المحتويات:
تعريف الربا
الأموال التي يجري فيها الربا
علة الربا
انواع الربا وحكم كلًّ منها:
١- ربا الفضل
٢- ربا النساء
٣- ربا اليد
ما يُعتتبر جنساً واحداً وما لا يعتبر
تبايع الأموال الربوية وشروط صحته:
١- عند اتحاد الجنس
٢- عند اختلاف الجنس واتحاد العلة
٣- عند اختلاف العلة
٤- عند المبادلة بمال غير ربوي
المماثلة: تحققها وإعتبارها وما يمنع منها:
ا- ما تتحقق به المماثلة
ب- متى تعتبر المماثلة
ج- ما يمنع من المماثلة
المماثلة تحقيقاً لا ظناً وتخميناً
المزابنة والمحاقلة
العرايا
بيع اللحم باللحم، وبيع اللحم بالحيوان، والحيوان بالحيوان
حكم التعامل الربوي من حيث ما يترتب عليه
ربا القرض
بيان وتنبيه
في اللغة: هو مصدر: ربا يربو، إذا زاد ونما، فهو بمعنى الفضل والزيادة والنماء،
ومنه: قوله تعالى: {َتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ} [الحج: 5].
أي تحركت وارتفعت وزادت عمّا كانت عليه قبل نزول الماء.
وقوله تعالى: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي أكثر عدداً وقوة.
وقوله تعالى: {وَمَا ءاتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِيٓ أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39] أي وكل ما تعطونه لأكلة الربا من زيادة علىٰ رؤوس أموالهم، لتزيد أموالهم وتنمو بها، فإن الله تعالى يمحقه ولا يبارك فيه.
وفي اصطلاح الفقهاء: عقد علىٰ عوض مخصوص، غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما.
والمراد بالعوض المخصوص: الأموال الربوية التي سيأتي بيانها.
وغير معلوم التماثل: كأن يكون أحد العِوَضين متفاضلاً مع العوض الآخر أو مجهول التساوي معه.
ومعيار الشرع هو: الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات.
والتقييد بحالة العقد: احتراز عمّا لو علم التماثل بين البدلين بعد العقد. كما لو باعه كومة من قمح بكومة أخرىٰ، ولا يعلم قدرهما، فهو عقد ربوي، تنطبق عليه أحكام الربا الآتية، حتىٰ ولو كيلت الكومتان بعد العقد وخرجتا متماثلتين، لأن التماثل كان مجهولاً حالة العقد.
والمراد بالتأخير في البدلين أو أحدهما: عدم التقابض في المجلس بين المتعاقدين، أو اشتراط الأجل في العقد.
يجري الربا في الأموال الستة التالية، وهي:
الذهب، والفضة
والقمح، والشعير
والتمر، والملح.
وذلك لورود النص صريحاً فيها.
روىٰ البخاري ومسلم وغيرهما: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: " الذهبُ بالذَّهب رباً إلا هاءَ وهاءَ، والبُر بالبُرِّ رباً إلا هاءَ وهاءَ، والشعيرُ بالشعيرِ رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً إلا هاءَ وهاءَ " وفي رواية: " الوَرِقُ بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ " [البخاري في البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة (1)، رقم: 2027 ومسلم في المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم: 1586].
[هاء وهاء: اسم فعل بمعنى خذ، والمراد: أن يعطي كل من المتعاقدين ما في يده من العوض، ويحصل التقايض في المجلس. البر: الحنطة. الورق: الفضة].
وقد جاء النص على هذه الأشياء، بالإضافة إلى الملح، في أحاديث كثيرة ستأتي معنا خلال البحث.
وكما يجري الربا في تلك الأموال الستة يجري في غيرها، وذلك أن الحكم فيها معلّل، فُيقاس عليها كل مالٍ توجد فيه العلة المعتبرة في تحقق وصف الربا.
(1) الحكرة: حبس السلع عن البيع، كالاحتكار.
المراد بعلة الرِّبَا الوصف الذي إذا وجد في المال كان مالاً ربوياً، وإذا وجد نفسه في العوضين كانت المعاملة ربوية.
وهذا الوصف غير منصوص عليه فيما ورد من نصوص في الباب، وإنما استنتجه الفقهاء من تلك النصوص فقالوا:
إن الأشياء المنصوص عليها في الأحاديث إما أثمان كالذهب والفضة، وإما مطعومات للآدميين كالبُرّ والشعير والتمر والملح. وعليه: فالعلة المعتبرة في كون المال ربوياً هي الثمنية أو الطعم، دون النظر إلىٰ الكيل أو الوزن. فكأن الشّارع قال: ما كان ثمناً أو مطعوماً فلا يُباع بجنسه إلا بشروط.
وإذا ثبت هذا:
فكلّ ما يجري التعامل به من الأثمان، ويقوم مقام الذهب والفضة، كالعملات الرائجة الآن، يُعتبر مالاً ربوياً ويجري فيه الربا إلحاقاً بالذهب والفضة.
وكل مطعوم يطعمه الآدميون غالباً فهو مال ربوي يجري فيه الربا، سواء أكان يُتناول قُوتاً كالأرز والذرة إلحاقاً بالبر والشعير، أو تفكّهاً كالزبيب والتين ونحوهما إلحاقاً بالتمر، أو تداوياً وإصلاحاً للغذاء أو البدن كالزنجبيل والمصطكي ونحوهما إلحاقاً بالملح.
وكل ما ليس بثمن أو مطعوم للآدميين من الأشياء فليس بمال ربوي. ومن ذلك سائر المعادن غير الذهب والفضة، والأقمشة وغيرها، وما كان في الغالب قوتاً لغير الآدميين. فلا يعتبر التعامل في كل ذلك تعاملاً ربوياً.
ولا فرق في كل ما سبق بين أن يكون مقدراً بكيل أو وزن أو غير ذلك.
حين يبحث الفقهاء في التعامل الربوي يبحثون - غالباً - في بيع الأموال الربوية التي مرّ ذكرها بعضها ببعض: من حيث زيادة أحد البدلين علىٰ الآخر، ومن حيث وجود الأجل في التعامل وعدمه، كما يعلم من تعريفهم السابق للربا.
