Blogger المدونة الرئيسية في
مقدمة:
تكتظ الشوارع العربية بكلاب الشوارع. فهذا واحد من فولكلورها (قد تكون هذه واحدة من أفكار وزراء السياحة العرب من أجل جذب السياح!).
وعلى ضفاف المزابل المنتشرة حتى في مراكز المدن (هل ثمة مدن في هذه الدول؟) تبدو ظاهرة الكلاب المقتولة وكأنه أمر عادي – أليس “المصطفى” أوصى بـ"تصفيتها"؟!
وعلى خلفية ثقافة اللامبالاة واللااهتمام حتى بحياة البشر يبدو الحديث عن حياة الكلاب وكأنه نوع من "الكفر" و"الزندقة"!
غير أنَّ هذا وضع عابر في حياة الشعوب.
إذ أدركت المجتمعات المعاصرة (والعربية الإسلامية ليس من ضمنها) أن حياة المخلوقات جميعاً مهمة وهي منظومة مترابطة يؤدي الأخلال بعنصر منها الاخلال بالعناصر الأخرى. بل أنَّ "إنسانية" البشر الحقيقية تتبدى في مواقف البشر إزاء المخلوقات الأخرى.
1.
وإذا ما تركنا جانباً ولو مؤقتاً القضية الإنساني قليلاً وحاولنا أن ننظر إلى السوسيولوجيا - إلى مجتمع كلاب الشوارع السري بعين حيادية فإننا سنرى "شخصيات" مختلفة تتقمصها الكلاب أو تضطر إلى تقمصها حتى لتبدو الشوارع وكأنها منصة لاستعراض النماذج البشرية والصراعات الدائرة على لقمة العيش والجاه والشهرة الفارغة في المجتمعات البشرية.
فالأفاقون والنصابة و"البلطجية" ومحدثو الشغب ومدعو النبوة والعجائز المُخَرِّفَات وأصحاب العاهات العقلية والباحثون عن الشهرة وعديمي الموهبة وضعفاء العقل والإرادة وأنصاف المتعلمين و"المثقفين" الوهميين والجهلة المقنعين والذين فشلوا في إثبات وجودهم فطلبوا الانتماء إلى الأحزاب والطوائف المسلحة أو مسَّاحي "طيز" السلطان وغيرهم الكثير نراهم جميعاً يُعَبِّرُون عن حضورهم ومعالم شخصياتهم المتفردة في قطعان الكلاب!
2.
ثمة قضية هامة يجب أن تُؤخذ بنظر الاعتبار:
إن القوانين الحاكمة في قطعان الكلاب لا تختلف كثيرا عن القوانين المسيرة للقطيع البشري: الجماهير.
فكلا نوعا القوانين تخضع لذات الآلية:
تميز "القائد" المزيف بسبب استخدام القوة والخداع والشراسة وخضوع الآخرين له.
إنَّ سيطرة "القائد" على الفرد باعتباره واحداً من القطيع أكثر سهوله من السيطرة على الفرد خارج القطيع – وخضوع الفرد مع الجماعة للقائد يكون أكثر استساغة. فكما يفتخر المسلمون بالقول: الحشر مع الناس عيد!
بمعنى آخر: الخضوع عيد!
وبمعنى أكثر وضوحاً: العبودية عيد وفخر!
إذن كل عام وَهُم بخير!
وهذا ما يمكن رؤيته في "المقاطعات" البلدية المحلية لكلاب الشوارع العربية.
3.
أيام زمان وجودي في مملكة الظلام كنت أذهب إلى المدرسة من نفس موقف الباص كل يوم تقريباً. وقد كان عليَّ السير قليلاً من البيت حتى أصل موقف الباص.
والمسافة ما بين البيت وموقف الباص (التي لا تتعدى مسير خمس أو سبع دقائق) كانت ساحة لمعارك ليس من النادر أن تتحول إلى معارك دامية بين قطعان كلاب المحلات المتجاورة أو كلاب الشوارع المختلفة في نفس الحي (بسبب ختلاف المصالح).
لقد كانت هذه المعارك استمراراً للخلافات على الحدود المرسومة في "عصور" قديمة ما بين هذه القطعان حيث تؤمن الكلاب بها "نقلاً" وليس "عقلا". إذ لا توجد أية أدلة ووثائق تثبت ملكية هذا القطيع لهذا الشارع أو ذاك، لهذا الحي أو ذاك.
في بعض الأحيان كنت أتوقف قليلاً لكي أراقب حركة قطعان الكلاب هذه فكانت تبدو لي وكأنها نوع من حروب الشوارع التي لا يمكن معرف العدو من الصديق (العدو أكثر وضوحاً من الصديق) التي تعرفها الكثير من المجتمعات المتخلفة..
