المحتويات:
تعريفها
مشروعيتها
أركان الإجارة وشروطها
أقسام الإجارة وشروطها
حكم الإجارة
حق استيفاء المنفعة
الإجارة الفاسدة و أجرة المثل
ضمان العين المستأجرة
ضمان الأجير
انتهاء الإجارة
الخيارات في عقد الإجارة
اختلاف المؤجر والمستأجر في دعوىٰ الرد أو التلف
في اللغة: اسم لما يُعطىٰ من كراء لمن قام بعمل ما، جزاءً له على عمله، فيقال له أجر وأُجرة وإجارة. وأجره وآجره إذا أثابه علىٰ عمله، ولا يقال إلا في النفع دون الضُّر.
ويغلب الأجر في الثواب الأخروي، والأُجرة في الثواب الدنيوي.
وفي الاصطلاح: عرّفها صاحب " مغني المحتاج" بقوله: (عقد علىٰ منفعة مقصودة معلومة، قابلة للبذل والإباحة، بعوضٍ معلومٍ).
والمراد بالعقد علىٰ المنفعة أو المنافع تمليكها، كما جاء في بعض التعريفات لها: تمليك المنافع بعوض.
وقد نصّ التعريف علىٰ شروط المنفعة، وسيأتي بيان ذلك عند الكلام عن المنفعة وشروطها كركن من أركان الإجارة.
أجمع المسلمون علىٰ أن الإجارة جائزة ومشروعة، وعمدتهم في هذا الكتاب والسنّة
1 - أما الكتاب:
فبقوله تعالىٰ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
فقد أمر الله تعالىٰ الآباء بإعطاء الأجر علىٰ الإرضاع، فدلّ علىٰ أن الأجر حق للمرضعة، وهي لا تستحقه إلا بالعقد، إذ لو أرضعت بدون عقد كانت متبرعة، والمتبرع لا يستحق شيئاً، فكان ذلك دليلاً علي مشروعية العقد.
ويُستأنس لها أيضاً بقوله تعالي علي لسان شعيب عليه السلام وبناته: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 26ـ 27]: أي أن تكون أجيراً لي ثماني سنين.
وقلنا: يُستأنس بهذا استئناساً، لأنه وارد في شرع من قبلنا، وشرع مَن قبلنا - علي الأصح - ليس شرعاً لنا، حتى يكون هذا دليلاً على الحكم في شرعنا.
2 - وأما السنّة:
فقد ورد فيها أحاديث كثيرة، منها:
ما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها ـ في حديث الهجرة الطويل ـ قالت: واستأجر النبي ﷺ وأبو بكر رجلاً من بني الدَّيْل ثم من بني عبد بن عديّ، هادياً خرَّيتاً ـ الخرِّيت الماهر بالهداية ـ وهو علي دين كفّار قريش، فأمِناه، فدفعا إليه راحلَتَيْهما، ووعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث، فارتحلا. [البخاري: الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، رقم: 2144].
ما رواه مسلم: أن رسول الله ﷺ نهىٰ عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة وقال: " لا بأس بها ".
وروىٰ أيضاً: عن رافع بن خَديج رضي الله عنه قال: "كنّا أكثر الأنصار حقلاً، قال: كنا نُكْري الأرض علي أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم يَنْهََنا". وفي رواية: "أما بالذهب والورق فلا بأس به". [مسلم: البيوع، باب، كراء الأرض بالذهب والورق، وباب: في المزارعة والمؤاجرة، رقم: 1547، 1549)].
[قوله: (فلم ينهنا): أي فلم ينهنا عن كراء الأرض بالورق، وهو الفضة المضروبة. وقوله: (لنا هذه ولهم هذه): أي لنا ما تخرجه هذه القطعة من الأرض من زرع، ولهم ما تخرجه قطعة أخري].
وما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: " قال الله تعالى: ثلاثةُ أنا خصمُهم يوم القيامة: رجلّ أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجْرَه ُ".
[البخاري: الإجارة، باب: إثم مَن منع أجر الأجير، رقم: 2150].
[أعطي بي: عاهد باسمي أو حلف. غدر: نقض العهد ولم يف به، أو: لم يبر بقسمه. باع حرّاً: أي ادّعى أنه عبد مملوك فأعطاه مقابل ثمن وأخذ الثمن. فاستوفي منه: أي استوفى منه العمل الذي استأجره للقيام به].
للإجارة أركان أربعة، وهي: عاقدان، وصيغة، ومنفعة، وأُجرة.
ويُشترط في كلَّ منهما:
أن يكون أهلا للتعاقد، بأن يكون بالغاً عاقلاً، فلا يصح عقد الإجارة من مجنون ولا صبي، لأن كلاً منهما لا ولاية له علىٰ نفسه ولا علىٰ ماله.
وأن يكون غير محجور التصرف في المال، لأنها عقد يُقصد به المال، فلا يصحّ إلا من جائز التصرف فيه.
فالإيجاب: كلُّ لفظ يصدر من المؤجر ويدل علي تمليك المنفعة بعوض دلالة ظاهرة، سواء أكان صريحاً أم كناية.
فمن الصريح: آجرتك هذا أو أكريتك، أو ملّكتك منافعه سنةً بكذا.
ومن الكناية: اسكن داري شهراً بكذا، أو جعلت لك منفعة هذا الشيء بكذا.
والقبول: كل لفظ يصدر من المستأجر ويدل علي الرضا بتملك المنفعة دلالة ظاهرة، كقوله: قبلت أو استأجرت أو اكتريت أو استكريت، ونحو ذلك.
ويقوم مقام الصيغة التعاطي إن جري العرف بذلك، كأن يدخل سيارة لنقل الركاب إلي مكان معلوم، دون أن يجري عقداً، ويعطي الأُجرة عند وصوله أو قبله، فإن ذلك صحيح، لأن التعاطي له حكم الإيجاب والقبول في الدلالة علىٰ الرضا بالعقد إن جرىٰ به العرف.
ويشترط في الصيغة:
أ - موافقة الإيجاب والقبول، فلو قال: آجرتك داري بمائة شهراً، فقال: قبلت بتسعين، لم يصح العقد للمخالفة بين الإيجاب والقبول، وذلك عنوان عدم الرضا الذي جُعلت الصيغة دليلاً عليه، وهو شرط صحة العقد.
ب - أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول بسكوت أو كلام أجنبي عن العقد، لأن ذلك مُشعر بالإعراض عن العقد.
