المحتويات:
تعريفها
مشروعيتها
حكمة مشروعيتها
حكم العاريَّة
أركان عقد الإعارة
أحكام تتعلق بالعاريَّة
العاريّة - بتشديد الياء أفصح من تخفيفها - وهي في اللغة: اسم لما يعطيه الرجل لغيره لينتفع به ثم يرده عليه، كما تطلق علىٰ العقد الذي يتضمن هذا. مشتقة من التعاور وهو التداول وانتقال الشئ من يد إلىٰ يد.
وهي في الاصطلاح الشرعي: إباحة الانتفاع بما يحلّ الانتفاع به مع بقاء عينه.
فعقد العاريَّة يتضمن إباحة الانتفاع للمستعير، فهو لا يملك المنفعة وإنما يُباح له أن ينتفع بالعين، أي الشئ المستعار علىٰ ما سيأتي، ولذا لا يملك ان يؤجر العين المستعارة لأحد، كما لا يملك ان يعيرها لغيره.
وإنما تصحّ اعارة ما يحلّ الانتفاع به، فلا تصحّ إعارة خنزير أو آلات لهو، كما لا تصح إعارة مصحف لحائض ونفساء، لأنه لا يجوز لهما مسّه والقراءة فيه.
والإعارة تكون في الأعيان التي لا تُستهلك بالاستعمال، كما سيأتي بيانه عند الكلام عن أركان العارية، فإذا كانت تستهلك بالاستعمال - كالصابون مثلاً - فلا تصحّ إعارتها.
الإعارة مشروعة، وقد دلّ على مشروعيتها نصوص من الكتاب والسنّة، وانعقد علىٰ ذلك الإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَوَيلٌ لِلمُصَلّينَ الَّذينَ هُم عَن صَلاتِهِم ساهونَ الَّذينَ هُم يُراءونَ وَيَمنَعونَ الماعونَ} [الماعون:٤-٧].
فقد ذكر الله تعالى أن منع الماعون من صفات المكذب بيوم الدين والمهدَّد بالويل - وهو العذاب والهلاك - يوم القيامة، فدلّ ذلك علىٰ أن بذل الماعون أمر مشروع ومطلوب. وجمهور المفسرين علىٰ أن المراد بالماعون ما يستعيره الجيران بعضهم من بعض، كالدلو والإبرة والقِدْر ونحو ذلك، ويلحق به كل ما في معناه.
وأما السنّة:
فما رواه أنس رضي الله عنه، أن النبي ﷺ استعار فرساً من أبي طلحة فركبه. [أخرجه البخاري في الهبة، باب: من استعار من الناس الفرس، رقم: ٢٤٨٤. ومسلم في الفضائل، باب: في شجاعة النبي ﷺ تقدمه للحرب، رقم: ٢٣٠٧].
وما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: "مَن كانت له أرض فليهبها أو ليُعرْها" [أخرجه مسلم في البيوع، باب: كراء الأرض، رقم: ١٥٣٦].
وسيأتي معنا أحاديث أُخرى خلال البحث، فيها دلالة على مشروعية العاريَّة مع بيان أحكامها.
وما دلّ عليه القرآن والسنّة من مشروعية الإعارة عامة: انعقد عليه إجماع علماء المسلمين في كل العصور.
إن حكمة التشريع في العاريّة هي تحقيق التعاون الذي ندب الله تعالىٰ المسلمين إليه إذ قال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: ٢].
