المحتويات:
تعريفها
مشروعية الالتقاط
حكمة التشريع
حكمها
لقطة الحيوان ولقطة غير الحيوان
لقطة الحرم
الإشهاد علىٰ الالتقاط
تعريف اللقطة
كيفية التعريف ومدته ومكانه
نفقة التعريف
أنواع ما يلتقط وكيفية التصرّف به
تملّك اللقطة
يد الملتقط وحفظ اللقطة
دفع اللقطة إلىٰ مدّعيها
اللقطة في اللغة - بضم اللام وفتح القاف - هي الشئ الملتَقَط أي المأخوذ من الأرض، قال تعالىٰ في شأن موسىٰ عليه السلام: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ... } (القصص: 8)
وفي اصطلاح الشرع: هي مال أو اختصاص محترم، وجد في مكان غير مملوك، لم يحرز ولا عرف الواجد مستحقه.
-فقولنا: (اختصاص) أي شئ لا يملك شرعاً، ولكن يمكن أن يدخل تحت اليد ويختصّ به مكلَّفٌ ما، كالكلب مثلاً.
-وقولنا: (محترم) صفة للمال والاختصاص، أي أن يكون المال محترماً، أي معتبراً شرعاً، فنحو آلات اللهو والخمر والخنزير ليس بمال محترم، وكذلك مال الحربي. والاختصاص المحترم نحو كلب صيد أو حراسة، فإذا لم يكن كذلك فليس بمحترم.
-وقولنا: (لم يحرز) أي ليس عليه علامات الحفظ والإحراز، وأنه وضع في هذا المكان لحفظه، أو أن المكان غير محرز، أي ليس مُحاطاً ولم يتخذ لحفظ الأشياء فيه.
الالتقاط مشروع، بدليل قوله ﷺ حين سئل عن ذلك: «اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فإنْ لَمْ تَعْرِفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فإنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فأدِّهَا إلَيْهِ ». [البخاري: اللقطة، باب: ضالة الإبل، رقم: 2295. ومسلم: أول كتاب اللقطة، رقم: 1722].
[وكاءها: هو ما يُربط به فم الكيس ونحوه. عفاصها: وعاءها الموضوعة فيه. عرفها: ناد عليها وأخبر الناس بأنك وجدت لقطة. لم تعرف: أي صاحبها. فاستنفقها: تملّكها وتصرف بها. ولتكن: أي قيمتها: طالبها: صاحب اللقطة].
وهناك أحاديث أخرىٰ تأتي خلال البحث.
لا شك أن من فقد شيئاً يملكه أو يختصّ به يصيبه شئ من الكرب علىٰ فقده، وقد يصعب علىٰ هذا الإنسان أن يتعرّف علىٰ مكان وجوده، ويغيب عن ذهنه أين نسيه، وقد لا يعلم أين فقده، وربما تعرّض لهذا الشئ مَن لا أمانة عنده فأخذه وضاع علىٰ صاحبه، وربما أسرع إليه التلف وذهب سُدّىٰ دون أن ينتفع به. ففي تشريع الالتقاط تيسير علىٰ الناس وتلبية حاجة ملحّة لديهم، فالملتقط يُعين صاحب الشئ علىٰ العثور عليه، ويتعاون معه علىٰ كفّ الأيدي الآثمة عن أموال الناس، تحقيقاً لقول الله عزّ وجل: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. واستجابة لتوجيه رسول الله ﷺ: «واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ».
وإذا تعرّف صاحب الشئ الضائع عليه سُرَّ به وزال غمّه وذهب كربه، فيكون للملتقط أجر عند الله عزّ وجل، كما أخبر رسول الله ﷺ إذ قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وبهذا يعيش الناس آمنين مطمئنين، يعلمون أن أموالهم مصونة، حتى ولو فُقدت منهم فستعود إليهم، تحملها النفوس الأبيّة والأيدي الأمينة، لتوصيلها إلىٰ مستحقّيها أوفر ما كانت، فيسود الحب، ويكون الإخاء والود.