وبناء علىٰ ذلك يقسمون الربا إلىٰ أنواع:
1 - ربا الفضل:
أي الزيادة، وهو بيع المال الربوي بجنسه مع زيادة في أحد العوضين. كأن يبيعه مُدّ قمح بمُدَّيْن منه، أو: مائة غرام من ذهب بمائة وعشرة منه، أو أقل أو أكثر.
ومعنى الربا في هذا النوع - وهو الزيادة - ظاهر وواضح.
وهذا النوع من التعامل محرم وممنوع، للنهي عنه في حديث رسول الله ﷺ.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: " لا تبيُعوا الذهبَ بالذهب إلاّ مثلاً بمثلٍ، ولا تُشفُّوا بعضَها على بعضٍ. ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثلٍ، ولا تُشِفُّوا بعضَها علىٰ بعضٍ " [أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، رقم: 2068. ومسلم في المساقاة، باب: الربا، رقم: 1584]
[الورق: الفضة. لا تشفوا: لا تفضلوا، والشف يطلق على الزيادة والنقصان، فهو من الأضداد].
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قا رسول الله ﷺ: " الذهبُ بالذهب والفضَّة بالفضة، والبُرُّ بالبُر والشعيرُ بالشعير، والملحُ بالملح: مثلاً بمثلٍ يداً بيدٍ، فمن زادَ أو استزادَ فقد أرْبى، الآخذ والمطعِى فيه سواءٌ ". وروى مثله عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه [انظر: صحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً].
ولا عبرة في هذا لجودة النوع أو رداءته، لعموم قوله ﷺ: " لا تَشِفُّوا بعضَها علىٰ بعض ". ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي ﷺ بتمر بُرْنيّ، فقال له النبي ﷺ: " من أين هذا؟ " قال بلال رضي الله عنه: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنُطْعم النبيَّﷺ. فقال النبي ﷺ عند ذلك "أوَّه أوَّه، عيُن الربا عين الربا لا تَفْعَلْ " [البخاري في الوكالة، باب: إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود، رقم: 2188. ومسلم في المساقاة باب: بيع الطعام مثلاً بمثل، رقم: 1594].
[بُرْني: نوع من التمر هو أجود. أوّه: كلمة توجّع وتحزّن. عين الربا: أي هذا حقيقة الربا الممنوع].
وكذلك لا عبرة للصنعة في هذا، فلو باعه ذهباً مصوغاً بسبائك وجب التماثل في الوزن بين البدلين، وامتنع أن يكون أحدهما أنقص من الآخر، لما دلّ عليه قوله ﷺ: " ولا تبيعوا الوَرقَ بالوَرِقِ إلا مثلاً بمثل " فإن الورق يتناول الفضة المضروبة وغير المضروبة " وضربها صنعة لها.
2 - ربا النساء:
أي التأخير، وهو بيع المال الربوي بمال ربوي آخر فيه نفس العلة إلى أجل. ولا فرق في هذا بين أن يكون المالان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين، وسواء أكانا متفاضلين أم متساويين.
ومثال ذلك: أن يبيعه مُدّ حنطة بمدّ حنطة - أو بمدّ شعير أو بمدّين إلى شهر. أو يبيعه عشر غرامات من الذهب بعشر غرامات من الذهب أو الفضة أو أكثر أو أقل، إلى يوم مثلاً أو أكثر.
وهذا التعامل أيضاً محرم وممنوع، لوجود معنى الربا فيه حقيقة، وإن لم يكن ظاهراً، فإن للحلول فضلاً على الأجل، فيكون في ذلك زيادة في أحد العوضين، وهو المدفوع حالاً.
وقد دل على هذا المنع قوله ﷺ في حديث أبي سعيد رضي الله عنه السابق: " ولا تبيعُوا منها غائباً بنَاجز ".
والغائب هو المؤجل والناجز هو الحاضر، وكذلك قوله ﷺ في الحديث الآخر: " مثلاً بمثل، يداً بيد " وجاء أيضاً في حديث عبادة رضي الله عنه: " فإذا اختلفتْ هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتُم، إذا كان يدً بيدٍ ".
[ومعنى قوله: " يداً بيد " أي مقابضة، بحيث يسلم كلِّ من المتعاقدين البدل الذي في يده في مجلس العقد، وهذا يستلزم الحلول غالباً].
3 - ربا اليد:
وهو أن يبيع المال الربوي بآخر فيه نفس العلة، دون أن يشترط في ذلك أجل بنفس العقد، ولكن يحصل التأخير في قبض البدلين أو أحدهما عن مجلس العقد بالفعل.
ودليل هذا: ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه السابق: " إلا هاءَ وهاءَ " أي خذ وخذ، وهذا يعني وجوب التقابض فعلاً في المجلس.
وضع الفقهاء قاعدة لمعرفة ما هو جنس واحد، وما ليس بجنس واحد، فقالوا:
كل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما جنس واحد، وكل شيئين اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان.
والمراد بالاسم الخاص: ما يميز الشيء عن الاسم العام المشترك، فكلمة تمر اسم خاص، يميز نوعاً من الفاكهة والثمر عن غيره، مما يشاركه في الاسم العام، وهو فاكهة أو ثمر.
والمراد بأصل الخلقة: هيئته التي خلق عليها، فلا يكفي الاتفاق بالاسم بعد الصنعة أو التحويل.
فالذهب بأنواعه جنس واحد، وكذلك الفضة.
والتمر بأنواعه جنس واحد، وكذلك الزبيب.
والحنطة بأنواعها جنس واحد، وكذلك الشعير.
وكل ماله رطب ويابس، كالعنب والزبيب والرُّطَب والتمر، فرطبه ويابسه جنس واحد.
وما تفرغ عن أصل يعتبر مع أصله جنساً واحداً، فالحنطة ودقيقها والمجروش منها - كالبرغل - كلها جنس واحد.
ولحوم الحيوانات أجناس مختلفة: فالضأن جنس والمعز منه، والبقر جنس والجواميس منه، ولحوم الإبل كلها جنس واحد.
