Blogger المدونة الرئيسية في
[أيهمُ يحملُ النِّسْرُ: ليوناردو دافينشي أم محمداً؟]
مقدمات:
[1] يتراءى في ذاكرة الأفراد في الكثير من الأحيان الكثير من الأحداث والشخصيات التي هي أقرب إلى التخيلات منها إلى الوقائع. وهذا ما يحدث في حالة الشعوب أيضاً عندما تقوم بكتابة "سيرة عملية صِنْع" تاريخها.
فتاريخ الشعوب، وجنباً إلى جنب الوقائع التي ليس من النادر أن تحتل حيزاً ضئيلاً من هذا التاريخ، ملئ بالتخيلات والأوهام ورغائب الحاضر واشتراطاته.
[2] فهل تكذب الشعوب – مثلما يكذب الأفراد – صانعة تاريخاً مزيفاً لا غرض له إلا لخدمة الحاضر السياسي المشحون بالرغائب والتخيلات؟
[3] إنَّ مقولة " المنتصرون يكتبون التاريخ" تقول كل شيء!
التاريخ [والتاريخ الإسلامي - كما هو الحال مع خرافة "تاريخ الرجال!"] من أسوء أنواع التواريخ صناعةًًً بين التواريخ التي كتبها المنتصرون!
فالرغائب والأماني واشتراطات السياسة الراهنة في وقتها والتخيلات والأحلام تحتل مساحة عظيمة منه وتختلط مع الوقائع حتى تضيع الحدود ما بين الكذب والصدق وما بين الواقع والخيال.
وأخبار محمد عن نفسه/ أو أخبار الآخرين عنه هي عصب صناعة التاريخ الإسلامية.
1.
لم يذكر محمد شيئاً ذا قيمة تاريخية عن طفولته (رغم مئات الآلاف من الروايات والأخبار الحديثية التي يصر المسلمون على تأرِيخِيَّتَها!). ويبدو وكأنَّه من غير طفولة وإنَّه لم يكنْ في يوم ما غير "نبي" مرسل من السماء بالمعنى الحرفي للكلمة!!!
لكنَّه وحالما كان يضطر / أو يحلو له أنْ يعود إلى "طفولته" فإنه لا يقوم به لكي يؤرخ حدثاً تاريخياً حقيقياً، بل أنْ يختلق خرافة لكي يدعم صورة "النبي" المرسل من السماء.
2.
ويصح على أسطورة محمد المشهورة بـ"حديث شق الصدر" ما تحدَّث به فرويد عن أسطورة ليوناردو دافينشي عن نفسه حول “النسر الطائر” الذي هبط عليه وفتح فمه بذيله وضربه عدة مرات بذيله على شفتيه [التحليل النفسي والفن 1975].
3.
وإذا كانت ذكرى "طيران النسر" ترتبط بطفولة دافينشي عندما كان لا يزال في "المهد!"، فإن "الذكرى الأسطورية" لشق الصدر المحمدية أكثر تواضعاً وتعود، والعهدة على الرواة [رغم أن الرواة المسلمين لا عهدة لهم]، إلى سنة متأخرة بعض الشيء من طفولة محمد.
لكن المدهش في هذه الرواية إننا نجد، كما وجدنا في أسطورة ليوناردو دافينشي عن نفسه نفس النسر [هل هو نفس النسر أم نسر آخر؟]، إذ نجد في رواية محمد عن طفولته ذات الرمز "النسر"، ولكنه هذا المرة: نسران!
4.
حديث شق الصدر
يقول محمد:
"كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقتُ أنا وابن لها في بَهْم لنا، ولم نأخذ معنا زاداً، فقلتُ: يا أخي، اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا. فانطلق أخي، ومكثتُ عند البهم، فأقبل طائران أبيضان، كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهُوَ هُوَ؟ قال: نعم. فأقبلا يبتدراني، فأخذاني، فبطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج. فغسلا به جوفي ثم قال: ائتني بماء برد. فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسَّكِينة. فذرَّها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: حُصه. فحاصه [أي خاطه]. وختم على قلبي بخاتم النبوة [...]. ثم انطلقا، وتركاني وفَرِقْتُ فَرَقَاً شديداَ، ثم انطلقت إلى أمي، فأخبرتها بالذي لَقِيُت فأشْفَقَتْ أنْ يكون قد التُبِسَ بي" [البداية والنهاية، ج3، 1997، ص415]
[التبس بي: خولطت في عقلي؛ أي أصابني مسٌّ]
وكما هو واضح من هذه "الفبركة" الروائية شيئان هامان:
أولاً، لم يقل صاحبنا من هذا "الأخ" الذي كان معه؛
ثانياً، ومع ذلك فإن محمداً قرر أن يصرف الأخ المجهول كلياً من الأحداث فبقي وحده وحيداً شاهداً على روايته من غير شاهد!
