الزلزال

[1]

أحدثت قصة الحمار زلزالاً ما بعده من زلزال:

فقد وقعت على رؤوس المسلمين الملتزمين والحركيين و"المستقلين والعلنيين والمستترين" كالصواعق وهزت مكاتب الكهنوت المكيفة في المناطق الآمنة. ففَرَّقَتِ الصُّفوف ومزقت الدفوف؛ وتعالت أصوات تطبيق أحكام الشريعة السمحاء وتنفيذ حكم الردة بالحمار الغدَّار حالاً ،وحكم الردة، قال أحدهم، هو حكم "رب العالمين" الرؤوف؛ وكاد ينقطع الحبلَ الذي كانت تعتصمُ به الأمة وهو، والكل يعرف معرفة اليقين، حبل واه.

إذ دبَّت الخلافات الفقهية [واختلاف الأمة رحمة، على أية حال] ما بين الطوائف والفرق والملل والنحل والشلل والمذاهب الفقهية [خصوصاً ما بين السنة والشيعة[20]] مثلما دبَّ الخلاف ما بين المبشرين بالجنة على اليوتيوب من أنصاف المتعلمين وحفظة عناوين الكتب وخريجي الأزهر والزيتونة والحوزات "العلمية!" وأصحاب الشهادات العليا المشكوك بأنها "عُليا" في مواضيع من قبيل أحكام النجاسة والضراط والتيمم وحكم الفأرة الفويسقة حتى وصلت الأمور، كالعادة والعادة أقوى من القانون، إلى حد تكفير بعضهم البعض الآخر وشرع كل طرف باعتبار الآخر زنديقاً مارقاً لا دين له وهو من الملحدين[21].

فمنهم من كان يرى أن في هذا الأمر من "أشراط الساعة" وأن اليوم لقريب؛ والشيعة أخذوا ينظرون ويبحلقون باتجاه شروق الشمس مترقبين ظهور المهدي!

ومنهم من كان يعتقد بـ"صدق" بأنَّ ما قام به مطيع الغائب هو من أعمال التخريب التي تقوم بها الإمبريالية والصهيونية والاستعمار والصليبيين والملحدين وصندوق النقد الدولي وأعضاء منظمات حقوق الإنسان المارقين!

ومع اتفاقهم على الأصول فقد افترقوا على الفروع حتى كادَ[22] بعضهم يقتل البعض الآخر!

كما اختلفوا، كالعادة، على تفسير قضية "ظهور الدابة التي تُكَلِّمُ الناسَ"، أهي مطيع الحمار الذي صار مؤذناً أم دابة أخرى؟!

وهل، يا تُرى، ثمة دابة على الأرض غير الحمار بإمكانها أن تقرأ القريان وتؤدي الأذان؟!

[2]

لكن بعضاً من مجاهدي الانترنت له وجهة نظر أخرى [تصوروا؟!]. فإن الكثير منهم لم يرَ في الأمر إلا انتصاراً للإسلام على الملحدين [لم يفهم أحد من متابعي اليوتيوب ما علاقة الملحدين بهذا الأمر! لكنهم قرروا عدم الخوض في مثل هذا النوع من النقاشات الجانبية إذ يجب أن تقوم كراهية الملحدين بتوحيدهم ولا ضرورة للبحث عن الأدلة!]. فهي معجزة كانوا ينتظروها بفارغ الصبر. فهم متدينون واقعيون:

- فهذه هي المعجزة الوحيدة في التاريخ المكتوب التي شهدها الناس بعيونهم وسمعوها بأذانهم.