ولا فرق بين أن يكون اللحم أحمر أم أبيض، فهما جنس واحد، ويدخل فيه ما خالطه من دهن أو لاصقه، كدهن الظهور والجوانب والصدر.
وأما الشحم الذي يكون في البطن فهو جنس آخر غير اللحم، وكذلك الآلية، فهي جنس غير الشحم واللحم، وكذلك سنام البعير جنس مستقل.
وكذلك الأحشاء - كالكبد والطحال والكرش - فهي أجناس مختلفة فيما بينها، ومختلفة عمّا سبق من اللحم والشحم والآلية.
وفروع الأصول المختلفة الأجناس أجناس مختلفة كأُصولها:
فدقيق الحنطة جنس، ودقيق الشعير جنس آخر.
وخلّ العنب جنس، وخل التمر جنس آخر.
وكذلك الأدهان التي تُعدّ للأكل أو الدواء، فهي أجناس كأُصولها المأخوذة منها.
وكذلك الألبان أجناس مختلفة: فلبن الضأن والمعز جنس واحد، ولبن البقر والجاموس جنس واحد، وألبان الإبل جنس واحد.
وبيض الطيور أجناس مختلفة حسب أُصولها.
إن الأموال الربوية التي ذكرناها - وبيّنّا علّتها ومعيارها، وصنفنا أجناسها - كثيراً ما يحتاج الناس إلى التعامل بها وتبادلها فيما بينهم عن طريق معاوضة بعضها ببعض.
وشرع الله عزّ وجل إنما جاء بالتيسير ورفع الحرج عن المكلفين، قال تعالى {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة 185]
وقال: {جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج78].
ولذلك شرع الله تعالى للناس أن يتبايعوا هذه الأموال ويتعاوضوها بشروط، إذا توفرت صحّ تعاملهم وجاز بيعهم، إذ من شأن تلك الشروط أن تخرج التعامل عن معنى الربا المحرم، الذي يوقع المتعاقدين في الإثم.
وهذه الشروط نستنتجها من خلال ما سبق من الكلام عن علّة الربا وأنواع الربا، ونلخصها مرتّبة فيما يلي:
1 - عند اتحاد الجنس:
إذا بيع مال ربوي بجنسه - وواضح في هذه الحالة أن العلة فيهما واحدة - كحنطة بحنطة، وسكر بسكر، وفضة بفضة، اشترط في هذا البيع ثلاثة شروط ليخرج عن كونه عقداً ربوياً، وهي:
أ - المماثلة في البدلين: كيلاً في المكيلات كمدّ بمدّ ولتر بلتر، ووزناً في الموزونات كرطل برطل، وكيلو غرام، وعدداً في العدديات، كخمسة بخمسة ونحو ذلك.
ب - أن يكون العقد حالاً: وذلك بأن لا يذكر في العقد أي اجل لتسليم أحد البدلين، مهما قصر ذلك الأجل.
جـ - التقابض: بأن يقبض كلُّ من المتعاقدين البدل من الآخر قبل أن يتفرقا بأبدانهما من مجلس العقد.
وهذه الشروط الثلاثة مأخوذة:
- من قوله ﷺ في الأحاديث السابقة " مثلاً بمثل " فقد دلّ على جواز بيع الربوي بجنسه عند المماثلة، وعدم جوازه عند عدمها.
- ومن قوله ﷺ " يداً بيد " وقوله: " هاءَ وهاءَ " فقد دلاّ على صحة البيع عند التقابض والحلول، وعدم صحته عند التأجيل، أو عدم التقابض.
2 - عند اختلاف الجنس واتحاد العلة:
إذا بيع مال ربوي بمال ربوي آخر من غير جنسه، ولكن العلة فيهما واحدة - كما إذا كانا ثمنين أو مطعومين - اشترط لصحة البيع وخروجه عن معنى الربا شرطان:
أ - أن يكون العقد حالاً، كما مر في اتحاد الجنس.
ب - أن يجري التقابض في مجلس العقد.
ولا يشترط التماثل بين البدلين في هذه الحالة، بل يجوز أن يبيعه مدّ حنطة بمدّيْ شعير، وغراماً من ذهب بخمسة من فضة، ويصحّ العقد وتترتب عليه آثاره، إذا لم يكن فيه أجل، وحصل التقابض على ما علمت
ودل على هذا: ما جاء في حديث عبادة رضي الله عنه السابق: "فإذا اختلفتْ هذه الأصنافُ فبيعُوا كيف شئتُم، إذا كان يداً بيد ".
والمراد بالأصناف أجناس الأموال الربوية المذكورة من الأحاديث وما يلحق بها. والمراد باختلاف كون الثمن في البيع من غير جنس المبيع.
[ومعنى قوله " فبيعوا كيف شئتم " أي جاز لكم أن تتبايعوا هذه الأموال عند الاختلاف دون شرط التماثل بين البدلين].
3 - عند اختلاف العلة:
علمنا أن العلة في اعتبار المال ربوياً عند الفقهاء كونه ثمناً أو مطعوماً، وعليه: فلا يتصور اختلاف العلة في البدلين في العقد الربوي إلا أن يكون أحدهما من الأثمان والآخر مطعوماً، وفي هذه الحالة فلا يشترط لصحة البيع وجواز التعاقد أي شرط من الشروط السابقة، فيصحّ بيع عشرين مددّاً من القمح بعشر غرامات من الذهب مثلاً، حصل التقابض أو لم يحصل، اشترط الأجل أو لم يشترط.
ودليل هذا: ما رواه البخاري ومسلم: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ استعمل رجلاً على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال رسول الله ﷺ: " أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ " فقال: لا والله يا رسول الله، إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال النبي ﷺ: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً " [البخاري في الوكالة، باب: الوكالة في الصرف والميزان، رقم: 2180 ومسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل، رقم 1593].
[والجنيب: التمر الجيد، والجمع التمر الرديء أو المختلط].