إذا وجد المسلم لقطة -أي شيئًا ساقطاً علىٰ النحو الذي عرفت- فهل يلتقطه أو يتركه؟
والجواب:
يستحبَ له الالتقاط إذا كان واثقاً من أمانة نفسه، ويخشىٰ أن يضيع هذا الشئ علىٰ صاحبه إن لم يلتقطه، حفظاً لمال أخيه كما علمت.
فإن لم يخف عليها الضياع كان التقاطها مباحاً، له أن يأخذها وله أن يدعها. وإن تيقن ضياعها، لمعرفته بعدم وجود أمين غيره في ذاك الموضع، وجب عليه التقاطها، لأن حفظ مال المسلم واجب.
وإن لم يثق بأمانة نفسه مستقبلاً، وخشي أن تسوّل له نفسه أكلها، كره له التقاطها، وإن علم من نفسه الخيانة، وأنه إن التقطها سيلتقطها لنفسه، لا ليحفظها علىٰ مالكها ومستحقها، حرم عليه التقاطها. وفي هذا يقولﷺ :«لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلَّا ضَالٌّ، ما لم يعرفها» [مسند أحمد: 4/ 360، من حديث جرير بن عبدالله رضى الله عنه].
[والضالة: هي الشئ الضائع، وإيواؤها التقاطها].
الشئ الضائع قد يكون حيواناً، وقد يكون غير حيوان:
١ - فإن كان حيواناً يُنظر:
أ-فإن كان مما يمتنع بنفسه -أي يحمي نفسه- من صغار السباع: إما لقوته كالفرس والبعير، أو لسرعة جريه كالغزال والأرنب.
فإن وجدها في صحراء لم يجز له التقاطها، فقد جاء في حديث خالد بن زيد رضى الله عنه: أنه سأل رسول الله ﷺ عن ضالة الإبل؟ فقال: «ما لكَ ولَهَا، معهَا سِقَاؤُهَا وحِذَاؤُهَا تَرِدُ المَاءَ، وتَأْكُلُ الشَّجَرَ، دَعْهَا حتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا». [البخاري: اللقطة، باب: ضالة الغنم، رقم: 2296]. أي تقوى بخفها علىٰ قطع الصحراء، كما أنها تملأ كرشها ماء بما يكفيها أيامًا، يتمكن فيها صاحبها من العثور عليها.
وقيسَ علىٰ الإبل ما في معناها من الحيوانات التي تقدر علىٰ الامتناع بنفسها من عدوها.
-وحمل العلماء قوله ﷺ هذا علىٰ التقاطها للتملّك، وفي حال غلبة الظن أن صاحبها سيعثر عليها، لأن الغالب علىٰ أصحاب الإبل ونحوها إرسالها لترعى في الصحراء بلا راع، فالغالب أنها ليست بضائعة، فلا ينبغي التقاطها، ولذا أجازوا التقاطها للحفظ لا للتملّك زمن الأمن، أي يلتقطها بقصد أن يحفظها علىٰ صاحبها، لا ليتملكها ولو بعد تعريفها المدة المطلوبة.
-وإن وجدها في بنيان من مدينة أو قرية جاز له التقاطها مطلقاً، لاختلاف حالها في البنيان عن الصحراء، إذ لم يعتد الناس إرسالها في القرىٰ والمدن لترعىٰ وحدها، ولأن من يمر بها هنا كثير فيخشىٰ عليها، بخلاف الصحراء فإن المجتازين فيها قلة.
-وقد دل علىٰ ذلك قوله ﷺ :«تَرِدُ المَاءَ، وتَأْكُلُ الشَّجَرَ، دَعْهَا حتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا» فإن سياقه يدلّ علىٰ أن ذلك يكون في الصحراء، حيث يوجد الماء والشجر ولا يوجد من الناس من يتعرض لها، وهذا المعنىٰ لا يتحقق في المدن والقرىٰ.