جـ - عدم تعليقها علىٰ شرط: كإذا جاء زيد فقد أجرتكها بكذا.
ويشترط فيها شروط عدة، منها:
أ - أن تكون متقوّمة، أي معتبرة ومقصودة شرعاً أو عرفاً، ليحسن بذل المال في مقابلتها، كاستئجار دار للسكن، أو دابة أو سيارة للركوب، لأنها إذا لم تكن ذات قيمة شرعاً كان بذل المال في مقابلها سفهاً وتضييعاً، وقد نهىٰ الشرع عن إضاعة المال:
فلا يصح استئجار آلات اللهو، لحرمة منفعتها. وكذلك لا يصح استئجار لتصوير ذي روح، أو من تغنِّي أمام الأجانب، لحرمة ذلك.
ولا يصحّ استئجار كلب لصيد أو حراسة، لأن عينه لا قيمة لها شرعاً، فلا قيمة لمنفعته.
ولا يصح استئجار رجل ليقول كلمة لا تُتعب، وإن روّجت سلعة أو حصلت منفعة، وكذلك استئجار دراهم أو دنانير للتزيين بها.
لأن مثل هذه المنفعة غير مقصود عرفاً، ولم يعتد الناس استيفاءها بعقد الإجارة.
ب ـ أن يكون في مقدور المؤجر تسليمها
ليتمكن المستأجر من استيفائها. فلو كان المؤجر عاجزاً عن تسليم المنفعة، حساً أو شرعاً، لم تصح الإجارة.
فلا تصحّ إجارة مغصوب لغير مَنْ في يده، ولا يقدر علىٰ انتزاعه مَمن في يده عقب العقد.
ولا يصحّ تأجير سيارة مفقودة أو ضائعة.
ولا يصح استئجار أرض للزراعة، ليس لها ماء دائم، ولا يكفيها المطر المعتاد أو ما في معناه كالثلوج والنداوة.
لعدم القدرة علىٰ تسليم المنفعة في هذه الأشياء حسَاً.
ومما لا تصح إجارته لعدم القدرة علىٰ تسليم منفعة شرعاً:
استئجار المرأة الحائض أو النفساء لخدمة المسجد، لأن الخدمة تقتضي مكثها وترددها في المسجد، ولا يجوز لها ذلك، وإن أمنت تلويثه، لأنه أجيز لها العبور فيه، لا التردّد والمكث. فهي لا تقدر علىٰ تسليم المنفعة شرعاً.
ولو استؤجرت غير الحائض لهذا، فحاضت أو نفست، انفسخت الإجارة، فإذا دخلت المسجد حال حيضها وقامت بالخدمة كانت آثمة، ولم تستحق الأجرة. ومثل خدمة المسجد تعليم القرآن.
وكذلك لا تصح إجارة امرأة متزوجة، لرضاع أو خدمة بغير إذن الزوج، لأن أوقاتها مستغرقة بحقه، فلا يجوز لها شرعاً شغل شيء من وقتها بغير حقه إلا بإذنه. فهي عاجزة إذن ـ شرعاً ـ عن تسليم المنفعة التي استؤجرت لها.
وكذلك لا يجوز إجارة امرأة مطلقاً للقيام بعمل يقتضي سفراً من غير صحبة زوج أو ذي رحم محرم، أو يقتضي خلوة بأجنبي، للحرمة الثابتة بالنهي الصريح والصحيح عن ذلك، فهي إذن غير قادرة شرعاً علي تسليم مثل هذه المنفعة.
جـ - الشرط الثالث للمنفعة: أن يكون حصولها للمستأجر، لا للمؤجر:
فلا تصح الإجارة علىٰ القُرب التي تحتاج إلي نيّة ولا تدخلها النيابة كالصلاة والصوم، لأن منفعتها ـ وهي الثواب ـ تعود علي المؤجر لا المستأجر، ولأن القصد منها امتحان المكلف بالامتثال وكسر النفس، ولا يقوم غيره مقامه في هذا.
وتصحّ الإجارة علي كل قربة وعبادة تدخلها النيابة وإن كانت تحتاج إلى نيّة. فتصحّ الإجارة علىٰ الحج عن العاجز والميت، وكذلك الصوم عن الميت، ولذبح أُضحية، ونحر هدي، وتفرقة زكاة. لأن هذه العبادات ثبت في الشرع النيابة فيها عن غير المكلّف بها أصلاً.
وأما القرب والعبادات التي لا تحتاج إلي نيّة كفروض الكفالة:
فإذا كانت شائعة في الأصل ـ أي أن كل مسلم مخاطب بها، ولكنها إذا فعلها بعض المسلمين سقطت عن الباقين ـ كالجهاد، فلا يصحّ الاستئجار عليها، لأن المسلم الذي أجّر نفسه للجهاد إذا حضر المعركة تعيّن عليه الجهاد، فيقع جهاده عن نفسه لا عمّن استأجره، فلا تعود المنفعة علي المستأجر، وإنما تعود علي المؤجر، فلا تصحّ الإجارة.
وإن لم تكن شائعة في الأصل صحت الإجارة عليها، كتجهيز الميت من غسل وتكفين ودفن، فإنه يختص في الأصل بتركته، فإن لم تكن تركة فبمَن تجب عليه نفقته، فإن لم يكن، وجب علىٰ أغنَياء المسلمين القيام به.
وكذلك تعليم القرآن أو بعضه، لأن الأصل في التعليم أنه يختص بمال المتعلم أو مَن تلزمه نفقته. وقد ثبت أن رسول الله ﷺ قال: " إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتابُ الله ". [أخرجه البخاري في الطب، باب: الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، عن ابن عباس رضي الله عنهما رقم: 5405].
ومثل القرآن تعليم مسائل العلم والقضاء ونحو ذلك من فروض الكفاية، التي لا يقصد في الأصل كل مكلّف، فإذا استؤجر عليها وقام بها لم تقع عنه، لأنه غير مقصود بفعله، فلا تعود منفعته عليه.
وكذلك الشعائر غير الواجبة كالأذان، فإنه تصح الإجارة عليه.
