أن تفكر كعبد . . . هذا هو الكمال!

يقول أحد العبيد الطوعيين المسلمين:

"مولاي يا مولاي أنت المولى وانا العبد، وهل يرحم العبد إلا المولى، مولاي يا مولاي أنت المالك وانا المملوك، وهل يرحم المملوك إلا المالك، مولاي يا مولاي أنت العزيز وأنا الذليل، وهل يرحم الذليل إلا العزيز. مولاي يا مولاي أنت الخالق وانا المخلوق، وهل يرحم المخلوق إلا الخالق، مولاي يا مولاي أنت العظيم وانا الحقير، وهل يرحم الحقير إلا العظيم، مولاي يا مولاي أنت القوي وانا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلا القوي. مولاي يا مولاي أنت الغني وانا الفقير، وهل يرحم الفقير إلا الغني، مولاي يا مولاي أنت المعطي وانا السائل، وهل يرحم السائل إلا المعطي"!

1.

المصيدة:

لم يُصَدِّقْ إنسانٌ في تاريخ البشرية بأنه عَبْدٌ وَضِيعٌ منحطٌ مثلما صَدَّقَ المسلم. وهو كُلُّمَا تغلغل في إيمانه الديني التسليمي كُلُّمَا تحوَّل الشعور بالعبودية إلى معنى لحياته ولهذا تراه يدافع بحرارة عن العبودية؛ وهو كُلُّمَا انحطَّ في سُلَّم البناء الاجتماعي كُلُّمَا اكتسبت عبوديته مظاهر خارجية مرئية.

ولم أقرأ لغير المسلم من يدافع عن عبوديته بكل هذه الحرارة والتوسل ويعبر عن كراهيته للحرية بكل هذا الانفعال والاحتراق!

وكُلُّمَا انحطَّ المسلم في سِلَّم المعرفة وكُلُّمَا توثقت روابطه وارتبط بالجامع السلفي والمسجد الشيعي كُلُّمَا وَظَّف نفسه كجندي مخلص للحرب ضد ثقافة التحرر والكرامة الشخصية!

ويقول آخر من لا آخر لهم:

"إلهي أصبحت وأمسيت عبداً داخراً [صاغراً ذليلاً] لك، لا أملك لنفسي نفعا ولا ضراً إلا بك، أشهد بذلك على نفسي، وأعترف بضعف قوتي، وقلة حيلتي، فأنجز لي ما وعدتني، وتمم لي ما آتيتني، فإني عبدك المسكين المستكين الضعيف الضرير، الذليل الحقير، المهين الفقير، الخائف المستجير"!

2.

إنَّ مشاعر العبودية لهذا "الواحد" المفترض أمام كذبة "الله" تفيض فيضاناً إلى ما وراء نفسه فتحاكيه فيها جموع غفيرة من الأميين وحملة "الشهادات!" الأكثر أمية على حد سواء.

وهذه هي الكارثة!

هي مصيدة مدهشة صنعتها حفنة من الكُهَّان الأعراب وعابدي الخرافات والمشعوذين والغارقين حتى الآذان في وحل الإيمان التسليمي ودونوه في نصوص واصطنعوا نصوصاً تلخص وتشرح هذه النصوص وشهروا السيوف والنَيَازِك باسم شخص ادعوا نبوته وصنم قرر ألوهيته فوقع بشر لا عدا لهم ولا حصر في حبائل ما دونوه وحتى هذه اللحظة تراهم عاجزين عن اكتشاف الكذبة.

إنها لمفارقة قد يصعب شرحها إلا أنه من المستحيل أن يشعر بها الإنسان الحُرُّ والمتحرر من أوهام الإيمان أو حتى أن يستشعرها. فمشاعر العبودية شخصية وضيقة ولا تتجاوز الفرد نفسه فلا يستطيع المراقب غير أن يرى انعكاساتها وهي ترتسم على ملامح وقسمات المؤمن؛ وأسلوب التعبير المفكك وهو يهدد الآخرين بالموت وجهنم وقودها الناس والحجارة؛ وانطفاء الرغبة في أن يرى أبعد من مرمى النظر.

كيف يمكن أن يدخل الإنسان في هذه المصيدة؟

لقد دخلوا . . 


[العبوديتان: الجبرية والطوعية]

3.

العبودية الطوعية:

ثمة نوعين من العبودية:

العبودية الجبرية والعبودية الطوعية.

