الإحرام: فاتحة أعمال الحج، والمدخل إلى نُسُكِه ومختلف واجباته وأركانه. ولابد لفهم ما يتعلَّق به من أحكام من أن نحدِّثك عن ثلاثة أشياء:
1ـ المواقيت.
2- كيفية الإحرام.
3- محرَّمات الإحرام.
هو جمع ميقات وينقسم إلى: ميقات زماني وميقات مكاني.
أما الميقات الزماني: فيقصد به الفترة الزمنية التي يصح أن يقع فيها الإحرام في الحج.
وأما الميقات المكاني: فيقصد به الحدود المكانية التي يجب أن لا يتجاوزها قاصد الحج إلا وهو محرم، فَلَنُبَيِّن لك ضابط كل منهما:
هو عبارة عن شهر شوال وذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، فهذه المدة الزمنية هي الفترة المفتوحة للإحرام بالحج، أي فلو نوى الحاجُّ الحج قبل ذلك لم تصحّ نيته ولم يصح إحرامه. وهو معنى قوله عزَّ وجل في [البقرة: 197]: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ... }.
وهو عبارة عن حدود تحيط بالحرم المكيِّ من شتى جهاته. حدّدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة للقادمين إليه من الآفاق البعيدة، بحيث يجب عليهم إذا وصلوا ولم يكونوا محرمين أن يبدؤوا الإحرام ويلتزموا شروطه وواجباته التي سنتحدث عنها، منذ ذلك المكان. وتفصيل ذلك الحدود كما يلي:
1ـ (ذو الحُلَيفة) ميقات للمتوجِّه من المدينة المنورة. وهو ما يسمَّى الآن "بأبيار علي" - رضي الله عنه - ويُنْدَب أن يُحْرِم من المسجد الذي أحرم منه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2ـ (الجُحْفة) ميقات للمتوجِّه من الشام ومصر والمغرب، بحيث يجب عليه أن يُحْرِم إذا وصل هذا المكان بعينه، أو إذا وصل إلى ما يُسَامِتُه عن يساره أو يمينه.
3ـ (يَلَمْلَم) ميقات للمتوجِّه من تِهامة اليمن.
4ـ (قَرن) ميقات للمتوجِّه من نجد الحجاز ونجد اليمن.
5ـ (ذاتُ عِرْق) للمتوجِّه من جهة المشرق كالعراق والخليج ونحوه، بحيث يجب عليه كما قلنا أن يُحرِم من المكان ذاته، أو المكان الذي يسامته إذا لم يصل طريقه إليه مباشرة.
6ـ أما من كان منزله دون هذه المواقيت قرباً إلى مكة، فإن ميقاته منزله الذي هو فيه، فهو يُحْرِم من حيث ينشئ سفره. ويدخل في هذا الضابط أهل مكة أيضاَ، فيُحرِمون من بيوتهم داخل مكة.
ودليل ذلك ما رواه الشيخان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقَّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يَلَمْلَم. وقال: "هُنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة".
وهذه المواقيت تعتبر مواقيت للحاج والمعتمر، ما داما قادمَين من خارج الحرم، أما إذا كان المعتمر في داخل الحرم، سواءً كان مكياً أو وافداً، فيجب عليه الخروج للإحرام بالعمرة إلى أدني الحِلِّ، وهو ما وراء حدود الحرم ولو بخطوة واحدة. فلو أحرم من مكة صحَّت عمرته ولزمه دم كما ستعلم فيما بعد.
ودليل الوجوب أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل عائشة، كما في الحديث الصحيح، بعد قضاء الحج إلى "التَّنْعِيم" وهو مكان وراء حدود الحرم ـ فاعْتَمَرَتْ من هناك.