في أوقات كثيرة من النهار (والليل ليس استثناء) يتعالى نباحها بسلسلة متواصلة – فكل قطيع كلاب يفرض وجوده الصوتي عن طريق النباح. ولكي يثبت قطيع كلاب المحلة الأخرى وجوده فإنه يشرع بالعواء من غير أن يعرف السبب – هكذا من أجل الحضور الأدبي واثبات الوجود لا غير – أو كما يُقال من أجل الرياضة الروحية والمواقف التاريخية!
4.
كنت ألاحظ بصورة واضحة كيف أنَّ حرباً "باردة" تسري في أوصال منظمات الكلاب وقطعانها.
لقد كانت الحرب الباردة الكبيرة لم تنته بعدُ!
وللكلاب حربها أيضاً:
إنها حرب غير معلنة – تماماً كالحرب الباردة ما بين المعسكر الاشتراكي (الذي لم يكن اشتراكياً أولاً ولم يعد له وجود ثانياً) ودول الحلف الأطلسي /الغرب. والشيء المفتقد في حرب الكلاب الباردة هو غياب التسلح – وبكلمة أدق: صعوبة الحصول على أسلحة جديدة.
إلا أن الشيء المثير للاهتمام ورغم سلوك "الزعرنة" الذي يتسم به سلوك هذه الكلاب فإنها لم تكنْ تَعْبُرُ الشارع الرئيسي إلى الجهة الأخرى حيث منطقة وقوف الباص!
فكما يبدو أن حدودها الجغرافية "السياسية" تنتهي عند حدود الشارع ولا تتجاوزه.
أي أنَّ منطقة الباص منطقة منزوعة من السلاح – أو منطقة حيادية!
وهذا موقف تُحمد عليه في زمن لا يحترم الناس فيه الحدود – أية حدود!
5.
في شروط الحرب الباردة هذه ثمة كلب صغير (صغير الحجم لا العمر) نحيف ضامر الجسد حتى بدت آثار أضلاعه ربما من الفاقة والجوع أو القهر النفسي والضياع العقائدي– أو جميعها معاً قرر أن يلعب دوراً في هذه الحرب لم يكن مسموحاً له أن يلعبه، بل قرر أن يتقدم أمام الجميع لكي يثبت وجوده الذي لا يهتم به أحد غيره. وحينما كان يعوي بصورة مضحكة ومثيرة للشفقة (فهو لم يتقن حتى العواء) كانت جميع الكلاب تنظر إليه بغضب والشرار يتطاير من عيونها فيلف ذيله حول نفسه ويلوذ بالصمت، ثم يغيب مثلما ظهر من غير مدَّاحات ولا دق طبول ولا دفوف ولا صنوج تُقرع، عارياً تماماً حتى من معرفة النباح.
6.
وهكذا تحولت مساعيه الدؤوبة نحو البطولة إلى دور ثانوي في مسرحية كوميدية!
حتى صاحب معرض الأثاث البدين والكسول (كان المعرض يحتل حيزاً كبيراً من العمارة المقابلة لموقف الباص) كان يتململ في مقعده الذي يشبه العرش (هل تذكرون العرش؟) معبراً عن مشاعر الاشمئزاز والنفور من عواء صاحبنا الفارغ الذي لا يربح منه غير الخسائر. وغالباً ما كان يطلب من عماله (وكأنهم ملائكة يطوفون حوله من غير أجنحة) طرد الكلب من أمام محلاته لأنه كان يعتقد بأن هذا الكلب يجلب له الشؤم والخسارة!
7.
كان صوته (أقصد: صوت هذا الكلب أو نباحه) نشازاً تماماً.
لكنه قرر أن يقف مع الأقوياء – الحق أنه لا يعرف معنى القوة وكان يخلطها بالكثرة.
قد لا يخلو الأمر من حكمة. ولكن للحكمة وجهين:
فرغبة انضمامه للأقوياء – وكما هو واضح - لم تكن تتطابق مع مصالح هؤلاء الأقوياء بانضمامه إليهم. ولهذا فإنَّ هذه "الحكمة" تتحول إلى حماقة – غير أنَّ سِرِّ الأحمق هو أنه لا يعرف بأنه أحمق.
8.
أنه يثير الرثاء.
فَحَشْرُ أنْفِهِ في الحروب الكبيرة تثير حنق المراقب.