ب- وإن كان الحيوان لا يمتنع بنفسه: إما لضعف ذاتي فيه كالغنم ونحوها، وإما لعجز طارئ كبعير مريض أو فرس مكسور، جاز التقاطه في الصحراء وغيرها، وللتملّك وغيره.
-وقد دلّ علىٰ ذلك: ما جاء في حديث خالد بن زيد رضي الله عنه أنه ﷺ سُئِلَ عن ضالة الغنم؟ فقال: "خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب" أي إمّا أن تأخذها أنت وإمّا أن يأخذها غيرك وإمّا أن يأكلها الذئب.
وقيسَ علىٰ الغنم غيرها مما في معناها من الحيوان الذي لا يمتنع بنفسه.
٢- وإن كان الشئ الضائع غير حيوان: جاز التقاطه مطلقاً كالحيوان غير الممتنع، علىٰ التفصيل الذي عرفته في حكم اللقطة من حيث الوجوب وعدمه.
-وقد دلّ علىٰ ذلك أحاديث: منها حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، وقد جاء فيه أنه ﷺ سُئِلَ عن اللقطة: الذهب أو الوَرِق؟ فقال: «اعرف وكاءها وعفاصها ..»وقد مّر بك في مشروعية الالتقاط.
ومنها: حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه قال:«أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : عَرِّفْهَا حَوْلًا ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا ، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ، فَقَالَ : عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا ، فَلَمْ أَجِدْ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا ، فَقَالَ : احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا ، فَاسْتَمْتَعْتُ». [البخاري: أول كتاب اللقطة، باب: إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه، رقم: 2294. ومسلم في أوائل كتاب اللقطة، رقم: 1723].
المراد بالحرم: مكة وما حولها من الأماكن التي تُعرَف بالحرم، والتي لا يحلّ الصيد فيها ولا قطع شجرها ونحو ذلك.
فإذا وجد المسلم فيها شيئاً ساقطاً -ينطبق عليه تعريف اللقطة- لم يحلّ له التقاطه إلا بقصد الحفظ علىٰ مالكه، ولا يحلّ له تملّكه أبد الدهر، لأن الغالب أن يعود صاحبه إلىٰ مكة ولو بعد حين.
-وقد دلّ علىٰ ذلك: قوله ﷺ في مكة يوم الفتح: « ولا تحلّ لقطتها إلا لمنشد» أي معرِّف علىٰ الدوام. [البخاري: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة، رقم: 2301. ومسلم: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها ... ولقطتها، رقم: 1355].
وتلزمه الإقامة لتعريفها، فإن أراد الارتحال عن مكة دفعها إلىٰ الحاكم أو مَن ينوب منابه، ليقوم بتعريفها ويحفظها لمالكها.
الأصح أن الإشهاد علىٰ الالتقاط غير واجب، لأنه لم يرد الأمر به في أكثر أحاديث اللقطة، وإنما هو مستحب ولو كان الملتقط عدلاً، ليقطع علىٰ نفسه طريق الخيانة مستقبلاً، ودرءاً من أن يأخذها وارثُه بعد موته بحجة أنها كانت في يده.
وقد دلّ علىٰ الاستحباب قوله ﷺ«مَن التقط لقطة فليُشهد عليها ذا عدل أو ذوَيْ عدل» [أبو داود: اللقطة، باب: التعريف باللقطة، رقم: 1709].
فالتخيير في أن يُشهد عدلاً أو عدلين يقتضي عدم الوجوب، ولو كان الإشهاد واجباً لما اكتُفي بعدل واحد.
ويذكر للشهود بعض صفاتها ولا يستوعبها، ويكره له أن يزيد في البيان، وإن خشي من الإشهاد أن يعلم بها غير أمين، فيأخذها منه ظلماً، امتنع عليه الإشهاد.