فكثير من الناس لا يتمكن من اقتناء كل ما يحتاج إليه من متاع أو ملبس أو مسكن أو عقار: إما لقلة ذات يده، او لفقدانه في الأسواق، أو ندرة وجوده، أو لكثرة مشاغل بعض الناس التي تنسيهم بعض حاجاتهم، وعندها قد يجد المرء نفسه في ساعة من ليل أو نهار في حاجة ماسة لأن يطرق باب جيرانه، فيطلب منهم استعارة بعض الأشياء، أو يتوجه بالطلب إلىٰ صديقه في سفر أو حضر أن يستعين ببعض متاعه لقضاء حاجته، ولا سيما أولئك الكثيرات من ربّات البيوت، اللواتي قد يكون رجالهنّ في سفر، أو غائبين عن البيت لانهماكهم في العمل، والمرأة مضطرة لأن تهيئ الطعام أو تقوم بشؤون الأولاد، فتحتاج إلىٰ أشياء كثيرة لا تتمكن من تهيئتها بنفسها، فلا بد من أن تستعين بمتاع من يساكنها في دارها أو يجاورها.
ولما كان الإسلام دين التيسير والتعاون - كما ذكرنا - يسّر على الناس وشرع لهم ان ينتفع بعضهم بأمتعة بعض، بإذن منه ورضا، جلباً للمصلحة ودفعاً للمضرة، ورفعاً للحرج، وحفظاً من الإرهاق والعنت، كي تسود الألفة والمودة، ويكون الله عز وجل في عون الجميع، طالما أن كلا منهم يسعى أن يكون في عون غيره، مستجيبين لتوجيه رسول الله ﷺ إذ يقول: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
وبهذا يحمون أنفسهم من العقاب والعتاب، في يوم عصيب لا ينفع المرء فيه الإ ما قدّم من إحسان في هذه الدار، ورعاية للحقوق وأداء للواجب. روىٰ جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من صاحب إبلٍ ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أُقعد لها يوم القيامة بقاعٍ قَرْقَرٍ، تطؤه ذات الظِّلْفَّ بظِلْفها، وتنَطحُهُ ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذً جمّاء ولا مكسورة القرن". قلنا: يا رسول الله، وما حقّها؟ قال: "اطراقُ فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتُها، وحلبها علىٰ الماء، وحملٌ عليها في سبيل الله". [أخرجه مسلم في الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة، رقم: ٩٨٨].
[قاع قرقر: أرض مستوية. تطؤه: تدوسه. الظلف: ما يكون في نهاية القدم من البقر والغنم ونحوها، جماء: لا قرن لها. إطراق فحلها: إعارة الذكر منها لينزو علىٰ إناثها. منيحتها: المنيحة هي الشاة أو البقرة أو الناقة، يعطيها مالكها لغيره لينتفع بلبنها ونحوه زمانا، ثم يردها لمالكها].
العاريَّة مستحبة ومندوب إليها، لما سبق من أدلة في بيان مشروعيتها وحكمة التشريع، وقد كانت واجبة في أول التشريع، للتهديد الشديد لمانعها كما علمت، ولكن هذا الوجوب نسخ بالإجماع، وبقى الحكم علىٰ الاستحباب، وهذا هو الأصل في حكمها الآن.
وقد تصبح واجبة، إذا توقف عليها إنقاذ حياة إنسان معصوم، أي غير حربي، كإعارة ثوب لدفع حرٍّ أو بردٍّ شديدين مهلِكَيْن، وإعارة حبل لإنقاذ غريق، وإعارة ضماد لعصب جرح بليغ ونحو ذلك.
ومن الواجب إعارة ما فيه حفظ مال محترم أيضاً، كإعارة سكّين لذبح حيوان مأكول اللحم يخشىٰ موته إذا لم يُذبح، لأن عدم ذبحه إضاعة مال، وهو منهي عنه شرعاً .
وقد تكون العاريَّة محرمة، كإعارة آلة قاتلة لمن غلب علىٰ ظنه أنه سيقتل بها، وكإعارة مصحف لحائض أو نفساء كما علمت.
وقد تكون مكروهة، كما لو كان فيها مساعدة علىٰ مكروه.