فكلب مثله عليه الاصطفاف في معسكر الحياد (خلف موقف الباص) وأن يتبع المثل العربي الأثير على قلوب العرب والمسلمين كافة:
- "امشي الحيط الحيط وقُلْ ْيا ربي السِّتْرَ!"؛
لا أن يعوي بصور مضحكة مثيراً حوله الشكوك والاستغراب والغبار وليس نادراً ما يحصل على ركلات بالبطن أو عضة في ذيله من هنا ورفسة من هناك وهو في غنى عنها – بل هو في غنى حتى عن وجوده الشخصي لو فكر بعقل.
ولكن من أين له هذا العقل!
بل أين هو العقل في مملكة الظلام!
9.
في إحدى المرات (وهذه المرات هي العشرات) دفعته الحماقة المقدسة (في سلوك الحمقى ثمة نزعة إلهية) التي تنبع من أعماقه أن يؤدي ذات الدور الكوميدي وأنْ يقف أمام الجميع وكأنه جندي حشرته الدولة في قضية لا يفهمها، وأخذ يعوي على طريقته المضحكة وبصورة مزرية ولا أحد – كالعادة – يعرف السبب.
صحيح أنَّ الحرب الباردة لا تزال قائمة ولكن رغم ذلك فإنَّ لها قوانينها الداخلية الخاصة بها والباردة - ولهذا تسمى حرب باردة!
إذ لابد من وجود سبب، أو لنقل ذريعة.
وإذا ما غاب السبب وانتفت الذريعة فإن الهدوء لا بأس به لجر النفس والراحة والتأمل والبحث عن الطعام في المزابل والتهيؤ للمعركة القادمة. أما أن يأتي هذا "المفعوص" ويخرب الأجواء فهذا ما لا يقبله أحد: لا الأعداء ولا الأصدقاء – إن كان ثمة أصدقاء، أما الأعداء فحدِّث ولا حرج. فإنهم من الكثرة بحيث لا يمكن الاستغناء عنهم!
ولأن بين القطيع كلبين مسنين كان مزاجهما أسود قاتماً من قلة الطعام فقفزا عليه وبضربة واحد متزامنة مدربة وحكيمة برأس كل منهما ألقيا بصاحبنا في حفرة كبيرة مليئة بمياه الأمطار الآسنة من فصل الشتاء الماضي (وهذا من فولكلور المدن العربية).
10.
أخذ صاحبنا الأحمق يعوي بصورة غريبة حزينة تقطع نياط القلب ولكن ما العمل وصاحبنا لا يعرف قوانين الحرب الباردة – بل هو لا يعرف أي نوع من القوانين غير الرغائب الفارغة العاجز هو نفسه عن تبريرها أو دعمها.
لا أحد يعرف ما الذي حدث مع الكلب البائس. إذ لا أحد قد رأى سقوطه في الخندق غير الكلبين الهرمين اللذين لم يكن لهما أية رغبة في التعرف على مصيره وطبيعة النتائج...
11.
هل انتقل "صاحبنا" إلى رحمة الله، أمْ أنَّه انتقل إلى رحمة قطيع آخر في محلة أخرى؟
لا أحد يعرف.
وهل كفَّ عن العواء المضحك النشاز؟
لا أحد يعرف.
وهل تَعَلَّم معنى البطولة؟
لا أحد يعرف.
وهل تعلم من حماقاته لكي يكفُّ عن ارتكاب المزيد من الحماقات؟
لا أحد يعرف أيضاً.
ثمة فرضيات كثيرة. لكنها جميعاً تبدو عاجزة عن تقديم ما يكفي لكي تكون فرضيات معقولة يُعتدُ بها.
إلا أنَّ الواقع الذي لا جدال فيه هو أن هذا الكلب الأحمق قد اختفى فنسيه الجميع والحرب الباردة تواصل أوارها كما السابق وقد نسي الجميع قضية الحدود...
12.
في المرات الأخيرة التي استخدمت فيها الباص نهائياً بحثت بنظري عن "صاحبنا" على طول الطريق من البيت إلى موقف الحافلة ولكنني لم أره.
هل كان عليَّ أن أسأل أحد الكلاب عنه؟
لا أعتقد.
في اليوم التالي غادرت البلاد إلى الأبد.
13.
لو قُدِّر أن يكون لهذا الكلب قبر وللقبر صخرة لكُتِبَ عليها:
هنا يرقد كلبٌ لم يتعلم شيئاً من حياته ولم يتعلم شيئاً من حياة الآخرين.
فَقَدْ ولد جاهلاً، وعاش جاهلاً، ومات جاهلاً.
ليتغمده الله برحمته الواسعة....
ليس للموضوع أية بقية، وليس لدي أية رغبة في أن تكون له بقية إلا إذا اضطررت إلى ذلك.
أما التعليق فهو من حق الجميع . . .