المحتويات:
تعريفها
مشروعيتها
حكمة مشروعيتها
حكمها
أركان الوديعة وشروطها
ما يترتب علىٰ عقد الوديعة
متىٰ تُضمن الوديعة؟
الوديعة عند اثنين
إيداع الاثنين عند واحد
انتهاء الوديعة
هي - في اللغة - ترك الشئ عند غير صاحبه ليحفظه، وتطلق علىٰ الشئ المتروك. مشتقة من الوَدْع وهو التَرْك، ورد في الحديث: «لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعِهم الجُمُعاتِ أو ليُختَمنَّ على قلوبِهم ثمَّ ليُكتبُنَّ من الغافلين». [مسلم: في الجمعة، باب: التغليظ في ترك الجمعة، رقم: 865]
والمراد بقوله: «ودعِهم الجُمُعاتِ» أي صلاة الجمعة، وتكرار ذلك منهم.
وهي في الاصطلاح الشرعي: تطلق ويراد بها الشئ المودوع، كما تطلق بمعنىٰ العقد وهو الإيداع، وهذا هو المقصود في الباب غالباً، وهي بهذا المعنىٰ: توكيل في حفظ مملوك، أو محترم مخصوص، علىٰ وجه مخصوص.
والمراد بالمملوك: ما يصحّ تملّكه شرّعًا، كالأعيان الطاهرة والمباحة الاستعمال، وبالمحترم المخصوص: ما لا يصحّ تملّكه شرعاً، ولكن يصح وضع اليد عليه والاختصاص به، كالكلب المعلّم، ومعنىٰ محترم: أي غير مأمور بإتلافه.
وسنوضح هذا عند الكلام عن أركان الوديعة.
الوديعة مشروعة، وقد دلّ علىٰ مشروعيتها القرآن والسنة والإجماع:
أمّا القرآن:
فقوله تعالىٰ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ} [البقرة: 283].
والأمانة لفظ عام، يتناول كل ما استُحفظ عليه الإنسان من دين أو عين، والائتمان علىٰ العين هو الوديعة. وأداؤها يعني: أن يكون المؤتمن موضع حسن ظن من ائتمنه، فيحفظ ما استودع عنده أو اؤتمن عليه، ويرده علىٰ صاحبه.
والأمر بردّ الأمانات وحفظها يتضمن الإخبار بمشروعيتها.
وأما السنّة:
-فما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي ﷺقال: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» [أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، رقم: 3535. والترمذي في البيوع، باب: حدثنا أبو كريب .. ، رقم: 1264].
ووجه الاستدلال بالحديث هو نفس الاستدلال بالآيتين.
-وروى أنه ﷺ كانت عنده ودائع لأهل مكة، فلما أراد الهجرة أودعها عند أم أيمن بركة الحبشية رضي الله عنها، وأمر عليًا أن يردّها علىٰ أصحابها.
وأما الإجماع:
فقد اتفق علماء المسلمين في كل عصر - من لدن الصحابة رضي الله عنهم إالىٰ يومنا هذا - علىٰ أن الوديعة جائزة ومشروعة.
واضح أن الحكمة من مشروعية الوديعة هي التيسير علىٰ المسلمين، وتحقيق مصلحتهم ودفع الحرج والضرر عنهم، فهم في حاجة شديدة لأن يستعين بعضهم ببعض لحفظ أمواله، وصيانة أمتعته.
فقد يكون لدىٰ أحدهم مال، ولا يكون عنده موضع أمين يحفظه فيه، أو يكون عاجزاً عن دفع الأيدي الآثمة عنه، ويكون هناك مَن عنده حرز لحفظ هذا المال، ولا يُصطلىٰ له بنار، فلا يجرؤ أحد من السفهاء أن يقترب من داره أو مخزنه، فيستودعه ماله.
وقد يكون أحدهم يريد سفراً لقضاء مصالحه، ولا يأمن أن يترك ماله وما لديه دون رعاية أو إشراف.
