المحتويات:
تعريفها
مشروعيتها
الهبة للأقارب
المكافأة على الهبة
حكمة مشروعيتها
أركان الهبة وشروطها
العمرىٰ والرقبىٰ
هبة ما كان مشغولاً أو متصلاً به
هبة المشاع
لزوم الهبة بالقبض
شروط القبض
القبض بطريق النيابة
حكم الهبة
صفة حكم الهبة وحكم الرجوع فيها
الهبة المطلقة والهبة بثواب
التسوية فى الهبة للأولاد وعطاياهم
المساواة بين الوالدين فى العطايا
المساواة بين الإخوة فى الهبات
هي في اللغة: العطية التي لم يسبقها استحقاق، وفيها نفع للمعطَى له. وبهذا المعنى تكون في الأعيان وغيرها.
- فمن ورودها في الأعيان: قوله تعالى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى49].
وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم 39].
- ومن ورودها في غير الأعيان: قوله تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} [آل عمران8].
- وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب50] أي يحلّ لك يا محمد ﷺ أن تتزوج بالمرأة المؤمنة التي فوّضت أمرها إليك، ورضيت أن تتزوجها بغير مهر، فيحلّ لك ذلك.
- قيل: أصل معناها من هبوب الريح، لما في ذلك من العطاء.
- وقيل: مَن هبَّ من نومه، إذا استيقظ، فكأن فاعلها استيقظ وانتبه للعطاء.
وهي في الاصطلاح الشرعي: عقد يفيد تمليك العين بلا عوُض، حال الحياة، تطوعاً.
أي إن عقد الهبة يرد على تمليك ذات الشيء الموهوب للموهوب له، دون أن يتوجب عليه ردّ بدل لهذا الشيء، فهو بهذا يختلف عن البيع الذي هو تمليك بعوض.
وكذلك هذا التمليك يكون حال الحياة، وبهذا تختلف الهبة عن الوصية، التي هي تمليك بلا عوض، ولكن بعد الموت.
كما تختلف الهبة عن الزكاة التي هي تمليك واجب على المزكّي، بينما الهبة تمليك على سبيل التطوع والتبرع.
والهبة بهذا المعنى تشمل الهدية والصدقة، فإن كلاً منهما تمليك للعين بلا عوض في حال الحياة تطوعاً، وإن كان بين هذه الثلاثة شيء من الاختلاف في المعنى والحكم:
- فالهبة: بالمعنى الذي سبق عامّةُ، سواء أكانت من غني لفقير أم لا، وقصد بها الثواب في الآخرة أم لا، نُقلت العين الموهوبة للموهوب أم لا.
- أما الصدقة: فالظاهر أنها تمليك للمحتاج، تقرباً إلى الله تعالى وقصداً للثواب في الآخرة غالباً.
- وأما الهدية: فالظاهر أنها تمليك لمن يرغب بالتقرّب والتحبّب إليه من الناس، وغالباً ما يكون مع ذلك نقل للموهوب إلى مكان الموهوب له.
وهذا الفارق بين الصدقة والهدية يظهر في قوله ﷺ حين طلب أن يُطْعَم من اللحم - الذي رآه يطبخ وقيل له: إنه لحم تُصُدِّق به على بريرة فقال: " هو عليها صدقةُ، وهو لنا هديَّةّ " [أخرجه البخاري في الزكاة، باب: إذا تحولت الصدقة، رقم: 1424. ومسلم في الزكاة باب: إباحة الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 1074] أي فقد اختلف القصد في العطاء، فاختلف الاسم والحكم.
ولهذا المعنى كان النبي ﷺ يقبل الهدية ويأكل منها، بينما كان لا يأكل من الصدقات. فقد روى البخاري ومسلم - واللفظ لمسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان إذا أُتِىَ بطعام يسأل عنه: فإن قيل هدية أكل منها، وإن قيل صدقة لم يأكل منها. [البخاري: كتاب الهبة، باب: قبول الهدية، رقم: 2437. ومسلم في الزكاة، باب: قبول النبي ﷺ الهدية وردّه الصدقة، رقم: 1077].
وكذلك لابدّ في الهبة من الإيجاب والقبول، كما سيأتي، بينما لا يشترط هذا في الصدقة أو الهدية:
أما الصدقة: فما أكثر ما كان رسول الله ﷺ يتصدق، وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم، ولم يُعهد أو يُنقل أنه كان يَجري إيجاب وقبول بين المتصدِّق ومن يتصدّق عليه.
وأما الهدية: فقد ثبت أن الناس من أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يتحرون بهداياهم يوم وجود رسول الله ﷺ عند عائشة رضي الله عنها. ولم يُنقل أنه كن يحصل إيجاب وقبول بينهم وبينها، أو بينهم وبينه [انظر البخاري: كتاب الهبة، باب: قبول الهدية، رقم، 2435. ومسلم: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها، رقم: 2441].
الهبة - بالمعنى العام الشامل الذي سبق بيانه - مستحبة ومندوب إليها، دلّ على ذلك: الكتاب، والسنّة، والإجماع.
