المحتويات:
تعريفها
مشروعيتها
حكمتها
أركانها
أحكامها
ما تختلف به الجعالة عن الإجارة
الجعالة - في اللغة - بفتح الجيم وكسرها وضمها: وهي اسم لما يجعله الإنسان لغيره على شيء يفعله، ويقال لها جُعْل وجعيلة.
وشرعاً: هي التزام عوض معلوم على عمل معَّين، معلوم أو مجهول، بمعين أو مجهول. أي يحصل هذا العمل من عامل معين أو مجهول، وسيتضح لنا معنى التعريف عند الكلام عن أركانها.
الجعالة مشروعة.
وقد دلّ على مشروعيتها: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي ﷺ في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حيَّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبَوْا أن يضيِّفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحيّ، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتَوْهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لُدغ، وسعَيْنا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم يضيَّفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلاً. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: {الحمد لله رب العالمين} فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفَوْهم جُعْلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي ﷺ فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا على رسول الله ﷺ فذكروا له، فقال: "وما يدريك أنها رقية؟! ". ثم قال. " قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً " فضحك رسول الله ﷺ. [البخاري الإجارة، باب: ما يُعطى في الرقية .. , رقم: 2156. مسلم: السلام، باب: جواز أخذ الأُجرة على الرقية ... ، رقم: 2201].
فقوله ﷺ تقرير لفعلهم، وهو دليل على مشروعية الجُعْل.
[فلدغ: لسعته حية أو عقرب. الرهط: جماعة الرجال ما دون العشرة. لأرقى: من الرقية، وهي كل كلام يُستشفى به من وجع أو غيره. جعلاً: عطاءً على ما أفعله. فصالحوهم: اتفقوا معهم. قطيع: قبل القطيع ثلاثون من الغنم. يتفل: ينفخ مع بصاق قليل. نشط من عقال: فُك من حبل كان مشدوداً به. قَلَبَة: علة. اضربوا لي: اجعلوا لي منه نصيباً].
واستؤنس لها بقوله تعالى: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72}. فهو وإن كان ورد في شرع من قبلنا، فقد جاء في شرعنا ما يقرره، كما علمت من الحديث السابق، فيُستأنس به للمشروعية، وإن كان لا يعتبر دليلاً.
[صُواع: مكيال خاص. زعيم: ضامن وكفيل].
وحكمة مشروعيتها أن الحاجة داعية إلى مثل ذلك، فقد يفقد الإنسان شيئاً ولا يجد من يتطوع له بالبحث عنه وردّه عليه، وقد يعجز عن عمل لا تصحّ الإجارة عليه للجهالة فيه، فيستعين على تحصيل ذلك بمَن يقوم به على جُعْل يلتزمه، فشُرعت تحقيقاً لهذه المصلحة وتلبية لتلك الحاجة.
لها أربعة أركان: عاقدان، وصيغة، وعمل، وعوض.
الجاعل:
صاحب العمل الذي يلتزم بالجُعْل.
ويُشترط فيه أن يكون مكلفاً أي بالغاً عاقلاً رشيداً.
والعامل:
وهو الذي يقوم بالعمل، ويستحق الجُعْل عليه.
ولا يُشترط أن يكون معَّيناً.
كأن يقول: مَن ردّ علي سيارتي فله كذا.
ولأنه قد يكون له عمل يحتاج إلى إنجازه، ولا يعرف من يقوم به، فجاز أن يجعل جعلاً لمن يقوم به ولو كان مجهولاً.
وهي لفظ يدل على الإذن في العمل المطلوب بعوض ملتزم، كقول الجاعل: مَن ردّ علي سيارتي - مثلاً - فله كذا. أو أن يقول لطبيب: إن عالجتَ مريضي فبرأ فلك كذا، أو أن يقول لمعلِّم: إن علّمت ولدي القراءة والكتابة فلك كذا، ونحو ذلك.
لا يُشترط قبول من يقوم بالعمل، ولو كان معِّيناً، لأنها تجوز من إبهام العامل وجهالته، فيكفي العمل.
وهو ما شرطه صاحب المال لاستحقاق الجُعْل، من ردّ ضالة، أو تعليم صبيّ، أو معالجة مريض، وما إلى ذلك.
ولا يُشترط أن يكون العمل معلوماً كالمنفعة في الإجارة، التي قد علمنا أنها تحدَّد بعمل أو زمن، فتصحّ الجعالة ولو كان العمل مجهولاً، أي غير محدّد بفعل أو زمن، فقد يستغرق ردّ الضالة أو تعليم الصبي - مثلاً - زمناً طويلاً أو قصيراً، وقد يكلفه الكثير من الجهد وقد لا يكلفه، فكل ذلك جهالة في العمل، وهي مغتفرة للحاجة إلى ذلك.
وهو ما يلتزمه صاحب المال للعامل.
ويشترط أن يكون معلوماً، لأنه عقد معاوضة، فلا تجوز بعوض مجهول. فلو شرط جُعْلاً مجهولاً كان العقد فاسداً، فإذا قام العامل بالعمل استحق أُجرة المثل، لأن كل عقد وجب المسمى والمعين في صحيحه وجب المثل في فاسده.
للجعالة أحكام عدّة، وهي:
1 - هي عقد جائز أي غير لازم:
بل هو قابل للفسخ من صاحب العمل متى شاء، كما أن للعامل أن يرجع عن عمله متىٰ شاء، رضي الطرف الآخر أو لم يرض، علم بذلك أو لم يعلم. وذلك لأنها عقد على عمل مجهول بعوض، فجاز لكل واحد من المتعاقدين فسخه.
