المحتويات:
تعريفها
مشروعيتها
حكمة مشروعيتها
أنواع الكفالة
أركان الكفالة
أحكام الكفالة بالنفس
أحكام الكفالة بالمال
ضمان الأعيان
هي - في اللغة - الالتزام والضم، ومنه قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:٣٧]: أي ضمّها إليه والتزم برعايتها.
وقوله ﷺ: «أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا» وأشار بالسبّابة والوسطى وفرّج بينهما شيئاً. [أخرجه البخاري في الطلاق، باب: اللعان، رقم 4998]
وكافل اليتيم: هو الذي يضمّه إليه ويلتزم رعايته والنفقة عليه.
وشرعاً: هي التزام حقّ ثابت في ذمة غيره، أو إحضار مَن عليه حق لغيره أو عين مضمونة.
أي هي عقد يلتزم فيه العاقد - وهو المسمى الكفيل أو الضامن - حقاً ثابتاً لشخص في ذمة غيره، بحيث إذا لم يؤدِّه مَن عليه الحق أدّاه ذلك الملتزم. أو أن يلتزم أن يحضر الشخص الذي عليه الحق إلى مجلس القضاء أو إلى صاحب الحق. أو أن يلتزم لشخص أن يحضر له عيناً - هي حقّ له - من يد غيره التي هي في يده مضمونة عليه، كأن تكون مغصوبة.
هي مشروعة، وربما كانت مندوبة، إذا كان القائم بها واثقاً بنفسه، ويأمن من أن يناله ضرر بسببها، وقد دلّ على مشروعيتها نصوص كثيرة، منها:
- ما رواه سلمة بن الأكْوَع رضي الله عنه قال:كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ أُتِيَ بجَنَازَةٍ، فَقالوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقالَ: هلْ عليه دَيْنٌ؟، قالوا: لَا، قالَ: فَهلْ تَرَكَ شيئًا؟، قالوا: لَا، فَصَلَّى عليه، ثُمَّ أُتِيَ بجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قالَ: هلْ عليه دَيْنٌ؟ قيلَ: نَعَمْ، قالَ: فَهلْ تَرَكَ شيئًا؟، قالوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بالثَّالِثَةِ، فَقالوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قالَ: هلْ تَرَكَ شيئًا؟، قالوا: لَا، قالَ: فَهلْ عليه دَيْنٌ؟، قالوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، قالَ: صَلُّوا علَى صَاحِبِكُمْ، قالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عليه يا رَسولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عليه. [البخاري: الحوالات، باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز، رقم: 2168]
ومنها: أنه ﷺ: تحمّل عن رجل عشرة دنانير. [أخرجه الحاكم].
وسيأتي معنا مزيد من النصوص خلال فقرات البحث.
ويُستأنس لمشروعيتها أيضاً بقوله تعالى -على لسان يوسف عليه السلام: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:٧٢].
قال ابن عباس رضى الله عنهما: الزعيم: الكفيل.
وقلنا يستأنس ولم نقل يُستدل، لأن هذا وارد في شرع مَن قبلنا، والصحيح أن شرع مَن قبلنا ليس بشرع لنا.
وهذا الذي دلتّ عليه النصوص موضع إجماع المسلمين في كل الأزمان والعصور.
هي التيسير على المسلمين وتحقيق التعاون فيما بينهم، فقد يشتري إنسان سلعة هو في حاجة إليها، ولا يجد الثمن، ولا يطمئن البائع إليه فلا يرضى بإنظاره به، ولا يتيسر له رهن يضعه به، وقد لا يرضى البائع بالرهن، فيحتاج في هذه الحالة إلى كفيل، وقد يستقرض مالاً هو في حاجة إليه، ويطلب المقرض كفيلاً، وقد يقع في جناية يعاقب عليها، وهو بعيد عن بلده، وعليه حقوق وتَبِعات يضطر إلى أجَلٍ للقيام بها، فيحتاج إلى مَن يكفله حتى يذهب ويعود. وقد يضطر إنسان إلى استعارة عين، ولا يرضى صاحبها بإعارتها له إلا بكفيل يضمن له ردّها سالمة. وقد تكون في يده عين مغصوبة، يحتاج إلى أجل لإحضارها، فيأبى صاحبها أن يفلته إلا بكفيل، وهكذا، فالمصلحة في تشريع الكفالة واضحة، والحاجة إليها أكيدة، وشرع الله تعالى إنما جاء لرعاية مصالح العباد، وتخليصهم من الحرج.
قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [الحج: ٧٨].
وقال ﷺ:«إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ» وقال: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا».
[اخرجهما البخاري: في الايمان، باب: الدين يسر، رقم: 39، وفي العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم .. ، رقم: 69].
الكفالة نوعان:
فهي إما أن يتكفل بدَيْن ثبت في ذمّة إنسان، يلتزم الكفيل أداءه إذا لم يؤدِّه مَن هو عليه في أجله، وتسمى: الكفالة بالدَّيْن، كما تسمى: الضمان.
