Blogger المدونة الرئيسية في
Prolog
إذا صح القول – وهو صحيح تماماً – بأننا "لن نعبر النهر مرتين" فإنَّ فرصة عبور القنفذ شارع الخط السريع، الذي يشق الغابة إلى نصفين، ولمرة واحدة يكاد يكون معدوماً!
[التعبير هو للفيلسوف اليوناني هيراقليطس الذي كان ينظر إلى الحركة "التغير" باعتبارها مفهوماً أساسياً. ولهذا كان يقول: "لن تستطيع الدخول في نفس الوقت وفي نفس النهر مرتين". فكل شيء بالنسبة له كان يجري ولا يبقى على حاله]
1.
المكان: غابة كثيفة تطل أطرافها الشمالية على المحيط.
الزمان: فصل الخريف.
الطريق الخارجي السريع يمر من وسط الغابة تقريباً.
في بداية الغابة بمحاذاة الطريق ثمة قطعة كبيرة لإشارة المرور تطلب من سائقي المركبات تخفيف السرعة وتحذرهم من احتمال وجود حيوانات تعبر الطريق من بين جهتي الغابة.
ولكن – للأسف – لا توجد قطعة مرور تنبه الحيوانات بمخاطر عبور الطريق بسبب مرور السيارات!
2.
ولهذا كان القنفذ – واعتذرُ عن تسميته باسم آخر فهو قنفذ حق وحقيقة– وإذ قرر قطع الطريق والانتقال إلى الجهة الأخرى من الغابة بدون أي سبب وجيه (وسوف أبرهن على هذا) فإنه قد تَسَمَّرَ في مكان ما (من الجغرافيا) بين الأوراق الساقطة على حدود الطريق مع الغابة وكأنه يردد بصوت خفيض:
- أأعبرُ الطريقَ أمْ لا أعبره!
لا أعرف فيما إذا كان يعرف أم لا، بأن هذه النوع من الأسئلة هو الذي أرسل هاملت إلى حتفه!
3.
قلتُ إنه ليس ثمة سبب وجيه لهذه المغامرة وبكل المعايير (ليس القنفذ من الكائنات التي تهتم بالمعايير):
فالغذاء والماء متوفران في كل مكان من الغابة. أما في الجهة الآخرة من الغابة فلا شيء مختلف؛ وإنَّ المغامرة بعبور طريق السيارات (وهذا أمر تعرفه جميع القنافذ) لهو انتحار محقق [في البداية كتبتُ عبارة "أقرب إلى الانتحار " ثم غيرتها إلى "انتحار محقق"]!
وهو إنْ تساءل وكأنه "هاملت" فإنُّه لن يحصل على أي نوع من الإجابات أكثر مما حصل عليه هاملت نفسه وستكون نهايته كما كانت نهاية الكثير من الحيوانات التي عبرت الشارع رغم أنها تتميز عنه بأنها أكثر قوةً وخفة ورشاقةَ وقدرةً على الحركة و"هاملت" نفسه على حد سواء:
إنه سيلقى حتفه!
لا اسعى لكي أحطَّ من قدر قوته وعقله وإمكانياته التكتيكية ولكنني قد تخليت عن الأوهام ولا أستطيع أن أمنحه أملاً يدفع بسببه ثمناً غالياً: حياته!
[هل أعْبُرُ أو لا أعْبُرُ – هل هذا سؤال؟]
4.
فقررتُ (ويا ليتني لم أقُررْ) أن أحمله ونعبر معاً على أمل أن أجنبه مهاوي الردى والعبور المميت وأوفر عليه البحث عن إجابة مناسبة فَشَلَ حتى هاملت في العثور عليها. بل فشل الجميع من غير استثناء. فأمام القضايا المصيرية التي تتعلق بالقيمة الوجودية لحياتنا لا مكان لكلام فارغ من نوع "أكون أو لا أكون"!