وإذ ليس الجميع على ثقة بالسخافات التي يطلقونها فهناك من المبشرين بالجنة من مجاهدي الإنترنت كانوا حائرين في أمرهم أكبر حيرة:

إذ كانوا يتساءلون فيما إذا كان ما قام به الحمار يخالف أحكام الدين أم لا [هذه قضية مهمة جداً]؟

وإذا ما كان يخالف أحكام الدين فما هي عقوبته؟

وهل تنطبق "الحدود" على الحمير؟

وإذا كانت تنطبق فما هو الحد الملائم: الرجم أم الجلد أم أن الأمر يدخل في باب "التعزيز" وغيرها من الأسئلة ذات الطابع الفقهي "الدقيق" و"العلمي" الرصين التي تنتظر التوضيح والتشريح حتى يتم درء البلية وحل القضية وكل ما هو قبيح وكفى رب العالمين شر قتال المؤمنين!

[3]

في إحدى الليالي ظهر كبير المبشرين بالجنة على اليوتيوب الشيخ محمد إدريس سيف الإسلام ديوبندي القريشي وهو يلثغ غاضباً مزبداً لاعناً الغُوس [الروس] واليابانيين وأمغيكا وإسغائيل [وإسرائيل] والإمبغيالية وجمعية الغفق [الرفق] بالحيوان الصومالية، طبعاً والكيان الصهيوني، والاتحاد السوفياتي والاتحاد الأوغبي [الأوربي] وكندا والبنك الدولي وجميع الملحدين على ما يقومون به من محاولات شق الصفوف وتلطيخ الكفوف [الكلمة الأخيرة لأغراض السجع كما فعل نبيهم!] ولم ينس أن يعرج في طريق الشتائم والسباب على محطة CNN وإذاعة صوت أُوربا الحُرة والـBBC  وDW ومركز الشباب الرياضي حيث تشك مديرية أمن الدولة بأن صاحبها صوفي متطرف!

وعندما علَّقَ أحد المتابعين بأن الاتحاد السوفياتي قد انحل منذ سنوات طويلة جداً جداً، واصل الشيخ ديوبندي القريشي قائلاً:

- " ألا تَغَى [ألا ترى]، هذا هو جزاء الملحدين. فالله يمهل ولا يهمل، هذا ما حَذَّغْنا [حَذَّرْنا] منه دائماً!".

ثم واصل بثقة عالية:

- "إيها المؤمنون في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة علينا أن نكون يداً واحدة وصوتاً واحداً، فقد قال العلي القدير في كتابه العزيز: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَغقُوا". إن ما يحدث لهو هجمة شَغِسة [شرسة] على الدين والعقيدة وينبغي أن نسد أبواب الفتنة بالصمت. الصمت، الصمت، عليكم بالصمت. فالصمت امتحان كامتحان الإيمان"[23] [فيما بعد انتشرت عبارة "الصمت من الإيمان" في أنحاء شبكة الإنترنت واليوتيوب وتحولت إلى معيار للولاء والتقوى للرب الذي لا رب غيره. لكنها وكالعادة أحدثت نقاشات طويلة فيما إذا كان هذا الكلام من الأحاديث "الصحيحة" أم لا، وفيما إذا كان متواتراً أم لا!].

ثم عقب كبير المبشرين بالجنة على اليوتيوب على قضية "أشراط الساعة" محذراً مما سماه " اللعب بالكلمات واختلاق التفسيرات وافتعال التأويلات" وفصَّل في الموضوع تفصيلاً لا يليق إلا به ولا يتصف به أحد غيره، فهو للعلم، والحق يُقالُ، ينبوع الفكر السيَّال، قائلاً:

- "أشْغَاط [أشراط] الساعة يا أخوة قضية علمية دقيقة ويجب الانتباه لما نقول.  إن النَّصاغَى واليهود والملحدين يَتَغَبَّصُون [يتربصون] بنا ويبذلون كل غال ونفيس لتشويه غسالتنا [رسالتنا] السمحاء.