أما الكتاب:
فمن ذلك قوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء4] أي إذا وهبكم أزواجكم شيئاً من مهورهن - بعد إعطائهنّ ذلك المهر حقاً مفروضاً لهنّ - وكانت نفوسهنّ راضية بتلك الهبة، فما وهبنه لكم كسب طيب حلال، فكلوه سائغاً لذيذاً، ولا حرج عليكم في أكله ولا مؤاخذة عليكم في أخذه.
ومنه قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (1) [البقرة177]
(1) البر: كلمة جامعة لكل خير. تولوا وجوهكم: تديروها وتتوجهوا وتستقبلوا بها. قِبَل: نحو وجهة.
آتى: أعطى. على حبه: أي أعطى المال مع حبه له وتعلق قلبه به. أو: أعطاه ونفسه راضية بهذا العطاء غير كارهة له. في الرقاب: في تحرير العبيد
فقد شملت الآية بالعطاء المحتاجين وغيرهم، وإعطاء المحتاجين صدقة، وإعطاء غيرهم هبة.
وأما السنة:
فإن الأحاديث في مشروعية الهبة كثيرة، سيأتي بعض منها خلال البحث، ومنها:
ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قد كان لرسول الله ﷺ جيران من الأنصار، كانت لهم منائحُ، وكانوا يمْنَحُون رسول الله ﷺ من ألبانِهم فيسقينا [البخاري: الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، رقم: 2428. مسلم في الزهد والرقائق، رقم: 2972].
[والمنائح جمع منيحة، وهي العطية، والمراد بها هنا الناقة أو الشاة التي فيها لبن. ويمنحون: أي يجعلون ذلك منحة له، أي عطية].
ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال " يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة " [البخاري في الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، رقم: 2427. ومسلم في الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بالقليل، رقم: 1030].
[أي لا تستصغرن جارة شيئاً يتقدمه لها جارتها عطية وهبة، فتمتنع من قبوله، ولو كان المقدم والمعطى فرسن شاة، وهو ما دون الرسغ من يدها، وقيل: عظم قليل اللحم. أو المراد لا تستصغر ذلك فتمتنع عن هبته لجارتها، بل لتقدّمه لها، فإن في ذلك جلباً للمحبة والألفة].
ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: "لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلى ذراع أو كراع لقبلت " [أخرجه البخاري في الهبة، باب: القليل من الهبة، رقم: 2429].
[ذراع: هو اليد من كل حيوان. كراع: هو ما استدق من ساق الحيوان].
وأما الإجماع:
فقد اجمع فقهاء المسلمين في جميع العصور على استحباب الهبة بكل أنواعها لأنها من باب التعاون، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
وإذا كانت الهبة مشروعة ومندوباً إليها، مطلقاً، فهي للأقارب أشد استحباباً وأكثر ندباً وأفضل ثواباً وأجراً، لما يكون فيها - إلى جانب البّر والتعاون - من صلة الرحم. وقد حثّنا الله تعالى في كتابه على صلة الرحم فقال سبحانه: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء1] أي اتقوا الأرحام من أن تقطعوها.
وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: " من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه " [أخرجه البخاري في البيوع، باب: من أحب البسط في الرزق، رقم: 1961. ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم: 2557].
[يُبسط له: يوسَّع عليه ويبارك له فيه. ينسأ له في أثره: يطيل الله عمره ويؤخر له فيه].
ويستحب لمن وهب له شيء أن يكافئ الواهب على هبته إن تيسر له ذلك، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ يقبل الهدية ويثبت عليها [أخرجه البخاري في الهبة، باب: المكافأة في الهبة، رقم: 2445].
يهدف الإسلام لإقامة المجتمع المثالي المتكامل، الذي يقوم على أساس من المحبة والوّد، والصلة والقرْب. ولذا يشرع كل ما من شأنه أن يقوّي روابط القرب بين الأفراد، ويحقق التوادد والألفة بين الناس. والهبة من الوسائل الناجحة التي تحقق هذا المعنى، لما فيها من تعبير عن الإكرام والودّ والاحترام. والإنسان مفطور على حب من أكرمه وأحسن إليه، وأظهر له ودّه واحترامه.
وحديث رسول الله ﷺ صريح في هذا المعنى إذ يقول: " تهادَوْا تحابَّوا " [أخرجه مالك مرسلاً في كتاب حسن الخلق، باب: ما جاء في المهاجرة: 2/ 908] ويقول " تهادوا، فإنّ الهديَّة تُذْهبُ وحَرَ الصّدْر " أي غلَّه والحقد الذي قد يكون فيه. [أخرجه الترمذي في أبواب الولاء، باب: ما جاء في حثّ النبي ﷺ على التهادي، رقم: 2131].
وحتى يتحقق هذا المعنى كاملاً نجد رسول الله ﷺ يحثّ من وُهِبَ له شيء أن يقبله ولا يردّه، لما في الرد على الواهب من إيذاء له، إذ قد يشعر باستصغاره وعدم الاكتراث به.
