المحتويات:
الإسلام دين التعاون والتكافل
معنى الزكاة
تاريخ مشروعيتها
حُكْمها ودليلها
حكمتها وفوائدها
حُكم مانع الزكاة
والدليل على ما سبق من أحكام الزكاة
إن الإسلام تنظيم كامل وشامل، أكرم الله الإنسان وشرَّفه به، لكي يعيش أياماً سعيدة في حياته على هذه الأرض، وسعادته إنَّما تتم بأن يهتدي إلى هويته أولاً، فيعرف أنه عبدٌ مملوك لإله واحد متَّصفِِ بكل صفات الكمال هو الله عز وجل، ثم بأن تتحقق من حوله أسباب عيش كريم يمكِّنه من ممارسة عبوديته لله عز وجل. ولا تتوفر للإنسان أسباب عيش كريم إلا عن طريق التعاون والتكافل، على أساس من الاحترام المتبادل، ودون أن يكون ذلك ذريعة بيَد أحد لظلم أو استغلال.
والإسلام ـ من دون الشرائع الوَضْعِيَّة كلها ـ هو التنظيم الذي يحقق هذه الحاجة الأساسية والخطيرة للإنسان، في التئام مع فِطْرته وتصعيد لمزاياه ونفسيته.
وهو يحقق هذه الحاجة من خلال نظام متكامل يبدأ بتقويم العقيدة، ثم تقويم النظرة إلى الكون والحياة، ثم تقويم الخُلُق، ثم وضع الضوابط المنظِّمة والمقوِّمة للسلوك، ثم تغذية ذلك كله والدخول تحت سلطانه باقتناع وطواعية.
وليست شريعة الزكاة إلا ضابطاً من جملة الضوابط الكثيرة التي شرعها الله تعالى لتقويم السلوك الإنساني بما يتلاءم مع شروط السعادة للمجموعة الإنسانية بوصفها التركيبي المتآلف، وبوصفها أفراداً ينشد كل منهم كرامته وسعادته الشخصية في هذه الحياة.
إنَّ وظيفة الزكاة ـ في نظرة كليَّة شاملة ـ هي مراقبة الدَّخْل الفردي أن لا يطغى في نموِّه على ميزان العدالة بين الأفراد، وأن يظل نموُّه خاضعاً لأساس الاكتفاء الذاتي للجميع، نلاحظ هذا في قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه الذين كان يرسلهم إلى المدن والقبائل: "ادعُهم إلى شهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأني رسول الله،... فإنْ هم أطاعوا لذلك فأَعلِمْهم أنَّ الله قد افتَرَض عليهم صَدَقةً تُؤْخَذُ من أغنيائهم فَتُرَدُّ على فُقرائهم". أخرجه البخاري (1331) ومسلم (19) وغيرهما.
وهكذا الشريعة الإسلامية، لا تكِلُ الفرد إلى جهده وطاقته الشخصية وحدها في تدبير أمر نفسه وتوفير أسباب اكتفائه، كما لا تكِلُه إلى ضميره الإنساني وحده في مدِّ يد التعاون العادل والتناصر الإنساني إلى أيدي إخوانه، بل إنها تُرسي القواعد والنُّظُم التي تمدّ جهد الفرد ونشاطه الذاتي بعَوْنِِ يضمن له كرامة العَيْش ومستوى الاكتفاء، وتُرسي التشريعات الكافية لمراقبة الضمير الفردي أن لا يتمرد وتُطغيَه نوازع البَغْي والأنانية، ولضبطه ضمن خطِّ العدل والاستقامة مع الآخرين.
ولسوف تبدو لك هذه الحقيقة إن شاء الله تعالى من خلال سَيْرِك في معرفة أحكام الزكاة، وكيفية جمعها وسُبُل توزيعها، وما إلى ذلك من الأحكام المتعلِّقة بهذا الركن الإسلامي العظيم وذي الأهمية البالغة.
الزكاة: مأخوذة من زَكَا الشيء يزكو، أي زاد ونما، يقال: زَكا الزرعُ وزَكَت التجارة، إذا زاد ونما كلُّ منهما.
