كتاب الحيوان الصغير [4]: سورة البقرة والبقرة الإنجليزية وحذائي المخلص 

ملاحظة:

ليقرأ القارئ كلمة "المُخلص" في العنوان كما يرغب. فلا أجد أية قيمة تذكر للحركات في هذه الكلمة!

1.

كان لدي حذاء شبيه بعض الشيء بهذا الحذاء (الصورة أعلاه). لكنه، والحق يقال [إنْ كان ثمة حق في هذه الحياة]، كان أسوء حالاً وأكثر حزناً وأعمق مرارة وأبعد ما يكون عن الخروج به حتى للتسوق في السوبرماركت القريب!

فقد ظهر [فجأة] ثقبٌ في منطقة الأصابع - لا علاقة له، بأي حال من الأحوال، بثقوب طبقة الأوزون – وأقل ما يكون له علاقة بثقوب العقل اللاهوتية.

2.

حذائي هذا (كان حذائي في الخير والشر) سافر معي شهوراً طويلة – وصلت السنتين على الأقل وعَبَرَ معي حدوداً دولية كثيرة – بل وعبر معي ثلاث قارات؛ وأنتظر معي كما انتظرتُ أنا أمام شرطة حدود مختلفة وفي محطات قطار وقاعات انتظار مطارات لا تعد ولا تحصى ونزل وصعد [معي] الكثير من محطات المترو، ورافقني في جولات في مناطق جبلية وغابات. وأستطيع المضي قدماً إلى ما لا نهاية!

وقد استمر الحال هكذا حتى كان عليَّ أن أحسم قراري [بالأحرى أقبل قرار حكم الواقع] واستقر في بلد واحد – أو أنَّ حيلتي على الاختيار قد انتهت: وهذا هو الصحيح!

حينئذ لم يعد حذائي الأثير على قَدَمَي [ولا أخشى ألْسِنَة أولاد الحرام أن أقول: على قلبي] ملائماً للاستقرار – فللاستقرار أحكام لا تتعلق بالقوانين المدنية فقط، بل وبطبيعة الأحذية أيضاً!

فإنْ كانَ لمقولة "لكل مقام مقال" نوع من الصحة، فإن الصحة مطلقة في حال: لكل مقام حذاء!

3.

ومع ذلك فإن تعابير من نوع "كان معي" و" عَبَر معي" و" انتظرَ معي كما انتظرتُ" و"رافقني" على تعددها وتنوع معانيها [وصحتها النسبية] ليست دقيقة وتسيء إلى حقيقة فَرْدَتَي هذا الحذاء – بل تسيء إلى الحقيقة إطلاقاً!

فالحقيقة التي لا تحتمل التأويل (احذروا التأويل الباطني – فهو يحوَّل الفأرة إلى كنغر!) ولا التعابير الأدبية هي أن هاتين الفردتين:

قد حملتاني – أكرر: حملتاني بالمعنى الحرفي لكلمة "حَمَلَ يَحْمل حَمْلاً" خلال ترحالي الطويل بحثاً عن مستقر لي وتَحَمَّلَتَا معي تحولات الطقس واختلاف جغرافيا المكان والحدود الدولية واختلال الوزن (أقصد وزني) والمزاج وزاوية الرؤية والقناعات والتصورات والولاءات والانتماءات والكفاح ضد الأوهام المدنية (لأنَّ الدينية قد نزعتها عن كاهلي من قرون عديدة!).

فلهما فَضْلٌ عليَّ – ربما لم يقدم مثله لي أي كائن آخر، ولم تمنحني أية عقيدة على الأرض نعمة مثلما منحتني فردتا هذا الحذاء.

هل قلتً كائناً؟

بالضبط!

4.

أنهما – ولا أشكُّ في ذلك - كانا في الأصل بقرة إنجليزية – أو هكذا أظن! وإذا كان "بعض الظن أثم!" فإن في هذا الظن معنى اليقين.

فقد اشتريت هذا الحذاء – وهو صناعة إنجليزية (أي: من إنجلترا) من دولة بعيدة عن دول الكومنولث بعد أن تهرأ حذائي الرياضي القديم الذي لم يحتمل (ربما سيكولوجياً) غير دولتين وبعض محطات قطار وعدداً من محطات المترو وجولة في ضواحي بودابست (كنت هناك مؤقتاً رغم أن كلمة "مؤقت" في حالتي لا تعني أي شيء من الناحية العملية)!

والآن عليَّ أن أطلق العنان لخيالي لكي أرى الحياة السابقة لهذه البقرة في مراعي بريطانيا الخضراء - أو أي دولة أخرى تابعة لها!