وقد مرّ بك قوله ﷺ: " لا تحقرن جارة لجارتها ولو فْرِسِنَ شاة " وروى الإمام أحمد في مسنده: عن خالد بن عدي رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: " من بلغه معروف عن أخيه، من غير مسألة ولا إشراف نفس، فليقبله ولا يردّه، فإنما هو رزق ساقه الله عز وجل إليه ". [مسند أحمد: 4/ 221].
وإذا كان هناك سبب شرعي معتبر لعدم القبول ينبغي أن يبيِّنه، حتى لا يبقى في نفس الواهب شيء، كما فعل رسول الله ﷺ حين أُهدي له صيد وهو مُحرِم.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: أنه أهدى لرسول الله ﷺ حماراً وحشياً، وهو بالأبواء أو بودّان، فردّه عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: " أما إنا لم نَرُدَّه عليك إلا أنا حُرُمٌ " [ البخاري: الإحصار وجزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل، رقم: 1729. ومسلم في الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، رقم: 1193].
[حماراً وحشياً: هو الحمار المخطط المعروف، وهو من الأنعام المأكولة اللحم. الأبواء وودّان: اسما موضعين بين مكة والمدينة. ما في وجهة: أي من الحزن والكراهية لردّه ﷺ، لأنه قد يكون سبب غضب منه وعدم رضا عنه. حُرُم: محرمون، يمتنع علينا أخذ ما صِيدَ لنا].
للهبة أركان ثلاثة، وهي: عاقدان، وصيغة، وموهوب. ولكلَّ من هذه الأركان شروطها نبينها فيما يلي:
ويشترط في الواهب: أن يكون مالكاً للموهوب، وأن يكون أهلاً للتبرع، مطلق التصرف في ماله، فلا تصحّ هبة ما لا يملكه، كما لا تصح هبة الصغير والمجنون، لأنها ليسا أهلاً للتبرع ولا يملكانه، لأنه ضرر محض. ولهذا لا يملك وليُّهما أيضاً هبة شيء من مالهما، لأنها تبرع لا يقابله نفع دنيوي، فهي لذلك ضرر محض لا يملكه الولي، لأن ولايته قاصرة على وجوه النفع لمن تحت ولايته.
وكذلك لا تصحّ الهبة من المحجور عليه في ماله، لسفه أو فلس.
ويشترط في الموهوب له: أن يكون أهلاً لتملك ما وهب له، فتصح الهبة لكل إنسان مولود، وغير المكلف - كالصبي والمجنون - يقبل عنه وليّه. ولا تصح الهبة للحمل لأنه لا يملك ملكاً اختيارياً.
فمن الإيجاب أن يقول: وهبتك، ونحلتك، وملّكتك بلا ثمن، وأعطيتك. وكذلك: أطعمتك هذا الطعام، وجعلت هذا الثواب لك.
فهذه ألفاظ بعضها صريح في الهبة لاستعمالها فيها، وبعضها يجري مجرىٰ الصريح لدلالته على التمليك في الحال بلا عوض، وهو معنى الهبة. فهذه الألفاظ لا تحتاج إلى نيّة، ولو ادّعى قائلها وعدم إرادة الهبة به فلا يُصدق بدعواه.
وهناك ألفاظ في الإيجاب ليست صريحة في الهبة ولا تجري مجرىٰ الصريح فيها، فتحتاج إلى نيّة مثل قوله كسوتك هذا الثوب، وحملتك على هذه الدابة، فمثل هذه الألفاظ كناية في الهبة، فإن نواها انعقدت بها، وإن قال: لم أرد بها الهبة صدق في ذلك وكانت عارية وإنها تحتمل العارية وتصلح لها، كما تحتمل الهبة.
ولو قال: منحتك هذا الشيء، أو هذا الشيء لك منحه، فهو هبة، لأن هذا اللفظ مستعمل في الهبة صراحة.
وأما القبول فأن يقول: قبلت، أو رضيت، أو اتهبت.
ويشترط في الصيغة:
1 - اتصال القبول بالإيجاب، بحيث لا يفصل بينهما فاصل معتبر عرفاً.
2 - عدم تقييدها بشرط: كأن يقول: إن قدم زيد فقد وهبتك هذا الثوب، لأن الهبة تمليك، والتمليكات لا تحتمل التعليق بما له خطر الوجود والعدم، فلم يصحّ الإيجاب.
3 - عدم تقييدها بوقت: كوهبتك هذا الكتاب شهراً أو سنة، لأنه شرط منافٍ لمقتضى العقد، الذي هو التمليك المطلق للحال.
العمرىٰ والرقبىٰ:
ا- العمرىٰ:
مأخوذة من العُمُر، وهي أن يقول الواهب للموهوب له: أعمرتك هذه الدار، أو جعلت هذه الدار لك عمري، أو عمَرك، أو حياتك أو حياتي، فإذا متّ فهي لورثتي.