وإما أن يتكفّل بإحضار مَن لزمه حق، من دَيْن أو غيره كقصاص مثلاً، دون أن يتكفّل بأداء الدَّيْن، وتسمى: كفالة بالنفس.
للكفالة أركان خمسة، سواء أكانت كفالة مال أم كفالة نفس، وهي:
الكفيل،
والمكفول له،
والمكفول عنه،
والمكفول به،
والصيغة،
ولكلٍّ منها شروط نبيِّنها فيما يلي إن شاء الله تعالى.
وهو الضامن الذي يلتزم بأداء الحق المضمون، أو إحضار الشخص المكفول ويشترط فيه:
-أن يكون أهلاً للتبرّع، بأن يكون عاقلاً بالغاً رشيداً، لأن الكفالة تبّرع، فيشترط أن يكون الكفيل أهلاً له، فلا تصحّ كفالة المجنون ولا الصبي، لأنهما ليسا من أهل التبرّع، ولا سلطان لهما على أنفسهما ومالهما، فلا سلطان لهما على غيرهما من باب أولى، وكذلك لا تصحّ الكفالة بالمال ممّن كان محجوراً عليه بسفه، لأنه تصرّف مالي، وهو محجور عليه في التصرفات المالية، لأنه لا يحسنها.
-ويتفرّع على ذلك: أنه مَن كان مريضاً مرضاً يخاف معه موته ليس له أن يكفل إلا في حدود ثلث ما يملك، لأنه محجور عليه التصرفات المالية التي هي من قبيل التبرّع في أكثر من ثلث ماله، أما في حدود الثلث فجائز.
وهو مستحق الحق، الذي يلتزم الكفيل بما التزم به حفظاً لحقه، ويشترط:
-أن يكون معروفاً لدى الضامن معرفة عينية، أي أن يعرف شخصه، فلا يكفي أن يعرف نسبه مثلاً، واشتُرطت معرفته لأنه هو صاحب الحق الذي سيُطالب الكفيل به، والناس يتفاوتون في المطالبة بحقوقهم شدَّة ويُسراً، فلا بدّ لمن يلتزم بالأداء أن يعرف مَن سيطالبه وكذلك إذا كان مجهولاً لا يتحقق ما شرعت له الكفالة، وهو التوثّق لصاحب الحق. واكتفى بمعرفة شخصه لأن الظاهر غالباً عنوان الباطن.
-ويُشترط معرفة وكيله إن كان له وكيل، لأن الغالب في الناس أن يوكّل مَن هو أشدّ منه في المطالبة، ولهذا تُغنى معرفة الوكيل عن معرفة الأصيل.
-ولا يُشترط حضور المكفول له، كما لا يُشترط قبوله الكفالة أو رضاه بها، لأنها التزام وضمان لصالحه لا يرتب عليه شيئاً، ودليله حديث أبي قتادة رضى الله عنه، إذ لم يتعرّض فيه إلى المكفول له، وقيل: يشترط رضاه دون التلفّظ بقبوله.
وهو المطالَب بالحق من قِبَل المكفول له، ويعبَّر عنه أحياناً بالأصيل مقابل الكفيل، -ويشترط فيه أن يكون ثَبَت في ذمته حقٌّ مِنْ دَيْن أو نحوه، مما يصحّ ضمانه.
-ولا يشترط رضا المضمون عنه في المال قولاً واحداً، لأن قضاء دَيْن غيره بغير إذنه جائز، فالتزامه جائز من باب أولى، ولذا صحّ الضمان عن الميت وإن ولم يخلف وفاءً وكذلك ضمانه عنه معروف، والمعروف يُصنع مع مَن يعرفه ومَن لا يعرفه، وسواء أكان أهلاً له أم لا. ولا تشترط معرفته في الأصح، لأنه ليس هناك معاملة بين الكفيل والمكفول عنه.
وهو الحق الذي وقع عليه الضمان والكفالة من دَيْن أو غيره، ويشترط فيه:١ - أن يكون حقاً ثابتاً حال العقد، فلا يصحّ ضمان ما لم يثبت، سواء أجرى سبب وجوبه كنفقة الزوجة المستقبلة، أم لم يجر كضمان ما سيقرضه لفلان، لأن الضمان وثيقة بالحق فلا يتقدم عليه، كالشهادة.
ويكفي في ثبوت الحق اعتراف الضامن به وإن لم يثبت على المضمون شئ. فلو قال: لزيد على عمرو مائة دينار وأنا ضامن لها، فأنكر عمر الدَّيْن، فلزيد مطالبة الضامن به.
وقيل: يصحّ ضمان ما سيجب، كما لو قال: أقْرِضه مائة وأنا ضامنها، ففعل، صحّ ذلك، لأن الحاجة ماسّة إليه.
ولا يصحّ ضمان النفقة المستقبلة عن القريب ونحوه قولاً واحداً، لأن سبيلها البرّ والإحسان، لا الدَّيْن.
