لماذا تعادي الأديان الإبراهيمية نظرية التطور؟ 

1. في الفضاءات الذهنية - الاعتقادية التي تختفي وراء التقنيات الكلامية والاشتراطات السياسية الدولية والإعلامية، فإن الأديان الإبراهيمية ومهما حلفت بكُتُبِها المقدسة بأنها تقبل نظرية التطور الداروينية (بشروط أو بغير شروط)، وتنشر بيانات على الملأ بأنَّ العلم لا يتناقض مع عقيدتها الدينية [كما هو مثلاً تصريح البابا فرنسيس أمام "الأكاديمية البابوية للعلوم" بأن نظرية التطور لا تتعارض مع رواية الخلق في الكتاب المقدس] فإنها ترفض نظرية التطور جملة وتفصيلاً!

والسبب بسيط في غاية البساطة:

لا توجد دائرة مربعة!

2.

إنَّ نظرية التطور تنسف أسطورة خلق الإنسان الإبراهيمية من الطين [أو أي مادة أخرى يرتئي المؤمنون]ٍ وهي تبدد عقيدة آدام وحواء وترمي بها في سلة الخرافات التاريخية.

إنهما شيئان لا يمكن جمعهما في كيان واحد.

فنظرية التطور الداروينية تنسف من حيث المبدأ أي شكل من أشكال "التخلق" بينما لا يمكن لما يسمى بالأديان الإبراهيمية أنْ تعترف بأن "خلق" أدم وحواء مجرد خرافة.

وعندما تسقط هذه الخرافة فإن "الخالق" الإبراهيمي سوف يسقط معها.

3.

نظرية التطور الداروينية هي القوة العقلانية العلمية التي عملت على تبدبد فكرة التدخل الإلهي في الطبيعة وتحدت الاعتقاد الذي طالما اعتز به المؤمنون أن كل نوع تم تصميمه بشكل منفصل ودقيق من قبل خالقه!

والمصيبة (بكلمة أصح: أمُّ المصائب) إنَّ التوفيق ما بين نظرية التطور وأسطورة آدم غير ممكنة بغير تعديل أدبي جذري في "سيناريو" الأسطورة فلا يتبقى من أصلها الديني أي شيء!

ومثل هذا النوع من التعديلات يمكن أن يقود إلى فتح "صندوق باندورا" الإبراهيمي!

4.

ومع ذلك ومهما تفنن رب المسلمين بعملية خلق "سيدنا" آدم فهو قد بدأ من حيث انتهى "يهوه".

وبغض النظر عن الحكايتين المتناقضتين للخلق في الإصحاح الأول من سفر التكوين ذاته، فإن الأمر لا يختلف بما يتعلق بـ"إجراءات الصنع".

فكلمة آدم تنحدر من اللغة العبرية بمعنى "التراب أو الطين الأحمر" وبالتالي فإن "أدمَ" ينحدر من الطين وهي مادة غير عضوية.

أما حكاية "النفخ" في فمه أو أنفه (أو في أي مكان آخر!) فعليهم أن يوفروها لأنفسهم. فهي خرافة قد سمع الأطفال وشاهد (وخصوصاً في القرن الحادي والعشرين) الكثير من أفلام والت دزني أكثر اتقاناً منها وحبكةً!

وقد تبعت المسيحية والإسلام ذات الأسطورة (ذات الأصل السومري) التي سبقت تاريخياً حتى ظهور اليهودية وهكذا فقد بلع الجميع الطُّعْم!

5.

إذن الإنسان مصنوع من طين: قال كنْ فكان!

تحول الصلصال بقدرة رب العالمين إلى آدم (عليه السلام!)!

إن عقل المتدين الإبراهيمي محكم الإطار والحدود؛ تكبله القيود وتحجب عنه السدودُ آفاق الرؤية والرؤيا. ووراء هذا الإطار الفولاذي فإن المتدين يموت دينياً، والحكمة الشرقية تحتاج إلى تخطي الأطر التي تكبل عقول البشر. والخروج إلى ما وراء الإطار هو بكلمات أخرى يسمى: الخيال – والخيال معدوم!


[صناعة يدوية]

6.

ومع ذلك فإن القصة في الإسلام لا تخلو من "الدراما" المحمدية (فهم يعشقون الإضافات):

من غير سابق إعلان أو تحذير يُخبر "الله" ملائكته (ولا أعرف لماذا، فهو عادة لا يستشير أحداً؟!) بأنه "جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". فأزعجَ هذا الخبر الملائكةَ واعترضوا على "اللهُ" قائلين له: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"؟[*]

فردَّ كالعادة وبأسلوبه البليغ: "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"!

وكما تقول لنا مرويات المسلمين أخذ "الله" من تربة الأرض الحمراء والصفراء والسوداء والبيضاء (وهذا هو سبب اختلاف ألوان البشر!) ومزجها بالماء بتدبر وإتقان (فهو الخالق الصانع العليم!)، فتحول إلى "صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون".

وهكذا خلق "اللهُ" "سيدَنا" آدم (عليه السلام)!!!

7.