للإعارة أركان اربعة، وهي: المُعير، والمستعير، والصيغة، والشئ المستعار، ولكلٍّ منها شروط، واليك بيانها:
وهو الذي يبيح لغيره الانتفاع بالعين التي في حوزته، ويشترط فيه:
أ- أن يكون مالكاً للمنفعة في العين المُعارة، سواء أكان يملك العين أم لا يملكها، كالمستأجر - مثلاً- والموصى له أو الموقوفة عليه، فكل منهم له أن يعير العين المستأجر لها أو الموصي له بمنفعتها أو الموقوفة عليه، لأنه يملك منفعتها، والإعارة ترد علىٰ المنفعة لا علىٰ العين، ولذا ليس للمستعير أن يعير العين التي استعارها، لأنه لا يملك منفعتها، وإنما أبيح له الانتفاع بها.
ب- أن يكون ممن يصح تبرعه، فلا تصح الإعارة من الصبي ولا من المجنون، كما لا تصحّ من المحجور عليه بسفه أو فلس إذا كانت المنفعة تقابل بعوَض، وذلك لأن الإعارة تبّرع بالمنفعة، وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع.
ج- أن يكون مختاراً، فلا تصحّ الإعارة من مُكرَه عليها، لأن المنفعة المبذولة مال، لأنها تقابل بعوض، ورسول الله ﷺ يقول: "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس" [أخرجه الدارقطني في البيوع، الحديث:٩١].
وهو الذي أُبيح له الانتفاع بالعين المُعارة، ويشترط فيه شرطان:
أ - أن يكون أهلا للتبرع عليه بعقد، أي تصحّ عبارته شرعاً ويعتدّ بها وهو البالغ العاقل، فلا تصحّ الإعارة لصبي أو مجنون، لأن كلاٍّ منهما لا يعتبر قوله شرعاً، فإذا احتيج إلىٰ إعارتهما تولىٰ ذلك عنهما وليُّهما.
ب- أن يكون معيّناً، فلو قال لاثنين: أعرتُ أحدكما كتابي، أو قال لجماعة: أعرت أحدكم كتابي، لم تصحّ الإعارة، لأن المستعير غير معين.
وهي العبارة التي تدل علىٰ هذا العقد من الإيجاب والقبول، ولا يُشترط اللفظ من المعير والمستعير، بل يكفي اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر، بما يدل علىٰ إذن مالك المنفعة بإباحتها لغيره، فلو قال المالك: خذ هذا الكتاب واقرأ به، أو: أعرتك هذا الكتاب، فاستلمه المستعير، صحّت الإعارة، وكذلك لو قال المستعير: أعرني كذا، فسلّمه اليه المالك، صحّ العقد.
ولابد فيها من اللفظ من أحد المتعاقدين، فلو أخذ المستعير المتاع دون كلام، وسكت المعير، لم تصح الإعارة، ولم يترتب عليها إباحة الانتفاع للمتسعير.
ولا يشترط التتابع بين طرفي الصيغة، فلو قال: أعرني كذا، ودفعه إليه بعد زمن، صح ذلك، ما لم يوجد ما يدل علىٰ الرجوع من المعير أو الرد من المستعير.
وتصح الإعارة مطلقة عن الوقت والشرط، كما تصح معلقة علىٰ شرط ومقيدة بوقت، كما لو قال له: أعرتك داري هذه لتسكنها سنة، أو إن خرج منها فلان الذي يسكنها، وذلك لأن الإعارة ليست بعقد تمليك حتى لا تقبل التعليق والتوقيت، وإنما هي إباحة انتفاع كما علمت.
وهو العين التي تُباح منفعتها للمتسعير، ويشترط فيها:
أ - أن تكون منفعتها ملْكاً للمُعير كما علمت، فلا تصحّ إعارة المستعير لغيره .