ويستثنى من هذا ضمان الدَّرَك، وهو أن يلتزم لمن يشتري سلعة أن يردّ له ثمنها، إن خرجت السلعة معيبة أو ناقصة أو مستحقة، أي مغصوبة أو مسروقة أو ضائعة، ووجدها صاحبها، فإنه يقيم البيِّنة عليها ويأخذها، لأنه أحقّ بها. ففي هذه الحالة يعود المشتري على الضامن بثمنها. وإنما صحّ هذا الضمان -وهو ضمان لدَيْن لم يثبت، لأنه يثبت عند استحقاق المبيع من يد المشتري- لأن الحاجة تدعو إليه، وخاصة عند التعامل مع الغريب الذي يخشى أن يكون ما يبيعه مستحقًا لأحد، ولا يظفر به عند الاستحقاق ونحوه، فاحتيج إلى الضمان ليتوثق المشتري لما يدفعه من ثمن.
-ويشترط أن يكون هذا الضمان بعد قبض البائع الثمن، لأن الضامن يضمن ما دخل في يد البائع، والثمن لا يدخل في ضمانه إلا بقبضه.
٢ - أن يكون لازمًا: سواء أكان مستقراً كثمن البيع بعد القبض وانتهاء مدة الخيار، والمَهْر بعد الدخول، أم غير مستقر كثمن المبيع قبل القبض والمهر قبل الدخول.
ويصحّ أيضًا ضمان ما هو آيل إلى اللزوم، أي ما يلزم بنفسه ولا يتوقف لزومه على شئ، كالثمن في مدة الخيار، فإنه يلزم بنفسه بانتهاء مدة الخيار، فيصح ضمانه وإن لم يلزم بعد.
والمراد باللازم والآيل إلى اللزوم ما لا يملك فسخه بلا سبب كالأمثلة السابقة، فلو كان الدين غير لازم ولا آيل إلى اللزوم، بأن كان يستطيع من هوعليه فسخه بدون سبب كجعل الجعالة -وهو أن يلتزم دفع مال معين لمن يأتي له بضالته- فهو يملك الرجوع عن ذلك قبل أن يأتيه أحد بها، فهو دين غير لازم ولا آيل إلى اللزوم، فلا يصحّ ضمانه، لأنه لا يثبت إلا بعد الفراغ من العمل، كما علمت في باب الجعالة.
٣ - أن يكون معلوماً للضامن، جنساً وقدراً وصفة، فالجنس كأن يكون دراهم أو دنانير أو غيرهما، والقدر كألف أو أكثر أو أقل، والصفة كجيد أو ردئ فيما لو كان يوصف بذلك، وأن يعلم عينه إذا كان ضمان عين كالمغصوب.
-وإنما اشترط العلم به لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد، كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة، فلا بدّ من العلم به، أو تعيينه إن كان عيناً، وقد دلّ على هذا ما جاء في حديث أبي قتادة رضى الله عنه حيث بيّن الدَّيْن وأنه ثلاثة دنانير.
وعليه فلا يصحّ ضمان المجهول، كضمنت مالك عليه من دين، أو أحد الدَّيْنين، أو أحد المغصوبَيْن، وهكذا.
٤ - أن يكون الحق المضمون قابلاً للتبرّع به، أي أن يكون قابلاً للانتقال لغير مَن هو له بغير عوض، كالحقوق التي ذكرت أمثلة فيما مضى، فلو كان غير قابل لذلك فلا يصحّ الضمان به، كحق الشفعة مثلاً، فهو حق للشفيع، أي للشريك الذي يملك حصة مع البائع، فإذا باع شريكه حصته لغيره كان له الحق أن يأخذها بالثمن، ولكن ليس له أن ينقل هذا الحق لغيره، فلا يصح الضمان به.
وهي الإيجاب من الضامن الكفيل، والقبول من المكفول له.
ويكفي في تحقيق الكفالة إيجاب الكفيل الضامن، ولا يشترط فيها قبول المكفول له ولا رضاه، كما مرّ معنا عند الكلام عن المكفول له.
ويشترط فيها:
١ - أن تكون بلفظ يدلّ على الالتزام، صريحاً كان أم كناية:
-فمن الصريح أن يقول: ضمنت دَيْنك على فلان، أو تحملته، أو تكفّلت به، أو تكفلت ببدن فلان، أو أنا كفيل أو ضامن بإحضار فلان ونحو ذلك.
-ومن الكناية أن يقول: خلِّ عن فلان والدين الذي لك عليه هو عليَّ، ونحو ذلك.
فإن كان اللفظ لا يدل على الالتزام فلا تصحّ الكفالة، كما لو قال: أؤدي المال الذي على فلان، أو: أحضر فلاناً، ونحو ذلك. فإن مثل هذه الصيغة لا يدل على الالتزام ولا يشعر به، فهو وعد لا يلزم الوفاء به، إلا إن صحبه قرينة تصرفه إلى ذلك، كما إذا رأى صاحب الحق يريد حبس المدين، فقال: أنا أؤدي المال الذي عليه، فهذا قرينة على أنه يريد الضمان، فكأنه يقول: أنا ضامن له، فدعه ولا تتعرض له.