د ـ الشرط الرابع: أن لا يكون في المنفعة استيفاء عين قصداً:
فلا تصحّ إجارة البستان لاستيفاء ثمرته، ولا الشاة لاستيفاء صوفها أو لبنها أو نتَاجها، لأن الأصل في عقد الإجارة تمليك المنافع، فلا تملك الأعيان بعقدها قصداً. ولأن هذا في الحقيقة استهلاك لا انتفاع، وموضوع الإجارة في الأصل الانتفاع لا الاستهلاك.
فإذا تضمن عقد الإجارة استيفاء منفعة تبعاً لا قصداً جاز، كما إذا استأجر امرأة للحضانة والإرضاع، أو للإرضاع فقط، فإن ذلك يستتبع استيفاء لبن المرضع وهو عين، فيصحّ ذلك للضرورة أو الحاجة الداعية إليه.
قال تعالي: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق6].
ومثل هذا لو استأجر داراً للسكنىٰ، ولها حديقة فيها أشجار مثمرة، جاز، لأن استهلاك الثمر تبع لاستيفاء المنفعة.
هـ ـ الشرط الخامس من شروط المنفعة: أن تكون معلومة للعاقدين عيناً وصفة وقدراً.
فيشترط لصحة الإجارة:
العلم بعين المنفعة: ويكون ذلك ببيان محلها، فلا تصحّ إجارة إحدى الدارين داراً دون تعيين، لجهالة عين المنفعة بجهالة محلها. وكذلك لو قال: أجرتك داراً، دون بيان أوصافها أو الإشارة إليها. وذلك أن المنفعة هي محل العقد في الإجارة، فلا بدّ من تعيينها ليصحّ العقد، ولما كانت المنفعة ليست شيئاً مادياً يمكن تجسيده وتعيينه، استُعيض عن ذلك ببيان محلها للضرورة، فيقوم بيان محل المنفعة مقام بيانها.
العلم بنوع المنفعة وصفتها: وذلك حين يكون المستأجَر يختلف الناس في الانتفاع به اختلافاً ظاهراً لا يُتسامح به عادة.
فلا تصحّ إجارة أرض للزراعة دون أن تُعيَّن المزروعات التي ستزرع فيها، لأن أثر المزروعات علي الأرض يختلف من النوع إلي نوع، فإذا ذكر المستأجر أنه يستأجرها ليزرع فيها ما يشاء صحّ العقد، لأنه يُحمل علي الأشد، فإذا انتفع فيها بالأخف كان له ذلك من باب أولي.
فإذا كانت المنفعة المرادة مما لا يختلف الناس فيها اختلافاً ظاهراً يؤدي إلي المنازعة صحت الإجارة دون بيان نوعها، وذلك كاستئجار الدور للسكنىٰ، فلا يشترط بيان مَن سيسكن معه من أُسرته، أو بيان ما سيضع في البيت من أثاث وأمتعة، لأن ذلك مما يتسامح الناس فيه عادة.
فإذا انتفع بها بخلاف الغالب والمعتاد لم يكن له ذلك، كما إذا انتفع بالدار بصناعة أو تجارة.
وعليه: يشترط لصحة إجارة الدار إذا كانت في محلة ينتفع الناس فيها بالدور بالسكني وغيرها، أن يبيِّن نوع المنفعة من سكني أو تجارة أو صناعة، كما ذكرنا، وأن يبيّن نوع التجارة أو الصناعة كذلك.
وكذلك يشترط لصحة الإجارة علىٰ عمل: أن يبيّن نوع العمل الذي سيقوم به الأجير.
العلم بقدر المنفعة:
ويختلف تقدير المنفعة باختلاف نوعها: فمنها ما يُقدَّر بالزمن، ومنها ما يقدر بالعمل، ومنها ما يصحّ فيه الأمران.
أـ فما تقدر فيه المنافع بالزمن: هو كل منفعة لا يمكن ضبطها بغيره وتقلّ وتكثر، أو تطول وتقصر، كإجارة الدور للسكنى، فإن سكنىٰ الدار تطول وتقصر، وكالإجارة للإرضاع، فإن ما يشربه الرضيع من اللبن يقلّ ويكثر، وكالإجارة لتطيين جدار، فإن التطيين لا ينضبط رقّة وسماكة.
فمثل هذه المنافع لا يمكن تقديرها بغير الزمن، لأن تحصيلها لا ينضبط بغير ذلك. ولهذا جاء علي لسان شعيب عليه السلام: {عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} فقد قدّر منفعة استئجار موسى عليه السلام بالزمن، وإنما استأجره للرعي ونحوه، والرعي من هذا النوع من المنافع.
ما تجوز عليه الإجارة من الزمن:
وإذا قدرت المنفعة بالزمن وجب أن يكون مدة معلومة، تبقي فيها العين المؤجرة غالباً، ليتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها.
والمرجع في معرفة المدة التي تبقى فيها كل عين غالباً إنما هو العرف وأهل الخبرة. ويختلف ذلك من عين إلى عين:
ـ فالأرض ـ مثلاً ـ تصح إجارتها مائة سنة أو أكثر.
ـ والدار: تصح إجارتها ثلاثين سنة.
ـ والدابة: تصح إجارتها عشر سنين.
وهكذا كل شيء على ما يليق به، ويقدر أهل الخبرة أنه يبقىٰ هذه المدة.
ما يستثنى من زمن الإجارة:
ويستثني من الزمن المستأجر عليه الزمن الذي تستغرقه العبادات الواجبة التي لا تؤدَّي إلا في المدة المستأجر عليها، وكذلك أوقات الطعام المعتادة لدي الإُجراء والمستأجرين. وكذلك إذا كانت المدة مقدرة بزمن طويل: استُثني أيام الأعياد الثابتة بالشرع، وأيام التعطيل الثابتة بالعُرْف، فإن الأجير يستحق الأجر علي هذه الأيام وتلك الأوقات ولو لم ينص عليها في العقد، فلا ينقصه المستأجر شيئاً من الأجر المتفق عليه لليوم أو الشهر أو السنة.
ب ـ ما تقدر فيه المنافع بالعمل: وذلك إذا كانت المنفعة معلومة في ذاتها ولكنها قد تستغرق زمناً يقصر أو يطول، فلا يمكن ضبطها به.
وذلك كالاستئجار لخياطة ثوب، وطلاء جدار، وطبخ طعام، ونحو ذلك.
فإن مثل هذه المنافع تقدّر بالعمل ولا تقدّر بالزمن، لأن الزمن فيها قد يطول وقد يقصر، بينما العمل فيها منضبط ومحدد.