ب- أن تكون يمكن الانتفاع بها، فلا تصحّ إعارة ثياب لا تقي من حرٍّ ولا برد أو لا تستر عورة، كما لا تصح إعارة دابّة مريضة مرضاً مزمناً للركوب، وكذلك سيارة لا محرّك فيها، لأن عقد العاريَّة يرد علىٰ المنفعة، ولا منفعة في مثل ذلك، فيكون عقداً على غير معقود عليه.
ولا يشترط وجود النفع عند العقد علىٰ الصحيح، فلو أعاره مُهراً صغيراً للركوب صحّ ذلك، إن كانت الإعارة مطلقة، او مقيدة بزمن يمكن أن يصبح المُهر فيه صالحاً للركوب. وكذلك لو أعاره ثوباً غير صالح للّبس ولكن يمكن إصلاحه، ونحو ذلك.
ج- أن يكون الانتفاع بها مباحاً شرعاً ، فلا تصح إعارة آلات اللهو، ولا إعارة حلي لامرأة تتزين به أمام الأجانب، ولا إناء ليصنع فيه خمر، أو سكين ليذبح بها خنزير للأكل، أو سلاح لمن يعتدي به علىٰ معصوم الدم، ونحو ذلك، لأن، مثل هذا الانتفاع حرام وممنوع شرعاً.
د- أن يكون الانتفاع بها لا ينقص عينها، كالثياب والدور والأواني ونحو ذلك. فإذا كان الانتفاع بها ينقصها لم تصح إعارتها، وعليه: فلا إعارة لشمعة ليُستضاء بها، أو صابون للتنظيف ونحو ذلك، لأن الانتفاع بها يكون باستهلاكها وتلف عينها شيئا فشيئا.
للمستعير أن ينتفع بالعين المستعارة ضمن الحدود التي أذن فيها المالك، لرضاه بهذا، وليس له أن ينتفع بغير ما اذن به، لأنه لم يرض بذلك، إلا إذا كان أقل تأثيراً علىٰ العين من الذي أذن به، فإن أطلق الإذن بالانتفاع، بأن أعاره مطلقاً دون التقييد بوجه من وجوه الانتفاع، كان له أن ينتفع من العين بما ينتفع بها عادة، وإن نهاه عن الانتفاع بوجه من الوجوه امتنع عليه ذلك الوجه، ولو كان أقل تأثيراً علىٰ العين، وذلك كله لأن المُعير مالك للمنفعة ومتبرع بها، فله تحديد وجه الانتفاع بما شاء، وعليه:
فلو أعاره أرضاً لينتفع بها، جاز له أن يبني فيها وأن يغرس شجراً أو يزرع زرعاً، لأنه أطلق الإذن بالانتفاع، فلو قال: أعرتك هذه الأرض، دون أن يقول لتنتفع بها، فالصحيح أن الإعارة غير صحيحة.
وإن أعاره للبناء أو الغراس جاز له أن يزرع، لأن الزرع أقل ضرراً من الغراس أو البناء، فرضاه بالأشد دليل رضاه بالأقل، إلا أن نهاه عن ذلك فليس له فعله.
وإن أعاره للزرع فليس له أن يبني أو يغرس، لأن البناء والغراس كل منهما أكثر ضرراً علىٰ الأرض من الزرع، ورضاه بالأقل لا يدل على رضاه بالأشد.
وإن أعاره للزراعة مطلقاً زرع ما شاء، فإن أعاره لزراعة نوع معين كان له زرعه وزرع ما هو مثله أو أقل منه تأثيراً، وليس له زراعة ما هو أشد منه ضرراً علىٰ الأرض.
وهكذا القول في كل عين مستعارة:
فلو استعار سيارة للركوب فليس له أن يستعملها لحمل الأمتعة مثلاً، وإن استعارها لحمل أمتعة خفيفة - كخشب مثلاً ونحوه - فليس له أن يحمل فيها أشياء ثقيلة كحديد أو اسمنت ونحو ذلك.