5.
خُولط في عقله:
وسواء رغب بعض الرواة المسلمين ألا تكون عملية "شق الصدر" كافية لمرة واحدة لكي يُثبت أصلها "الوثائقي" والادعاء بأنها قد حدثت مرتين أم لا؛ وسواء صدَّقها بعض رجال اللاهوت حباً بـ"المصطفى" أم رفضها البعض الآخر درءاً للفضيحة، فإن الأمر سواء ولا يغير من طبيعة الأسطورة في شيء. فهي جزء من نسيج التفكير الإسلامي الأسطوري من حيث التقاليد، مثلما هو استمرار لسعيهم من أجل خلق تاريخ يعود بعيداً في الزمان في سيرة محمد.
6.
لكنهم ولسوء حظهم لا يدركون النتائج المترتبة على أكاذيبهم:
فهم كالسَّلاحف تترك بيوضها في مكان ما وتولي في شأنها تاركة بيوضها في "يد الأقدار" فإن فَقَسَتْ فقد فَقَسَتْ، وإن ماتت فقد ماتت، وإن نجى بعضها فقد نجى!
وهكذا هي الأساطير الإسلامية:
كم منها فات على الناس؟
وكم منها تحولت إلى نكتة؟
وكم منها قالت أكثر مما كان يسعى الرواة [وفي هذا الجانب من الرواية ثمة تسريب]:
ألم تقل أمه في الرضاعة [التي ينبغي أن تعرف إمارات النبوة في عينيه أو منخريه!] بأنه قد خولط عليه وأصابه مسٌّ؟!
إذن لا تتعدى القضية وبرواية محمد نفسه أنه قد خولط في عقله.
وهذا "الخلط العقلي" استمر حتى اللحظة التي كان محمد يروي أخلاطه النبوية صارخاً في الفلاة:
دثريني يا خديجة!
7.
هنا يصح بذات القوة والدلالة ما قاله فرويد بصدد حكاية "النسر الطائر" ليوناردو دافنشي:
"إنَّ منظر النسر ليس ذكرى لليوناردو، إنما هو تخيل كَوَّنَهُ مؤخراً، ونقله إلى طفولته. فذكريات الطفولة عن الأشخاص ليس لها في الغالب أصل مخالف، والحق أنها ليست صادرة عن تجربة، شأن الذكريات الشعورية التي تحدث في وقت النضج ثم تتكرر، وإنما هي لا تنتج حتى فترة متأخرة، حينما تكون الطفولة قد صارت ماضياً، فإنها تتغير بعد ذلك، وتخف وتوضع في خدمة الميول المتأخرة، حتى أنها لا تستطيع عموماً أن تختلف اختلافاً محدداً عن التخيلات fantasies." [التحليل النفسي والفن 1975].
8.
ورغم أنَّ هذه التخيلات المحمدية عن طفولته [وكتابه "القريان" تزدحم فيه تخيلاته الدينية ولا تفتح المجال إلَّا إلى ما يسعى إليه بوعي كامل !] من المناسبات النادرة جداً في روايات محمد عن نفسه، فهو مثلاً لم يتحدث قط عن أمه، بل لم يتحدث عن أي قريب آخر، ولهذا فإنها ذات قيمة معيارية في كل ما يقوله محمد عن نفسه سواء في كتابه "القريان" أو ما نقل عنه من أخبار وروايات (أحاديث) وإن هذه القيمة تكمن في محاولته لمنح "نبوته" تاريخاً قبلياً سابقاً على تاريخ التصريح بها.
9.