إذا وَجد المرء شيئًا ضائعًا بمعنىٰ اللقطة الذي عرفت، يُنظر:
فإن كان شيئاً تافهاً: أي ليس من شأن الناس عادة -إذا فقدوه- أن يطلبوه ويبحثوا عنه، كاللقمة والتمرة ونحو ذلك، حسب عُرْف كل مكان وزمان، فإن الملتقط يتملك ذلك دون أن يعرف به أو يتعرف عليه.
وقد دلّ علىٰ ذلك: حديث أنس رضي الله عنه قال: مّر النبي ﷺ بتمرة في الطريق، قال: « لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا». [البخاري: اللقطة، باب: إذا وجد تمرة في الطريق، رقم: 2299. ومسلم: الزكاة، باب: تحريم الزكاة على رسول الله ﷺ ، رقم: 1071].
وإن كان شيئًا ذا قيمة: أي من شان الناس أن يطلبوه إذا فقدوه ويبحثوا عنه، كان علىٰ الملتقط تعريفه، دلّ علىٰ ذلك صريح الأحاديث التي سبقت.
والأصح أن التعريف واجب، سواء أكان الالتقاط بقصد الحفظ فقط أم بقصد الحفظ ثم التملّك.
أولاً: يتعرف علىٰ العين الملتقطة بما يميِّزها عن غيرها من الصفات، بحيث إذا جاء مَن يدعيها وسأله عن صفاتها استطاع أن يعرف هل هو صاحبها أمْ لا؟ فإذا دفعها كان علىٰ يقين أنه دفعها لمستحقِّها.
-فيتعرف علىٰ وعائها إن كان لها وعاء، وعلىٰ رباطه إن كان له رباط، وهي العفاص، والوكاء، كما يعرف عددها إن كانت ذات عدد، وجنسها ونوعها، وما إلىٰ ذلك من صفات كما ذكرت، تختلف باختلاف الشيء.
-دلّ علىٰ ذلك قوله ﷺ : «اعرف وكاءها وعفاصها وعدّتها»وذلك أنه سُئل عن لقطة الذهب والفضة، ومن شأنها أن تكون في وعاء مربوط ولها عدد، فيقاس علىٰ ذلك غيره من الصفات التي تتميز بها الأشياء وتتّضح.
ثانياً: إذا عرف صفاتها وميِّزاتها نادىٰ عليها، ذاكراً بعض صفاتها التي من شأنها أن تنبّه فاقدها إليها، ولا يتوسع بذلك كي لا يعرف صفاتها مَن لا يستحقها فيدّعيها، وربما أخذها ظلماً وباطلاً.
ثالثاً: إذا كان الشئ ذا بال كبير، يتأسف عليه فاقده زمناً طويلاً، عرفه سنة كما ثبت في النص، لأنها لو كانت لمسافر يغلب أن لا يغيب عن مكان فقده أكثر من سنة يعرفه كل يوم مرتين لمدة أسبوع، ثم كل يوم مرة أسبوعاً آخر، ثم كل أسبوع مرة ليتمّ سبعة أسابيع، ثم في كل شهر مرة.
وزيد في الأيام الأولىٰ لأن الطلب يكون فيها أشد، وهذا التحديد اجتهاد استحبّه العلماء، وإلا فالمطلوب تعريف حسب العادة، بحيث ينتبه صاحب الحق إلىٰ حقه ويصل إليه.
-فإذا كان الشئ ليس ذا بال كبير: فإنه يُعرَّف فترة يغلب علىٰ الظن أن صاحبه يكفّ عن طلبه، دلّ علىٰ ذلك قرائن الأحوال التي وردت فيها الأحاديث، فسؤال عن صرّة فيها مائة دينار، وسؤال عن ذهب وفضة، وسؤال عن ضالة الغنم والإبل ونحو ذلك، فكلها أشياء ذات قيمة، لا يكف فاقدها عن طلبها غالبًا في أقل من سنة، والله تعالىٰ أعلم.