لا أعرف بالضبط فيما إذا كانت حياتها قصيرة أم طويلة وطبيعة الأحداث التي مرت بها، لكنني أعرف بما يكفي من الثقة أن حياتها في مرحلة تجسدها الجديد (طور التناسخ) كحذاء متقن الصنع أنقذني من ورط كثيرة عادة ما تقدمها الحياة ومخاطر السفر بحثاً عن مستقر بكميات كبيرة.

تحية إجلال لحذائي الإنجليزي القديم!

5.

لكنَّ للبقرة مكاناً [وليس مكانة] متميزاً في ذاكرتي ومن غير مبالغة أكثر أهمية من دول الكومنولث والبقرة الإنجليزية والحذاء المتقن الصنع الذي أنقذني مرات كثيرة من مهاوي الزمان وغرائب المكان وآثار سفالة السلطان في أثناء رحلتي العبثية واللامعقولة عبر الحدود الدولية بحثاً عن الحرية.

إنها كلمة – وهي من ذاكرتي الإلحادية - "ساهمتْ"، بقدر ما تستطيع المساهمة، في تغيير اتجاه حياتي منذ الصبا.

فرغم أن كلمة "بقرة" من الكلمات المألوفة ومنذ فترة مبكرة من حياة الصبيان ولا تحمل دلالة متميزة غير أنها مصدر الحليب المعقم الذي نشربه من القناني الزجاجية، إلا أنني وعندما ظهر لي أنها اسم سورة من كتاب محمد وجدت نفسي اصطدم بقضية "عويصة" على الحل!

6.

فكرت طويلاً حينذاك، مثلما أخذ الشَّكُّ يتسلل إلى نفسي بأنني لم أسمع الكلمة كما ينبغي:

فربما كانت "برقة" أو "قبرة" أو "قربة"، أو حتى"رقبة"!

لا أعرف لماذا كانت هذه الكلمات تبدو أكثر واقعية في وجودها في كتاب محمد بالذات من كلمة "البقرة"؟!

أما أنْ تكون الكلمة “بقرة" حقاً وحقيقةً فإنَّ في الأمر لغزاً و" إنَّ في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً" وإن في القريان لبقرة؛

"مَا بَاْلُ النَّاسِ يَذْهبُونَ وَلاَ يَرْجِعُون؟! أرَضُوا فَأَقَامُوا، أمْ تُرِكُوا فَنَامُوا؟!" كما هَتَفَ يوماً في ذلك الزمن الملتبس الغائر في ظلام التاريخ قسُّ بن ساعدة.

وحالما تسللتُ إلى غرفة أبي وبحثت عن هذه "البقرة" في القريان ووجدتها في البداية تماماً فإنَّ شكوكي في وجود البقرة في القريان قد تبددتْ. 

أمَّا شكوكي في "القريان" ذاته فإنها قد بدأتْ!

7.

سورة للبقرة، إذن، هي في القريان؟!

يا للهول!

فسورة "الحمد!" مثلاً كانت بالنسبة لي معقولة تماماً لأن أبي كان يحمد ربه دائماً – رغم أنه كان يحمده على أشياء كان يصنعها بنفسه، وتتحقق بجهوده، ولولا عمله ما رآها أبداً بعينيه.

أما وجود البقرة فإنه زائد تماماً ولا يلبي توقعاتي عن كتاب يقولون عنه: "لا يمسه إلا المطهرون" والبقرة تسرح وتمرح فيه!

8.

لقد طوت الإيام مفاجآتي الأولى طي النسيان وعندما تحولت إلى إنسان – أقرأ وأتقن قوانين اللسان ظهر أن في كتاب محمد الذي فلقوا به رأسي في المدرسة والبيت والشارع عشرات المفاجآت، وعشرات الصفحات الملغومة، وعشرات الخرافات، وعشرات الغرائب والعجاب، وعشرات المتناقضات، وعشرات السخافات حتى لتبدو قضية "البقرة" بريئة تماماً ولا تستحق كل هذا التعب والتفكير.

9.

أما حذائي المصنوع من جلد البقر الإنجليزي فقد تغلب على سورة البقرة . . .

إذ فتح أمامي فرصة مدهشة لكي أعيد النظر في تاريخ طويل وأنظم وأرتب بناءه؛ وأن أصنف مكوناته (على الطريقة المكتبية) وأنْ أكتشف نقاط القوة والضعف وأوهام الأيديولوجيا المتسترة بعباءة العلم؛ وأن أرى بوضوح مدهش:

أنني كنت على حق عندما طردت وَهْمَ "الله" من حياتي منذ فترة مبكرة جداً. وكانَ عليَّ أنْ أطرد من عقلي ما تبقى من أوهام الأيديولوجيات.

يا لنعمة العقل!

ويا له من مصدر لا ينضب للحزن . . .


[ما الذي يدور الآن بخلد هذه البقرة الأنجليزية؟]