وللمستعير أن يستوفي المنفعة أو بمن ينوب منابه - كوكيله مثلاً - لأن الانتفاع يعود عليه ويرجع إليه، شريطة أن يكون مثله أو دونه في استيفاء المنفعة من حيث التأثير علىٰ العين المستعارة، فلو استعار دراجة وأراد أن يركب عليها أجيره أو وكيله للقيام بعمله لمصلحته، كان له ذلك، إلا إذا كان يزيد عنه في وزنه وثقله، وهكذا.
إن يد المستعير علىٰ العين المستعارة يد ضمان، فإذا قبض المستعير العين المستعارة دخلت في ضمانه، ومعنى هذا أن المستعير العين المستعارة إذا تلفت، سواء أتعدى باستعمالها أم لم يتعدّ، وقصّر في حفظها أم لم يقصّر، لأنه قبض مال غيره لمصلحة نفسه.
وقد دلّ على ذلك حديث أُمية بن صفوان بن أُمية عن أبيه صفوان رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ استعار منه دروعاً يوم حنين، فقال: أغصب يا محمد؟ فقال ﷺ : "لا، بل عاريَّة مضمونة" [أخرجه ابو داود في البيوع والإجارات، باب: في تضمين العارية، رقم:٣٥٦٢].
ويضمن المستعير العين المستعارة بقيمتها يوم تلفها، إذا تلفت وذهبت ولو بآفة سماوية، ولا يضمن ما بَلِيَ منها أو نقص من قيمتها بسبب الاستعمال المأذون فيه، فإذا استعملها في غير ما أذن له به، فنقصت، فإنه يضمن.
وكذلك يضمن ما نقص منها بسبب الاستعمال إن استعملها فيما لا تستعمل فيه عادة، كأن استعمل الدار أو النجارة، أو استعمل أوعية الطعام لنقل الرمل أو الحجارة.
ويضمنها أيضاً إذا استعملها بعد رجوع المُعير بالإعارة وطلبه ردّ العين المستعارة، حتىٰ ولو استعملها فيما هو مألوف في استعمالها، أو ما أذن له المعير سابقاً باستعمالها فيه، لأنه استعمال غير مأذون فيه، وكذلك الحال لو كانت العارية مؤقتة واستعملها بعد انتهاء المدة.
شرط الضمان فيما لا ضمان فيه، وعدم الضمان فيما فيه الضمان: علمنا أنه لا ضمان فيما تلف أو نقص من عين العارية بالاستعمال المأذون فيه، وكذلك تضمن العارية إذا تلفت بغير الاستعمال المأذون فيه مطلقاً ، فلو شرط في العقد خلاف هذا كان الشرط لاغياً لا يلزم الوفاء به، ويبقى عقد العارية صحيحاً كما لو يشرط فيه هذا الشرط، وقيل: تفسد الإعارة أيضاً.
إذا كان للمستعار نفقة - كما لو كان دابة فتحتاج إلىٰ علف، أو مسكناً فيحتاج إلىٰ ترميم - فهذه النفقة علىٰ مالك العين، سواء أكان المعير هو المالك للعين أم المستأجر لها، لأن النفقة تبع للملك، والإعارة تبرع بالمنفعة من مالكها لينتفع بها المستعير، فلا يجب عليه في مقابلها شئ.
فإذا انتهت الاعارة أو فسخت، ووجب علىٰ المستعير ردّ العين المستعارة إلىٰ المعير، وكان لردها عليه مؤونة ونفقة، كأجرة دابة أو سيارة نقل مثلاً ، كان ذلك علىٰ المستعير، لأن الرد واجب عليه، إذ أنه قبض العين لمنفعة نفسه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والرد الواجب عليه لا يتم إلا بالنفقة، فهي واجبة عليه.
وقد دلّ علىٰ هذا قوله ﷺ : "على اليد ما أخذت حتى تؤديه".