أما "أشغاط الساعة" فهي من غيغ [غير] زيادة أو نقصان ومن الله الحكمة والغفغان [والغفران] وكما هي في أمهات الكتب المعتبغة [المعتبرة] من قديم الزمان وأقوال الأئمة الخيغين [الخيرين] لهم الغفغان [الغفران]: ظهوغ [ظهور] دابة تكَلِّمُ الناس والدخان وظهوغ الدجال وطلوع الشمس من مغغبها [مغربها] ونزول عيسى بن مغيم وظهوغ يأجوج ومأجوج وخسف بالـ . . "

وقبل أن يكمل الشيخ ديوبندي القريشي كلامه انقطع الإنترنت واختفى من على اليوتيوب فانتاب متابعيه الخوف والفزع من اقتراب الساعة وكادوا يودعون عوائلهم  ويذبحون أبناءهم فداء لصاحب الزمان الذي ظهر قبل الأوان لولا انتباههم إلى أن المشكلة، كالعادة ومنذ عشرات السنين، هي في انقطاع التيار الكهربائي، فاطمأنت قلوبهم وزاد إيمانهم أيماناً فوق إيمان بأن لهم رباً يرعاهم ويحفظهم من الأعداء والكهرباء!

فانقطاع التيار الكهربائي الدائم اختبار للإيمان وصمود الأمة بوجه الطغيان.

وقد شخبط أحد أنصاف المتعلمين بصدد انقطاع التيار الكهربائي الدائم بأنَّ هذا جزء من مؤامرات الإمبريالية والصليبية على الأمة ويجب مقاومة هذه المؤامرات بالصمود والتحمل والصبر!

[4]

أما الملحدون فقد كانوا يراقبون المشهد عن "كثب" وابتسامة "خبيثة" ترتسم على شفاههم وكأنهم كانوا يشاهدون مسرحية ساخرة!

الحق أنَّ مثل هذه الفضائح هي جزء من التاريخ الإسلامي الفعلي وقد اعتاد الملحدون التفرج عليها. فهي لا تختلف من حيث المبدأ عن القصص المضحكة لعشرات "المهدي المنتظر" مثلاً الذين ينبثقون كالكمأ في كل مكان من "دار الإسلام" من المحيط إلى الجحيم .

فأزمة الإسلام ليس حدثاً عابراً بل حالة مرضية مزمنة. فإذا ما رفضت حتى الحمير أوهام الدين، فإن هناك الكثير من المسلمين الذين لم يودعوا عقولهم في مملكة الظلام تهفو نفوسهم إلى الانعتاق وانهاء الاستعباد المحمدي.

وهذا ما سوف يحدث – عاجلاً  أم آجلاً . . .

باختصار: لقد اكتفى الملحدون بالترقب والانتظار!

ففضائح العقيدة المحمدية لا تحتاج إلى أعداء - لأن المسلمين أنفسهم قد تكفلوا [مشكورين] في الكشف عنها والإعلان عن مكانها – بل هناك من هو مستعد لكي يخبرك ما يكفي عن الفضيحة برقم الصفحة من الكتاب الفلاني الذي كتبه المغفور له فلان بن علتان منذ أكثر من 13 قرناً و"نيف"!

[5]

كما "تنبأتْ" زوجة صاحبنا العبقرية، في فجر ذلك اليوم الذي زلزل الحمار بأذانه الأرض والسماء حتى سبب ارتطام المركبة الفضائية الهندية تشاندريان-1 بسطح القمر، بأن لا خير ينتظرهم. فأي خير يمكن أن ينتظر حماراً قرر أن يصبح مؤذناً ضارباً بعرض الحائط وطوله وعمقه كل المحظورات؟

الحق أنه "لم يفعل شيئاً غير أن أخرج الزنابير من أكوارها" كما تقول.

- "لقد خضَّ الكلبُ ابن الكلبِ (تقصد حمارها) الدنيا، فقامت ولم تقعد".

هكذا كانت تولول مع نفسها.

كانت حائرة بإعالة الصغار وحماية الكبار من أطفالها ولهذا فقد استندت إلى حمار الجيران الوسيم.

أما صاحبنا [مطيع] فقد اعتكف في معلفه لا يكلم أحداً ولا أحد يكلمه.  وظل "معتصماً "بزريبته البسيطة المتواضعة بحبل خفي من الإيمان وهو يتأمل حزمة الضياء المتسلل من فتحة في سقف المعلف المتهاوي.