وكذلك قد يكون المرء في السوق، فيشتري من السلع ما يحتاج إليه من مواضع متعدّدة، ولا يتمكن من حمل هذه الأمتعة والتجوّل بها من مكان لآخر، فيستودعها مَن يحفظها له إلىٰ أن يقضي عمله.
وكثيرًا ما يقتني الناس سلعًا، قد لا يحتاجونها الآن، وإنما يحتاجون إليها في مستقبل الأيام، ولا يجدون المكان الذي يحفظونها فيه في دورهم ونحوها.
فالحاجة داعية في كل ما سبق إلىٰ الإيداع والاستيداع، والله تعالىٰ يقول:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. فمشروعية الوديعة تيسير ومنعها عسر، وهو سبحانه يقول:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وفي مشروعيتها تعاون علىٰ البر، ومنع من الإثم والعدوان، والله تعالىٰ أعلم.
يتناول الوديعة الأحكام الخمسة، وهي:
١- الاستحباب: فالأصل في الوديعة أنها مستحبة، أي مندوبة، وذلك إذا كان الوديع قادراً علىٰ حفظها، واثقًا من أمانة نفسه، وكان يوجد غيره ممّن هو مثله في الأمانة والقدرة علىٰ الحفظ، وذلك لما فيها من عون المسلم لأخيه، ورسول الله ﷺ يقول:«واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ» [مسلم: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع علىٰ تلاوة القرآن .. ، رقم: 2699].
٢- الوجوب: ويصبح قبول الوديعة واجباً علىٰ الوديع، إذا عُرضت عليه وكان أمينًا واثقًا من أمانة نفسه وقدرته علىٰ حفظها، ولا يوجد غيره مثله، لأن في عدم قبوله لها تضييعًا للمال، وفي قبولها صيانة لمال غيره، ورسول الله ﷺ نهىٰ عن إضاعة المال، وبيّن حرمة مال المسلم فقال: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» . فكما يجب علىٰ المسلم أن يدافع عن أخيه ويصونه من أن يُسفك دمه كذلك يجب عليه أن يحافظ علىٰ ماله إن خاف ضياعه.
٣- الكراهة: وقد يكون قبول الوديعة مكروهًا في حق الوديع، وذلك إذا كان أمينًا وقت عرضها عليه، ولكنه لا يثق أن يبقىٰ أمينًا في المستقبل، فيكره له قبولها خشية الخيانة فيها وتضييعها علىٰ مالكها.
٤- التحريم: أي يحرم علىٰ الوديع قبول إيداع ما عُرض عليه إيداعه، وذلك إذا كان يعلم من نفسه العجز عن حفظها، لأن في قبوله للوديعة -والحالة هذه- تضييعًا لها، وتعريضًا لها للتلف، فيدخل تحت النهي عن إضاعة المال.
٥- الإباحة: بمعنىٰ أن للوديع أن يقبل الإيداع وله أن لا يقبل، ويستوي الحال بالنسبة إليه، وذلك في حال أنه لا يثق بأمانته في المستقبل، أو كان عاجزًا عن حفظ الوديعة، وعلم المالك المودع بحاله، ورضي بإيداعها عنده.
لعقد الوديعة أركان ثلاثة هي: العاقدان، والصيغة، والشئ المودع، ولكل منها شروط:
١- العاقدان: وهما المودع المالك للشئ المودَع، والوديع وهو الذي تُعرض عليه الوديعة ويُتْستَحْفَظُ عليها
ويُشترط في كلٍّ منهما: أهلية التوكيل، لأن الوديعة وكالة في الحفظ فكلّ مَن صحّ توكيله صحّ دفع الوديعة إليه، وكلّ مَن صحّ أن يوكِّل غيره صحّ إيداعه عند غيره.
-وسيأتي معنا في باب الوكالة: أنه يشترط في الموكل والوكيل أن يكون كل منهما عاقلاً بالغاً، تصحّ مباشرته التصرّف الذي وَكَّل فيه إن كان موكِّلاً، والذي وُكِّل فيه إن كان وكيلاً.