الإحرام هو نيّة الدخول في نُسُك الحج أو العمرة أو نُسُكِهِمَا معاً، مع ما يتبعه من الأعمال والآداب المتممة، فلنستعرض كيفية ذلك بإيجاز:
إذا أراد الحاج أو المعتمر الدخول في النُّسُك، قَدَّم بين يدي ذلك هذه التمهيدات التالية:
أـ الاغتسال: وهو سُنَّة، وينوي به غُسل الإحرام، فإن عجز عن الاغتسال يتيمّم.
ب- تطييب بدنه: وهو سُنَّة أيضاَ، ولا بأس بأن تبقى رائحته إلى ما بعد الدخول في الإحرام وأعمال النُسُك.
لما ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (كَأَنِّي أنظر إلى وبيص الطِّيب في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِم). والوبيص: البريق، والمفرق: وسط الرأس.
ج- تَجَرُّد الرجل عن كل مَخِيط من الثياب: وهو واجب، ويستعيض عنه بإزارٍ ورداءٍ يُسَنُّ أن يكونا أبيضين، أما المرأة فلا يجب عليها سوى كشف وجهها وكفيها.
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري وغيره: "لا تُلَثَّم المرأة ولا تلبس القُفّازين" جواباً على سؤال بعض الصحابة عما يجب أن تلبسه المرأة أثناء إحرامها بالحج، ويُسَنُّ في حق المرأة أن تخضِب كفَّيْها بحنَّاء قبل الإحرام لأنها تحتاج إلى كشفهما.
د- صلاة ركعتين: وهي سُنَّة، ينوى بهما سُنَّة الإحرام.
إذا أنجز هذه التمهيدات: وقد علمتَ أنَّ الواجب منها هو الفقرة "ج" فقط، و الباقي سنن وآداب، انْتَظَر اللحظة التي يبدأ فيها المسير أياً كانت وسيلته، وعندئذ ينوي بقلبه الإحرام بالحج أو العمرة، حسب ما هو قاصد إليه، ويُسَنُّ أن يتلفَّظ بلسانه، ثم يقول: (لبّيك اللّهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك).
والواجب من ذلك كلّه إنما هو النية القلبية، أمّا التلفُُّظ بها والتلبية فسُنَّة.
فإذا فعل ذلك فقد دخل في مناسك الحج أو العمرة، وسَرَت عليه الأحكام والواجبات المتعلِّقة بهما مما سنذكره لك فيما بعد.
للحاجِّ أن يختار في عقد النية بالإحرام كيفية من الكيفيات التالية:
(أولاها) ـ أن ينويَ الإحرام بالحجِّ فقط، فإذا فرغ من أعمال الحج، عاد إلى خارج حدود الحرم فاعتمر وأتى بأعمال العمرة.
وهذه الكيفية هي أفضل كيفيات الإحرام، لما صح من رواية جابر أنه عليه الصلاة والسلام أحرم كذلك. وتُسَمَّى هذه الكيفية "الإفراد".
(ثانيتها) ـ أن ينوي بإحرامه العمرة، حتى إذا فرغ منها حلَّ ثم أحرم بالحج من مكة أو من الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، وتسمى هذه الكيفية "تَمَتُّعَاً" وهي تلي في الأفضلية الإفراد.
(ثالثتها) ـ أن ينوي حَجَّاً وعمرةً معاً، ثم يمضي في أعمال الحج، فتندرج تحتها العمرة أيضاً، ويستحقُّ أجرهما معاً. وتسمى "قراناً" وهي تلي في الأفضلية الكيفيتين السابقتين.
فهذه هي خلاصة كيفية الإحرام، وهو كما قد علمت المدخل إلى مناسك كل من الحج والعمرة.
تحرم على المُتَلَبِّس بالإحرام عشرة أشياء يجب أن يتجنبها سواءً كان محرماً بحج أو بعمرة وهي:
1ـ لبس المَخِيط أو المُحِيط في جميع بدنه. وكالمَخِيط في الحرمة الحذاء المُحِيط بالرِّجل. بل يلبس في مكانة نعلاً لا يستر أطراف رجليه مما يلي الكعبين.