وجاء في رواية من حديث صفوان بن امية رضي الله عنه: أنه ﷺ قال له: "عاريّة مؤدّاة". [الترمذي: البيوع، باب: ما جاء في أن العارية مؤداة، أبو داود: البيوع، باب: ما جاء أن العارية مؤداة. ابن ماجة: الصدقات، باب: العارية].
وهذا إذا رد العين المستعارة إلىٰ المعير نفسه، فإذا استعار من مستأجر، ورد العارية إلىٰ المالك المؤجر، فالمؤونة حينئذ علىٰ المالك، لأن المستعير يقوم في هذا مقام المستأجر في رد العين المستأجرة إلىٰ المؤجر، ومؤونة الرد في الإجارة على المالك لا علىٰ المستأجر.
عقد العاريَّة عقد جائز من الطرفين، أي يحقّ لكِّل من المعير والمستعير فسخه متى شاء ولو بغير علم الآخر ولا رضاه، فيحق للمعير أن يرجع بالعارية ويسترد العين المستعارة متىٰ شاء، حتى ولو كانت الإعارة مؤقتة بوقت لم ينته بعد. وكذلك يحق للمستعير أن يردها أيضاً متىٰ شاء. ولا يلزم أي منهما باستمرار الإعارة، لأنها مبرة من المعير وارتفاق من المستعير، فلا يناسبها الإلزام لأي منهما.
ويستثنى من ذلك ما إذا استعار أرضًا لدفن ميت، فليس لأحدهما فسخ الإعارة في الأرض المدفون فيها، فلا يحق للمعير استرداد الأرض ولا للمستعير ردها، حتى يبلىٰ المدفون ويندرس أثره، بأن يصير تراباً ولا يبقى منه شيء ظاهر. وذلك لأن الدفن كان بإذن. وفي النبش هتك حرمة الإنسان، ولا يلزمه أجرة علىٰ أي حال في هذا.
وكذلك يستثنى ما إذا أذن المعير في شغل المستعار بشئ يتضرر المستعير بالرجوع فيه، كما لو أعاره سفينة لنقل بضاعة وطالبه بها في لجّة البحر، أو أعارة سيارة لذلك وطالبه بها في موضع لا يستطيع فيه تحصيل غيرها، كالصحراء مثلا، ففي هذه الأحوال لا يلزم المستعير رد العين المستعارة، وله أن يستمر بالانتفاع بها حتى يتمكن من ردها بغير ضرر، ولكن يلزمه في هذا وامثاله أجرة المثل من حين الطلب الى حين الرد.
الرجوع بالأرض المعارة واستردادها:
إعارة الأرض إما أن تكون للبناء والغراس، وإما أن تكون للزراعة:
فإن أعاره للبناء أو الغراس: ثم رجع المعير عن الإعارة بعد البناء أو الغراس، يُنظر:
فإن كان المعير قد شرط علىٰ المستعير أن يقلع ما بناه أو غرسه عند الرجوع بالإعارة وجب عليه ذلك عملاً بالشرط، لقوله ﷺ : "المسلمون على شروطهم". فإن امتنع من ذلك قلعه المعير.
وإن كان شرط عليه تسوية الأرض بعد القلع لزمه ذلك في الحالين، وإن لم يشرطه فلا يلزمه.
وإن كان المعير لم يشترط علىٰ المستعير القلع يُخَيّر المستعير بين القلع وعدمه:
فإن اختار القلع قلع، ولا يستحق شيئاً إذا نقصت قيمة البناء أو الغراس بالقلع، لأنه ملكه وقد رضىٰ بنقصانه حين اختار قلعه، ويلزمه تسوية الأرض علىٰ الأصح، ليصبح ما استعاره كما كان عليه حين أخذه، ليرده كما أخذه. وإنما لزمته التسوية لأنه قلع باختياره، ولو امتنع من القلع لم يجبر عليه.