جـ - ما يصحّ تقدير المنفعة فيه بالزمن أو العمل: وذلك كاستئجار شخص لخياطة أو سيارة للركوب، فيصحّ تقدير المنفعة بالزمن كأن يستأجر يوماً ليخيط هذا الثوب. ويصحّ أن يستأجر السيارة لتوصله من دمشق إلي مكة مثلاً، فيكون تقدير المنفعة بالعمل، ولا ينظر إلي ما يستغرق من الوقت، كما يصحّ أن يستأجر السيارة يوماً أو يومين، فتكون المنفعة مقدرة بالزمن، سواء قطع بها المسفة أم لا، وركبها أم لا.
ولا يصح أن تقدر المنفعة بالزمن والعمل معاً، كما إذا استأجره ليخيط له هذا الثوب بيوم، أو ليبني له هذا الجدار بيومين، أو ليوصله من دمشق إلي مكة بثلاثة أيام، لأن العمل قد لا يستغرق الوقت المحدد، وقد يزيد عنه، فيكون في ذلك غرر، فلا يصح العقد.
ويشترط في الأجرة ما يشترط في الثمن في العقد البيع، لأن الأجرة في الحقيقة هي ثمن المنفعة المملوكة بعقد الإجارة.
فيشترط فيها:
أ - أن تكون طاهرة:
فلا يصحّ عقد الإجارة إذا كانت الأُجرة كلباً أو خنزيراً أو جلد ميتة لم يُدبغ أو خمراً، لأن هذه الأشياء نجسة العين. ففي الصحيحين أن رسول الله ﷺ نهى عن ثمن الكلب. وفيهما أنه ﷺ قال: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ". [البخاري: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام. وباب: ثمن الكلب، رقم: 2121، 2122. ومسلم في المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي، وباب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، رقم: 1567، 1581].
وكذلك إذا كانت عيناً متنجسة لا يمكن تطهيرها، كالخل واللبن والدهن المائع والزيت والسمن، لأن النبي ﷺ أمر بإراقة السمن المائع إذا تنجس. روى ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله ﷺ عن الفأرة تقع في السمن فتموت؟ قال: " إنْ كان جامداً ألقي ما حَوْلَها وأكَلَهُ، وإن كان مائعاً لم يقربه ". وفي رواية: " فأرِيقُوه". (انظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: الأطعمة، باب: في الفأرة تقع في السمن، رقم: 331).
فالأمر بإراقته والنهي عن قربه دليل على أنه لا يمكن تطهيره، وبالتالي لا يجوز بيعه.
ولما كانت هذه الأشياء لا يصحّ بيعها لنجاستها لم يصحّ جعلها أُجرة.
وقيس علي ما ذُكر غيرها من الأعيان النجسة التي لم تذكر، وهي في معناها.
ب - أن تكون منتفعاً بها:
فلا يصحّ جعل الأجرة شيئاً لا يُنتفع به: إما لخسْته كالحشرات وكحبَّتي حنطة، وإما لإيذائه كالحيوانات المفترسة، وإما لحرمة استعماله شرعاً كآلات اللهو والأصنام والصور. وذلك لأن هذه الأشياء وأمثالها مما لا نفع فيه لا يُعََد مالاً، فلا يصحّ أخذ المال في مقابلته. والمنفعة التي هي محل عقد الإجارة مال متقوم كما ذكرنا، فلا يصح بذلها في مقابلة ما لا يُعدّ مالاً.
جـ - أن تكون نقدوراً علي تسليمها:
فلا يصحّ أن تكون الأجرة طيراً في الهواء، ولا سمكاً في الماء، كما لا يصحّ أن تكون مالاً مغصوباً إلا إذا كانت لمن في يده المغصوب، أو لقادر علي انتزاعه منه.
د - أن يكون للعاقد ولاية علي دفعها: بملك أو وكالة، فإن كانت الأُجرة لا ولاية للعاقد عليها بما ذُكر لم تصح الإجارة.
هـ - أن تكون معلومة للعاقدين:
فلا تصحّ إجارة الدار بما تحتاجه من عمارة، ولا إجارة سيارة بوقودها، أو دابة بعلفها، لجهالة الأُجرة في هذه الحالات.
ومن الجهالة في الأُجرة أن تجعل جُزءاً من المأجور يحصل بعمل الأجير، كما إذا استأجره ليذبح شاة ويسلخها بجلدها أو جزء منها، للجهالة بثخن الجلد أو قدر الجزء.
وكذلك إذا استأجره ليطحن له قدراً معيناً من القمح بجزء مما يخرج من دقيقه، كربعه أو خمسه، للجهالة بقدر الدقيق. ولأن الأجير ينتفع هنا بعمله، فيكون عاملاً لنفسه من وجه، فلا يستحق الُأجرة على عمله. وقد روي الدارقطني (البيوع / الحديث: 195): أن النبي ﷺ نهي عن قَفيز الطَّحَّان. وقد فسر بأن تُجعل أُجرة الطحن قفيزاً مطحوناً مما استؤجر لطحنه.
[القفيز: مكيال كان معروفاً].
فلو استأجره بجزء من الحنطة ليطحن باقيها صحّ، لانتفاء المعنى الذي مُنع من أجله، وهو الجهالة وكون الأجير عاملاً لنفسه.
ويدخل في هذا المنع من باب أولي:
أن يعطي من يقوم بحصاد الزرع ـ بنفسه أو بواسطة الآلات ـ جزءاً من المحصول ـ كالعشر أو نحوه ـ أُجرة علي الحصاد.
أن يعطي جباة الأموال، للجمعيات ونحوها، جزءاً مما يجبونه من الأموال كاثنين في المائة ونحو ذلك.
أن يعطي سماسرة الدور ونحوها أيضاً جزءاً بنسبة معينة من قيمة ما يَبيعونه كاثنين في المائة أو ثلاثة.
فهذه الأنواع الثلاثة من الإجارة غير صحيحة، لأن الأُجرة فيها مجهولة، وينبغي أن يعلم أن أخذ هذه الأموال بهذه الطريقة كسب خبيث غير مشروع، يُؤاخذ عليه من يأخذ ومَن يعطيه، فليحذر الذين يخالفون شرع الله تعالىٰ، ولا سيما جباة أموال الجمعيات الذين كثيراً ما تكون الأموال التي يجبونها حقاً للفقراء والمساكين، فيأكلون جزءاً منها ظلماً وزوراً، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فليحذر هؤلاء سخط الله تعالىٰ وعقابه.