-فلا يصحّ أن يكون الصبي أو المجنون مودِعاً أو وديعاً، لأن كلاًّ منهما ليس من أهل الوكالة لأنه غير مكلف، وكذلك لا يصحّ أن يكون المحجور عليه لسفه وديعاً، لأن الوديعة تصرّف مالي، وهو محجور عليه فيه.
-وكذلك لا يصحّ استيداع غير المسلم مصحفاً، لأنه لا يمكِّن من حمله ومسِّه، فلو أودَعَ أحد شيئًا عند واحد من هؤلاء فتلف، لم يضمن، وإن قصّر الوديع في الحفظ، لأن المودِع قد قصّر في الإيداع عنده.
٢- الصيغة: وهي الإيجاب والقبول: وذلك بأن يقول المالك المودِع: أودعتك هذا الثوب، ويقول الوديع: قبلت، ويمكن أن يتقدّم كلام الوديع علىٰ كلام المودِع، كأن يقول: أودِع عندي ثوبك هذا، فيقول: أودعت.
-ولا يشترط أن يكون لفظ من العاقدين، بل يكفي أن يكون لفظ من أحدهما وفعل من الآخر. فلو قال المودع: أودعت كتابي هذا عندك، فاستلمه الوديع كفىٰ. وكذلك لو قال الودِيع: أودع عندي متاعك هذا، فدفعه إليه المودِع المالك ولم يتكلم، صحّت الوديعة.
-ولا يشترط أيضاً أن يكون صريحاً في الوديعة، بل يكفي أن يكون اللفظ كناية، مع نيّة الوديعة ووجود قرينة تدل عليها. كأن يقول: ضع لي هذا عندك، أو خذه أمانة، أو أنَبْتُك في حفظه، ويقبضه الوديع.
٣- الشيء المودَع: ويطلق عليه لفظ الوديعة في أكثر الأحيان.
ويشترط فيه أن يكون محترماً، أي مملوكاً أو محرزاً، ولو لم يكن مالاً، أي غير متموّل شرعاً، كحبات قليلة من الحنطة مثلاً، أو كان نجساً، ككلب صيد أو زبل.
فلو كان غير محترم شرعاً، كخنزير أو آلة لهو، فلا يجوز إيداعه ولا استيداعه، ولا تنطبق عليه أحكام الوديعة.
إذا حصل الإيداع وصحّ عقد الوديعة ترتّب عليه الأحكام التالية:
١- وجوب حفظ الوديع لما أُودع عنده، لأن الإيداع من جانب المالك استحفاظ وائتمان، ومن جانب الوديع التزام بالحفظ، فيلزمه ذلك لأنه في حكم اشتراطه عليه، والحديث يقول: "المسلمون على شروطهم" [الترمذي: الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله ﷺفي الصلح .. ، رقم: 1352].
وعلىٰ الوديع أن يحفظ الوديعة في حرزِ مثلها، في مكان أمين تُحفظ فيه عادةً. وكذلك عليه أن يحفظها بنفسه، وليس له أن يحفظها بغيره كولده أو زوجته أو أجيره، لأن المودِع قد رضي بأمانته وأن يجعل متاعه تحت يده، ولم يرضَ بأمانة غيره ويده. فإذا أذن له المالك بحفظه بغيره جاز له ذلك، وكذلك إذا كان له عذر في هذا، كما إذا طرأ له سفر أو وقع حريق، ولم يستطع ردّ الوديعة إلىٰ المالك، أو وكيله أو القاضي، فله أن يدفعها إلىٰ من يحفظها.
٢- عقد الوديعة عقد جائز: أي لكلٍّ من العاقِدِيْن فسخه متىٰ شاء دون إذن العاقد الآخر، فللمودِع أن يستردّ الوديعة متى شاَء، وللوديع أن يردّها عليه أيضًا متىٰ شاء.
فإذا طلبها المالك وجب علىٰ الوديع ردُّها له عند طلبه قدر الإمكان، لقوله تعالىٰ:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ولا يعني ردُّها حملَها إلىٰ صاحبها، وإنما المراد أن يُخلي بينه وبينها.