2ـ تغطية الرأس إلا من عذر، أو تغطية بعضه، سواءً كانت وسيلة التغطية مَخِيطاً أو غيره كالعمامة والقلنسوة أو أي شيء ساتر. أما الاستظلال بجدار أو مظلّة بحيث لا تلامس رأسه فلا مانع من ذلك.
وهذان الأمران يحرمان على الرجال خاصة دون النساء.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المُحْرِم من الثياب؟ فقال: "لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس والخفاف إلا أحد لا يجد نعلين، فيلبس الخُفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسّه زعفران أو وَرْسٌ".
3ـ ترجيل الشَّعْر، أي تسريحه، أياً كانت وسيلة ذلك مشطاً أو ظفراً أو نحوهما. هذا إن خيف سقوط شعرٍ بسبب ذلك. فإن لم يخف فهو مكروهٌ فقط.
4ـ حلق الشَّعْر أو نتفه، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك ونحوه. ويدخل في الحُرمة قصُّ بعض شعرة. وذلك لصريح قول الله تعالى: {َلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. وقاس الفقهاء على شعر الرأس شعر جميع البدن لسقوط موجب التفريق في الحكم بينهما.
5ـ تقليم الأظافر، والمراد الجنس الذي يصدق بظفرٍ واحد أو بعض ظفر. وذلك قياساً على الشعر. إلا أن يكون من عذر كأن انكسر ظفره وتأذَّى به فاضطر إلى قطعه.
6ـ التطيُّب: وذلك باستعماله عمداً في أيِّ جزء من أجزاء بدنه، ومثله أن يمزج الطيب بطعامٍ أو شرابٍ فيطعمه، وأن يجلس أو ينام على فراش أو أرض مطيَّبين من غير حائل، ومثله أيضاً الغُسل بصابون مطيَّب.
وليس في حكم التطيب شمُّ الورد، أو مائه في إنائه أو مغرسه. فلا يحرم ذلك.
ودليل الحُرمة الإجماع، و لأنه من أبرز مظاهر الترفُّه الذي تأباه حكمة الحج، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "الحاجُّ أشعثُ أغبر".
7ـ قتل الصيد المأكول إذا كان برّياً أو وحشيًا. ومثل القتل مجرد صيده بوضع اليد عليه والتعرض لشيء منه من جزءٍ أو شعر، أو ريش ونحو ذلك.
وخرج بالبري صيد البحر، فلا يَحرُم على المُحْرِم، لو فرض وجوده على شاطئ بحر.
وخرج بالوحشي من المأكول، الإنسي منه كالنَّعم والدجاج وإن استوحش.
ودليل تحريم الصيد على المحرم قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95].
8ـ عقد النكاح. سواء فعل المُحرِم ذلك لنفسه أو غيره بتوكيل منه لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره: "لا يَنكِحُ المُحْرِم ولا يُنْكِحُ". أي لا يتولى ذلك لنفسه، ولا لغيره. فإن فعل ذلك فالعقد باطل.
9ـ الجِماع بأشكاله وأنواعه المختلفة، لصريح قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
والرَّفَث مفسَّر بعدة أشياء من أبرزها وأهمها الجِماع.
10ـ المباشرة بشهوة فيما دون الجِماع، كلمس وقُبلة ونحوهما، ومثلها الاستمناء باليد ونحوها، إذ كل ذلك داخل في الرَّفَث الذي نهى الله تعالى عنه في الآية الكريمة المذكورة.
فهذه الأشياء يَحرُم مباشرتها في حال الإحرام بحج أو عمرة، إذا باشرها أو واحداً منها عالماً مختاراً بغير ضرورة.
فإن لم يكن عالماً أو لم يكن مختاراً أو ألجأته إلى ذلك الضرورة، كمرض ألجأه إلى ستر رأسه أو حلق شعره، لم يَحرُم ووجبت الفدية التي سنحدثك عنها فيما بعد إن شاء الله.