فقد دلّ هذا الحديث على جواز البيع مطلقاً حين يكون أحد البدلين من الأثمان، والبدل الثاني من غيرها، سواء أكان مطعوماً أم غير مطعوم.
4 - عند المبادلة بمال غير ربوي:
إذا بيع مال ربوي بمال آخر غير ربوي صحّ البيع مطلقاً، بدون أيّ شرط من شروط جواز التعامل الربوي، فلا يشترط تماثل ولا حلول ولا تقابض، لأن العقد خرج عن كونه عقداً ربوياً طالما أن أحد البدلين مال غير ربوي.
فإذا بيع الطعام علىٰ اختلاف أنواعه بغير طعام، كثوب مثلاً، جاز مطلقاً، كما لو كان أحد البدلين ثمناً كما علمت. فالبيع جائز وصحيح سواء أكان البدلان متماثلين أم متفاضلين، وسواء أكان البيع حالاً أم مؤجلاً، وسواء أكان البدلان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين.
قد علمت أنه إذا بيع مال ربوي بآخر من جنسه اشترط تحقق المماثلة بين البدلين حتى يصحّ البيع ويخرج عن معنى الربا، إلى جانب الشروط الأخرى التى مّرت بك.
والذي نريد بيانه الآن هو: ما تتحقق به هذه المماثلة، ومتى تعتبر؟ وما الذي يمنع من تحققها؟
أ - ما تتحقق به المماثلة:
حتى تتحقق المماثلة بين البدلين لابدّ من كونهما متساويين في القدر المعتبر شرعاً لكل مال من الأموال الربوية.
والمعتبر في هذا: الكيل في المكيلات وإن تفاوت الوزن، والوزن في الموزونات وإن تفاوت كيلها. فما يُباع بالكيل لا يصحّ بيعه بجنسه إلا بما يماثله كيلاً، فإذا بيع بما يساويه وزناً لم يجز. وما يُباع بالوزن لا يُباع بجنسه إلا بما يساويه وزناً، فإذا بيع بما يساويه كيلاً لم يجز.
فالمماثلة تتحقق إذن: في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً.
والعبرة في كون المال مما يكال أو يوزن هو:
غالب عادة أهل الحجاز - مكة والمدينة - في عهد رسول الله ﷺ، لأن الغالب أن النبيﷺ اطّلع على ذلك واقرّه، ولما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ " الوزْنُ وزْنُ أهل مكة، والمكيال مكْيَالُ أهل المدينة " [أبو داود: البيوع والإجارات، باب: قول النبي ﷺ " المكيالُ مكَيالُ المدينة " رقم: 3340. والنسائي: البيوع، باب: الرجحان في الوزن: 7/ 284].
فما نقل فيه عرف لأهل الحجاز في ذلك الوقت فالمعتبر فيه عرفهم، وإن أحدث الناس خلافه في بلدانهم.
وما لم يكن في عهد رسول الله ﷺ كالبن مثلاً - أو كان وجُهل حاله، ينظر:
- فإن كان مما لا يمكن كيله، بأن كانت حبّاته كباراً تتجافى عن جوانب المكيال، أو تترك فرجاً فيما بينها، كالسفرجل والرمان والباذنجان، فالمعتبر فيه الوزن.
- وإن كان مما يمكن كيله، ففيه وجهان:
- الوجه الأول: يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز.
- الوجه الثاني: يعتبر فيه عرف بلد البيع وعادتهم. وهذا هو الأرجح.
قال أبو يوسف رحمه الله تعالى من الحنفية: المعتبر في كون الشيء مكيلاً أو موزوناً هو العرف مطلقاً، فما تعارف الناس في بلد البيع بيعه كيلاً فهو مكيل، وما تعارف الناس بيعه وزناً فهو موزون.
وقال: إن النص ورد جرياً على العرف، وإنما نصّ الشارع على كيل بعض الأشياء ووزن بعضها لأن العرف كان جارياً بذلك، ولو كان العرف جارياً على خلافة لورود النص على خلافه.
ورجح بعض المتأخرين من الحنفية العمل بهذا القول، ولعله أقرب إلى التيسير على الناس وإخراجهم من الإثم وإلا حُكم على تعاملهم في أكثر البلدان بالفساد والبطلان، ووصفوا بالفسوق والعصيان. ولذا لا نرى مانعاً من العمل به، والله تعالى أعلم.
ب - متى تعتبر المماثلة:
1 - إذا كان المبيع الربوي مما يختلف كيلاً أو وزناً من حال إلى حال، وله وقت رطوبة ووقت جفاف، فالمماثلة فيه تعتبر وقت الجفاف الذي هو حال الكمال في نضجه:
- فلا يباع الحب بعضه ببعض إلا بعد أن ييبس ويشتد، ويشترط فيه تنقيته من قشره، حتى تتحقق المماثلة.
- ولا يباع الرُّطَب حتى يصبح تمراً، فلا يباع الرطب بالرطب ولا الرطب بالتمر.
- ولا يباع العنب بالعنب ولا العنب بالزبيب، إذ الكمال فيه أن يصبح زبيباً.
- وكذلك لا يباع أي جنس من الفاكهة - كالتين والمشمش - بشيء من جنسه حتى ييبس، فلا يباع منه رطب برطب، ولا رطب بيابس.
والعمدة في هذا ما رواه الترمذي: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يُسْأل عن اشتراء التمر بالرُّطَب، فقال لمن حوله: " أيَنْقُصُ الرَّطَب إذا يبس؟ " قالوا: نعم، فنهى عن ذلك. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. [سنن الترمذي: البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، رقم: 1225 وأخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في التمر بالتمر، رقم 3359. والنسائي في البيوع، باب: اشتراء التمر بالرطب: 7/ 268. وابن ماجه في التجارات، باب: بيع الرطب بالتمر، رقم: 2264. والموطأ في البيوع باب: ما يكره من بيع التمر: 2/ 624].
2 - وإذا كان المكيل أو الموزون من الأموال الربوية مما جفاف له، كالقثاء، والعنب الذي لا يتزبب، والرطب الذي لا يتتمر، والزيتون، فإنه تكفي مماثلته رطباً، ويباع وزناً وإن كان مما يُكال.