الإجارة قسمان: إجارة عين وإجارة ذمة.
1 - فإجارة العين: هي الإجارة الواردة على منفعة متعلقة بعين معينة. كما لو قال: أجرتك هذه الدار، أو السيارة الفلانية ـ لسيارة معينة يعرفها المتعاقدان ـ أو أن يستأجر شخصاً معيناً لعمل ما، أو ليخيط له هذا الثوب.
2 - وإجارة الذمة: هي الإجارة الواردة على منفعة متعلقة بالذمة، كأن يستأجره ليوصله بسيارة موصوفة في ذمته إلي مكان معين، أو يؤجره سيارة موصوفة في ذمته مدة معينة، وكأن يلزم المستأجر المؤجر عملاً في ذمته كبناء أو خياطة أو نحو ذلك، فيقبل.
ومن هذا النوع ما يحصل في هذه الأيام من استئجار وسائل النقل المختلفة، فإن الإجارة ترد علي منفعة موصوفة في الذمة، لا على منفعة متعلقة بعين معينة.
شروط إجارة العين:
1 - أن تكون العين المؤجرة معينة، فلا يصح أن يؤجره إحدى هاتين السيارتين، كما مرّ
2 - أن تكون العين المؤجرة حاضرة ومشاهدة من المتعاقدين، عند عقد الإجارة.
فلو قال: أجرتك داري أو سيارتي أو ثوبي، وهما غائبان عن الدار، أو السيارة
والثوب ليسا في مجلس العقد، لم تصحّ الإجارة، إلا إذا كان المتعاقدان قد شاهدا العين المؤجرة قبل العقد بمدة لا تتغير فيها غالباً فتصحّ الإجارة.
3 - أن لا يؤجل استيفاء المنفعة عن العقد، كأن يؤجره داره السنة المقبلة، أو يؤجره نفسه علي أن يبدأ العمل أول الشهر، أو يؤجره سيارته غداً، أو أن يؤجره داره سنة أو شهراً اعتباراًُ من أول الشهر القادم، وهكذا، إلاّ إذا كانت الإجارة للمستقبل لمن هو مستأجر للعين وقت العقد، لمدة تنتهي ببدء مدة الإجارة الجديدة فتصحّ الإجارة، لاتصال المدتين مع اتحاد المستأجر، فصار كما لو استأجر العين في المدتين في عقد واحد.
شروط إجارة الذمة:
1 - أن تكون الأُجرة حالة، وأن تسلَّم في مجلس العقد، لأن هذه الإجارة سََلم في المنافع، فيشترط تسليم رأس مال السلم ـ وهو الأجرة ـ في مجلس العقد، واشتراط التأجيل كعدم التسليم.
فلو اتفقا في العقد علي تأجيل الأُجرة لم تصحّ الإجارة حتى ولو سلمت في المجلس. وكذلك إذا لم يتفقا علي التأجيل ولم تسلم الأُجرة بالفعل في مجلس العقد.
2 - بيان جنس العين التي تُستوفي منها المنفعة ونوعها وصفتها.
كما إذا عقد إجارة مع مكتب نقل لينقله إلي بلد معين، فينبغي بيان الوسيلة التي سينقله فيها: هل هي وسيلة جوية أو بحرية أو برية؟ وهل هي سيارة كبيرة أو صغيرة؟ وهل هي حديثة أو قديمة؟ وما إلي ذلك من أُمور تتفاوت فيها الأغراض.
إذا تم عقد الإجارة بتوفر أركانه وشروطه انعقد صحيحاً، وترتب عليه حكمه ـ أي أثره الشرعي ـ بمجرد انعقاده، وهو:
ثبوت الملك للمستأجر في منفعة المؤجَّر، وجواز تصرفه فيها واستيفائه لها.
ثبوت الملك للمؤجَّر في الأُجرة التي هي قيمة المنفعة التي ملكها
المستأجر من حين العقد.
ويراعي في هذا الملك:
أنه كلما مضي جزء من الزمن، والعين المستأجرة سليمة في يد المستأجر، بأن أنه استقر ملكه في جزء من الأُجرة يقابل ما استوفي أو فات من المنفعة في ذلك الزمن الذي مضي. فإذا استوفي المنفعة كاملة، أو مضت مدة الإجارة، استقر ملكه في كامل الأُجرة حتى ولو لم ينتفع بالعين المؤجرة، طالما أنها سليمة في يده وسلطانه، لأن منافعها تلفت تحت يده فاستقر عليه بدلها، كما لو تلف المبيع في يد المشتري، فإنه يستقر عليه ثمنه.
وإذا هلكت العين المستأجرة بعد استيفاء جزء من المنفعة أو تمكنه من ذلك ينظر:
فإن كان هذا الجزء منتفعاً به عادة استقر للمؤجر مَلِك ما يقابله من الأُجرة، كما لو استأجر سيارة لتوصله إلى مكان معين، فعطبت قبل الوصول إليه، فإنه يستحق أجرة المسافة التي قطعت إن كان يمكن متابعة السفر دون مشقة من المكان الذي عطبت فيه السيارة، أو كان للمستأجر غرض بذلك المكان.
وإن كان الجزء المستوفى من المنفعة لا ينتفع به عادة، كما لو كان مكان عطب السيارة لا يُقصد عادة، أو يصعب متابعة السفر منه، لم يستقر شيء من الأُجرة للمؤجر، وكان كهلاك العين المؤجرة قبل استلامها، أو قبل استيفاء شيء من منفعتها أو التمكّن منه.
ويثبت الملك في الأُجرة سواء أكانت معجلة أم مؤجلة.
وقد علمت إنه إذا كانت الإجارة ذمة لم يجز تأجيل الأُجرة، واشتُرط تسليمها في مجلس العقد.
أما إذا كانت الإجارة إجارة عين:
فإن كانت الأُجرة معينة، كما إذا أجّره داره سنة بهذه الدراهم أو بهذه السجادة، وجب تعجيلها ولم يجز تأجيلها، لأن الأعيان لا تقبل التأجيل.
وإن كانت الأُجرة في الذمة، كما إذا أجّره داره سنة بألف درهم، جاز تعجيلها وتأجيلها، كما يجوز تعجيل بعضها وتأجيل بعض، وتقسيطها على الشهور حسب اتفاق المتعاقدين.