ويقارن فرويد ما بين هذه "التخيلات" والطريقة التي بدأت الأمم القديمة تدون بها تاريخها:
"فعندما كانت الأمة صغيرة وضعيفة لم تكن تهتم بتدوين تاريخها، إنما كانت تحرث تربة أرضها، وتدافع عن وجودها ضد جيرانها بمحاولة اغتصاب الأرض منهم، وكانت تسعى لأن تصبح أمة غنية. وكان هذا زمن البطولات، ولم يكن زمناً حقيقياً". [التحليل النفسي والفن 1975: 29]
ولكن وحالما يشعر الفرد بالقوة والغنى يشرع بالبحث عن مصادر نشأته وتطوره. حيث "يلقي تدوين التاريخ -الذي بدأ بملاحظة تجارب الحاضر المتلاحقة – نظرته الاسترجاعية أيضاً على الماضي. إنه يجمع التقاليد والأساطير، ويؤول ما بقي حياً من الأزمنة القديمة إلى أخلاق وعادات، وبهذا يخلق تاريخاً للعصور القديمة. ومن الحتمي أن يكون تاريخ العصور الماضية هذا تعبيراً عن آراء ورغبات الحاضر أكثر منه صورة صادقة للماضي، لأن أشياء كثيرة تفلت من ذاكرة الناس، وتحرَّف أشياء أخرى، كما أن آثار الماضي كان يساء فهمها وتؤول بمعاني الحاضر" [فرويد]
10.
وهذا هو بالضبط ما حصل في فترة التدوين الإسلامية.
فقد تم صناعة تاريخ لمحمد وتاريخ للإسلام على حد سواء [وقد تم تنقيحه وتحريره بقدر ما كانوا قادرين من الأخطاء والتناقضات والمبالغات – بل ومن الأكاذيب] يستند بصورة أساسية إلى "التقاليد والأساطير" الأولية التي تناقلها الناس شفاهياً وتأويل "ما بقي حياً من الأزمنة القديمة إلى أخلاق وعادات". إنه تأويل الماضي ليس بـ"معاني الحاضر" وحسب، وإنما بمصالح وحاجات الحاضر السياسي والديني آنذاك أيضاً.
[لقد تحول محمد إلى أول راوٍ من رواة الإسلام وهذا ما سوف نتحدث عنه في حلقة "محمد : الراوية المحترف"]
11.
ولهذا فإنَّ الأحداث والشخصيات التي يظنها المرء بأنه يتذكرها من طفولته لا تختلف، من وجهة نظر فرويد، من حيث المبدأ عن الطريقة التي تصنع بها الأمم تاريخها من المادة الأسطورية التي صنعتها هي الأخرى في يوم ما. فالقاعدة في رأي فرويد أن الذكريات المتبقية التي لا يفهمها الشخص نفسه تخفي أدلة قد تكون عديمة القيمة، لكنها تعبر عن أكثر ملامح تطوره النفسي أهمية.
12.
محمد، إذن، يصنع تاريخاً مؤسساً لشخصيته ومصالحه وحاجاته الآنية آنذاك. فهو بحاجة إلى "أدلة" أسطورية تدعم"نبوته" تستند إلى "حكاية" تبدو بريئة عن طفولته. وتكتسب هذه الحكاية قوة ومصداقية بين الأنصار والمعجبين والمعجبات السذج الذين كانوا جاهزين لتلقف مثل هذه التخيلات.
ومثلما كان جزءاً كبير نسبياً من "آيات" كتابه هي نتاج "تجربة دينية" في حالة الهلوسة، فإنَّ "ذكريات الطفولة" النادرة هي في أحسن الأحوال من نفس المادة ولكنها قد تكون أكثر وعياً وأقرب إلى التلفيق – سواء من قبله شخصياً أمْ من قبل صُنَّاع الحديث.
خاتمة:
هذه هي معجزة شق الصدر سيئة الصنع والبناء كما يعتز بها المسلمون.
لكن الناس تعتز أيضاً حتى بالكرسي المكسور المهمل خلف البيت، فهل يعني هذا أن يكون الكرسي المكسور جزءاً من تاريخ الناس؟
لقد كان على المسلمين وقبل "الاعتزاز" أنْ يؤلفوا معجزة "معقولة" ([ن كان ثمة معجزات معقولة] قد رآها جمعٌ من الناس – أو يفترض أن يكون قد رآها هذا الجمع فتمنح المعاصرون من جماعة المعجبين والمعجبات بالخرافات "فرصة" مبتذلة من أجل تصديقها والاعتزاز بها.
أمَّا لُعبة "قِيل" و"حدثنا" و"نُقل عن" و"سمعت من ناس أثق بهم" أصبحت لعبة سَمِجَة لا تستحق حتى السماع بغض النظر عن "المُحَدِّث" و"ناقل الحديث".