علىٰ مالٍ صح، لأنه انتفاع بالأرض.
3 - بناء دكة وغرس شجرة في الطريق:
يحرم أن يبني في الطريق دكة - مصطبة - أو دعامة لجدار وأن يغرس شجرة، ولو اتسع الطريق ولم يضرّ بالمارّة وأذن به الإمام، لأنه قد تزدحم المارة فيتعثرون ويضيق الطريق عليهم، ولأنه إذا طالت المدة أشبه موضعهما الأملاك وانقطع أثر الاستحقاق في الطروق فيه.
وعلى هذا فلا يجوز المصالحة على ذلك، إذا كان غرس الأشجار للتملّك الفردي. أما إذا كان الغرس لعموم المسلمين ولمصلحتهم فلا مانع من ذلك حيث لا ضرر.
4 - وضع خشبة على جدار غيره:
قد يكون الجدار الملاصق ملكاً لشخص آخر، وعلى هذا فلا يجوز وضع خشبة على هذا الجدار أو غرزها فيه إلا برضا مالكه في المذهب الجديد، ولا يجبر المالك له إن امتنع، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحلُّ لامرئ من مال أخيه إلاّ ما أعطاه عن طِيبِ نفْس " [مسند أحمد: 5/ 113]. ولقوله: " لا ضررَ ولا ضرارَ "(1).
(1) انظر تخريجه في الفقرة: أ، ص٧٥٨
وفي المذهب القديم يجوز ذلك، ويُجبر المالك إن امتنع، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: " لا يَمْنَعَنَّ جارٌ جارَه أن يضعَ خشبةً في جِداره " ثم قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرْمِيَنّ بها بين أكتافكم
[أخرجه البخاري في المظالم، باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، رقم: 2331. ومسلم في المساقاة، باب: غرز الخشب في جدار الجار، رقم: 1609].
فلو رضي المالك بوضع الخشبة بلا عوض كان ذلك عارية، تثبت فيها أحكام العارية فيستفيد بها المستعير مرةِّ واحدة، حتى لو رفع جذوعه أو سقطت بنفسها، أو سقط الجدار، فبناه صاحبه بتلك الآلة لم يكن له الوضع ثانياً في الأصح، لأن الإذن يتناول مرة واحدة.
ولو رضي بوضع الجذوع والبناء عليها بعوض، فإن أجّر رأس الجدار للبناء فإجارة، وإن قال بعته للبناء أو بعته حق البناء عليه فالأصح أن هذا العقد فيه شوب بيع وشوب إجارة، لأن المستحق به منفعة فقط فهو إجارة، ولكون مؤيداً فهو بيع.
ويبطل الصلح بأشياء غير ما سبق في مواضعه، منها:
1 - الإقالة في غير الصلح عن القصاص:
فلو قال أحد المتصالحين للآخر بعد الصلح: أقلني عن هذا الصلح، أي أحب فسخ هذا العقد، وقبل الآخر انفسخ الصلح، لأنه عقد فيه معنى معاوضة المال بالمال، فكان محتملاً للفسخ كالبيع.
فلو كان الصلح عن القصاص فإنه لا ينفسخ، لأن الصلح عن القصاص إسقاط محض لحق وليّ الدم في استيفاء القصاص من القاتل، لأنه عفو عنه، وقد علمت أن الساقط لا يعود بعد إسقاطه، فلا يحتمل الفسخ. وفي هذه الحالة يرجع المدّعِي على القاتل بالدية، لا بما صالح عليه، لأن القصاص سقط لشبهة الصلح، فيسقط إلى بدله المشروع وهو الدية.
2 - الرد بخيار العيب:
كما لو صالحه على شيء ثم قبضه المصالح، فوجد فيه عيباً ينقص قيمته عرفاً - على ما عرفت في عقد البيع - فإن له الخيار أن يردّه، فإذا ردّه انفسخ الصلح وبطل.
إذا بطل عقد الصلح يرجع المدّعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار، وقد علمت أن الصلح مع الإنكار باطل أصلاً.
وإذا كان الصلح مع الإقرار: رجع المدَّعي على المدَّعىٰ عليه بالمدَّعىٰ به لا غيره، لأن بطلان الصلح جعله كأن لم يكن، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الصلح.