٣- صفة يد الوديع: يد الوديع علىٰ الوديعة يد أمانة، أي لا يضمنها إذا تلفت عنده لا إذا فرط في حفظها أو تعدىٰ عليها، ودليل ذلك:
- قولهﷺ :«لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ»
[أخرجه الدارقطني في البيوع، رقم: 167].
- ولأنه لو كان ضامناً لامتنع الناس عن قبول الودائع، فيكون في ذلك حرج علىٰ الأمة.
- ولأن الوديع متبرع بالحفظ ومُحسِن - وإن كان قد التزمه - والله تعالىٰ يقول:{مَا عَلَى الْـمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91].
- ولأن يده علىٰ الوديعة تقوم مقام يد المالك، فكان هلاكها من يد المالك.
وعلىٰ هذا: لو أودعه علىٰ أنه ضامن مطلقاً، أو أنه غير ضامن مطلقاً، لم يصحّ الإيداع.
علمنا أن الوديعة أمانة في يد الوديع، لا يضمنها إذا تلفت بدون تعدٍّ منه عليها، أو تقصير في حفظها، هذا هو الأصل، وقد تصبح مضمونة عليه في الحالات التالية:
١- إذا أودعها عند غيره، بلا إذن من المودع ولا عذر، كما سبق، فإنها تصبح مضمونة عليه.
-فإذا أودعها - في هذه الحالة - عند مَن لا يصحّ إيداعها عنده، فهلكت، كان للمالك أن يُضمِّن أيهما شاء، فإن ضمّن الثاني وكان جاهلاً بالحال رجع علىٰ الأول بما ضمن، لأنه وديع غير متعدٍّ، فلا يضمن. وأن كان عالماً أن الذي أودع عنده ليس بمالك، وإنما يودع عنده وديعة غيره وبدون إذنه، لم يرجع عليه بما ضمن، لأنه في هذه الحالة غاصب لا وديع.
٢- ترك الحفظ: علمنا أن واجب الوديع حفظ الوديعة، فإذا ترك ذلك، ثم هلكت الوديعة كان ضامناً لها، ويكون ترك الحفظ بما يلي:
أ- بنقل الوديعة من مكان إلىٰ مكان آخر دونه في الحرز، لأن في ذلك تعريضًا لها للتلف، فإذا كان ما نقلت إليه مساوياً لما نقلت منه في الحرز، أو أحرز منه، فلا ضمان عليه، لأن مَن رضي بحرز رضي بمثله، ورضى بما هو أحرز منه من باب أولىٰ، إلا إذا نهاه المودع عن نقلها، أو كان الطريق فيه خطر عليها، فإنه يضمن في الحالتين إن نقلها وتلفت، لأن ذلك تعدٍّ منه وتقصير.
ب- ويكون ترك الحفظ أيضاً: بترك دفع الأخطار عنها وما يتلفها، لأن دفع مثل ذلك عن الوديعة واجب ما أمكن، لأنه من جملة حفظها، وذلك كما لو أودعه حيواناً، فترك علفه أو سقيه مدّة يموت مثله فيها، فمات فإنه يضمنه، سواء أمره المالك بعلفه وسقيه أم سكت، لأن ذلك واجب عليه حقًا لله تعالىٰ، وبه يحصل الحفظ الذي التزمه بقبوله الإيداع.
وكذلك لو كانت الوديعة مما يحتاج إلىٰ تعريض للشمس والريح كالصوف مثلاً، أو وضع عقاقير لتحفظه. فإن نهاه المالك عن دفع ما يسبّب إتلاف الوديعة، فترك ذلك وتلفت، فإنه لا يضمن علىٰ الصحيح، لأن المالك هو الذي أذن في إتلاف ما يملك. وإذا كانت الوديعة حيوانًا أثم بعدم بدفع التلف عنه إن أمره المالك بهذا، لحُرمة الروح ولم يضمن.