3 - ولا يكفي تماثل ما يتخذ من الحب، كالدقيق والبرغل والنشاء ونحوها، فلا يباع شيء منها بمثله من جنسه ولا بالحب الذي اتخذ منه، لخروجها عن حالة الكمال، وعدم إمكان العلم بالمماثلة في هذه الحالة، لاختلافها في النعومة والخشونة، وهي مكيلة، فما يتركه بعضها من فراغ في الكيل يختلف عمّا يتركه الآخر.
أما إذا بيع شيء منها بغير جنسه، كأن يُباع دقيق الحنطة بدقيق الشعير ونحو ذلك متماثلاً أو متفاضلاً فلا مانع، لاختلاف الجنس، ولكن يُشترط الحلول والتقابض كما علمت.
4 - وتعتبر المماثلة في حبوب الأدهان - كالسمسم - حال كونها حبّاً، وحال كونها دهناً، ولكن لا يُباع حبها بدهنها، لعدم تحقق المماثلة.
5 - وتتحقق المماثلة في العنب زبيباً، كما تتحقق فيه خلاً أو عصيراً على الأصح وكذلك الرطب: تتحقق فيه المماثلة تمراً أو خلاًَّ أو عصيراً.
6 - وتتحقق المماثلة في اللبن: لبناً خالصاً - أي غير مشوب بماء أو غيره - فيُباع الحليب بالحليب ولكن بعد سكون رغوته، وكذلك يباع الرائب بمثله وبالحليب.
كما تتحقق المماثلة فيه سمناً خالصاً مصفّى بشمس أو نار، فيجوز بيع بعضه ببعض.
ولا تكفي المماثلة في أحواله الأخرى كأن يكون جبناً أو أقطاً أو زبداً، لأنها لا تخلو في هذه الأحوال عن مخالطة غيرها، فالجبن يخالطه الإنفحة، والأقط يخالطه الملح، والزبد لا يخلو من قليل من المخيض، فلا تتحقق فيها المماثلة، وعليه: فلا يباع بعض كلَّ منها ببعض، ولا يباع بعضها ببعض، ولا يباع الزبد بالسمن، كما لا يباع اللبن بما يتخذ منه كالسمن وغيره.
ج - ما يمنع من المماثلة:
يمنع من المماثلة بين المتجانسين:
1 - تأثير النار: فإذا أثّرت النار على مال ربوي، شَياً أو قلْياً أو طبخاً، كاللبن المغلي واللحم المشوي والحمص المُحَمَّص، فلا يباع شيء منه بمثله من جنسه، لامتناع تحقّق المماثلة فيه، لأن تأثير النار لا غاية له ولا حدّ، فيختلف من شيء إلى شيء فلا تتحقق المماثلة.
ولا يضر تأثير تمييز: كتمييز العسل من الشمع، والسمن من اللبن، والذهب والفضة مما خالطهما من غش.
2 - المخالطة: فإذا خالط المال الربوي شيء آخر من غير جنسه، سواء أكان المخالط ربوياً أم غير ربوي، امتنع تحقق المماثلة فيه، لعدم التحقّق من نسبة الخليط وبالتالي لا يُباع شيء منه بآخر من جنسه، سواء كان مخالطاً أم لا.
ولذلك لم تعتبر المماثلة في الجبن والأقط كما علمت.
علمنا أنه إذا بيع المال الربوي بمال ربوي من جنسه اشترطت المماثلة بالكيل أو الوزن بين البدلين، حتى يصحّ البيع.
وهذه المماثلة لا بدّ من وجودها تحقيقاً ويقيناً حين العقد، بأن يكال كلُّ من البدلين أو يوزن قبل التعاقد، أو يكون قدر كلِّ منهما معلوماً للمتعاقدين.
فلا تكفي المماثلة ظناً وتخميناً، كان يبيعه صبرة حنطة مجازفة، أي بدون كيل أو وزن، على تقدير أنهما متساويتان. أو يبيعه مائة صاع من حنطة بصبرة منها تساويها تقديراً، فهذا البيع في الحالين ممنوع، لاحتمال التفاضل بين البدلين، وشرط صحة البيع في الربويات عند اتحاد الجنس: الخلو عن احتمال التفاضل، لأن احتمال التفاضل مثل تحققه.
ويدل لهذا المنع حديث جابر رضي الله عنه قال " نهى رسول الله ﷺ عن بيع الصُّبْرََة من التَّمْر، لا يعلم مكيلَتُها، بالكيل المسمَّى من التمر". [أخرجه مسلم في البيوع، باب: تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بتمر، رقم 1530]. [والصبرة هي الكومة].
ويشهد لهذا أيضاً قول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا وقد غلب الحرام". أي إذا توارد أمران على شيء: أحدهما يقتضى حله والآخر يقتضي حرمته، قدم ما يقتضي حرمته ومنع منه، احتياطاً في الدين وبُعداً عن الوقوع في الشبهات. وهنا احتمال عدم التفاضل يقتضي حلّ بيع الصبرة بغيرها، واحتمال التفاضل يقتضي المنع من ذلك، فقدّم المنع.
ومما لا يخلو عن احتمال التفاضل في بيع الربويات: المحاقلة والمزابنة.
والمحاقلة: أن يبيع الحب في سنبله بما يساويه خرصاً، أي تقديراً وتخميناً لكيله أو وزنه.
والمزابنة: أن يبيع الرُّطَب على رؤوس الشجر بما يساويه خرصاً من التمر المجذوذ، أي المقطوع والمقطوف. ومثل الرطب والتمر العنب والزبيب.
فكلُّ من المحاقلة والمزابنة ممنوع شرعاً، لعدم الجزم بتساوي البدلين، أو عدم تحقّق المماثلة يقيناً.
وقد ثبت النهي عن ذلك في حديث رسول الله ﷺ، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال " نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة: أن يبيع ثمرَ حائطه: إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً: أن يبيعه بزبيب كيلاً، أو كان الزرع بالطعام كيلاً" [رقم: 2091 ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، رقم: 1542].
[حائطه: بستانه. كرماً: الكرم شجر العنب].