ويقوم مقام اللفظ من الناطق ما يدل عليه من كتابة الأخرس أو إشارته المفهمة والمعهودة.
٢ - التنجيز في العقد، أي عدم التعليق على الشرط، سوءًا أكانت كفالة مال أم كفالة بدن، فالأصح أنه لو قال: إن قَدِمَ زيد فأنا كفيل لك بما على فلان، لم يصحّ الضمان، وكذلك لو قال: إن فعلت كذا تكفّلت لك بإحضار فلان، لم تصحّ الكفالة، لأن الكفالة عقد، والعقود لا تقبل التعليق.
٣ - عدم التوقيت في كفالة المال قولاً واحداً، لأن المقصود منه الأداء، فلا يصحّ تأقيته، وكذلك كفالة البدن على الأصح، لأن المقصود الإحضار أيضاً.
فلو نجز الكفالة وشرط تأخير إحضار المكفول إلى أجل معين جاز، كما لو قال: ضمنت إحضاره، ولكن أحضره بعد شهر مثلاً لأنه التزم بعمل في الذمة، فصار كالإجارة على عمل، يجوز حالاًّ ومؤجلاً.
وكذلك يصحّ أن يضمن الدَّيْن الحال على أن يؤدّيه بعد أجل معلوم، لأن الضامن متبرع، وقد لا يكون متيسراً له الأداء حالاً، والحاجة داعية إلى الضمان، فيكون على حسب ما التزمه، ويثبت الأجل في حق الضامن وحده، بمعنى أن المكفول له ليس له حق مطالبته الآن، وأما المكفول عنه -وهو الأصيل- فلا يثبت الأجل في حقه، ويبقى لصاحب الحق أن يطالبه بالوفاء الآن.
دل على ذلك: ما رواه ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً، لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا عِنْدِي شَىْءٌ أُعْطِيكَهُ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ لاَ أُفَارِقُكَ حَتَّى تَقْضِيَنِي أَوْ تَأْتِيَنِي بِحَمِيلٍ فَجَرَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " كَمْ تَسْتَنْظِرُهُ " . فَقَالَ شَهْرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " فَأَنَا أَحْمِلُ لَهُ " . فَجَاءَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " مِنْ أَيْنَ أَصَبْتَ هَذَا " . قَالَ مِنْ مَعْدِنٍ قَالَ " لاَ خَيْرَ فِيهَا " . وَقَضَاهَا عَنْهُ [أخرجه ابن ماجه في الصدقات. باب: الكفالة، رقم: 2406].
وكذلك له أن يضمن الدَّيْن المؤجل حالًا، لأنه تبرع بالتزام التعجيل، فصحّ ذلك منه، ولكن لا يلزمه التعجيل على الأصح، بل يثبت في حقه الأجل تبعاً للأصيل الذي عليه الدَّيْن.
وإذا قضاه حالاً لا يرجع بما قضاه على الأصيل قبل حلول الأجل، لأن تعجيله تبرع به، لا يسقط حق الأصيل في الأجل.
١ - علمنا أن الكفالة بالنفس نوع من الكفالة، وهي أن يلتزم الكفيل إحضار المكفول إلى المكفول له.
كما علمنا أنها مشروعة، لأنها تدخل في عموم الأدلة التي تدل على مشروعية الكفالة، ويؤيد ذلك ما جاء في خصوصها من آثار عن الصحابة رضي الله عنهم، منها:
-ما رواه أبو اسحاق السَّبيعي عن حارثة بن مضرب قال: صلّيت مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الغداة، فلما سلّم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فوالله لقد بتّ البارحة وما في نفسي على أحد إِحْنَة، وإني كنت استطرقت رجلاً من بني حنيفة، مسجد عبدالله بن النواحة، فسمعت مؤذّنهم يشهد ان لا اله الا الله وان مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي، وكففت فرسي حتى سمعت أهل المسجد قد تواطؤوا على ذلك، فقال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: علىَّ بعبد الله بن النواحة، فحضر وأعترف، فقال له عبدالله بن مسعود: أين ما تقرأ من القرآن؟! قال: كنت أتقيكم به، فقال له: تُبْ. فأبى، فأمر به فأُخرج الى السوق فجُزَّ رأسه. ثم شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم، فقال عديّ بن حاتم رضي الله عنه: ثؤلول كفر، قد أطلع رأسه، فاحسمه، وقال جرير بن عبدالله والأشعث بن قيس رضى الله عنهما: استتبهم، فإن تابوا كفلهم عشائرهم، فاستتابهم فتابوا، وكفلهم عشائرهم. [أخرجه البيهقي في كتاب المرتد، باب: من قال في المرتد يستتاب مكانه فإن تاب وإلا قتل: 8/ 206. وذكر البخاري جزءًا منه تعليقًا في صحيحه: الكفالة، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها].