والمسلم لم يدرك يوماً العبودية الأولى فثقافة الخضوع والخوف تتغلغل في عقيدته الدينية، بل أنَّ الخضوع "للحاكم" و"للإمام" أو "للخليفة" أو "لولي الأمر" – أو أياً كان من ذاك وهذا الزمان، هو أمر من طبيعة الأشياء الأثيرة عنده:

" لذا كان الوفاء للدولة وللقائم على الحكم خالصاً من الزيف مبرءاً من العود والرياء، وكان الحاكم يحتل مكان القلب والروح من الجماعة الإسلامية فأسلمت له القياد يسوسها في أمور دينها ودنياها" [واجبات العبودية لله، ص 34]

أما إذا استسلم الإنسان لأهواء النفس وأشواقها وتطلعاتها ومطامعها ومطامحها:

"لا شك أنه عند ذلك لا بديل عن سلطة الحاكم في ردع المتغلبين وأنصاف المغلوبين وحمل الناس على القيام بشعائر الدين وردهم إلى حضيرة المؤمنين بما يملكه من قدرات وكنات وما توافر لديه من إمكانيات الزجر والردع"[نفس المصدر ص 37]

هنا تلتقي العبوديتان: عبودية الحاكم وعبودية الدين: العبودية الجبرية والعبودية الطوعية.

لكنه كان ولا يزال يمجد الثانية: العبودية الطوعية. بل أنَّه لا ينكر مشاعر الحرية التي قد تمر طارئة عليه بين حين وآخر فيقمعها باعتبارها من وساوس الشيطان وحسب، وإنما ينكر ويستنكر رغبة الآخرين إن قرروا اختبارها.

3.

ليَسَ العبدُ عبداً إلا باختياره.

العبودية الحقة هي الخضوع الروحي والتخلي الجماعي الطوعي عن الحرية فقد ضاقوا ذرعاً بها. فبعد أن فقد المسلم نزعة الحرية ونشوة الإحساس بها فإنه قد أضحى عاجزاً عن امتلاك ناصيتها: لم يعد يعرف لا استخدامها ولا التمتع بها.

الحرية "تفسخ" و"انحلال" والعبودية "تماسك" و"انضباط"!

4.

أن تكون عبداً يعني أن تفكر كعبد!

لا تعني العبودية الخضوع الجسدي لقوة الآخر – أياً كان هذا الآخر. فالتاريخ القديم والحديث قدَّم لنا الكثير من الناس الذين قضوا شطراً كبيراً من أعمارهم في غياهب السجون وتحت أقسى أنواع المعاملة لكنهم ظلوا أحراراً – بل أكثر تحرراً حتى من سُجَّانهم – ونلسون مانديلا واحداً منهم.

إذ أنْ تكون عبداً هو أنْ تفكر كعبد؛

وأنْ تفكر كعبد هو أن تبرر عبوديتك وتصنع لها الأعذار مبرهناً بنفسك على أحقية سيدك في سلطته عليك؛

أنْ تكون عبداً يعني أن تُفَضِّلَ الأمن البليد والطمأنينة الكسولة على بهجة الحرية؛

أنْ تكون عبداً يعني أن تتخلى عن كل أشكال الطموح ولا تحتفظاً إلا بطموح واحد فقير منحطٍّ: الحصول على الرزق!

أنْ تكون عبداً يعني أن تَعْزُو وجودك إلى كيانٍ خرافي لا دليل على وجوده ولم تر بعينيك ولم تدرك بعقلك هذا الوجود لكنك صدَّقت ما قيل لك وتخليت بإرادتك عن أية فرصة لإعادة النظر بأن ما تعبده صنم من الأصنام لا وجود له إلا في رأسك!

4.

وهكذا فإن عبودية المسلم هي قرين الجهل ورفض المعرفة.

المعرفة تجعل الإنسان غير صالح ليكون عبداً

هذا ما تقوله لنا التجربة.

تصنع العبودية خوفاً تدعم وجودها الذاتي صانعة بدورها وهماً آخر بأنها من طبيعة الأشياء. فيستحيل الخوف إلى جهل بمصدر الخوف ذاته.

ولهذا فإنَّ من مصلحة السَّيد – أياً كان: "الحكام" الدمويين، أو "الأنبياء!" المزواجين، أو “الخلفاء" اللارشيدين، أو"الأئمة!" الخرافيين و"الكهنة المعتوهين" أن يستحيل الجهل إلى عقيدة. وما على المؤمن إلا أن يوجه نظره صوب العبودية:

"فكمال الْمَخْلُوق فِي تَحْقِيق عبوديته لله وَكلما ازْدَادَ العَبْد تَحْقِيقا للعبودية ازْدَادَ كَمَاله وعلت دَرَجَته وَمن توهم أَن الْمَخْلُوق يخرج من الْعُبُودِيَّة بِوَجْه من الْوُجُوه أَو أَن الْخُرُوج عَنْهَا أكمل فَهُوَ من أَجْهَل الْخلق بل من أضلهم"[العبودية لابن تيمية ص 75]

إذن: العبودية هي الكمال!


[جميع أشكال العبودية: الجبرية والطوعية والدينية]