كما أنَّها تُستعمل بمعنى الطهارة، ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] أي مَن طَهَّرها ـ يعني النفس ـ من الأخلاق الرديئة.
ثم استعملت الكلمة ـ في اصطلاح الشريعة الإسلامية ـ لقَدر مخصوص من بعض أنواع المال، يجب صرفه لأصناف معينة من الناس، عند توفر شروط معينة سنتحدث عنها.
وسُمِيَ هذا المال زكاة، لأن المال الأصلي ينمو ببركة إخراجها ودعاء الآخذ لها، ولأنها تكون بمثابة تطهير لسائر المال من الشبهة، وتخليص له من الحقوق المتعلقة به، وبشكل خاص حقوق ذوي الحاجة والفاقة.
الصحيح أن مشروعية الزكاة كانت في السنة الثانية من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، قُبَيْل فرض صوم رمضان.
الزكاة ركن من أهم الأركان الإسلامية، ولها من الأدلة القطعية في دلالتها وثبوتها ما جعلها من الأحكام الواضحة، المعروفة من الدين بالضرورة، بحيث يكفر جاحدها:
فدليلها من الكتاب: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. والأمر بها مكرر في القرآن في آيات كثيرة، كما ورد ذكرها في اثنين وثلاثين موضعاً.
ودليلها من السنة: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادةِ أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، وإقام الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، والحج، وصوم رمضان". رواه البخاري (8) ومسلم (16) وغيرهما.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه ـ الذي مرّ ذكره ـ لمعاذِِ رضي الله عنه، عندما أرسله إلى اليمن: "... فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمْهم أنَّ الله قد افْترض عليهم صَدَقةً تُؤخذ من أغنيائهم فتُردُّ على فقرائهم".
والأحاديث في هذا كثيرة أيضاً.
للزكاة حِكَم وفوائد كثيرة يصعب حصرها جميعاً في هذا الكتاب الموجز، وهي في جملتها تعود لصالح المُعْطي والآخذ، لمصلحة الفرد والمجتمع، وإليك بعض هذه الحِكَم والفوائد:
أولاً:
من شأن الزكاة أن تعوِّد المُعطي على الكرم والبذل، وأن تقتلع من نفسه جذور الشُحِّ وعوامل البُخل، وخصوصاً عندما يلمس بنفسه ثمراتِ ذلك، ويتنبَّه إلى أن الزكاة تزيد في المال أكثر مما تنقص منه، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "ما نقَصَتْ صَدَقَة من مال" مسلم: (2588).
وكيف تنقصه؟! والله سبحانه يبارك له بسبب الصدقة بدفع المضرَّة عنه وكفِّ تَطَلُّع الناس إليه، وتهيئة سُبُل الانتفاع به وتكثيره، إلى جانب الثواب العظيم الذي يترتب على الإنفاق ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
ثانياً:
تقوي آصِرة الأخوَّة والمحبة بينه وبين الآخرين، فإذا تصوَّرتَ شيوع هذا الركن الإسلامي في المجتمع، وقيام كلِّ مسلم وجبت الزكاة في ماله بأداء هذا الحق لمستحقيه، تصورت مدى الأُلفة التي يتكامل نسيجها بين فئات المسلمين وجماعاتهم وأفرادهم، وبدون هذه الأُلفة لا يتم أي تماسك بين لَبِنَات المجتمع، الذي مِن شأنه أن يكون متماسكاً قوياً كالبنيان، بل أن يكون متعاطفاً متوادّاً كالجسد الواحد.
ثالثاً:
من شأن الزكاة أن تحافظ على مستوى الكفاية لأفراد المجتمع، مهما وجدت ظروف وأسباب من شأنها تغذية الفوارق الاجتماعية، أو فتح منافذ الحاجة والفقر في المجتمع.
إن الزكاة تعتبر بحقِِّ الضمانة الوحيدة لحماية المجتمع من أخطار الفوارق الاجتماعية الكبيرة بين أفراد الأمة، ووقايته من أسباب الفقر والحاجة.