وإن لم يختر المستعير القلع: فالمعير مخير بين أمور ثلاثة، وهي:
1 - أن يبقى البناء أو الغراس ويأخذ أجرة المثل.
2 - أن يقلع الغراس أو يهدم البناء، ويضمن للمستعير ما ينقص من قيمة ذلك ما بين حاله قائما وحاله مقلوعاً، كما أنه يلزم بأجرة القلع أو الهدم.
3 - أن يتملّك البناء أو الغراس بقيمته مستحق القلع، ولا بدّ أن يكون ذلك بعقد مشتمل علىٰ إيجاب وقبول.
وإنما كان التخيير للمعير لأنه هو المُحسن، ولأنه هو مالك الأرض التي هي الأصل، فإن اختار واحدة منها اجبر المستعير عليها.
وإن لم يختر المعير واحدة منها: فالأصح أن القاضي يعرض عنهما حتى يصطلحها أو يختار المعير، وقيل: أن الحاكم يبيع الأرض وما فيها، ويقسم الثمن بينهما بنسبة قيمة ما لكل منهما، فصلاً للخصومة.
ولا فرق في كل ما سبق: بين أن تكون الإعارة مطلقة أو مقيدة بوقت على الأصح، إلا إنه في الإعارة المطلقة: إذا بنى أو غرس ثم قلع فليس له أن يبني أو يغرس إلا بإذن جديد، فإن فعل ذلك بلا إذن كان للمعير أن يجبره على القلع وتسوية الأرض مطلقاً ، والله تعالىٰ أعلم، وأما في الإعارة المؤقتة: فله أن يبني أو يغرس مرة بعد أخرىٰ، طالما أن المدة لم تنته ولم يرجع المعير في الإعارة، وعند الرجوع تطبق الأحكام المذكورة اولاً .
وإن أعاره للزراعة: ثم رجع المعير عن الإعارة قبل أن يدرك الزرع: فالصحيح أن للمستعير أن يبقيه إلىٰ أن يدرك إن كان ينقص قيمته بالقلع قبله، لأنه مال محترم، وله امد يدرك فيه بالعادة فينتظر، وللمعير أجرة المثل في هذه الحال علىٰ الصحيح.
ولا فرق في هذا بين أن تكون الإعارة مطلقة أو مقيدة بمدة، إلا إنه في حال التقييد بمدة: إذا لم يدرك الزرع قبل انتهائها، لتقصير المستعير: كأن يتأخر بالزراعة، أو يكون هناك مانع منها من ثلج أو سيل ونحو ذلك، ثم يزرع في الأرض بعد زوال المانع ما لا يدرك غالباً في المدة المتبقية، أو يزرع غير ما استعار من أجله مما يبطئ أكثر منه، ففي هذه الحالات: للمعير أن يجبر المستعير علىٰ قلع الزرع وتسوية الأرض، وإن نقص بسبب ذلك، لأنه متعد وظالم بفعله، ورسول الله ﷺ يقول: "ليس لعرق ظالم حق" [أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء، باب: في إحياء الموات، رقم:٣٠٧٣ ، والترمذي في الأحكام، باب: إحياء أرض الموات، رقم:١٣٧٨].
يكون ردّ العين المستعارة إلىٰ المعير بحسب الشيء المستعار عرفاً وعادة:
فالأشياء المنقولة لابد من نقلها وتسليمها للمعير، ولاسيما إذا كانت نفيسة، فيختلف التسليم باختلاف نفاستها، كالجواهر والمعادن الثمينة، فربما اشترط تسليمها ليد المعير بنفسه، وربما اكتفى بردها إلىٰ منزله وتسليمها إلى من ينوب منابه في قبضها، كالأوعية ونحوها.
وإذا كانت العين المستعارة غير منقولة، كالأرض والدور ونحو ذلك، كفى فيها التخلية وإزالة الموانع من استلامها والانتفاع منها.