فإذا لم ينص في العقد على التعجيل أو التأجيل كانت معجلة.
علمنا أنه إذا تم عقد الإجارة صحيحاً ملك المستأجر منفعة العين المؤجرة، وبالتالي يثبت له حق استيفائها.
وللمستأجِر أن يستوفي المنفعة بنفسه، كما أن له أن يستوفيها بغيره. فإذا استأجر داراً كان له أن يسكنها بنفسه ومع غيره، وأن يسكنها غيره: إعارة أو إجارة. فلو شرط المؤجر على المستأجر أن يستوفي المنفعة بنفسه لم تصحّ الإجارة، وكان كما لو باعه شيئاً وشرط عليه أن لا يبيعه، فلا يصح عقد البيع.
ويشترط لصحة استيفاء المنفعة بغير المستأجر:
1 - أن يكون مَنْ سٌلِّمت إليه العين المؤجَّرة ليستوفي منفعتها أميناً.
2 - أن يكون مساوياً للمستأجر في استيفاء المنفعة، أو أقل منه إضراراً بالعين المستأجرة
فإذا استأجر داراً للسكنى فليس له أن يسلمها لمن يستعملها للصناعة أو التجارة.
وإذا أجّره سيارة للركوب ليس له أن يسلمها لمن يستعملها للحمل ونحوه، إذا كان ذلك يضرّ بها أكثر من الركوب.
وإذا أجرّه ثوباً ليَلْبَسه ليس له أن يُلْبَسَه مَن هو أضخم منه، وهكذا.
إذا اختلّ شرط من شروط الإجارة كانت الإجارة فاسدة، ووجب على المستأجر أن يردّ العين المؤجرة إذا كان قد استلمها.
فإذا كان قد استوفى منافعها، أو مضى وقت يمكنه فيه الاستيفاء، وجب عليه أجرة المثل كاملة، سواء أكانت مساوية للأجرة المسمّاة أم أكثر منها أم أقل.وجمهور الحنفية قالوا: لا يزاد بأُجرة المثل على الأُجرة المسمّاة، لاتفاق المتعاقدين على حطّ ما فوقها.
وكذلك إذا استوفىٰ بعض المنفعة، ثم فُسخ العقد لفساده، وجبت أُجرة مثل المقدار المستوفى من المنافع وسقط الباقي.
ومثل المنفعة العين ما إذا كانت الإجارة على عمل، وعمل الأجير العمل المستأجَر عليه أو بعضه، فإنه يستحق أُجرة مثل ما عمل، كُلاًّ أو بعضاً، على الخلاف المذكور.
وأُجرة المثل: هي الأُجرة التي يقدرها أهل الخبرة عادة لمثل العين المستأجرة أو العمل المستأجر عليه.
والأُجرة المسماة: هي الأُجرة المتفق عليها بين المتعاقدين، وقد تزيد على أجرة المثل وقد تنقص.
وإنما وجبت أجرة المثل في الإجارة الفاسدة لأن الإجازة بيع المنافع كما علمت، فإذا فسد العقد كان ما سمّياه من الأُجرة غير لازم، لأنه إنما يلزم بالعقد ولا عقد، والمنفعة كالعين المبيعة، فإذا استوفيت وجب بدلها، وهو أجرة المثل.
إن يد المستأجر على العين المستأجرة يد أمانة، فلا يضمن ما أصابها من تلف أو تعييب، سواء أكان ذلك أثناء استيفاء المنفعة أم قبلها أم بعدها. وذلك لأن قبضة لها قبض بحق، إذ لا يمكن استيفاء المنفعة - التي هي محل العقد في الإجارة - إلا بقبضها ووضع اليد عليها.
وتبقى العين المستأجرة غير مضمونة في يد المستأجر ما دام لم يتعدّ في استعمالها أو يقصر في حفظها.
فإذا استأجر داراً للسكنىٰ فسكنها:
ثم أصابها حريق - مثلا - بسبب ما يستعمل عادة في الدار من وسائل الوقود وبدون إهمال أو تقصير، فلا يضمن ما نتج من أضرار عن ذلك الحريق.
أما لو حدث الحريق بسبب لا يكون عادة في دور السكن، كما لو استعمل فيها النار لصناعة حدادة ونحو ذلك، فإنه يضمن، لأنه تعدّى بالاستعمال حيث استعمل الدار لغير ما استأجرها من أجله.
وكذلك لو نتج الحريق بسبب إهمال أو تقصير، كما لو ترك المدفأة موقدة أثناء النوم، فنتج عن ذلك حريق، فإنه يضمن ما نتج عن ذلك من أضرار بالدار،لأن تركه لها موقدة أثناء النوم تقصير أو إهمال، ولأنه خلاف المعتاد لدى الغالبية العظمى من الناس، ولأنه منهي عنه شرعاً أيضاً، فإنه ﷺ قال " لا تَتْرُكُوا النَّارَ في بيوتكم حين تنامُونَ " وبلغه أنه احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل، فقال: " إن هذه النار إنما هي عَدُوٌ لكم، فإذا نِمْتُم فأطْفِئوها عنكم " [البخاري الاستئذان، باب: لا تُترك النار في البيت عند النوم، رقم: 5935، 5936. ومسلم: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء ... وإطفاء السراج والنار عند النوم .... ، ورقم: 2015، 2016].
وكذلك لو كان ذلك بسبب ترك وسائل الإيقاد في أيدي الصغار ونحوهم.
وهكذا أيّ ضرر يصيب العين المستأجرة بسبب سوء الاستعمال، كما لو استأجر سيارة للركوب وأسرع بها في السير في الأماكن المزدحمة أو الطرقات الوعرة، فنتج عن ذلك ضرر لها.
وكذلك إذا قصر في الحفظ، كأن يضع العين المستأجرة في مكان لا توضع فيه عادة، كما إذا وضع السيارة في منتصف الطريق، أو مكان غير مأمون دون حراسة، فإنه يضمن ما يطرأ عليها من حوادث. أما لو وضعها في مكان مأمون يعتاد الناس وضعها فيه، ثم أصابها شيء، فإنه لا يضمنه.
وكذلك يضمن المستأجر العين المؤجرة إذا استعملها بعد انتهاء مدة الإجارة، أو لم يستعملها ولكنه لم يخل بينها وبين مالكها. أما لم يستعملها، وأصابها شيء قبل التمكّن من ردّها أو التخلية بينها وبين مالكها، فإنه لا يضمن، استصحاباً لما كان قبل انتهاء المدة من عدم الضمان.