رابعاً:
من شأن الزكاة أن تقضي على كثير من عوامل البطالة وأسبابها، فإن من أهم أسبابها الفقر الذي لا يجد معه الفقير قدراً أدنى من المال، ليفتح به مشروع صناعة أو عمل. ولكن شريعة الزكاة عندما تكون مطبقة على وجهها، فإن من حق الفقير أن يأخذ من مال الزكاة ما يكفيه للقيام بمشروع عمل، يتلاءم مع خبراته وكفاءته.
خامساً:
الزكاة هي السبيل الوحيد لتطهير القلوب من الأحقاد والحسد والضَّغائن، وهي أدران خطيرة لا تنتشر في المجتمع إلا عندما تختفي منه مظاهر التراحم والتعاون والتعاطف، وليست هذه المظاهر شعارات من الكلام، وإنما هي حقائق ينبغي أن يلمسها الشعور، وأن تتَجلَّى ثمارها ملموسة بشكل مادي في المجتمع، فإذا طُبِّقَت الزكاة على وجهها برزت هذه الثمار جلية واضحة، وفعلت فعلها العجيب في تطهير النفوس من جميع الأحقاد والضغائن، وتآخي الناس على اختلاف درجاتهم في الثروة والغنى، وصدق الله العظيم إذ يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103].
علمت أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، فهي ثالث الأركان بعد الشهادتين والصلاة، ولذلك أجمع العلماء على أن من جحدها وأنكر فرضيتها فقد كفر وارتد عن الإسلام، وكان حلال الدم إن لم يتب. وذلك لأنها من الأمور التي علمت فرضيتها بالضرورة، أي يعلم ذلك الخاص والعام من المسلمين، ولا يحتاج في ذلك إلى حجة أو برهان.
قال النووي - رحمه الله تعالى - نقلاً عن الخطابي: (فإنَّ مَنْ أنْكَرَ فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين)... وقال: (استفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة، حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يُعذَر أحد بتأويل يتأوَّله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين، إذا كان علمه منتشراً: كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام). (شرح مسلم: 1/ 205).
وقال ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله تعالى -: (وأما أصل فرضية الزكاة فمَن جَحَدَها كَفَر). (فتح الباري: 3/ 262).
وأما من منع الزكاة، وهو معتقدٌ بوجوبها ومُقِرٌ بفرضيتها، فهو فاسق آثم يناله شديد العقاب في الآخرة، وحسبنا في هذا:
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة: 34، 35].
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما، موقوفاً ومرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ما أُدِّيَت زكاته فليس بكنز... وكل ما لا تُؤدَى زكاته فهو كنز".
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري (1338) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "مَن آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يوم القيامة، ثم يأخذ بِلِهْزِمَتَيْهِ ـ يعني شِدْقَيْهِ ـ ثم يقول: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ. ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية. وتتمتها: {ِبِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
وفي هذا المعنى الكثير من الآيات والأحاديث.
[مُثِّلَ له: صير له. شجاعاً: ثعباناً. أقرع: لا شعر على رأسه لكثرة سمه وطول عمره. زَبِيبَتَانِ: نابان يخرجان من فمه، أو نقطتان سوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. يُطَوَّقُهُ: يجعل في عنقه كالطوق. شِدْقَيْهِ: جانبي فمه. هو: أي بخلهم وعدم إنفاقهم. ولله ميراث: ملك ما يتوارث أهل السماوات والأرض من مال وغيره. والمعنى: لم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونها في سبيله].
وأما في الدنيا فإنه تؤخذ منه قهراً عنه، وإن تَعَنَّت في ذلك وتَصَدَّى لمن يأخذها نُصِبَ القتال من قِبَل الحاكم المسلم الذي يقيم شرع الله عز وجل، وهو مؤتَمَنٌ عليه.
ما رواه البخاري (1335) ومسلم (20) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر - رضي الله عنه - وكَفَرَ مَنْ كَفَرَ من العرب، فقال عمر - رضي الله عنه -: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فَرَّقَ بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. فقال عمر - رضي الله عنه -: فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - فعرفت أنه الحق.
[عناقاً: الأنثى من ولد المعز التي لم تبلغ سنة. شرح الله صدر أبي بكر: أي لقتالهم. فعرفت أنه الحق: بما ظهر لي من الدليل الذي أقامه أبو بكر - رضي الله عنه -].