وهذه صيغ من صيغ الهبة كما ترى، ولكنها مقيدة بوقت وهو عمر الواهب أو الموهوب له. وقد علمت أن من شرط صيغة الهبة عدم التقييد بوقت، ومع ذلك فالهبة صحيحة والشرط باطل ولاغٍ، استثناء من المنع السابق، لما صحّ في ذلك من أحاديث عن رسول الله ﷺ.
فقد روى البخاري ومسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: "العمرىٰ جائزة".
ورويا أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: قضى النبي ﷺ بالعمرىٰ أنها لمن وهبت له، وفي رواية عند مسلم: قال رسول اللهﷺ: "العُمرىٰ لمن وهبت له".
[أنظر البخاري: الهبة، باب: ما قيل في العمرىٰ والرقبىٰ ومسلم: الهبات، باب: العمرىٰ].
وروى مسلم أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ
"أمسكوا عليكم أموالكم ولا تُفْسدُوها، فإنَّه من أعْمَرَ عُمْرىٰ فهي للذي أعمرها، حياً وميتاً، ولا عقبه" [مسلم: الهبات، باب: العمرىٰ].
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم: (المراد به إعلامهم أن العمرىٰ هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكاً تاماً لا يعود إلى الواهب أبدأ، فإذا علموا ذلك: فمن شاء أعمر ودخل على بصيرة، ومن شاء ترك لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية ويرجع فيها).
ب- الرقبىٰ:
وهي أن يقول الواهب لغيره: داري لك رقبىٰ، أو: أرقبتك هذه الدار، أو: جعلتها رقبىٰ. ومعناها: إن متَّ قبلي عادت إليّ، وإن مت قبلك استقرت لك. فهي مأخوذة من الرقوب والترقب وهو الانتظار، لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه وينتظره.
وهذه الصيغة أيضاً من صيغ الهبة المعتبرة شرعاً، رغم تقييدها بشرط فهي هبة صحيحة، والشرط لاغٍ، لورود السنّة بصحتها كالعمرىٰ.
روى جابر رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال: "العُمْرَىٰ جائزةّ لأهْلها والرُّقْبىٰ جائزة لأهلها": أي نافذة وماضية. [أخرجه الترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في الرقبىٰ، رقم: 1351، وقال: هذا حديث حسن. وأبو داود في البيوع، باب الرقبىٰ، رقم: 3558. وإبن ماجه في الهبات، باب: الرقبىٰ، رقم: 2383].
وهذا استثناء أيضاً من بطلان الهبة المقيدة بشرط كما علمت.
جاء في ((مغني المحتاج)): قال السبكي: وصحة العمرىٰ والرقبىٰ بعيد عن القياس، لكن الحديث مقدَّم على كل أصل وكل قياس.
الركن الثالث من أركان الهبة محل العقد وهو الموهوب، والقاعدة في هذا أن ما جاز بيعه جازت هبته، ومنها تستخرج شروط الموهوب، وهي:
ا- أن يكون موجوداً وقت الهبة: فلا تصح هبة ما كان مفقوداً حال العقد، لأن مقتضىٰ الهبة التمليك للحال , وتملك المعدوم على هذا مُحال، فتبطل الهبة.
ومثاله: ما لو وهبه ما ستثمر نخيله هذه العام، أو ما ستلد أغنامه هذه السنة.
ومثل المفقود حقيقة المفقود حكماً، كما لو وهبه ما في بطن هذه الشاة
أو ما ضرعها، فلا تصح الهبة وإن سلطه على القبض عنده الولادة والحلب، لأنه لا وجه لتصحيح الملك للحال لأن اللبن والحمل في حكم المفقود حال العقد، لاحتمال وجوده وعدمه، لأن انتفاخ البطن قد يكون للحمل وغيره، وكذلك انتفاخ الضرع قد يكون باللبن وبغيره.
ولا وجه لتصحيح الملك بالإضافة إلى ما بعد الحدوث، لأن التمليك بالهبة مما يحتمل الإضافة إلى الوقت.
ب- أن يكون مالاً متقوماً: فلا تصح هبة الميتة، ولا الدم، ولا الخنزير ولا الخمر، ولا صيد المحرم أو الحَرَم، لأن هذه الأشياء ليست أموالاً متقوّمة شرعاً.
ج- أن يكون مملوكاً للواهب: فلا تصح هبة ما ليس مملوكاً بنفسه كالمباحات (1) كما لا تصح هبة مال غيره بغير إذنه، لأن الهبة تمليك، وتمليك ما ليس بمملوك محال.
(1) المباحات: هي ما يباح لكل إنسان أن يتملكه بالإحراز، كالحيوانات البرية والبحرية غير المملوكة، والعشب ونحوه فلا تصحّ هبته قبل حيازته وإحرازه، لأنه غير مملوك قبلها.
حسب القاعدة السابقة: أن ما جاز بيعه جازت هبته، ينظر:
فإن كان الموهوب المتصل بغيره يمكن تمييزه عنه دون إلحاق ضرر به، ولا غرر في هذا، صحت الهبة فيه، يجوز بيعه. كما لو وهبه ذراعاً من أرض أو ثوب لا تنقص قيمته بقطعة منه.