الأجراء نوعان:
أ - أجير خاص: وهو الذي يتعاقد معه المستأجر علي القيام بعمل ما مدةً من الزمن، يستحق المستأجر نفعه فيها جميع الوقت، ويستحق الأجير فيها الأجر ولو لم يقم بعمل، أو يتعاقد معه المستأجر ليقوم له بعمل معيَّن دون أن يتقبل عملاًً آخر لغيره قبل انتهائه، كالعمال في المعامل، والأجراء في الحوانيت
ودور الصناعة كالخياطين وغيرهم، وكذلك الدهّان في البيت والبنّاء والنجار، ومَن إلي مَمن يعملون في حوزة المستأجر أو بحضوره، فأمثال هؤلاء الأجراء لا يضمنون ما استؤجروا عليه وما تحت أيديهم أو تعيَّب، كما إذا تعمد الإتلاف، أو تساهل وقصر بأسباب الحفظ وأُصول العمل. وذلك لأن يد المستأجر ثابتة حكماً علي ما استأجر عليه الأجير، وإنما استعان بالأجير لشغله وتصنيعه، فصار كالمستعين بالوكيل.
ب - أجير مشترك: وهو الذي يتعاقد معه المستأجر علىٰ عمل معين يقوم به، ويستحق الأجر بانتهائه، ويمكن أن يتعاقد مع كثيرين علي مثل هذا العمل أو غيره في زمن واحد، ولا يكون عمله غالباً في حوزة المستأجر أو حضوره، وإنما يستقل بعمله في منزله أو دكانه أو معمله، كالخياط والصبّاغ والكوّاء والحمّال إذا حمل لاثنين فأكثر، ومصلحي السيارات ونحو ذلك.
فهؤلاء الأُجراء أيضاً ـ ويسمَّوْن لدي الفقهاء أحياناً: الصُّنّاع ـ لا يضمنون إلا بالتعدي. والعين أمانة في يد الأجير، لأنه متطوع بالحفظ إذ الأُجرة مقابل العمل، ولأن قبضه للعين إنما هو لمصلحة المستأجر، فلا يضمن إلا إذا تعدَّي أو قصر.
وذهب أبو يوسف ومحمد ـ من أصحاب أبي حنيفة ـ رحمهم الله تعالي إلي:
أن الأجير المشترك يضمن ما هلك تحت يده، إلا إذا كان الهلاك بسبب عام لا يمكن الاحتراز عنه كالحريق والغرق الغالب، فإذا كان الهلاك أو التلف بسبب يمكن الاحتراز عنه غالباً، كالسرقة ونحوها، فإنه يضمن.
وحجتهم في هذا: الحفاظ علي مصالح الناس، لأن أمثال هؤلاء الأُجراء إذا لم يضمنوا ما تحت أيديهم من الصناعات استهانوا بأمتعة المستأجرين وأموالهم، وتقبلوا أعمالاً تفوق إمكاناتهم وقدرتهم علىٰ حفظها، والناس في حاجة شديدة إلي صناعاتهم، فكانت المصلحة في تضمينهم، ضرورة حملهم علي الحرص والمحافظة علىٰ ما في أيديهم من أموال الناس (1).ونرىٰ أن العمل بهذا هو الأرجح في أيامنا هذه.
(1) انظر المسألة مفصلة بأدلتها لدى المذاهب الفقهية في كتاب (أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي) للدكتور مصطفى البغا، ص 71.
تنتهي الإجارة وتنقضي أحكامها بأمور، هي:
1 ـ الفسخ:
عقد الإجارة عقد لازم من الطرفين، أي بعد انعقاده صحيحاً ليس للمؤجر أو المستأجر فسخه متى شاء، ولا يفسخ إلا بعذر، وإذا فسخ فقد انتهت الإجارة.
ومن الأعذار التي تنفسخ بها الإجارة:
ا- هلاك العين المؤجرة في إجارة العين:
فإذا استأجر داراً معينة أو سيارة معينة، ثم تهدمت الدار أو عطبت السيارة استيفاء شيء من المنفعة فقد انفسخت الإجارة، لفوات المحلّ المعقود عليه.
ومثل تلف العين تعيُّبها بحيث يتعذر استيفاء المنفعة المقصودة منها. فإذا حصل التلف أو العيب بعد استيفاء شئ من المنفعة: انفسخت الإجارة بالنسبة للمستقبل من حين الهلاك، ويستحق المؤجر أجرة ما استوفىٰ من المنفعة بقسطه من الأجرة المتفق عليها في العقد.
فإذا كانت الإجارة إجارة ذمة، كما إذا استأجره ليوصله بسيارة موصوفة في الذمة إلىٰ مكان كذا، فأحضر سيارة ثم عطبت أو تعيبت، فإن الإجارة لا تنفسخ، بل علي المؤجر أن يأتي ببدلها، سواء أكان ذلك قبل استيفاء شيء من المنفعة أم بعد استيفاء بعض منها، لأن المعقود عليه لم يفت بهلاك السيارة المحضرة، لأن العقد لم يرد علىٰ سيارة معينة، وإنما علىٰ سيارة موصوفة في الذمة، فيمكن استبدالها.
ومثل العين المستأجرة في كل ما سبق: الأجير، فإذا استأجر شخصاً معيناً ليقوم بعمل، ثم مات أو مرض مرضاً يتعذر معه القيام بالعمل المستأجر عليه، انفسخت الإجارة. وإذا كانت إجارة ذمة، فأحضر له مَن يعمل فحصل الموت أو المرض، لم تنفسخ الإجارة، لأن استيفاء المنفعة يمكن أن يكون بغيره.
ب - عدم تسليم العين المؤجرة في المدة:
إذا كانت الإجارة إجارة عين، وكانت المنفعة محددة بمدة من الزمن، وانقضت تلك المدة ولم يسلم المؤجر العين المؤجر ة، فقد انفسخت الإجارة لفوات المعقود عليه قبل قبضه.
وكذلك إذا كانت الإجارة إجارة ذمة، ولم يُحضر المؤجَّر ما تُستوفي منه المنفعة في الوقت المتفق عليه. فإذا لم يُحدد وقت لاستيفاء المنفعة ولم يتعلق به غرض أصلي للمستأجر، ولم يُحضر المؤجِّر ما تُستوفي منه المنفعة حتى مضي وقت يمكن استيفاؤها فيه، فلا فسخ ولا انفساخ، لأنه دين تأخر وفاؤه.