[إحنة: حقد أو بغض. استطرقت: أتيتُ ليلاً. بغلس: الغلس ظلمة آخر الليل. كففت فرسي: منعته عن الجري. تواطؤوا: توافقوا واجتمعوا في قولهم. فجز: فقطع. ثؤلول كفر: الثؤلول هو ما يخرج على الجلد من حَبّات زائدة عنه، فشبّه به لشذوذه وخروجه عن الاستقامة. أطلع رأسه: أظهر كفره. فاحسمه: فاقطعه واقطع به دابر الشرّ].
وقد يستأنس لها بقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} [يوسف: 66].
٢ - والكفالة بالبدن قد تكون كفالة ببدن مَن عليه مال، وقد تكون كفالة ببدن مَن عليه عقوبة.
أما كفالة بدن مَن عليه مال: فهي صحيحة مطلقاً إذا كانت تكفّلاً بإحضار مَنْ عليه مال، سواء أعلم بمقدار المال أم لا، لأنه تكفّل بالبدن ولم يتكفل بالمال، ولهذا لا يُطالَب بالمال، وإنما يطالب بإحضار المكفول، وإنما يشترط أن يكون المال الذي في ذمّة المكفول مما يصحّ ضمانه على ما علمت عند الكلام عن المكفول به.
وأما كفالة بدن مَن عليه عقوبة: فيُنظر:
-فإن كانت العقوبة حقاً لآدمي، كقصاص وحدّ قذف -فإنهما حق للآدمي، لأن القصاص بدل النفس وحدّ القذف لدفع العار عنه- فإنها صحيحة، لأنها كفالة بحق لازم، فأشبهت الكفالة بالمال.
-وإن كانت العقوبة حقاً لله تعالى، كحدّ الخمر والسرقة والزنا، فلا تصحّ، لأن الحدود مبناها على الدرء -أي الدفع- والإسقاط، طالما أنها حقوق لله تعالى، فالمطلوب منّا سترها والسعي في دفعها ما أمكن، وقطع الوسائل المؤدية إليها، والكفالة بها إظهار لها وسعي في تأكيدها وتوسيعها فلا تصحّ.
٣ - أحكام أُخرى تتعلق بالكفالة بالبدن، منها:
أ- مكان تسليم المكفول ووقته: فإذا شرط الكفيل وقتاً معيناً لتسليم المكفول لزمه إحضاره فيه إذا طالب المكفول له بإحضاره، وفاءً بما التزمه، فإذا أحضره فقد وفّى ما عليه، وإن لم يحضره حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء ما استحق عليه.
-فإن غاب المكفول -وجهل الكفيل مكانه- لم يلزمه إحضاره، لعذره في ذلك، ويقبل قوله في دعوى جهالة مكانه بيمينه.
-وإن علم مكانه لزمه إحضاره، إن أمِنَ على نفسه في الطريق وغلبت السلامة، ويُمهل مدة الذهاب والإياب حسب العادة والإمكان.
-فإن مضت المدة التي أمهله إياها ولم يحضر المكفول حبسه أيضًا إلا إذا أدّى ما على المكفول من الدَّيْن، لأنه مقصِّر في تسليم ما وجب عليه تسليمه وهو المكفول.
-وإذا حبسه استمر بحبسه إلى أن يتعذر إحضار الغائب، بموت أو جهل بموضعه أو بإقامته عند مَن يحميه ويمنعه من أن يصل إليه أحد.
-وإذا أدّى الدين حتى لا يُحبس، ثم جاء الغائب المكفول، كان له استرداد ما أدّاه إن كان باقياً على حاله، أو بدله إن كان قد استهلك، لأنه ليس متبرعاً بأدائه، هذا من حيث الزمان.
وأما من حيث مكان التسليم: فإن كان الكفيل قد عَيَّن مكاناً لتسليم المكفول تعيّن إن كان صالحاً للتسليم، تبعاً لشرطه، فإن لم يكن صالحًا لذلك، أو كان له مؤونة حُمل على أقرب مكان إليه، ويشترط في هذا إذن المكفول، فإن لم يأذن فسدت، وإذا لم يعيّن مكاناً للتسليم فمكانه مكان الكفالة إن كان صالحاً لذلك، وإن لم يكن صالحاً تعيَّن أقرب مكان لمكان الكفالة يصلح لهذا.
ب - يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول في مكان التسليم على ما علمت، ويُشترط أن لا يكون هناك حائل يمنع المكفول له من الوصول إلى حقه، لقيام الكفيل بما التزمه، فإذا سلّمه في موضع التسليم، وكان هناك حائل يمنعه من الوصول إلى حقه، كذى منعة يمنعه منه، فلا يبرأ الكفيل، لعدم حصول المقصود بتسليمه.