٣- استعمال الوديعة والانتفاع بها: بأيّ وجه من وجوه الاستعمال والانتفاع، فيضمنها إذا تلفت ولو بعد ترك الاستعمال والانتفاع، لأنه تعدّى باستعماله ملْك غيره بغير إذنه، وبالتعدّي ارتفع الحكم الأصلي للوديعة وهو كونها أمانة في يده، فلا يعود إلا بتجديد للعقد، فإذا تلفت قبل تجديد العقد كانت مضمونة عليه.
٤- السفر بالوديعة: إذا طرأ للوديع سفر من بلد الإيداع فليس له أن يسافر بالوديعة، لأن واجبه حفظها في الحرز والسفر ليس من مواضعه، فيجب عليه -في هذه الحالة- ردّها علىٰ مالكها أو وكيله إن كان غائباً، فإن كانا غائبَيْن وجب عليه أن يدفعها إلىٰ الحاكم إن كان يؤتمن عليها، وإلا دفعها إلىٰ أمين يحفظها.
فإن سافر بها مع وجود مَن يمكن دفعها إليه ممّن ذُكر كان ضامناً لها، وإن لم يجد أحدًا منهم كان معذوراً أن يسافر بها، لأن السفر بها أحوط في حفظها من تركها عند مَن لا يؤتمن عليها.
وهذا الذي ذكر في حق مَن طرأ له السفر هو حكم مَن مرض مرضاً يخاف منه الموت، ومن حَضَرَتْهٌ أسباب الوفاة، فإن لم يجد مَن يدفعها إليه أوصىٰ بها، وإلا كان ضامناً لها إذا تلفت بعد الموت لأنه يعرّضها للفوات علىٰ مالكها بترك ما ذكر، إذ قد يدّعي الوارث أنها ملك مورِّثه، اعتماداً علىٰ الظاهر، لأنها تحت يده وفي حَوْزته.
٥- إنكار الوديعة بغير عذر: فإذا طلب المودع الوديعة، فأنكر الوديع أن له وديعة عنده، ثم تلفت، فإنه يضمنها حتىٰ ولو عاد فاعترف بها بعد الإنكار، لأنه بإنكاره صار غاصباً لها، ويد الغاصب يد ضمان، وقد ارتفع عقد الوديعة بالإنكار، فلا يعود إلا بالتجديد.
فإن كان له عذر بالإنكار فإنه لا يرتفع به عقد الوديعة، وتبقىٰ أمانة في يده، فإذا تلفت لا يضمنها، وذلك كما إذا أجبر المالك علىٰ طلبها غاصب أو ظالم، وعلم الوديع أنه إن اعترف بها استردّها الملك وانتزعها منه غير المحق بأخذها، فأنكرها ظاهراً دفعاً للضرر عن المالك، ثم تلفت بعد هذا، فإنه لا يضمنها، لأنه غير متعدٍّ.
٦- الامتناع من ردّها بعد الطلب: علمنا أن الوديعة عقد جائز، ويترتب علىٰ ذلك: أن المودع له أن يفسخه ويطلب ردّ الوديعة، وفي هذه الحالة يجب علىٰ الوديع أن يردّها عليه فوراً، أي أن يخلّي بينه وبينها كما علمنا. فإن امتنع عن ردّها أو أخّره من غير عذر ضمن، لأنه تعدّى بحبس ملك غيره بغير عذر ولا رضاّ منه فإن أخّر ذلك لعذر،: كأن طلبها في وقت لا يتمكن فيه من الردّ، أو خشى إن ردّها عليه أن يغصبها منه متسلِّط، ونحو ذلك، فإنه لا يضمن.
٧- خلط الوديعة بغيرها: علىٰ الوديع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها، دون أن يخلطها بماله أو متاعه الذي لا تتميز عنه إذا خلطت به، فإذا خلطها -أو اختلطت بنفسها دون قصد منه - فإنه يضمنها، لأنه تعدّى بخلطها، والمالك لم يرضَ باختلاطها بغيرها. فإذا كانت تتميّز عمّا اختلطت به أو خلطت، كأن كانت دراهم فاختلطت بدنانير، أو نقودًا سورية اختلطت بغيرها، فإنه لا يضمنها، لسهولة تمييزها، فإن كان تمييزها صعباً-كما لو كانت قمحًا فاختلطت بشعير- فإنه يضمنها، لعسر تمييزها، فهو في حكم عدم التمييز.