فإذا سلم المؤجر العين المؤجرة أو أحضرها بعد مضيّ بعض مدة الإجارة الفسخ العقد فيما مضى، وكان المستأجر بالخيار فيما بقي.
وإذا كانت المنفعة محددة بعمل، وتأخر تسليم العين حتى مضىٰ وقت يمكن فيه إنجاز العمل، لم تنفسخ الإجارة، لأن العقد تعلق بالمنفعة لا بالزمن، فلم يتعذر الاستيفاء حتى تنفسخ الإجارة.
ما لا تنفسخ به الإجارة:
أ - لا تنفسخ الإجارة بخروج العين المؤجرة من ملك المؤجر، كما إذا أجر داراً ثم وهبها أو باعها، لأن عقد الإجارة يرد علي المنفعة فلا يمنع بيع الرقبة. وتنتقل ملكية العين حين عقد البيع أو الهبة إلي المشتري أو الموهوب له دون المنفعة، لأن البائع أو الواهب ما كان يملكها حين العقد. وتبقي في يد المستأجر إلىٰ انتهاء مدة الإجارة، ولكن يثبت للمشتري الخيار إن كان يجهل الإجارة، أو كان يعلمها ويجهل مدتها.
ب - وكذلك لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين المؤجر أو المستأجر ولا بموتهما، بل تبقي إلي انقضاء المدة، لأنها عقد لازم فلا ينفسخ بالموت كالبيع، ويخلف المستأجرَ في استيفاء المنفعة وارثُه.
جـ - وكذلك لا تنفسخ الإجارة بعذر طرأ في غير المعقود عليه:
كما أجر سيارة وهو سائق لها، فمرض وعجز عن الخروج مع المستأجر، لأنه يمكن استيفاء منفعة العين المؤجرة بغيره.
وكذلك لو استأجر سيارة للسفر عليها، ثم مرض المستأجر وتعذر عليه السفر، أو استأجر داراً للسكنىٰ، ثم اضطر إلىٰ السفر.
2 ـ استيفاء المنفعة المعقود عليها:
ينتهي عقد الإجارة حكماً باستيفاء المنفعة المعقود عليها: فإن كانت مقدرة بعمل انتهت الإجارة بإتمام العمل، وإن كانت مقدّرة بزمن انتهت الإجارة بمضي ذلك الزمن.
فإذا استعمل المستأجر العين المؤجرة بعد انتهاء الإجارة وجب عليه أُجرة المثل، مقابل ما استوفاه من المنفعة بعد استيفاء المعقود عليه، وكان ضامناً للعين المؤجرة، لأنه تعدي باستعمالها بغير عقد.
وكذلك إن استأجر أرضاً مدة لزراعة معينة، وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع، فإنه لا يُجبر علي قلعه، لما في ذلك من ضرر عليه، وإنما يجب عليه أُجرة المثل للمدة التي شغل بها الأرض بعد انتهاء مدة الإجارة، ولكنه لا يكون ضامناً الأرض، لأنه لم يكن متعدياً بالاستعمال.
1 ـ خيار المجلس وخيار الشرط: لا يثبت في عقد الإجارة خيار المجلس ولا خيار الشرط، لأن عقد الإجارة من عقود الغرر، لأنها عقد علي معدوم، وهي المنافع، فإنها معدومة عند العقد، وإنما شرعت تيسيراً لحاجة الناس إليها.
والخيار أيضاً غرر، فلا يكون فيها، لأنه يصير عندئذ ضم غرر إلي غرر، ولا يصحّ التعاقد حال وجود الغرر الكثير.
2 ـ خيار العيب:
أما خيار العيب فإنه يثبت في إجارة العين، فإذا حدث عيب بالعين المؤجرة، وأثّر في منفعتها تأثيراً يظهر في تفاوت أُجرتها حال كونها سليمة وحال كونها معيبة بذلك العيب، كما لو استأجر أرضاً للزراعة فانقطع ماؤها، أو سيارة للركوب فعطبت عجلاتها ولم يبادر المؤجِّر إلي إصلاح ذلك العيب، كان المستأجر بالخيار بين إمضاء الإجارة أو فسخها، ولا شيء عليه حال الفسخ إن كان قبل مضي شيء من الوقت، فإن كان بعد مضي شيء من الوقت لمثله أُجرة: ثبت عليه قسطه من الأجرة المسماة في العقد.
ولا يثبت خيار العيب في إجارة الذمة، فإذا أحضر المؤجر عيناً تُستوفي منها المنفعة المعقود عليها في الذمة، ثم تعيَّبت تلك العين المحضرة، وجب علي المؤجر أن يُحضر بدلها، لأن المعقود عليه في الذمة مقَّيد بوصف السلامة، وما أحضره غير سليم، فإذا لم يرض به المستأجر رجع إلي ما في الذمة، فلا ينفسخ عقد الإجارة.
أـ دعوىٰ التلف: إذا تلفت العين المؤجرة أو تعيّبت في يد المستأجر، وادعي المستأجر أنه لم يتعدّ بذلك، وإنما حدث بآفة سماوية أي بسبب قهري خارج عن إرادته، أو حدث بسبب الاستعمال المأذون به عادة، وادّعىٰ المؤجر أن ذلك حصل بتعدّ من المستأجر، من تجاوز في الاستعمال أو تفريط وعدم حفظ للعين المؤجرة.
فالذي يُقبل قوله هو المستأجر، فيُصدَّق بيمينه، لأن المؤجر يدّعي التعدّي والمستأجر ينكره ويدّعي عدمه، والأصل عدم التعدي وبراءة الذمة من الضمان، فالقول قول مدعي الأصل بيمينه.
ب ـ دعوىٰ الرد: وإذا اختلف المؤجر والمستأجر: فادعىٰ المستأجر أنه ردّ العين المستأجرة إلي المؤجر، وأنكر ذلك المؤجر فقال: إنك لم تردّها عليّ. فيُقبل قول المؤجر بيمينه، لأن المستأجر قبض العين المؤجرة لمنفعته، والأصل عدم الرد، والمستأجر يدّعيه، فالقول قول المنكر بيمينه، فيُقبل قول المؤجرة، لأنه ينكر الرد ويدّعي الأصل وهو عدم الرد.