كان يبدو هادئاً وخاشعاً يردد عبارات سرية [أو باطنية] بصوت غير مسموع وكأنُّه يجري حواراً صامتاً مع كائنات غير مرئية.

وبين فترة وأخرى كان يهزُّ رأسه علامة الموافقة والرضى. 

يبدو غريباً بعض الشيء. إذ لم يكن معنياً بأي حال من الأحوال بالزلزال الذي أحدثه والذي لا تزال أصدائه تهز أركان الأمة!

هو خارج المكان والزمان يُحَلِّق في الأعالي تحمله أجنحة من غيوم السماء وكأنه في عالم الأمان من غير أحزان ولا هوان.

كان هو "هو"، لكنه وفي نفس الوقت لم يكن؛

كان كائناً آخر تماماً.  لم يكن قد ذاق طعم المشاعر التي يمر بها الآن من قبل.

إنه قد تحدى!

فـ"المصحف" قد أخطأ في حقه وهو يعترض لا على "المصحف" فقط، بل وعلى كاتبه!

إنَّه يعترض!

هو يعرف ثمن الرفض والتعبير عن الرأي فب مملكة الظلام؛ ويعرف بأنَّ الظروف غير مؤاتية لمثل هذه المواقف ولكن قد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى ولابد مَنْ يوقظ النيام ويبدد الأوهام في دار الإسلام. ومن يكون غيره والناس والحمير غارقون في بحر الأحلام؟!

[6]

لم يكن "صاحبنا" من المتمردين دائماً.

فقبل أن يقرر إعلان ساعة التحدي [أو ساعة الصفر وهي ساعة الهجوم على رب العالمين]، كان يخضع لــ"قانون الحَمْرَنَة الشامل"[24]  حتى كان يبدو وكأن التيار يحمله.

أما الآن فهو يحمل التيار على ظهره ويعكر مياه الجميع من غير أن ترمش له عين!

فــ" قانون الحمرنة الشامل" ينص على أن "يمشي الحيط الحيط ويقول يا ربي السترَ". لكنه الآن يقض مضاجع الشياطين وأساطين اليوتيوب وشيوخ الرؤساء ووعاظ السلاطين على حد سواء ويوقظهم من نومهم!

حَرَّضَ الجميع ضده:

الدولة [أو ما تبقى منها] والشيوخ واليوتيوب والثلاجات وزوجته وكلاب الشوارع وقطط الجيران وبائع اللبن وحارس البستان وكتاب تعلم السنسكريتية في أسبوع ورئيس الجمهورية وكاتب العرائض و"صحيح البخاري" والذُبَّان، ومنظمة الوحدة الإسلامية، والفريق القومي لكرة القدم، وبائع الكشري، ووزراء التخطيط والأوقاف والإصلاح الزراعي، ومصلحة الضرائب والسلطة القضائية [المستقلة!!!]...

والقائمة لها بداية من غير نهاية ... حرَّض الجميع، تماماً الجميع، ولم يقف في صفه إلا هذا وذاك من المدافعين عن حقوق الحيوان الذين خالفوا منظمتهم السرية!

إلا أن هذا لم يحزنه.

هو يعرف جيداً قانون نيوتن "لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه". فهو والحق حمار وهذا واقع لا يمكن صَدَّه أو إنكاره، وإذا تجاهل هذه الحقيقة فهو حمار ابن حمار!

فمشكلته الوحيدة هو ادعاء رب محمد بأنَّ له أنكر الأصوات!

وهذا إجحاف ما بعده إحجاف!

[7]

ولكن أكثر ما كان يحزنه، إذا صح التعبير بأنه حزين، هو موقف زوجته - الأتان السليطة اللسان. فهي ما انفكت تؤنبه على جرائم لم يرتكبها وذنوب لم يقترفها.