فإذا سلّمه في غير مكان التسليم، ولم يرضَ المكفول له أن يتسلمه، فلا يجبر على استلامه إذا امتنع لغرض، كأن يكون له في مكان التسليم بيِّنة أو مَن يعينه على الوصول إلى حقه فإن لم يكن له غرض في امتناعه أجبره الحاكم على استلامه، فإن أبىٰ استلمه عنه، فإن فقد الحاكم اشهد الكفيل على تسليمه له، وبرئ.
وكما يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول بالشروط السابقة يبرأ أيضاً إذا سلم المكفول نفسه، فإن أبى استلامه أجبر على ذلك على ما سبق من تفصيل في تسليم الكفيل له. ولا يكفي مجرد حضور المكفول، بل لا بدّ من أن يقول: سّلمت نفسي عن فلان.
جـ- ويبرأ الكفيل فيما إذا مات المكفول ودُفن، أو توارى ولم يعرف محله، ولا يُطالب بما عليه من حق، لأنه التزم إحضار المكفول، ولم يضمن ما عليه من حقوق.
د- لو شرط في الكفالة بالنفس: أنه إن عجز الكفيل عن إحضار المكفول ضمن ما عليه من الحق بطلت الكفالة على الأصح. لأنه شرط ينافي مقتضى الكفالة بالنفس، لأن مقتضاها عدم الغرم بالمال، لأنها ليست ضماناً بالمال.
هـ- يبرأ الكفيل من المطالبة بإحضار المكفول إذا أبرأه المكفول له من ذلك، لأنه ملتزم بإحضاره لحق المكفول له، وقد تنازل عن حقه، فلا مطالبة.
و- يشترط في الكفالة بالنفس رضا المكفول على الأصح، لأن الكفيل فيها لا يغرم المال عند العجز، فلا فائدة لها إذن إلا إحضار المكفول ولا يلزمه الحضور مع الكفيل إذا لم يكن راضياً بكفالته له.
والأصح أنه لا يشترط رضا المكفول له، لأنها وثيقة له فتصحّ من غير رضاه كالشهادة، وكذلك هي التزام حق له من غير عوض يدفعه، فلا يعتبر رضاه فيها.
الكفالة بالمال هي ما يسمى بالضمان، وهي: أن يلتزم إنسان أداء ما في ذمة غيره من مال إذا لم يؤدّه المدين. وهي أحد نوعي الكفالة كما سبق.
وهي مشروعة كما علمنا، لما ذكرنا من الأدلة عند الكلام عن مشروعية الكفالة العامة، فيدخل فيها الضمان دخولاً أوليّاً، وقد أجمع المسلمون في كل العصور على مشروعيتها.
ولقد علمت الصيغة التي تنعقد بها هذه الكفالة، كما علمت أركانها وشروطها فيما سبق، وإليك الآن بعض أحكامها:
إذا ضمن شخص ما في ذمة غيره ثبت لصاحب هذا الدَّيْن حق مطالبته به، ولا يعني ذلك براءة ذمة المدين الأصيل المكفول عنه، بل لصاحب الحق مطالبته أيضاً، لأن ذمته هي المشغولة بالدَّيْن أصلاً، وانضم إليها انشغال ذمة الضامن به، ولأن الضمان وثيقة للدَّيْن كالرهن والصك، فلا يتحول من ذمّة المدين إلى الوثيقة إذا وجدت.
ولهذا لو شرط في عقد الضمان أن يبرأ الأصيل من الدين لم يصحّ الضمان، لأن الضمان توثيق للدَّيْن، وهذا الشرط ينافيه، لأن التوثيق يحصل بضمّ ذمّة أُخرى إلىٰ ذمّة الأصيل، لا ببراءتها.
وقد دلّ علىٰ هذا ما جاء في حديث أبي قتادة رضي الله عنه: فتحملهما أبو قتادة، ثم قال رسول اللهﷺ بعد ذلك بيوم: "ما فعل الديناران؟ " قال: إنما مات أمس، ثم أعاد عليه بالغد، قال: قد قضيته. قال: "الآن بردت عليه جلده". [أخرجه أحمد في مسنده: 3/ 330 من حديث جابر رضي الله عنه].
فقوله: "الآن بردت عليه جلده" يدل علىٰ أن الدَّيْن لم يتحوّل عن المدين ولم تبرأ منه ذمته بمجرد الضمان، ولو كان كذلك لبردت عليه جلده من حين الضمان. وإذا لم تبرأ ذمة المدين الأصيل من الدين فلصاحبه مطالبته به، كما يطالب الضامن لأنه التزم ذلك، فإذا حضر الكفيل الضامن والأصيل المضمون عنه، وكلاهما موسر، فلصاحب الدَّيْن أن يطلبه ويأخذه من أيّهما شاء، لأن الأصيل الدَّيْن ثابت في ذمته أصلاً، وأما الكفيل: فلقول رسول الله ﷺ:«الزعيم غارم». والزعيم هو الكفيل، فيغرم الدين ويطالب به إذا لم يؤدّه المدين: [الحديث أخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في أن العارية مؤداة، رقم: 1265 وغيره].