وفي حال الضمان: يضمن مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها إذا لم تكن مثلية، ولكن يضمنها بأغلىٰ القيم من يوم الإيداع إلىٰ وقت التلف كالمغصوب، وتصبح ملكاً له.
٨- مخالفة شرط المودِع: كما إذا أمره أن يحفظ الوديعة بمكان معين أو بطريقة معينة، فخالف في هذا وحفظها في مكان غيره، أو بطريقة أُخرى، فتلفت بسبب هذا التغيير، فإنه يضمنها، لأن التلف حصل من جهة مخالفته.
ومن ذلك ما إذا خالف ما هو المعتاد في الحفظ، كما لو وضع علىٰ الصندوق قفلين، وقد كان يضع قفلاً واحداً، فسُرقت، فقيل: إنه يضمن، لانه بذلك أغرىٰ السارق بنفاسة ما فيه، والأصح أنه لا يضمن، لأن ما فعله مزيد احتياط في الحفظ.
إذا أودع رجل وديعة عند اثنين:
فإن كانت مما يُقسم -كالنقود مثلاً- فلهما أن يقسماها، ويأخذ كل واحد منهما نصفها ويحفظه عنده، فإن دفعها أحدهما للآخر كاملة ضَمِنَ نصفها، لأن المالك رضي بحفظهما للجميع ولم يرض بواحد منهما، وقيل: لا يضمن لأن المالك رضى بأمانتهما، فكان لكل واحد منهما أن يدفعها للآخر.
وإن كانت مما لا يقسم: جاز لكل واحد منهما أن يدفعها إلىٰ الآخر، ولا ضمان عليه قولاً واحداً، لأنه لا يمكن حفظها إلا في مكان واحد، والمالك يعلم أنهما لا يجتمعان علىٰ حفظها دائماً، فكان دفعه لها دليلًا علىٰ رضاه بحفظ أحدهما.
إذا أودع اثنان وديعةً عند وديع واحد، ثم جاء أحدهما يطلب استردادها، أو استرداد نصيبه منها، فهل للوديع أن يجيبه إلىٰ طلبه؟
والجواب: أنه ليس للوديع أن يدفع إليه شيئًا منها، لأنهما اتفقا علىٰ الإيداع، فينبغي أن يتفقا في الاسترداد، فإذا أراد أن يسترد نصيبه خاصة رفع الأمر إلىٰ القاضي، ليقسم الوديعة ويرد إليه نصيبه.
تنتهي الوديعة باسترداد المودَع للشئ المودَع، كما تنتهي بردّ الوديع له علىٰ المودع، وإن كان يحرم علىٰ الوديع ردها حيث وجب القبول ولم يرد المالك الرد، كما يكره حيث ندب القبول ولم يرد المالك الرد.
كما تنتهي بموت المودع أو الوديع، لأن العقد جرىٰ بينهما.
وكذلك تنتهي بجنون أحدهما أو اغمائه، وبالحَجْر علىٰ المودع لسفه، وكذلك بالحجر علىٰ الوديع لفلس.
وتنتهي أيضاً بنقل المالك ملكيتها إلىٰ غيره ببيع أو هبة أو نحو ذلك.
وبانتهاء الوديعة يرتفع حكمها، وفي حال انتهائها بغير الردّ أو الاسترداد تصبح أمانة شرعية في يده كالضاّلة، فيجب عليه ردّها لمالكها أو وليّه -إن عرفه- فورًا عند تمكّنه من ذلك، وإن لم يطلبها، والمراد بالردّ هنا الإعلام بها أو بمحلّها، فإن غاب من ذُكر ردّها للقاضي الأمين، فإن قصّر في هذا ضمنها، إن تلفت في يده بعد إنتهاء الوديعة.