فأين الوعد الذي قطعاه على نفسيهما بأن يكونا معاً حتى يفرقهما الموت؟

فهل حلَّ موعده يا ترى؟

هل آن أوان الرحيل عن هذه الأرض وحيداً كما جاء، وفقيراً كما عاش، وحكيماً كما لم يكن في يوم ما؟

- "ربي هل أنت هناك، حيث تستوي على العرش [وقد بانت خصيتاك كما يقول أحد الملحدين] وحيداً مثلي؟!

أتسمع صوتي الذي صنعته بيديك ثم تنكرت له وتندرت عليه؟

أتسمعني أنا الذي صنعته ثم ازدريته؟

هل أنت موجود كما يدعي الجميع ويلهثون باسمك كأنك الهواء؟

لماذا ورطتني بما لم أقوَ عليه ولماذا دفعتني إلى ما أنا عاجز على القيام به؟

 هل هذا امتحان أم بيان على قدرتك وجبروتك؟

ها أنا بأمس الحاجة إلى آية من آياتك حتى أقوى على مواجهة الموت آمناً مطمئناً. اجعلني أبصر ما لا يبصره الآخرون واكشف أمامي ما لا يدركه الناس أجمعين ...".

ظل هكذا يسائل ربه والدموع تنهمر من عينيه حتى حل ظلام دامس ولم يعد يبصر إلا شيئاً واحداً لا غير:

إنه في قعر هاوية سحيقة صنعها بنفسه وباركه ربه على حفرها!

أما "ربه" [رب العالمين المفترض] فقد كان منشغلاً بقضايا أكثر أهمية وجدية من قبيل حيض النساء والنجاسة وصلاة السهو وفقه النكاح وعدد النساء والأيامي وغيرها من الاهتمامات التي كلف بها خاتم أنبياءه!

[8]

في اليوم التالي استيقظ متأخراً جداً وقد فاته أذان الفجر.

نهض من فراش التبن ببطيء ثم توجه على مهله نحو باحة البيت.

لم يكن هناك أحد. .

كان البيت خالياً تماماً:

لا حميره الصغار ولا أتانه سليطة اللسان.

فتوجه إلى مدخل البيت وفتح الباب بحذر ووجل ثم مد رأسه قليلا إلى الخارج فلم يبصر أحداً في الطريق: لا أنساً ولا جناً. بل لم يبصر حتى الكلاب التي اعتادت الجلوس عند عتبات البيوت ولا القطط التي كانت تجلس على مسافة "عقلانية" من الكلاب مستعدة للنجاة بنفسها إذا ما خطرت على كلب من الكلاب أفكاراً سيئة لا تحمد عقباها!

[9]

لم يكن يعرف ما الذي حدث في العالم الخارجي فبيته كان يفتقر إلى وسائل الاتصال دائماً: لا إنترنت ولا تلفون ولا تلفزيون. بل حتى الراديو كان معدوماً في بيته. الحق أنه كان يستمع إلى الراديو بين حين وآخر، والفضل يعود لجاره الكهل الذي ضعف بصره وقلَّ سمعه. فكان يرفع صوت الراديو إلى آخره حتى كان الصوت يصل إلى آخر بيت من بيوت القرية. لكن ما كان يزعج الحمار هو ولع الكهل بـ" السِّت". ولهذا فقد كان يستمع ليل نهار من محطات العرب إلى" السِّت" التي كان لا يطيقها وهو يتصور كيف تتلوى العجوز وتكاد تذوب من لوعة الغرام وهي تتعصر وتعتصر في أغنية "أنت عمري"!

ورغم ذلك فقد كان يرى بأن هذا شيء أفضل من لا شيء.

وهكذا كان صاحبنا يستمع إلى "السِّت" رغماً عن أنفه، كما تستمع جميع المدن الأذان رغماً عن أنوف سكانها، حتى نفق جاره الكهل ولم يعد يستمع إلا شخير زوجته المتعالي من غرفة النوم في الطرف الآخر من البيت وهي في أحضان حمار الجيران الوسيم!