فإن فسخه العامل لم يستحق شيئاً، ولو قام بشيء من العمل، لأنه لا يستحق الجُعْل إلا بالفراغ من العمل - كما ستعلم - وقد تركه، فسقط حقه.
وإن فسخ صاحب العمل:
فإن كان قبل الشروع بالعمل لم يلزمه شيء، لأنه فسخ قبل أن يستهلك شيئاً من منفعة العامل، فلم يلزمه شيء.
وإن كان بعد الشروع بالعمل لزمه أجرة المثل لمل عُمِل، لأنه استهلك شيئاً من منفعته بشرط العوض، فلزمته أُجرته.
2 - لا يُستحق الجُعْل إلا بإذن صاحب العمل:
كأن يقول: مَن وجد لي ضالّتي الفلانية فله كذا. فإذا عمل عامل بدون إذن لم يستحق شيئاً، كما إذا وجد إنسان ضالة لآخر فردّها عليه، أو علّم ولده دون إذن منه، لأنه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحقه.
فإن أذن له بالعمل ولم يشرط له جُعْلاً: فالمذهب أنه لا يستحق شيئاً، وقيل: تلزمه أُجرة مثل عمله، إن كان العامل معروفاً أنه يقوم بمثل هذا العمل بالأُجرة.
وإن أذن لشخص بالعمل، فعمل غيره فلا شيء له، وإن كان معروفاً بالقيام بهذا العمل بعوض، لأنه لم يلتزم له بعوض، فوقع عمله تبرعاً.
3 - لا يستحق العامل الجُعْل إلا بالفراغ من العمل:
كالبُرء من المرض إن كان الجُعْل على الشفاء، أو الحذق بالقراءة والكتابة إنْ كان على التعليم مثلاً، أو تسليم الضالة إن كان علىٰ ردّها، وهكذا.
وإن اشترك في العمل أكثر من واحد اشتركوا في الجُعْل بالتساوي وإن تفاوت عملهم، لأن العمل لا ينضبط حتىٰ يوزَّع الجعل بنسبة ما قام به كل منهم.
4 - تجوز الزيادة والنقص في الجعل قبل الفراغ من العمل:
فلو قال لشخص: اعمل كذا ولك عشرة، ثم قال: اعمله ولك عشرون أو: ولك خمسة لزمه بالفراغ منه ما قاله أخيراً من العشرين أو الخمسة، إن كان قاله قبل الشروع بالعمل، وقد علم به العامل إن كان معيناً، أو أعلنه صاحب العمل إن كان العامل غير معين.
وإن كان ذلك بعد الشروع بالعمل وجبت أُجرة المثل للعامل، لأن الالتزام الثاني فسخ للأول، والفسخ أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أُجرة المثل.
وكذلك الحال إذا كان قبل الشروع ولم يعلم به العامل المعين، أو لم يعلنه الملتزم، استحق أُجرة المثل على الراجح.
5 - إذا اختلف العامل وصاحب المال:
فإن اختلفا في شرط الجُعْل: فقال العامل شرطت جعلاً على هذا العمل، وقال صاحب المال: لم أشرط، فيُقبل قول صاحب المال بيمينه، لأن الأصل عدم الشرط، ولأن العامل يدّعى عليه الضمان والالتزام، والأصل عدمه، والقول المعتبر هو قول مَن يتمسك بالأصل مع يمينه.
وكذلك لو اختلفا في العمل الذي شُرط له الجُعْل: كأن يقول صاحب المال: شرطت الجُعْل لردّ سيارتي الضائعة، ويقول العامل: بل شرطته لرد متاعك الفلاني الضائع. أو اختلفا فيمن قام بالعمل: فقال زيد من الناس: أنا الذي قمت بهذا، وقال صاحب العمل: بل قام به فلان غيرك.
ففي الصورتين يُصدِّق صاحب العمل بيمينه، لأن العامل يدَّعي عليه شرط الجُعْل في عقد الأصل عدمه، كما أنه يدّعي عليه شغل ذمته، والأصل براءة ذمته.
وإن اختلفا في قدر الجُعْل أو صفته أو جنسه: كأن قال العامل: شرطت لي ألف درهم، فقال صاحب المال: بل شرطت خمسمائة، أو قال: شرطت عشرة دنانير، فقال: بل عشرة دراهم، ونحو ذلك، تحالفا، أي حلف كل منهما على إثبات قوله ونفي قول الآخر. فإذا حلفا تساقطت أقوالهما، واستحق العامل أجرة المثل.
وكذلك لو اختلفا في العمل: فقال العامل: شرطت لي كذا على هذا العمل وحده، وقال صاحب العمل: بل شرطته على هذا العمل وذاك.
تختلف الجعالة عن الإجارة من أوجه هي:
1 - جواز الجعالة على عمل مجهول، بينما لا تصح الإجارة إلا على عمل معلوم.
2 - تصحّ الجعالة مع عامل غير معيّن، ولا تصحّ الإجارة مع مجهول.
3 - في الإجارة لا بدّ من قبول الأجير القائم بالعمل، وفي الجعالة لا يشترط قبول العامل.
4 - في الجعالة لا يستحق الجُعْل إلا بالفراغ من العمل، ولو شرط تعجيله فسد العقد. وفي الإجارة له أن يشرط تعجيل الأجرة.
5 - الجعالة عقد جائز كما علمنا، بينما الإجارة عقد لازم، ليس لأحدهما أن يفسخه إلا برضا الآخر.