لقد تحدَّثنا فيما مضىٰ عن الحج والعمرة وشروط وجوبهما، وعن أركانهما، وعن الواجبات فيهما، وعن مُفسداتهما وعن حجة رسول الله ﷺ، وعن أمور كثيرة تتعلَّق بالحج والعمرة.
يبدأ المسلم رحلة الحج بأن يؤدِّي ما عليه من واجبات، فإن كان عليه دَيْن أدَّاه إلىٰ صاحبه، أو استأذن منه في السفر إلىٰ الحج، وإن كان قد آذىٰ مسلماً تحلَّل منه، وطلب منه المسامحة.
يختار في الحج الرفقة الصالحة، ولاسيما الفقهاء في الدين، فإن ذلك ضروري لأداء فريضة الحج علىٰ أكمل وجه.
يتعلَّم قبل سفره ما لا بدَّ منه من أحكام الحج، وقد عدَّ الإمام الغزالي هذا التعلُّم فرض عَيْنٍ علىٰ كل من أراد أداء هذه الفريضة.
إذا بدأ بالسفر إلىٰ الحج جاز له أن يُحرِم من بيته، وجاز له أن يُؤجِّل الإحرام إلىٰ الميقات.
إذا أراد أن يُحرِم سواء أكان من بيته أم من الميقات يغتسل أولاً، ثم يلبس ثياب الإحرام وهي إزار ورداء غير مَخِيطَيْن ثم يصلِّي ركعتين سنة الإحرام، ثم يتوجَّه إلى القبلة ويقول: لبيك اللهم بحج ناوياً ذلك بقلبه أيضاً، هذا إذا أراد الدخول في الحج، وإذا أراد الدخول في العُمْرة قال: لبيك اللهم بعُمْرة، فإذا فعل ذلك صار مُحْرِماً بالنُّسُك وحَرُم عليه الأشياء التي ذكرناها فيما مضىٰ تحت عنوان محرَّمات الإحرام.
فإن فعل شيئاً من هذه المحرَّمات ترتب عليه الفِدْية التي ذكرناها فيما مضىٰ، وأما الجِماع منها فإنه مُفسِد للحج وموجِب للفِدْية كما ذكرنا.
إذا كان سفره بالطائرة استحسن أن يبدأ بالإِحرام عند قيام الطائرة، خشية أن تكون لسرعتها تتجاوز الميقات من غيرِ إحرام، فيلزم الإنسان دمٌ لذلك.
إذا أحرم بالنسك سُنَّ له أن يقول: اللهم أحرم لك شَعَري وبَشَري ولحمي ودمي، وسُنَّ له التلبية، وخاصة إذا صعد مرتفعاً أو هبط وادياً أو التقىٰ برفقة، والتلبية أن يقول: لبَّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
والمرأة في ذلك كالرجل، إلَّا أنها لا يجب عليها خلع المخيط، ولا ترفع صوتَها بالتلبية. ونذكر هنا أن المرأة يجب عليها كشف وجهها وكفَّيها، ويُسَنُّ خضبهما بحنَّاء كما مرَّ.
إذا شارف المُحْرِمُ دخول مكة سُنَّ له أن يغتسل لدخول مكة، والأفضل الاغتسال عند بئر ذي طُوىٰ كما مرَّ.
أن يتجه فورَ وصوله مكة إلىٰ البيت الحرام قاصداً طواف القدوم، إن كان قد نوىٰ الحج، وإن كان مُعتمِراً نوىٰ بالطواف طوافَ العمرة، وعند مشاهدته الكعبة المشرَّفة يرفع يديه مكبِّراً وداعياً بهذا الدعاء: "اللهم زِدْ هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً، وزد من شرَّفه وعظَّمه ممَّن حجَّه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبرّاً، اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام". ثم يدعو بما شاء ويُستحَب أن يدخل المسجد من باب بني شيْبة؛ لأن النبي ﷺ دخل منه.