رابعاً: يكون التعريف في الأماكن العامة والأسواق وعلىٰ أبواب المساجد ونحوها حيث يجتمع الناس، ويكثر منه في موضع وجودها، لأن الغالب أن يطلبها فاقدها فيه.
ويكره أن يعرفها في المسجد، لما فيه من رفع الصوت والتشويش علىٰ المصلّين والذاكرين فيه، وقد ورد الزجر عن هذا بقوله ﷺ :«مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ فِي مَسْجِدٍ ضَالَّةً فَلْيَقُلْ: لَا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْك، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا». [أخرجه مسلم: في المساجد، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد ... ، رقم: 568].
ويستثنى من هذا المسجد الحرام، فإنه يجوز فيه، لأن من ينشدها في غيره متّهم أنه يفعل ذلك من أجل أن يتملك اللقطة بعد تعريفها، وهذا المعنىٰ غير موجود فيمن ينشد لقطة المسجد الحرام، لأن تعريفها لمصلحة مالكها وحفظها، إذ أن الملتقط ليس له تملّكها كما علمت.
هذا والذي نراه أن هذا الكلام لا ينطبق علىٰ النداء علىٰ الضالة بالمكبرات الصوتية في هذه الأيام، التي ينادي بها للصلوات، لأن الصوت لا يكون في المسجد، وكل ما هنالك هو استعانة بهذه المكبرات لأنها توصل النداء إلىٰ أمكنة لا تصل إليها أصوات الناس، ولعل الحاجة داعية إلىٰ ذلك ولاسيما في المدن التي اتّسعت رقعتها، وكثر ساكنوها، مع كثرة الانتقال بين أحيائها وبقاعها. فلا داعي لاستنكار هذا النداء وإن كان الأوْلىٰ الاستغناء عنه، اللَّهمّ إلا إذا كان نداءً من أجل ضياع طفل أو طفلة، فإننا نرى أنه قد يكون واجباً، لما فيه من إحياء النفس، ودفع ترويع أهله عليه، وكفكفة دمعه الذي قد يطول حتىٰ يعثر عليه أهله لولا هذا النداء، والله تعالىٰ أعلم.
للملتقط أن يقوم بالتعريف بنفسه وله أن يقوم به بغيره، فإن احتاج إلىٰ نفقة كانت هذه النفقة علىٰ المالك، لأنه لمصلحة ملكه، فإما أن يدفعها القاضي من بيت المال، وإما أن يقترض من الملتقط أو غيره على المالك، أو يأمر الملتقط بدفعها ليرجع بها على المالك، او يبيع جزءاً منها في ذلك، فإن أنفق الملتقط من ماله دون إذن الحاكم كان ذلك تبرعاً منه، لا يلزم به المالك إن ظهر.
اللقطة قد تكون حيواناً وقد تكون غير حيوان، وغير الحيوان قد يكون مما يبقى وقد يكون مما يفسد، ولكلٍّ حكم:
١- فإن كان حيواناً: فإن شاء أبقاه وأنفق عليه بإذن الحاكم، ليرجع علىٰ صاحبه عند ظهوره بما أنفق، فإن لم يجد حاكماً أشهد علىٰ ذلك، فإن أنفق دون إذن ولا إشهاد كان متبرعاً، ليس له أن يرجع بما أنفق.
وإن شاء باعه بإذن الحاكم وحفظ ثمنه.
وله - إن أخذه في مكان لا يتيسر فيه البيع -أن يتملكه حالاً ثم يأكله، ويغرم قيمته- يوم تملكه- لصاحبه إن ظهر.
٢- وإن كان غير حيوان مما يسرع إليه الفساد: فهو مخيّر بين أن يأكله ويغرّم قيمته، أو يبيعه بإذن الحاكم ويحفظ ثمنه.