وإن كان الموهوب المتصل بغيره لا يمكن تمييزه عنه إلا بضرر، كما لو وهبه نصف سيفه، أو كان في تمييزه عسر أو كان في ذلك غرر، كما لو وهبه الصوف على ظهر الغنم، فإنه يعسر تمييزه الموهوب عن غيره، لأنه ينبغي جزّه من أصله، وهو غير ممكن، وكذلك قد يحدث شعر جديد، فيختلط بالذي كان حال الهبة، ولا يمكن تمييزه، ويكون في ذلك غرر أيضاً، فلا تصح الهبة لأن بيع ذلك غير صحيح.
فإذا وهبه ثمراً على رأس الشجر: فإن كان مما يغلب تلاحقه واختلاط حادثة بالموجود فلا يصح، لتعذر تمييزه. وإن لم يكن كذلك فإنه يصح.
هذا فيما كان متصلاً بغيره.
أما إن كان مشغولاً بغيره، كدار فيها متاع للواهب أو دابة عليها حمل له، أو شجر عليه ثمر، فإن هبة ذلك كله جائزة وصحيحة، لأن تمييز الموهوب على غيره ممكن، ولا عصر فيه ولا ضرر ولا غرر. ولأن بيع ذلك جائز وصحيح.
وذلك بأن يكون لإنسان حصة غير معينة في شيء، فيهبها لآخر. أو يكون مالكاً لشيء فيهبه لأثنين أو أكثر فالهبة جائزة وصحيحة.
ويكون القبض في الموهوب بقبض الموهوب له جميع العين، فيستوفي حقه بمقدار حصته منها، ويكون باقيها أمامها في يده كالوديعة والحجة بهذا:
أ- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كنت يوماً جالساً مع أصحاب النبي ﷺ في منزل في طريق في مكة، ورسول الله ﷺ نازل أمامنا، والقوم مُحرِمون وأنا غير مُحرِم، فأبصروا حماراً وحشياً، وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنني به، وأحبّوا لو أني أبصرته، والتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيء فغضبت فنزلت فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهم حُرُم، فرحنا، وخبأت العضد معي، فأدركنا رسول الله ﷺ، فسألناه عن ذلك، فقال: "معكم منه شيء؟ " فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكلها حتى نفدها، وهو مُحرِم [البخاري: الهبة، باب، من استوهب من أصحابه شيئاً، رقم: 2431. ومسلم: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، رقم: 1196].
فهذا الحديث دليل على جواز هبة المشاع، لأن أبا قتادة هو الذي ملك الصيد، ووهب أصحابه حصصاً شائعة منه، وأقراهم رسول الله ﷺ على فعلهم.
ب - ما رواه مالك والنسائي وأحمد عن عمير بن سَلَمه الضمري عن البهريّ: أن رسول الله ﷺ خرج يريد مكة وهو محرم، حتى إذا كان بالروحاء، إذا حمارُ وحشي عقير، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فقال: " دعُوهُ، فإنّه يُوشكُ أنْ يأتيَ صاحبُه " فجاء البهري وهو صاحبه، إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله شأنَكُمْ بهذا الحمار. فأمر رسول الله ﷺ أبا بكر، فقسمه بين الرفاق. (انظر الموطأ: الحج، باب: ما يجوز للمحرم أكله من الصيد. والنسائي: مناسك الحج، باب: ما يجوز للمحرم أكله من الصيد).
قالوا: وهذا الخبر صريح في صحة هبة المشاع، إذ وهب الواحدُ للجميع.
ج - وقالوا أيضاً: القصد من الهبة التمليك، والملك يثبت في المشاع كما يثبت في المُفْرَز المقسوم، بدليل صحة بيعه.
عقد الهبة لا يكمل ولا يلزم بمجرد الإيجاب والقبول، بل يبقىٰ عقداً غير لازم من قبل الواهب، فيحقّ له الرجوع بالهبة والتصرف بالموهوب ما دام في يده. وعليه فلا يستقر ملك الموهوب للموهوب له إلا بعد القبض.
فإذا حصل القبض بشروطه الآتية فقد تم عقد الهبة وكمل، وأصبح عقداً لازماً، واستقرت فيه ملكية الموهوب له للعين الموهوبة.
والدليل على أن الهبة لا تملك ملكاً تاماً إلا بالقبض:
أ - ما رواه الحاكم وصحح إسناده: أن رسول الله ﷺ لما تزوج أُم سلمة رضي الله عنها قال لها: " إنّي أهديتُ إلى النجاشيِّ أوَاقاً من مسْك وحُلة، وإني لا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديتُ إليه إلا ستردُّ، فإذا رُدت إليّ فهو لكِ أو لكنَّ ". فكان كما قال، هلك النجاشي، فلما ردّت الهدية أعطى كل امرأة من نسائه أوقيَّة من ذلك المسك، وأعطىٰ سائرَه أم سلمة، وأعطاها الحُلَْةَ.