ثم يتقدم إلىٰ الكعبة المشرَّفة ويبتدئ الطواف من عند الحجر الأسود، ويستلمه بيده أو يُقبِّله إن استطاع وهذا سُنَّة، فإذا قبَّله وجب عليه أن يرفع رأسه ويرجع قليلاً حتىٰ يخرج عن سمت بناء البيت، وإن لم يستطع أشار إليه من بعيد.
ثم يستمر بالطواف من عند الحجر الأسود جاعلاً الكعبة عن يساره، وكلما وصل إلىٰ الحجر الأسود فقد أتم طَوْفة. وهكذا يفعل ذلك سبع مراتٍ؛ لأن الطواف سبعة أشواط.
ويجب في الطواف ستر العورة، والطَّهارة من الحدث والنجس، فلو أحدث في أثناء الطواف تَطهَّر وبنىٰ.
ويجب أن يكون الطواف خارج البيت الحرام، فلو دخل من إحدىٰ فتحتي حِجْر إسماعيل ـ وهو المحوَّط بجدار قصير ـ وخرج من الفتحة الأخرىٰ لم تُحسَب له الطَّوْفة؛ لأن الحِجْر من البيت الحرام.
ويُسَنُّ في الطواف أن يقول في أول طوافه: "باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءاً بعهدك، وإتباعاً لسُنَّة نبيك ﷺ ".
وليَقُل قُبَالة باب الكعبة: "اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار".
وليَقُل بين الركنين اليمانِيَّيْن: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". ثم يدعوا أثناء طوافه بما شاء.
ويُسَنُّ أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأول إن كان يَعْقُب هذا الطواف سعي ـ والرَمل الإسراع في المشي مع تقارب الخطو ـ ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية، وليقل في رمله: "اللهم اجعله حجّاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً".
ويُسَنُّ أيضاً أن يضطبع في جميع طواف يَعْقُبه سعي، والاضطباع هو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن مع كشفه، ويجعل طرفيه علىٰ منكبه الأيسر.
والرمل والاضطباع خاص بالذكر، أما المرأة فلا ترمل ولا تضطبع.
ويُسَنُّ في الطواف أن يكون قريباً من البيت الحرام بأن يجعل بينه وبين البيت ثلاث خطوات، إلا أن يتأذىٰ بالقرب فالبُعد أفضل.
أما المرأة فيُسَنُّ لها أن تكون في حاشية المطاف إن كان ازدحام.
ويُسَنُّ استلام الركن اليماني إن أمكن وإلا اكتفي بالإشارة من بعيد، ولم يرد في الركن اليماني سُنَّة في تقبيله، لكن إذا قبَّله لم يُكرَه.
هذا وأركان الكعبة أربعة:
1. الركن الذي فيه الحجر الأسود.
2. يليه حال الطواف الركن العراقي.
3. ثم الشامي.
4. ثم اليماني.
ويطلق علىٰ هذا والركن الذي فيه الحجر اسم الركنين اليمانيين.
إذ انتهىٰ من طوافه صلىٰ خلف مقام إبراهيم ركعتين سُنَّة الطواف، يقرأ في أولاهما:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ...} ويقرأ في الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ...}.
وبعد الانتهاء من الركعتين يأتي فيُقَبِّل الحجر الأسود أو يستلمه إن أمكن ذلك.
ثم يخرج من باب الصَّفا للسعي ويصعد علىٰ الصَّفا مبتدئاً بالسعي، فإذا ارتقىٰ علىٰ الصفا قال: "الله أكبر الله أكبر الله اكبر ولله الحمد، الله أكبر علىٰ ما هدانا، والحمد لله علىٰ ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو علىٰ كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلَّا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". ثم يدعوا بما شاء من أمور الدين والدنيا.
ويُسَنُّ أن يعيد الذكر والدعاء ثانياً وثالثاً.
ثم ينحدر من الصَّفا ويمشي حتىٰ يأتي العلم الأخضر فيَرمل حتىٰ يصل إلىٰ العلم الثاني فيمشي حتىٰ يصل إلىٰ المروة فهذا شوط.