فحالما حملته أطلق القنفذ صرخة مدوية "جبارة!" اهتزت لها الغابة وتساقط من الأشجار ما تبقى من الأوراق الصفراء والبرتقالية والذهبية على رأسي (وكأنني عريس هندي!) وكاد قلبي يسقط من فمي، قائلاَ (أقصد القنفذ) أنْ أعيده إلى الأرض فأعدته إلى مكانه حتى أتجنب عواقب غضبه!
- من قال لك بأنني لا أستطيع العبور وحدي؟
صرخ القنفذ في وجهي غاضباً.
- من عشرات القنافذ المنسحقة تحت عجلات السيارات!
أجبته وفرائضي ترتعد من الخوف أنْ "يصرخ" القنفذ مرة أخرى.
- لم يخبرني أحد بذلك؟
قال القنفذ من غير اكتراث.
- لأنَّ لا أحد عاد من رحلته يا حبيبي! فالقنافذ التي عبرت لن تعود والقنافذ التي سحقتها عجلات السيارة أكثر عجزاً عن العودة!
قلت بنبرة لا تخلو من التهكم عقاباً على صرخته "المدوية!".
- أكثر عجزاً على العودة ...
ردد القنفذ عدة مرات بنوع من السخرية.
- حسناً، كما تحب. أتمنى لك نهاراً سعيداً!
قلت بجدية لكنه لم يكلف نفسه عناء الرد وقد شاح ببصره إلى الجهة الأخرى بسرعة خاطفة.
5.
كان عليَّ قبل العبور أن أنتظر دقائق حتى تمر قافلة من سيارات الحمولة العالمية “TIR” فعبرت الشارع مهرولاً وحدي متجنباً شر القنفذ وسيارات الحمولة التي لا تتوقف إلا على جثة في الطريق.
6.
كم من القنافذ التي قررت عبور الطريق قد استطاعت فعلاً عبوره من غير أن تفقد حياتها؟
لا أعتقد بأنَّ الإجابة صعبة – طبعاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار ساعات النهار وكثافة مرور السيارات. أما إذا تعلق الأمر بساعات الليل فإنَّه لا يمكن العثور على احصائيات أكيدة. لكنَّ مغامرة النهار لن تتحول إلى عبور آمن في الليل هكذا ببساطة.
فالقانون الفاعل في مثل هذه الأحوال هو قانون عجلات المركبات:
من أين ستمر العجلات؟
من فوق القنفذ نفسه أم على بعد سنتمترات منها. وإن سلم من عجلات السيارة الأمامية فما هو الأمل في أنْ يسلم من عجلات السيارة الوسطية – وماذا عن العجلات الخلفية؟
بل وما هو الأمل (إن كان ثمة أمل) في أن يسلم من عجلات سيارة الحمولة التالية – وخصوصاً وحين تصل السيارة التالية فإنه لن يكون قد تقدم أكثر من سنتمترات معدودة من النقطة السابقة؟
هذه أسئلة أكثر عملية من "أكون أو لا أكون" وهو من أسوء الأسئلة في مثل هذه الظروف.
Exode
بعد ساعات وفي طريق العودة إلى البيت عدت في نفس الطريق وتوقفت مقابل نفس النقطة التي عبرت منها في المرة الأولى:
أمامي على أسفلت الشارع كانت تتبعثر بقايا القنفذ مع بقايا قليلة من أحلامه بالعبور الآمن متناثرة هنا وهناك.
لقد آمن هذا القنفذ بالغيب ولم يؤمن بالوقائع.
فحملته (أو بالأحرى حملت بقاياه) ووضعته في المكان الذي انطلق منه على حافة الغابة المحاذية للطريق.
لم يطلق هذه المرة صرخة تهتز لها الغابة ولم يوبخني على إعادتي له إلى مكانه الذي رأيته فيه لأول مرة. وهذه على أية حال من حسنات التواضع!
[هل ثمة معنى من الأسئلة؟!]