والكل يعرف هذا الهراء!

إلا أنَّ "المفسرين" المسلمين قد غصوا بكلمة "صلصال" و"انحشرت" في بلاعيمهم ولم يستطيعوا ابتلاعها فاختنقوا واختلفوا، وما أكثر اختناقاتهم اللغوية واختلافاتهم اللاهوتية.

فقد ظلَّ معنى كلمة "صلصال": هل هو الطين اليابس الذي لم تصبه نار يا تُرى أم التراب اليابس الذي تُسمع له صلصلة؟!

الجواب، بطبيعة الحال، سر من أسرار الخلق – وإلا سيأتي عابر سبيل ويصنع ما يشاء!

ولكن مع ذلك يأتي "حَبْرُ الأمة"، ابن عباس، ويضع الأمور في نصابها:

فهو يرى، ودائما يرى ما لا يراه الآخرون، بأن الإنسان خُلق من ثلاثة "مكونات": طين لازب، وصلصال، وحمأ مسنون[**]

ويسمون من يقول صاحب هذا التخريف حَبْراً؟!

8.

ومهما كان من أمر "المواد الخام" التي صنع منها "سيدنا آدم" فإنه قد صُنع من الطين وانتهى أمر العالمين.

فكيف بدا صاحبنا (أقصد آدمَ) في أوَّل أيام عمره المدهشة؟

هنا يأتي شيخ المضيرة لنجدتنا ويقرر ما شاء أن يقرر:

روى عن "إمامهم" أحمد في مسنده عن أبي هريرة  عنه، أن رسول "اللهُ" قال: (كَانَ طُولُ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا). وفي رواية: (خَلَقَ "اللهُ" آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ)، رواه البخاري (3326) ومسلم (2841). قال الحافظ ابن حجر رحمه "اللهُ" في فتح الباري: (فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُص حَتَّى الآن) أَيْ أَنَّ كُلَّ قَرْن يَكُون نَشَأْته فِي الطُّول أَقْصَر مِنْ الْقَرْن الَّذِي قَبْله، فَانْتَهَى تَنَاقُص الطُّول إِلَى هَذِهِ الأُمَّة وَاسْتَقَرَّ الأَمْر عَلَى ذَلِكَ!

ولهذه القصة أصول وصياغات مختلفة، لكن الأمر واحدٌ:

طول آدم ستين ذراعاً وعرضه سبعة أذرع!

9.

وماذا عن نظرية التطور الداروينية؟

هنا إنها لسوء حظ الأبراهيميين، وحسن حظ البشرية، تشطب على كل هذا الهراء وتقوم بطرد الأديان من موضوع ظهور الإنسان وتؤسسه على مبادئ العلم والحقائق الموضوعية التي تسندها الكثير من العلوم مثل علم الأحياء وعلم الحفريات والأنثروبولوجيا وعلم الوراثة وغيرها.

فظهور الإنسان هو نتيجة لتطور بيولوجي حصل على امتداد ملايين السنين وإن الوراثة والتنوع وقوانين التكيف والانتقاء الطبيعي يمكن أن يؤدي إلى تغير في الأنواع وظهور أنوع جيدة.

لقد خرج "الله" من "لعبة" الخلق وهذا ما يشكل ضربة قاصمة ليس لأسطورة "الخلق" بل لوجود "الله" نفسه!

فإذا ما بَطُلت فكرة تدخل "خالق" - قوة مفارقة تقع خارج الكون، في "خلق" الإنسان فما هي الجدوى من وجود هذا "الخالق"؟!

بل ما قيمة هذه "الخالق"؟

10.

هذا هو الأساس الذي يستند إليه عداء الأديان الإبراهيمية العلني والمُقَنَّع لنظرية التطور:

إنه الدفاع عن "الوجود" الذي لم يعد له أي "أساس" للوجود.

هوامش:

[*] إنَّ هذه الآية تتضمن لغواً حقيقياً لا علاقة له بالموقف من الدين. فنحن هنا أمام نص باللغة العربية وهو يعبر عن رأي الملائكة فلا ينبغي أن يقولوا لنا بأن لله حكمة فيما يقول.

للملائكة موقف مضاد لـ"صنع" الإنسان يستند إلى معرفة مسبقة بكونه سوف " يُفْسِدُ "في الأرض.

لكن "الله" في جوابه يكشف لنا بأنه " أَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ"!

والنتيجة المنطقية هي أن الملائكة "يخرِّفون". فهل هؤلاء هم الكيانات التي يدعي المسلمون بأنهم "من أشرف خلق الله"؟

فهل "الشَّرَفُ" يتضمن خصلة الغبا؟!

فمن الواضح أنهم لا يعلمون شيئاً. وطالما لا يعلمون شيئاً، وعليهم أن يعرفوا مسبقاً هذا الأمر، فما الذي دعاهم بالادعاء بأن "آدم" سوف يفسد في الأرض؟

[**] الطين اللازب: اللازق الجيد؛ والصلصال: المرقق الذي يصنع منه الفخار؛ والمسنون: الطين فيه الحَمْأة!

 

[النهاية]