ثم يعود من المروة إلى الصفا وهذا شوط ثانٍ، والفرض أن يسعىٰ سبعة أشواط. والرمل في السعي سُنَّة للرجل أما المرأة فلا يُسَنُّ في حقها الرمل كالطواف.
ويُسَنُّ أن يقول الساعي أثناء سعيه: "رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعْلَم، إنك أنت الأعز الأكرم".
ومما مر عُلِم أن الواجب الافتتاح بالصفا والإختتام بالمروة.
ومما يجدر ملاحظته أن السعي لا يكون إلا بعد طواف قدوم أو طواف ركن.
إذ انتهىٰ من السعي فإن كان قد أحرم بالعُمرة حلق شعره أو قصَّره، وقد انتهىٰ من عمرته.
وإن كان قد أحرم بالحج لم يتحلَّل بل يبقى مُحرِماً، ويَمكُث في مكة هكذا إلىٰ يوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التَّرْوِيَة.
إذا كان هذا اليوم ـ يوم التَّرْوِيَة ـ أحرم بالحج إن لم يكن مُحرِماً ـ ثم مضىٰ الحجاج جميعهم إلىٰ مِنَىٰ ليبيتوا في مِنىٰ تلك الليلة. والخروج إلىٰ مِنىٰ يوم الثامن سُنَّة لا يضر تركها بالحج.
إذا كان صباح يوم التاسع بعد طلوع الشمس توجَّه الحاج من مِنىٰ إلىٰ عرفات، والسُّنَّة أن لا يدخل الحاج عرفات إلا بعد زوال الشمس، بل السُّنَّة أن يُقِيم بنَمِرَة إلىٰ ما بعد دخول وقت الظهر، ويصلِّي الظهر مع العصر مجموعة جمع تقديم.
ثم يدخل عرفة ويمكث فيها إلىٰ غروب الشمس، وفي عرفات يذكر الحاج ربه ويدعوه بما يشاء، ويكثر من التهليل، والوقوف بعرفة ركن لابد منه كما مرَّ.
وقد ورد أدعية كثيرة يُدعَىٰ بها في ذلك اليوم العظيم الذي هو أعظم الأيام. منها: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري".
ومنها: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم انقلني من ذل المعصية إلىٰ عز الطاعة. واكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سواك، ونَوِّر قلبي وقبري، واهدني وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير، اللهم إني أسألك الهدىٰ والتقىٰ والعفاف والغنىٰ".
ومنها: "اللهم إنك ترىٰ مكاني، وتسمع كلامي، وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفىٰ عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير، الوَجِل المشفق، المُقِرُّ المُعترِف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خَشِعت لك رقبته، وذَلَّ لك جسده، وفاضت لك عينه، ورَغِمَ لك أنفه".
إذا غربت الشمس قصدوا مزدلفة، ويكفي في الوقوف بعرفة حضور لحظة من زوال الشمس إلىٰ فجر يوم العيد ففي أي وقت من ذلك وقف كفاه، ولكن الأفضل الجمع بين جزء من النهار وجزء من الليل.
إذا وصل الحاج إلىٰ مزدلفة صلىٰ فيها المغرب والعشاء مقصورة مجموعة جمع تأخير، ويجب أن يبقىٰ فيها إلىٰ ما بعد منتصف الليل، فإن خرج منها قبل منتصف الليل وجب عليه دم.
ويُسَنُّ أن يلتقط من مزدلفة حصىٰ الرمي، وهي حصىٰ صغيرة، ثم يصلي الفجر، ثم يأتي حتىٰ يقف عند المشعر الحرام ـ وهو جبل صغير آخر مزدلفة - ويدعو الله عنده، ويكون من جمله دعائه "اللهم كما أَوْقَفْتنا فيه وأرَيْتنا إياه، فوفِّقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {َإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِالْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة 198 ، 199]. والوقوف عند المشعر الحرام سُنَّة.