العرايا - في اللغة - جمع عريّة، وهي الشجرة التي يفردها مالكها للأكل، سمِّيت بذلك لأنها عريت عن حكم جميع البستان.
وفي الشرع: أن يبيع الرطب على النخل بخرصه تمراً، أو العنب بخرصه زبيباً، فيما دون خمسة أوسق، أي ما يساوي سبعمائة كيلوغرام تقريباً.
وذلك أنه لمّا ورد النهي عن بيع التمر رطباً بما يساويه من جنسه يابساً، وكان في الناس مَن يرغب أن يأكل الرطب أو العنب من على الشجر، وليس لديه نخيل أو كرم، رخص الشّرع فيما ذكر، تلبية لحاجة الناس وتخفيفاً عليهم وتيسيراً.
وقد جاء في مشروعية ذلك أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن أبي حَثْمة رضي الله عنه، " أن رسول الله ﷺ نهى عن الثمر بالتمر، ورخص في العَرِيَّة أنْ تُبَاع بخَرْصها، يأكلها أهلُها رطباً ".
[أهلها: الذين اشتروها]
وما رواه البخاري ومسلم - أيضاً - عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله ﷺ رخص في بيع العَرَايا، في خمسة أوْسقٍ، أو دون خمسة أوسق ".
وكذلك ما روياه عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة رضي الله عنهما: " أن رسول الله ﷺ نهى عن المزابنة: بيع الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه أذن لهم " [البخاري: البيوع، باب: بيع الثمر على رؤوس النخل .. ، رقم: 2078، 2079، والمساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو يشرب .. ، رقم: 2254. ومسلم: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، 1540، 1541].
والأحاديث كما ترى رخّصت بثمر النخيل رُطَباً وتمراً، وقيس به ثمر الكرم: العنب والزبيب، بجامع أن كلاَّ منهما مال زكوي يمكن خرصه ويُدّخر يابسه.
- بيع اللحم باللحم:
مرّ معنا أن اللحوم أجناس حسب أصولها، وأنها من الأموال الربوية، فيجوز بيع بعضها ببعض بشرط التماثل والحلول والتقابض - على ما مرّ- إن كانت من جنس واحد. فإن اختلف الجنس، كلحم ضأن بلحم بقر مثلاً، جاز التفاضل واشترط الحلول والتقابض.
ونريد أن نعرف هنا حكم بيع الحيوان بالحيوان، وحكم بيع اللحم بالحيوان:
- بيع الحيوان بالحيوان:
من خلال ما سبق من كلام نعلم أن الحيوان ليس بمال ربوي لأنه غير مطعوم على حاله وهيئته، وواضح أنه ليس من جنس الأثمان.
وعليه: فيجوز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً، سواء أكانا من نوع واحد أم من نوعين، فيجوز بيع شاة بشاتين، وبيع شاة ببعير، وبيع بعير بثلاث شياه، وهكذا. ولا فرق بين أن يكون يصلح للركوب والحمل، والأكل والنتاج، أم للأكل خاصة.
وكذلك يجوز بيعه حالاً ومؤجلاً، حصل التقابض في مجلس العقد أم لم يحصل، سواء أكان البدلان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين.
ودليل ذلك: ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: " أن رسول الله ﷺ أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قِلاَصِ الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرَيْن إلى إبل الصدقة " [أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في الرخصة في ذلكَ، بعد باب: في الحيوان بالحيوان نسيئة، رقم: 3357].
قال النووي رحمه الله تعالى في المجموع (9/ 454): حديث ابن عمرو بن العاص رواه أبو داود وسكت عنه، فيقتضي أنه عنده حسن كما سبق تقريره، وإن كان في إسناده نظر، لكن قال البيهقي: له شاهد صحيح، فذكره بإسناده الصحيح.
- بيع اللحم بالحيوان:
لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً لا نقداً ولا نسيئة، وسواء أكان اللحم من جنس الحيوان أم من غير جنسه، وسواء أكان الحيوان مأكول اللحم - كشاة بلحم بقر - أم غير مأكول اللحم - كلحم بقر بحمار - فلا يجوز مطلقاً.
ومثل اللحم ما في معناه: كالشحم والألية والكبد والقلب والكلية والطحال، وكذلك جميع أجزائه المأكولة.
وأجازوا بيع الحيوان بالجلد بعد دبغه، لخروجه عن كونه لحماً أو ما في معناه. أما قبل الدبغ فلا يجوز أيضاً، لأنه يُعتبر لحماً.
وعمدتهم في هذا المنع:
- حديث سمرة رضي الله عنه: " أن النبي ﷺ نهى عن بيع الشَّاة باللحم " [رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، رواته عن آخرهم أئمة حفّاظ ثقات انظر: المستدرك: البيوع، باب: النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الشاة باللحم: 2/ 35].
- وما رواه مالك في الموطأ مرسلاً: عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: " أن النبي ﷺ نهى عن بيع الحيوان باللحم " [الموطأ: البيوع، باب: بيع الحيوان باللحم: 2/ 655].
إذا بيع المال الربوي بمال ربوي آخر، ولم تتوفر الشروط التي تخرج هذا العقد عن معنى الربا وتصححه، كما إذا اتحد الجنس وكان التفاضل وهو ربا
الفضل، أو اختلف الجنس واتحدت العلة وكان التأخير وهو ربا النساء، فما حكم هذا العقد؟
قال الفقهاء: إنه عقد باطل، فلا يترتب عليه أي أثر، وكأنه لم يكن، وذلك أن الربا في المعاوضات مبطل لها.
ومعنى ذلك أن على المتعاقدين أن يترادَّا البدلين، فيسترد كل منهما ما دفعه للآخر، ثم يعودان إلى التعاقد من جديد، بعد أن تتوفر شروط صحة العقد الربوي على ما سبق، وإلا وقعا في الإثم واستحقا العقاب الأليم من الله عزّ وجل، وكان كسبهما حراماً خبيثاً.