[المستدرك: كتاب النكاح، باب: حق الزوجة على الزوج 2/ 188].
فلو كانت الهبة تلزم بدون قبض - والهدية منها - لما رضي ﷺ برجوعها إليه، بل كان يردّها إلى ورثة النجاشي، لأنها تعتبر من تركته حينئذ. فقبوله ﷺ لردّها دليل على أنها لم تثبت ملكيتها للمُهدىٰ له قبل قبضها.
ب - ما رواه مالك في الموطأ: عن عائشة رضي الله عنها - زوج النبي ﷺ أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نَحَلَها جادَّ عشرينَ وَسْقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله - يا بُنَّيُه - ما من الناس أحد أحبَّ إلى غنى بعدي مْنك، ولا أعَزَّ عليَّ فقراً بعدي منك، وإني كنتُ نحلتك جادَّ عشرين وسْقاً، فلو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارثٍ، وإنّما هما أخواك وأُختاك، فاقتسموه على كتاب الله. قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماءُ، فمن الأُخرىٰ؟ فقال أبو بكر: ذو بَطْن بنت خارجة، أراها جارية (1).
(١) [نحلها: أعطاها بلا عوض، وهي الهبة. جادّ عشرين وسقاً: أي ما يقطع منه هذا القدر، والوسق مكيال يتسع لما يزن (140) كيلوغرام تقريباً. بالغابة: موضع قريب من المدينة على طريق الشام. أعزّ: أشقّ وأصعب. احتزتيه: قبضتيه وجعلتيه في حوزتك. ذو بطن: الحمل الذي في بطنها. أُراها جارية: أظنها بنتاً].
وهذا صريح في أن الهبة لا تملك إلا بالقبض.
ج - روى مالك أيضاً: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما بال رجال يَنْحَلُونَ أبناءهم نحلاً ثم يمسكُونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي لم أعطه أحداً، وإن مات هو قال: هو لابني، قد كنت أعطيته إياه؟ من نحل نحْلَةً، فلم يَحُزْها الذي نُحِلَها، حتى يكونَ إن مات لورثته، فهي باطلة (2).
(1) (الموطأ: كتاب الأقضية، باب: مالا يجوز من النحل).
(2) المرجع المذكور في الحاشية السابقة.
[إن مات هو: أي حضرته أسباب الموت وأيقن به].
حتى يصح القبض وتلزم الهبة لابدّ من تحقق شروط فيه، وهي:
أ - إذن الواهب:
يشترط لصحة القبض أن يكون بإذن من الواهب، فلو قبضها الموهوب له قبل إذنه لم يصحّ القبض ولم تتم الهبة ولم تلزم. أي تبقى ملكية الموهوب للواهب، ويضمنه الموهوب له بقبضه بغير إذن.
ويشترط أن يكون الإذن بالقبض صراحة، أو أن يُْقبض الواهب الموهوب بيده للموهوب له، سواء أكان ذلك في مجلس عقد الهبة أم بعده، وسواء أكان الموهوب في يد الموهوب له أم لا. فلو قبضه بلا إذن صريح أو إقباض لم يصح القبض، ولو رأى ذلك الواهب وسكت عنه.
ب - أن لا يكون الموهوب مشغولاً بما ليس بموهوب:
لأن الفراغ شرط صحة التسليم والقبض ولم يوجد. ولأن معنى القبض التمكّن من التصرّف في المقبوض، وهو لا يتحقق مع الشغل بغيره. فإذا فرغ الموهوب من الشغل بغيره وسلم صحّ القبض.
وكذلك لو كان الموهوب متصلاً بغيره اتصال خلقة، كأرض فيها زرع، أو شجر عليه ثمر، فإذا ميز الموهوب عن غيره وسُلِّم صح القبض.
وقد مرّ بك كلام نحو هذا في شروط الموهوب، وأنه يشترط فيه أن يكون متميزاً عن غيره غير متصل ولا مشغول به، على النحو الذي فُصِّل وبين.
ج - أهلية القبض:
يشترط فيمن يقبض الهبة أن يكون أهلاً للقبض، وهو البالغ العاقل، فلا يصح قبض الصبي والمجنون، لأن القبض من باب الولاية، وغير البالغ والعاقل لا ولاية له على نفس أو مال، فلا يصحّ قبضه.
وهو القبض لمن لا يصحّ قبضه كالصبي والمجنون، فيشترط في صحة هذا القبض أن يكون للقابض ولاية على المقبوض له، أو عيلة: بأن يكون الصبي أو غيره في حجر وعيال مَن يقبض له، أي في رعايته وتربيته.
ويجوز قبض الزوج عن زوجته الصغيرة بعد الزفاف، لأنها صارت في عياله. ويملك ذلك مع وجود وليّها على الصحيح ولو كان أباها، لأنه فوض أمورها إليه بزفافها، بخلاف ما قبل الزفاف، لأن هذا المعنى لم يحصل، ولأنها لم تدخل في عياله.