ويُسَن أن يبقىٰ واقفاً عند المشعر الحرام مُستقبِل القبلة إلىٰ الإسفار ـ وهو طلوع الضوء من المَشرِق بمقدار ما تتعارف الوجوه ـ ثم يسيرون ليصلوا إلىٰ مِنىٰ بعد طلوع الشمس.
إذا وصل الحاج إلىٰ مِنىٰ وجب عليه أن يرمى جمرة العقبة، وهي الجمرة الكبرىٰ التي في غرب مِنىٰ عند فم الطريق إلىٰ مكة.
ويُسَنُّ أن يقف عند الرمي مُستقبِل الجمرة ومِنىٰ عن يمينه ومكة عن يساره، ويقطع التلبية عند الرمي.
ويُسَنُّ أن يُكبِّر مع كل حصاة. فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويُسَنُّّ أن يرمي بيده اليمنىٰ رافعاً لها حتىٰ يبدو بياض إبطيه، أما المرأة فلا ترفع يدها.
ويجب أن يصيب الحصىٰ المرمىٰ، فإن لم تصب حصاة المرمىٰ لم تُحسَب.
إذا انتهىٰ الحاج من الرمي ذبح هَدْيه إن كان معه هَدْي، والهدي ما يسوقه الحاج من النَّعَم ليهديه لمكة وحرمها تقرُّباً إلىٰ الله تعالىٰ.
ثم يحلق شعره أو يُقصِّر، والأفضل للرجل الحلق، وللمرأة التقصير، والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج.
فإذا رمىٰ وحلق فقد تحلَّل التَّحلُّل الأول، وحلَّ له ما كان مُحرَّماً عليه من لبس ثياب وتطيُّب وما أشبه ذلك، ولم يَبق مُحرَّماً عليه إلا النساء.
ثم بعد الحلق يأتي مكة ويطوف حول البيت سبع مرات طواف الإفاضة، وهذا الطواف ركن لا يتم الحج إلَّا به.
ثم يسعىٰ إن لم يكن قد سَعَىٰ سَعْي الحج بعد طواف القدوم.
فإذا رمىٰ الحاجُّ وحلَق وطاف طواف الإفاضة فقد حلَّ له جميع ما كان مُحرَّماً عليه للإحرام، حتىٰ النساء وعقد الزواج .
ثم يرجع إلىٰ مِنىٰ ليبيت فيها، والمَبِيت بمنىٰ واجب عليه دم إن تركه.
وبعد زوال الشمس عن وسط السماء أي عند دخول وقت الظهر، يدخل وقت الرمي، فيرمي الجمرة الأولىٰ بسبع حصيات، ثم الجمرة الوسطىٰ، ثم جمرة العقبة ويجب ترتيب الجمرات في الرمي.
ثم يبيت في مِنىٰ الليلة الثانية، فإذا دخل وقت الظهر، دخل وقت الرمي، فيرمي الجمرة الأولىٰ ثم الجمرة الثانية ثم جمرة العقبة.
فإذا انتهىٰ من هذا الرمي رمي اليوم الثاني من أيام التشريق جاز له أن يتعجَّل وينزل إلىٰ مكة وقد انتهت أعمال الحاج.
لكن يجب عليه في هذا الحال أن يغادر مِنىٰ قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو في مِنىٰ وجب عليه أن يبيت الليلة الثالثة، فإذا كان وقت الظهر رمىٰ ثم نزل إلىٰ مكة.
إذا أراد الحاج الرجوع إلىٰ أهله طاف بالبيت الحرام طواف الوداع، وهذا الطواف واجب، إن تركه كان عليه دم. إلا الحائض فإنها تنفر بلا طواف وداع فهو ساقط عنها، ويجب أن لا يتأخر عن السفر بعد طواف الوداع، فإن مَكَث في مكة بعده كان عليه أن يُعيده.
ويُسَنُّ شرب ماء زمزم وينوي عند شربه ما يريد من خير، ويُسَن استقبال القبلة عند شربه.