هو أن يستدين إنسان من آخر مقداراً من المال إلى أجل، على أن يردّه له مع زيادة معينة، أو يعطيه أقساطاً معينة كفائدة وربح، إلى حين استرداد ذلك المال.
وهذا النوع من التعامل هو الذي جاءت نصوص الشريعة أولاً وبالذات لإبطاله ومنعه.
فالربا الذي كان أهل الجاهلية يتعاطونه فيما بينهم لا يختلف عن هذا التعامل في قليل ولا كثير، ولذا رغب فريق من الناس في تلبيس الأمر - كما يرغب الكثيرون في ذلك هذه الأيام فقالوا: الربا وسيلة من وسائل الربح، لا فرق بينه وبين البيع في ذلك، فجاء القرآن يؤنبهم على هذا التلبيس ويصفهم بالخبال وشيء من الجنون على هذا الفهم السقيم والقول الأثيم وذلك القياس مع الفارق، وتوعّدهم على ذلك بأليم العقاب والخلود في النار فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة275]
وهكذا قررت الآية بصراحة ووضوح حرمة الربا مطلقاً، ولم تفرق بين قليل منه أو كثير وحرضت على الانتهاء عنه وتوعدت على العودة إليه. وهي في مضمونها تقرر الفارق الكبير بينه وبين البيع، وحسبه أنه الفارق بين الحلال والحرام.
ثم توجهت الآيات إلى أولئكم الذين صدقوا بإيمانهم، وكان لكلمة التقوى
أثر في نفوسهم، فأمرتهم بترك الربا على الإطلاق دون مواربة أو تعنّت، وجعلت ذلك شرطاً لصحة الإيمان ودليلاً عليه، وتوعّدت على الإصرار على التعامل بالربا بما لم تتوعّد به على فعل منكر من المنكرات. ثم أرشدت إلى التعامل الأمثل والسلوك الأفضل إلى تشييد صرح التعاون والحب والودّ في المجتمعات، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. َإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ. وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 280]. قال الإمام ابن كثير في تفسيره
(يقول تعالى - آمراً عباده المؤمنين بتقواه، ناهياً لهم عمّا يقرّبهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه - فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون {وذَرُوا ما بقى من الربا} أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار {إن كنتم مؤمنينَ} أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي: أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم رباً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام. فكتب في ذلك عتّاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله ﷺ، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله ﷺ إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. َإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار. قال ابن جريج: قال ابن عباس: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله. وتقدم من رواية ربيعه بن كلثوم، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب: ثم قرأ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}: فمن كان مقيماً على الربا لا ينزع فحقُ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، وجعلهم بهرجاً (1) أينما أتوا، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل. رواه ابن جرير انتهى كلام ابن كثير.
وهذا الذي ذكره هذا الحافظ الجليل رحمه الله تعالى محل اتفاق المفسرين فيما اشتمل عليه من المعاني عن السلف رضوان الله عنهم أجمعين، وهو واضح في فهم هذه الأُمة تحريم قليل الربا وكثيره من الآية منذ عصر النبوّة جيلاً بعد جيل وعصراً بعد عصر، فهماً يقيناً لا يتطرق إليه احتمال، وأن ذلك هو معناها عند المسلمين، ومنذ عصر النبوّة جيلاً بعد جيل وعصراً بعد عصر.
والآية ناطقة بذلك نطقاً قاطعاً حاسماً يفهمه كلُّ من له سمع يدرك وعقل يعي، فقد نادى القرآن داعية الامتثال، ومهد بالأمر بالتقوى ثم قال {َذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وكلمة {ما} هذه عند مَن يفهم اللغة العربية تشمل كل ربا مهما كان قليلاً، ولو كان درهماً لمليون درهم. وكذلك يعلم أهل لغة القرآن أن قوله تعالى {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} لم يبح شيئاً زائداً عن رأس مال الدائن مهما كان قليلاً، لأنه لم يجعل له شيئاً سوى رأس ماله. هذا وقد زاد النص القرآني هذا المعنى تقريراً وتأكيداً فقال: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} قال المفسرون: لا تظلمون بأخذ زيادة على رأس المال، ولا تُظلمون بنقص شيء من رؤوس الأموال، بل لكم ما دفعتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه.
ولقد انطوت الآية على مواعظ في ترك الربا تلين لها الصم الصِّلاب، فوجهت الخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا} ثم بقوله {اتقوا الله} ثم بقوله {إن كنتم مؤمنين} وختمت الزجر عن الربا ببيان أعظم العقوبات وأخطرها لمن أصرّ على الربا، ذلك أن عليه أن يأذن بحرب من الله ورسوله.
وإلى جانب هذه النصوص القرآنية وما صرّحت به، وما دلت عليه: فقد تضافرت نصوص السنّة على تأكيد ما جاء في القرآن من حرمة الربا، وأنه من أفظع الذنوب وأكبر الآثام، التي تؤدي بفاعلها إلى الهلاك والدمار، وتنذر المجتمع الذي تتفشى فيه بالاضمحلال والضياع. ومن هذه الأحاديث:
- ما رواه جابر - رضي الله عنه - قال: لعن رسول الله ﷺ آكلَ الربا ومُوكِلَهُ، وكاتبَه وشاهدَيْه، وقال:
" هم سواء ". (أخرجه مسلم في المساقاة، باب: لعن الله آكل الربا وموكله).
- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: " اجتنبوا السبعَ المُوبقَات " قالوا: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحْف، وقذْف المحصنات المؤمنات الغافلات ". [أخرجه البخاري في الوصايا، باب: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً}، رقم: 2615. ومسلم في الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، رقم 89].
[الموبقات: المهلكات. إلا بالحق: سبب جناية يعاقب عليها الشرع بالقتل. التولّي يوم الزحف: الفرار من المعركة في قتال الكفّار. قذف المحصنات المؤمنات: اتهام العفيفات عن الفواحش اللواتي يحجزهن إيمانهن عن الفجور، ورميهن بالزنا. الغافلات: اللواتي يجهلن ما أتُّهمن به ولا يعرفن طرقه ولا يسلكنها].
- ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: " إذا ظهر الزّنا والربا في قرية فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل " وفي رواية: " إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله بهلاكها ". [أخرج الرواية الأولى الحاكم في مستدركه: البيوع، باب: إذا ظهر لزنا والربا في قرية: (2/ 37) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده، والطبراني، وأخرج الرواية الثانية الطبراني أيضاً].
فهذه النصوص كافية عمّا سواها في بيان فظاعة الربا وشدة نكارته. وحسبنا في هذا أن نصيب اللعن - هو الطرد من رحمة الله تعالى - على كل من ساهم في التعامل الربوي، وأن يُعَدّ أكل الربا في جملة تلك الجرائم التي لا يُدانيها غيرها إثماً واعتداءً، وزوراً وبهتاناُ، من شرك بالله تعالى - وهو نهاية الزور والباطل والافتراء - ومن سحر - وهو دجل وتحريف وتمويه وإيذاء - إلى غير ذلك من الآثام الشنيعة.
وليس أدل على أن الربا من أفحش ما يأتيه الإنسان أنه قرن بالزنا - الذي لا يساويه شئ في الاعتداء على الحرمات، وفساد الأفراد والمجتمعات - وجُعل معه سبباً لا ستحقاق عذاب الاستئصال.
من أجل ذلك كله أجمع المسلمون على حرمة الربا، وأنه من أكبر الكبائر التي يفسق فاعلها، ولا يقبل الله تعالى منه عملاً صالحاً حتى يتوب توبة نصوحاً من تعاطي الربا.
بل لقد أجمعت الشرائع السماوية على حرمة الربا والتعامل به، وأخبرنا القرآن - وهو الكتاب المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - أن بني إسرائيل استحقّوا اللعن والعذاب والشدة والنكال، بسبب ما اقترفته أيديهم من الآثام، وفي طليعتها الربا وقد نهوا عنه. قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء 160 - 161].
جمهور الفقهاء على أن التعامل الربوي يجري، وتحرم المعاوضة، متى وجدت علّة الربا فيه، سواء أكان التعامل مع مسلم أم ذمّي أم حربي.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: شرط جريان الربا أن يكون بَدَلا المعاوضة التي يتحقق فيها الربا معصومَيْن، أي: مملوكين ملكاً لا يجوز الاعتداء عليه وأخذه من صاحبه بغير وجه مشروع. وعليه فلو كان أحد البدلين مالاً غير معصوم، كأن يكون ملكاً لحربي - وهو غير المسلم الذي بين المسلمين وبين أهل بلاده غير المسلمين حرب - فإن الربا لا يجري فيه إذا كان المسلم هو الآخذ للزيادة.
فلو دخل تاجر مسلم دار الحرب بعقد أمان منهم، وتعامل مع أهلها وكسب منهم مالأً عن طريق الربا، فإنه يجوز له ذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى.
أما الذميّ - وهو المواطن غير المسلم في بلاد الإسلامية - فإن ماله معصوم باتفاق، وكذلك المستأمن - وهو الحربي الذي يدخل بلد المسلمين بعقد أمان وإذن من حاكم المسلمين - فلا يجوز التعامل بالربا معهما، ولا عبرة باختلاف الدين، لأن اتحاد الدين ليس شرطاً من شروط جريان الربا بالاتفاق.
وحجه الجمهور: أن حرمة الربا ثابتة في حق المسلمين وغير المسلمين، لأن غير المسلمين مخاطبون بفروع الشريعة على الصحيح.
وكذلك النصوص الواردة في التعامل الربوي عامة، ولا مخصص لها، فتبقى على عمومها.
وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: أن مال الحربي غير معصوم، بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن في دار الحرب مُنع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بذله الحربي باختياره ورضاه فقد زال المنع لزوال موجبه، كالاستيلاء على الحطب والحشيش غير المُحرز من قبل أحد.
والذي ينبغي التنبيه إليه هو: أن هذا القول لا مجال للعمل به في هذه الأيام، لأن المسلم لا يتمكن من العمل والمتاجرة في دار الحرب أو مع الحربي، حسب القوانين والأعراف القائمة، لذلك نرى من الأولى أن لا يتعرض الفقهاء والمفترون لهذا القول والبحث فيه.
وإنما خالفنا ما نراه الأولى وذكرناه من كثرة ما نسمع من استغلال له من قبل أولئك الناس الذين يتمسكون بخيوط العنكبوت ليتوصلوا إلى تحليل الحرام،وذلك أن الكثير من هؤلاء من يتعاملون بالربا مع المصارف الأجنبية، فيأكلون الربا وربما أطعموها، مدّعين أنهم استفتوا فأُفتوا بجواز ذلك، فذكرنا هذا القول لننبّه على الحق فيه، وهو أن القول خاص بالحربي، والحربي هو الذي بيننا وبين بلدة حرب قائمة بالمعنى الشرعي والعرفي لهذا، ولا ينطبق ذلك الآن إلا على ما بيننا وبين اليهود المغتصبين لأرضنا ومقدساتنا في فلسطين، أما بلاد الغرب أو الشرق من غير المسلمين فليسوا بحربيين بالمعنى الشرعي، وأن كان فريق منهم وأعواناً ومناصرين للصهاينة في الحقيقة، إلا أنهم لا ينطبق عليهم الحكم الذي ذكره أبو حنيفة وصاحبه رحمهما الله تعالى، ولذلك نقول:
إن التعامل بالربا مع أي مصرف من المصارف الأجنبية أو الأفراد منهم حرام وممنوع، كما لو كان في بلاد المسلمين، هذا إذا لم يكن أشد حرمة ومنعاً، لما فيه من إخراج الأموال من بلاد المسلمين وتسخيرها لمصلحة غيرهم، مما يكون فيه كبير ضرر في كثير من الأحيان على مصالح البلاد الإسلامية، ووقوعها في أزمات اقتصادية. لأننا ندخل بلادهم ويدخلون بلادنا دون عائق، والذين قالوا بهذا القول بينوا أنه لا ينطبق على التعامل مع من دخل بلاد المسلمين بأمان من أهل الحرب، فضلاً عمن دخلها من غيرهم.