لكنه مع ذلك فرح، إذا كان ثمة متسعاً للفرح، لأنه لم يعد يسمع صوت العجوز الشمطاء.

ثم قرر الانسحاب إلى معلفه مسترشداً بحكمة قديمة:

إذا كنت لا تعرف ما هي الخطوة التالية فمن الأفضل أن تبقى في مكانك.

ولهذا عاد إلى مكانه، أقصد: معلفه وعرشه الذي يستوي عليه من غير ملائكة تحف به، مستمتعاً بنعمة التأمل في تاريخ الزمان وأحوال الحمير والإنسان!

ثم فجأة مرَّ في رأسه سؤال كصاروخ كروز:

- وماذا لو كنتُ على خطأ؟

[20] كان موقف الشيعة واضحاً منذ البداية:  لم يضف آذان الحمار للخلاف ما بينهم وبين السنة شيئاً ذا أهمية. فهم من حيث المبدأ، كما أشرت في هامش سابق، لا يعتدون بأذان السنة. وفي "اجتماع التقريب ما بين المذاهب" الذي تم افتتاحه برعاية وزير الزراعة <<<  والإصلاح الزراعي اتهم ممثل الشيعة آية الله الداغستاني ممثل السنة الديوبندي بأنَّ السماح للحمار بأن يؤذن الأذان بصورة ناقصة الأركان ومن غير أن يَرِدَ اسم أبي تراب [ع] هو بمثابة استفزاز وتحريض على العنف وتعقيد عملية التقريب ما بين المذاهب تعقيداً إضافياً لا داعي له في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية.

[21] ملاحظة هامة: كلُّ من يخالف المسلمين [بغض النظر عن الطائفة] هو من الملحدين!

[22]  قد تكون كلمة "كاد" هنا زائدة عن الحاجة تماماً. فهي على أية حال "فعل ناقص" وإذ لا يعرف أحد لماذا "نقص" فإنه وجوده لا معنى له. فهم عملياً يقتل بعضهم البعض الآخر والحروب المشتعلة فعلاً ما بين المبشرين بالجنة على اليوتيوب وعلى الأرض أمام مرأى الجميع [لكنها غائبة في اللغة العربية المعتصمة بحبل الله ولهذا وكأن القتل المتبادل لا وجود له] ولن تمنعهم "كاد" من الاقتتال وحمام الدم الذي يسيل هنا وهناك الآن وفي كل مكان [تقريباً كل مكان] في مملكة الظلام.

[23] منذ أن وعيت على اللغة فإن جميع الخطباء [رؤساء الجمهورية والملوك والسلاطين وشيوخ الجوامع وفي الإذاعة والتلفزيون وفي الثلاجات والمبردات وأصحاب المقالات الرنانة وتصريحات هيئات الإفتاء وبائعي الخردة وغيرهم الكثير] يتحدثون عن الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة!

أما الآخرون [الكفار والملحدون والزنادقة] فيبنون بلدانهم ويبحثون عن الحلول العملية والتقنية والتشريعية للتغلب على "الظروف الحرجة". كما أنهم لا يجدون في "الظروف الحرجة" أي نوع من "الهجمات الشرسة" على الدين والعقيدة بل "إمكانية" للتغلب على مشاكل وأزمات التطور .

[24] ليس قانون الحمرنة [الصمت يجنبك المصائب] خاصاً بالحمير وإنما هو قانون جميع المتوكلين والمتكاسلين والمؤمنين التسليميين بشراً وحميراً.

الحمرنة هي "الصبر على الشدائد" بدلاً من العمل على التغلب عليها؛

الحمرنة هو رفض التطور والجلوس تحت ظلال الحيطان بانتظار الفرج من رب العالمين؛

الحمرنة هو القانون الذي يخضع له منطق التخلف والسعي إلى إعادة الماضي ومعادة المستقبل.

الحمرنة هو الوقوف في منتصف الطريق بدلاً من عبوره!