-إذا أبرأ صاحب الحق المدين الأصيل من الدَّيْن برئ الضامن من المطالبة به، لأنه تبع للأصيل، وضمانه توثيق للدَّيْن، فإذا سقط الدَّيْن بالإبراء فقد سقطت الوثيقة.
-وأما إذا أبرأ صاحب الحق الكفيل من ضمانه، أو من الدَّيْن والمطالبة به، فإنه لا تبرأ بذلك ذمة المدين الأصيل، وإنما تبرأ ذمة الضامن وحده. لأن إبراء الكفيل إسقاط لوثيقة الدين من غير قبض له، فلا يسقط الدَّيْن بإسقاط الوثيقة، كتمزيق الصك وفسخ الرهن.
ويتعلق بهذا ما إذا ضمن الضامن ضامن آخر، وهو ضمان صحيح، لأن الدين المضمون لازم وثابت في ذمته، فصحّ ضمانه، وعليه: يعتبر الدين ثابتاً في ذمم ثلاثة: الأصيل والضامن الأول والضامن الثاني، ولصاحب الحق أن يطالب أيّهم شاء.
-فإذا أبرأ الأصيل برئت ذمم الجميع، وإذا أبرأ الضامن الأول برئت ذمة الضامن الثاني أيضاً معها ولم تبرأ ذمة الأصيل، وإذا أبرأ الضامن الثاني برئ وحده، ولم تبرأ ذمة الضامن الأول ولا ذمّة الأصيل.
-إذا طالب الدائنُ صاحب الحق الكفيلَ بالدَّيْن، فهل للكفيل أن يطالب الأصيل المكفول بأداء الدين، ليخلصه من المطالبة؟ يُنظر:
-فإن كان الضمان بإذن الأصيل المضمون عنه كان للكفيل الحق في أن يطالبه بتخليصه من المطالبة بأداء الدَّيْن، لأنه لزمته المطالبة والأداء عنه بإذنه وأمره، فكان له حق مطالبته بتبرئة ذمته.
-وإن كان الضمان بغير إذن الأصيل لم يكن للضامن الكفيل حق مطالبته بذلك، لأنه لم يلتزم ما غرِّم به بإذنه، فلا يلزمه تبرئته وتخليصه منه.
هذا إذا طالب صاحب الحق الكفيل بالدَّيْن، فأما إذا لم يطالبه به: فالأصح أنه ليس له مطالبة الاصيل بتخليصه من التزامه طالما أنه لم يطالب بذلك.
-إذا مات الكفيل أو المكفول عنه حلّ الدَّيْن المؤجّل في حقه، وبقى الأجل في حق الطرف الثاني، لأن الموت مبطل للأجل، وقد وجد في حق أحدهما ولم يوجد في حق الآخر، والأجل منفعة له فلا يبطل في حق.
-فإن كان المتوفّي هو الأصيل: فللضامن الكفيل أن يطالب صاحب الدَّيْن بأخذ الدَّيْن من تَرِكَته قبل أن يقتسمها الورثة، أو إبرائه من الكفالة، لأن التَرِكَة قد تذهب إلى أن يحين الأجل، فيغرّم هو.
-وإن كان الميت هو الكفيل، وأخذ صاحب الدَّيْن دينه من تَركَته، فليس لورثته الرجوع على المكفول عنه قبل حلول أجل الدَّيْن، لأن الأجل باقٍ في حقه.
-إذا أدّى المكفول عنه الدَّيْن برئت ذمته منه، كما تبرأ ذمة الكفيل، لأن ذمته شُغلت وثيقة بحق صاحب الدَّيْن، فانتهت الوثيقة بقبض الحق.
-وكذلك تبرأ ذمتهما من حق المكفول له صاحب الدَّيْن إذا قضاه الكفيل، لأن صاحب الحق قد استوفاه من الوثيقة وهو الكفيل، فبرئت ذمة مَن عليه الحق وهو الأصيل، وتبرأ ذمة الكفيل تبعاً له، كما علمت.
وفي هذه الحالة: هل يرجع الكفيل على الأصيل بما أداه عنه أم لا؟ يُنظر:
أ- فإن كان الضمان والأداء بإذن المضمون عنه رجع الكفيل عليه، لأنه ضمن وغرم بإذنه.
ب- وإن كان الضمان بإذن من المضمون عنه، والأداء بغير إذنه: فالأصح - أيضاً - أنه يرجع عليه بما أدّاه عنه، لأن الضمان سبب الأداء، وقد أذن فيه.
جـ- وإن كان الضمان والأداء بغير إذن المضمون عنه لم يرجع الكفيل عليه بشئ مما أدّاه عنه، لأنه قضى دَيْن غيره بغير إذنه، فهو متبرِّع، والمتبرِّع لا يرجع بما تبرّع به.