قد يختلف المعير مع المستعير في أُمور، من ذلك:
أ- الاختلاف في الرد: كأن يدعي المستعير أنه رد العين على المعير، وينكر المعير ذلك ويقول: لم تردها على، فيُحلّف المعير على قوله ويصدّق
بيمينه، لأنه المنكر، والقاعدة في هذا: أّن البيَّنة - أي الشهود - علىٰ المدعي واليمين علىٰ من أنكر. لأن الأصل عدم الرد إذ ثبت كون العارية في يد المستعير، فالأصل أنها لا تزال في يده، فالمعير متمسك بالأصل بقوله، والقول المصدق هو قول من يتمسك بالأصل.
ب- الاختلاف في حال التلف: لو تلفت العين المستعارة، وادعى المستعير أنها تلفت بالاستعمال المأذون فيه، وأنكر المعير ذلك وقال: بل تلفت بغير الاستعمال، أو باستعمال غير مأذون فيه، يصدق هنا المستعير بيمينه، لأنه من الصعب عليه أن يقيم بينة علىٰ قوله، إذ ليس من العادة أن يستعمل المستعار علىٰ ملأ من الناس حتى يشهدهم علىٰ التلف. ولأن الأصل براءة ذمته من الضمان، والمعير هنا يدعي الضمان وهو ينكره تمسكاً بالأصل، والقول قول المنكر والمتمسك بالأصل بيمينه كما علمت، فيحلف المستعير علىٰ قوله ويبرأ من الضمان.
ج- الاختلاف في اصل العقد: كأن يدعي المالك الإجارة، ويدعي المنتفع الاستعارة. أو أن يقول المنتفع: أعرتني، ويقول المالك: بل غصبته مني. فالأصح أنه يصدق المالك بيمينه. فيحلف انه ما أعاره وإنما أجره، أو يحلف انه ما أعاره وإنما غصب منه.
وإنما كان القوم قول المالك لأن الأصل أن لا يأذن بالانتفاع فيما يملك إلا بمقابل. فإذا حلف استحق أجرة المثل إن مضت مدة لها أجرة. فاذا كانت العين قائمة ردها، وإن تلفت قبل الرد ضمنها المنتفع في دعوى الغصب. فإن كان ما يدعيه المالك من التضمين أكثر مما يدعيه المنتفع حلف المالك على الزيادة. وبيان ذلك أن العارية تضمن بقيمتها يوم التلف، والمغصوب يضمن أعلى قيمة من يوم الغصب إلىٰ يوم التلف، فإذا كانت القيمة متساوية فقد اتفقا، وإلا حلف المالك على الزيادة، لأنهما لم يتفقا عليها.
ينتهي عقد الإعارة بأمور، وهي:
أ - طلب المعير للعاريَّة ورجوعه عن الإعارة، سواء أكان ذلك قبل انتهاء مدة الإعارة أم بعدها، لأنها عقد جائز من طرفه كما علمنا.
ب- رد المستعير للعين المستعارة على المعير، بعد انتهاء مدة الإعارة أم قبله، لأنها عقد جائز أيضاً من طرفه.
ج- جنون أحد المتعاقدين أو إغماؤه، لاختلال شروط المعير والمستعير علىٰ ما علمت، إذ يشترط في المعير أهلية التبرع وفي المستعير أهلية التبرع عليه، والمجنون والمغمى عليه ليسا أهلًا لذلك.
د- موت المعير او المستعير، لأنها عقد إباحة الانتفاع بالإذن، وبموت المعير لم يبق صاحب الإذن، وبموت المستعير لم يبق المأذون له.
هـ- الحجر بالسفه على المعير أو المستعير، لأنه لم يبق المحجور عليه أهلًا للتبرع، فلا تصح الإعارة، فتفسخ.
و- الحجر بالفلس على المالك، لأنه يمتنع عليه التبرع بمنافع أمواله، حفظاً لمصلحة دائنيه.