وإذا وهب أحد من الأولياء شيئاً لمن تحت ولايته صحّت الهبة، وملكه الموهوب له بمجرد العقد، لأن الموهوب في قبض الولي فينوب عن قبض الهبة. ويكفي أن يعلم بما وهبه له، وإن أشهد على ذلك فهو أولى، تحرزاً من إنكاره لذلك فيما بعد، أو إنكار الورثة بعد موته.
ومثل الأولياء مَن يكون الصبي وغيره في عياله وحجره ولو كان أجنبياً، فإنه إذا وهبه شيئاً ملكه بالعقد واعتبر وجود الموهوب في يده قبضاً له عن الهبة.
إذا تم عقد الهبة، بتوفر شروطه: في الواهب والموهوب له والصيغة، والموهوب، وتم القبض للعين الموهوبة بشروطه السابقة، ترتب على ذلك حكم الهبة، وهو: ثبوت الملك للموهوب له في الموهوب من غير عوض. لأن الهبة تمليك العين بلا عوض - كما مرّ معنا - فكان حكمها ملك الموهوب من غير عوض.
إن حكم الهبة الذي سبق ذكره يثبت على سبيل اللزوم، بمعنى أنه ليس للواهب أن يرجع بالهبة بعد ثبوت حكمها على النحو الذي سبق.
ويستثنى من ذلك: هبة الأصل للفرع، فإن له حق الرجوع فيها بعد ثبوت حكمها.
دلّ على ذلك:
قوله ﷺ: " العائدُ في هبته كالعائد في قَيْئِهِ ". وفي رواية: " ليس لنا مَثَلُ السَّوْءِ: الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قَيْئِه " [البخاري في الهبة، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هِبَتِه وصدقته، رقم: 2478، 2479. ومسلم في الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، رقم: 1622].
وجه الاستدلال بالحديث: أن الرجوع في القيء حرام، فكذلك ما شبه به وهو الرجوع بالهبة. وذكر الكلب في الرواية الأخرى مبالغة في الزجر والمنع.
ويؤكد هذا أيضاً قوله: " ليس لنا مثل السوء " أي ليس هذا التصرّف من شأننا ولا خلقاً من أخلاقنا، أي فهو محرم علينا.
وقوله ﷺ: " لا يحل لرجل أن يُعطِي عطية، أو يهب هبة، فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده ". قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. [أخرجه الترمذي في الولاء، باب: ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة , رقم: 2133. وأبو داود في البيوع والإجارات، باب: الرجوع في الهبة، رقم: 3539].
وقيس علىٰ الوالد سائر الأصول، كما قيس علىٰ الولد سائر الفروع.
ويمتنع رجوع الأصل بهبته لفرعه إذا خرج الموهوب من سلطانه وزال ملكه عنه، كما لو باعه أو وقفه أو وهبه لأحد وقبضه الموهوب له.
أما لو أجره، أو وهبه لأحد ولم يقبضه الموهوب له، فإن ذلك لا يمنع الرجوع، لأنه ما زال في سلطانه، ولم يزل ملكه عنه.
وكذلك إذا زاد الموهوب زيادة متصلة أو منفصلة، فإن هذا لا يمنع الرجوع، بل يرجع الواهب بالموهوب والزيادة المتصلة، كسمن دابة وحراثة أرض، لأن الزيادة المتصلة تبع للأصل.
أما الزيادة المنفصلة، كالولد والثمرة، فإن كانت موجودة عند الهبة رجع بها، وإن حدثت بعد الهبة فإنه لا يرجع بها بل تبقى للموهوب له، لأنها حدثت على ملكه.
وكذلك لو وهبه دابة غير حامل، أو شجراً لا ثمر عليه، ثم حملت الدابة أو أثمر الشجر قبل الرجوع، فإنه لا يرجع بالحمل أو الثمر، ولو لم ينفصل عند الرجوع، وإنما يرجع بالأصل، وتبقى الثمرة ملكاً للموهوب له، لأنها معلومة، وقد حدثت على ملكه.
ولو زال ملك الولد عن الموهوب، ثم عاد إليه بسبب آخر، كشراء أو هبة أو ميراث، لم يكن للوالد الرجوع فيه، لقيام تبدل سبب الملك مقام تبدل العين، فكأن الذي عاد غير عين الأول فلا حق له فيه.
إذا وهب إنسان لآخر شيئاً، ولم يشترط في ذلك إثابة على هبته أو تعويضاً عنها، فإنه لا يستحق شيئاً من ذلك، ولا يلزم الموهوب له بالتعويض، لأنه الهبة المطلقة لا تقتضي إثابة ولا تعويضاً، سواء أكان الواهب أعلى من الموهوب له، أم مثله، أم دونه.