د- وإن كان الضمان بغير إذن من المضمون عنه، وكان الأداء بإذن منه: فالأصح أنه لا يرجع الكفيل على الأصيل بما أدّى عنه، لأن سبب وجوب الأداء هو الضمان، وهو لم يأذن فيه، فكان في معنى المتبرّع بوفاء دَيْن غيره.
وفي حال الرجوع على المكفول عنه، فبماذا يرجع عليه؟
لا شك أنه لو أدى عنه الدَّيْن الذي كان في ذمته بنفس صفته فإنه يرجع به عليه، لأنه هو الذي برئت به ذمّة المكفول عنه، وهو الذي غرمه الكفيل في نفس الوقت.
-وإذا أدّى عنه غير ما ثبت في ذمته: فالأصح أنه يرجع عليه بما أدّاه إذا كان أقل من الدَّيْن، لأنه هو الذي غرمه وبذله، فإن كان أكثر من الدَّيْن رجع بمقدار الدَّيْن، لأنه هو الذي كان ثابتاً في ذمة الأصيل، وبرئت منه بالأداء عنه، فلو كان له في ذمته ألف صحيحة مثلاً، فأدى عنها ألفاً معيبة، رجع بالمعيبة، ولو صالح عن الألف بخمسمائة رجع بخمسمائة فقط.
-ولو صالح عن الألف بسلعة تساوي ثمانمائة رجع بها أيضاً.
ولو كان الشئ الذي صالح عليه يساوي ألفاً ومائة -مثلاً- رجع بالألف وحده.
إذا ادّعى الكفيل الضامن قضاء الدَّيْن عن الأصيل، فإما أن يقرّ بذلك المكفول له أو ينكر ذلك:
فإن أقرّ المكفول له بذلك
رجع الضامن بما أدّاه على الأصيل المكفول عنه، لتبرئته لذمته وسقوط المطالبة عنه بإقرار صاحب الحق، ولو أنكر المضمون عنه ذلك لم يُلتفت إلى إنكاره، لأن ما في ذمته حق للمضمون له، فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق الذي كان له قد صار حقاً للضامن، فيقبل إقراره لكونه في حق نفسه.
وإن أنكر المكفول له ذلك ينظر:
- فإن كان للضامن بيّنة على الأداء قضى بها، ورجع على المضمون عنه بما أدّاه.
- وإن لم يكن له بيِّنة على الأداء فالقول قول المكفول له بيمينه، لأنه منكر للقبض، والأصل عدمه، والكفيل مقصِّر بترك الإشهاد، فإذا حلف كان له أن يطالب مَن شاء من الضامن أو الأصيل، لأن حقه ثابت في ذمّتهما، فإذا طالب الكفيل وقضاه الدَّيْن يُنظر:
- فإن كان قضاه في غَيْبة المكفول عنه: فلا رجوع له على الأصيل قولاً واحداً إنْ كذّبه في دعواه، لأنه منكر للأداء، والأصل عدمه، وكذلك إنْ صدّقه، فلا رجوع له عليه في الأصح، لأنه لم ينتفع بأدائه عنه، ولم تسقط المطالبة، فلا رجوع عليه طالما أنه لم يُبرئ ذمته، لأنه هو المقصّر في عدم إشهاده على القضاء.
- وإن كان قضاءه في حضور المكفول عنه رجع عليه في الأصح، وإن كان قضاء الكفيل لم يبرئ ذمته من الدَّيْن ولم يسقط المطالبة عنه، لأنه في هذه الحالة هو المقصِّر في ترك التحفّظ لحقه وطلب الإشهاد على الدفع، فكان عليه أن يحتاط لنفسه، فهو المقصّر إذن دون الضامن.
إذا ضمن شخص لآخر أن يردّ له العين التي يملكها من يد غيره، يُنظر:
- فإن كانت العين أمانة في يد مَن هي بيده - كالوديعة - لم يصح ضمانها، لأنها إذا لم يجب ضمانها على من هي عنده فمن باب أولى أن لا يجب ضمانها على غيره الذي يضمنها.
- وإن كانت العين مضمونة على مَن هي في يده - كالعين المغصوبة، والمستعارة، والمقبوضة على سوم الشراء، والمبيع قبل قبض المشتري له من البائع - صحّ ضمانها.
- ويشترط في هذا الضمان: أن يأذنه فيه مَن كانت العين تحت يده، أو أن يكون الضامن قادراً على انتزاع العين منه.
- فإذا صحّ الضمان: برئت ذمة الضامن بردّ العين للمضمون له.
- وإن ضمن أن يردّ القيمة إن تلفت العين لم يصحّ الضمان، لأنه ضمان لدَيْن لم يثبت، وقد علمت أن من شرط صحة الضمان أن يكون المضمون ديناً ثابتاً، وقيمة العين لا تثبت إلا بهلاك العين، فإذا ضمنها والعين قائمة لم يصحّ، لأنها لم تثبت بعد، فكان ضماناً لدَيْن لم يثبت، فلم يصح.