٣- وإن كان يبقى بعلاج: - كتجفيف ونحوه -كرطب يجفّف، ولبن يصنع أقطاً: وجب على الملتقط أن يفعل ما هو الأصلح للمالك والأنفع من الأمور التالية:
أن يبيعه كله بإذن الحاكم ويحفظ ثمنه،
أو يعالجه ليبقى متبرّعاً بعلاجه، فإن لم يتبرع بذلك بيع بعضه -بإذن الحاكم- بقدر ما يعالج به الباقي.
٤- وإن كان مما يبقى أبداً بدون علاج: وجب عليه حفظه مدة التعريف اللازمة. وينبغي أن ينتبه إلىٰ أنه: في الحالات التي تُباع فيها العين الملتقطة، ويحفظ فيها ثمنها، لابد من استمرار التعريف بها المدة اللازمة، ويكون التعريف للعين الملتقطة لا للثمن.
للملتقط أن يتملّك العين الملتقطة إن كانت باقية -أو ثمنها حال بيعها كما في الصور السابقة- بعد انتهاء مدة تعريفها اللازمة، فإذا تملّكها صارت مضمونة عليه، ويغرَّم قيمتها لصاحبها إن ظهر يوم تملّكها، أخذاً من النصوص السابقة: "ثم عرّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ... ".
ويتملّكها بلفظ صريح كقوله تملكت هذه، أو كناية -كأخذت ونحوه- مع النّية، وقيل: يتملّكها بمضيّ مدّة التعريف اكتفاء بقصد التملّك، ولا يحتاج إلىٰ لفظ .
علىٰ الملتقط أن يحفظ اللقطة في حرز مثلها، وكذلك ثمنها في حال بيعها، وهو غير ضامن لما يصيبها دون تعدٍّ أو تقصير، لأنه متبرّع بالحفظ، وهذا ما صرّحت به الأحاديث: "ولتكن وديعة عندك".
فهي غير مضمونة عليه خلال مدة التعريف وكذلك بعده إن لم يتملكها، فإذا تملكها أو تملك ثمنها صار ضامناً، وعليه -كما سبق- أن يغرَّم قيمتها يوم التملك إن ظهر صاحبها.
إذا جاء مَن يدّعي اللقطة وأنها ملكه سأله الملتقط عن أوصافها، فإن وصفها وأحاط بجميع أوصافها، وغلب علىٰ ظن الملتقط صدقه جاز له أن يدفعها إليه عملاً بقوله ﷺ : «فإن جاء صاحبها، وعرف عفاصها ووكاءها وعددها، فأعطها إياه» [مسلم: في أوائل كتاب اللقطة، في رواية من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه].
فإذا دفعها إليه برئت ذمته، ولا يضمن فيما لو ظهر كاذبًا.
والأصح أنه لا يجب عليه أن يدفعها إليه حتىٰ ولو وصفها بدقة، وغلب علىٰ ظنه صدقه، إلا إذا أقام بيَّنة عند القاضي وحكم بها علىٰ الملتقط، لقوله ﷺ:«لَوْ يُعْطَى الناسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قومٍ ودِماءَهُمْ ولَكِنَّ البَيِّنَةَ على المُدَّعِي، واليَمِينَ على مَنْ أنْكَرَ ». [البخاري: التفسير/ آل عمران، باب: "ان الذين يشترون بعهد الله .. " رقم: 4277. ومسلم: الأقضية، باب: اليمين على المدعي عليه، رقم: 1711].
فلا يعطي أحد شيئاً بمجرّد دعواه أنه له، حتىٰ يثبت ذلك بالبيِّنة أو ما يقوم مقامها حسب الدعوىٰ.
تنبيه: في كل موضع ذكر إذن القاضي أو إخباره وما إلىٰ ذلك: في حال إمكان ذلك، وعدم خوفه أخذها ظلماً وضياعها علىٰ مالكها، فإن خاف شيئًا من ذلك لم يرجع إليه، والله تعالىٰ أعلم.