وإن كانت الهبة بثواب، أي بشرط العوض، كأن يقول: وهبتك هذا على أن تثيبني كذا، أو وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني هذا الثوب، أو تهبني كذا، ونحوه، ينظر:
فإن كان العوض المشروط معلوماً: صح العقد وكان بيعاً على الصحيح، نظراً للمعنى، فإنه عقد معاوضة بمال معلوم فيصحّ، كما لو قال: بعتك كذا بكذا، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. ولذا تثبت فيه أحكام البيع، فيثبت فيه خيار المجلس، وخيار الشرط، والرد بالعيب، وغير ذلك من أحكام البيع.
وإن كان العوض المشروط مجهولاً: كأن يقول: وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني ثوباً، دون بيان لهذا الثوب أو تعيين له، أو على أن تعوضني شيئاً، فالعوض المشروط في هذه الحالة مجهول، فيكون العقد باطلاً، إذ لا يمكن اعتباره بيعاً لجهالة العوض، كما لا يمكن اعتباره هبة لذكر العوض، والهبة لا تقتضيه.
المراد بالهبات والعطايا هنا غير النفقة الواجبة، فيستحب للوالد - إذا أراد أن يهب أولاده ويعطيهم - أن يسوّي بينهم في الهبة والعطاء ذكوراً كانوا أم إناثاً، كباراً أم صغاراً، وذلك تمتيناً للمحبة فيما بينهم. ويُكره له أن يميز بينهم، وأن يفضل بعضهم على بعض، بزيادة أو خصوصية، لما يؤدي إليه ذلك من الحسد بينهم وبغض بعضهم بعضاً، وتفكك روابط الأسرة.
روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضىٰ حتىٰ تُشْهد رسول اللهﷺ، فأتىٰ رسول الله ﷺ فقال: إني أعْطَيْت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدَك يا رسول الله، فقال: " أعْطَيتَ سائر ولدك مثل هذا؟ " قال لا، فقال النبي ﷺ " فاتَّقوا الله واعدِلُوا بين أولادكم" قال: فرجع فرد عطيته [البخاري في الهبة، باب الإشهاد في الهبة، رقم: 2447. ومسلم في الهبات، باب: كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، رقم: 1623].
وهذا محل اتفاق بين العلماء، فقد أجمعوا على استحباب التسوية وإن اختلفوا في المراد منها وكيفيتها:
فجمهور الشافعية والحنفية على أن المراد بها أن تعطى الأُنثى مثل ما يعطى الذكر لظاهر الحديث.
ونقل عن محمد رحمه الله تعالى - من الحنفية - أن التسوية كقسمة الميراث، وإن كان نقل صاحب البدائع عنه ما يقتضي ظاهره موافقة الجمهور وقال: وهو الصحيح.
وحبذا لو أخذ الناس بهذا وعملوا به ولو كان قولاً مرجوحاً، إذاً لكان منهم بعض الإنصاف لبناتهم، ولم ينكصوا على أعقابهم، ويعودوا إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من حرمان الأُنثى من كل شيء، بحجة أن الذكر يتعب معهم، وأن ما يعطى للأنثى يذهب للغريب عن الأسرة، وهو زوجها وأولادها.
وهذا إذا كانوا متساوين في الحاجة، أو لم يرضوا بالتفضيل، أما لو كان أحدهم أكثر حاجة من الآخرين أو رضي الآخرون بإعطائه زيادة، فلا بأس ولا كراهية بأن يخصّ بعضهم بزيادة عن غيره.
ولو فضل الوالد بعض ولده على بعض، أو أعطى بعضاً ومنع بعضاً، صحّت هبته، وملكها الولد الموهوب له، وإن كان الأب قد ارتكب مخالفة الشرع، وفعل غير المطلوب والمندوب.
من واجب الوالد البرّ بوالديه والإحسان لهما:
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء: 36].
وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة.
ومن جملة البرّ والإحسان النفقة عليهما، وتقديم الهدايا والهبات والعطايا في المناسبات، ولاسيما في العيدين: الفطر والأضحى.
وكما تسنّ التسوية بين الأولاد في العطايا، تسنّ أيضاً بالنسبة للوالدين ولا بأس أن يفضل الأُم أحياناً ويخصّها بشيء من العطاء والإكرام، عملاً بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: " أمك " قال: ثم من؟ قال: " أمك " قال: ثم من؟ قال: " أبوك " [أخرجه البخاري في الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، رقم: 5626. ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: برّ الوالدين وأنهما أحق به، رقم: 2548].
وممن يجب على المسلم البرّ بهم والإحسان إليهم الإخوة والأخوات، قال الله تعالى {وَذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36].
وقال {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177].
وأقرب الناس إلى الإنسان بعد أولاده وأبويه: إخوته وأخواته، فينبغي أن يقدم لهم الهبات والهدايا، وخاصة في المناسبات.؟ وإذا فعل ذلك فيستحب له أيضاً أن يسوّي بينهم إذا كانوا في درجة واحدة من الحاجة، وإن أراد أن يخصّ بعضهم بشيء فليكن ذلك للأكبر، وذلك لقوله ﷺ: " حق كبير الإخوَةِ على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده " وفي رواية " الأكبر من الإخوة بمنزلة الأب " (رواه البيهقي في شعب الإيمان).