Blogger المدونة الرئيسية في
[1]
وبينما كان حمارنا مستمتعاً بنعمة التأمل في تاريخ الزمان وأحوال الحمير والإنسان فإن الدنيا قد انقلبت على رأسه من غير حتى أن يشعر وهو في أفكاره غرقان معتقداً في بعض الأحيان بأنه حصان!
فحينما لم يأوِ إلى فراشه (أو معلفه – لا فرق) إلا متأخراً جداً بعد منتصف الليل فقد كان متعباً ومهموماً بعد أنْ انهالت عليه المصائب من كل جانب. ولهذا وحالما أغلق عينيه سقط في لجة الكوابيس التي بدأت بمنارة الجامع وهي تتهاوي تحت قدميه مرات عديدة وانتهت بإعصار مدمر وفيضان كالطوفان جرف القرية وكل من فيها وأخذت الأمواج الطينية تدفعه إلى هنا وهناك من غير أنْ يمتلك القدرة على المقاومة والصمود.
لا يوجد أكثر رعباً من الكوابيس.
ولكن أسوء ما في الكوابيس هو تكرار المشاهد والأحداث المرعبة. فعندما كان يجرفه الفضيان إلى أسفل الهاوية فإنَّ سقوطه المرعب مسافات هائلة كان يتكرر عشرات المرات. إذ حالما يهوى من عِليٍّ يعود من جديد يكرر طريق السقوط حتى استيقظ مذعوراً وهلعاً والعرق يتصبب من جسمه.
وعندما صحا بعض الشيء من الكابوس اكتشف أن الشمس قد طلعت منذ ساعات وقد فاتت عليه وعلى الجميع صلاة الفجر[تصوروا؟!] لأن مؤذننا الكبير كان نائماً كالحمير في معلفه الوثير متناسياً بأنه المؤذن الوحيد والأثير. والكلُّ يعرف [لا أعرف من هم الكل؟!] أن المؤذنين قد أضربوا عن العمل (أقصدُ: الأذان) احتجاجاً على موقف أئمة الجوامع الذين قرروا السير على اقتصاد السوق والتصرف كـ" managers" : نفقات أقل وكفاءة عالية والله الحافظ من شر الغربيين والعرب الملحدين.
[2]
طبعاً لم يكن جميع أئمة الجوامع موافقين [فحرية الرأي مضمونة فقهياً في الإسلام طالما آمن الفرد بالجن والسعالي والطناطل].
هناك من طرح قضية في غاية الأهمية وهي إذا كانت الإدارة الاقتصادية الرشيدة تتناقض مع مقاصد الدين فإنها حرام وألف حرام وباطلة شرعاً وأصحابها مأواهم جهنم وبأس المصير!
وطرح مُعَمَّمٌ آخر قضية أخرى تماماً وهي رفض الفكرة "جذرياً" في أن يكون الحمار مؤذناً من حيث المبدأ وتعلل (وله الحق في ذلك) بعدم صدور فتوة بالموضوع لحد الآن.
وقد أكد [بالقلم العريض] على أهمية الإجماع، فإجماع الأمة يطرد الغمَّة، كما قال أحدهم! وهناك من "تملص" و"دَلَّس" باحتراف عالٍ وبلاغة فقهية متطورة ولم يعط رأيه متحججاً بأنه لا يمكن البت بالموضوع قبل أن يدلو "القائمون على الأمور" بدلوهم أو رأيهم وشدَّد على وجوب طاعة ولاة الأمر" مستشهداً بكتابه "العزيز" على قلبه: "يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم". فكان برهانه محكماً، واستدلاله مبرماً!
وكما يحدث دائماً في ممالك الإسلام [القديمة والجديدة] وعندما يعجزون عن اتخاذ قرار صائب، قرر أئمة الجوامع تأجيل النظر في الموضوع حتى تحين مشيئة الله. و"مشيئة الله" لا غالب لها إلا هو!
وهذا ما تقوم به الحكومات دائماً: الانتظار.
والسبب بسيط للغاية: إنهم يحكمون شعوباً لا تطالبهم بالأجوبة.
غير أن الوقائع والتاريخ، للأسف، لا تنتظر هذه المشيئة![25]
[3]
وهكذا استيقظ الحمار متأخراً وقد فاتت ومرت صلاة الفجر خاطفة من غير عودة ولا أحد أيقظ المؤمنين من لذة نوم الصباح اللذيذ الأمين،
والحق يقال، قد ملَّ جماعة "المؤمنين" هذا الاستيقاظ. ولهذا فقد فرحوا بداخلهم وألقوا اللوم على الحمار بخارجهم.
لكن الأحداث لا تبدو كما تبدو.
فالحقائق غالباً ما تختفي خلف الأحداث التي لا أحد يعرفها غير المطلعين على بواطن الأمور، فيما إذا كانت أحداثاً حقيقية أم مصنوعة!
فقد تفاجأ الجميع عندما قرر مختار القرية صاحب قطعان الماعز أن يحدد اجتماعاً عاجلاً دعا إليه جميع السكان وبحضور أئمة الجوامع التابعة للقرى القريبة [وقد ظهروا بمظهر المتفاجئين] لمناقشة ما حدث فجر يوم أمس. وقد حُدِّدَتْ ساحة القرية الرئيسية كمكان للاجتماع والساعة العاشرة كوقت لانعقاده.
حضر الجميع، وبعض من ماعزه، والعجوز العمياء، بل وحتى القطط والكلاب تبعت الناس إلى ساحة القرية الرئيسية لعلها تحظى بفضلات طعام يطرد عنها شبح الجوع والإملاق، ولم يتخلف عن هذا الجمع الغفير غير الحمار.
الحق أنه لم يتخلف، إذ لم يكلف أحدٌ نفسُه دَعْوَتَه. حتى زوجته تناسته وحيداً في زريبته وانطلقت سعيدة مع حمار الجيران الوسيم.
الحقيقة الواضحة وضوح الشمس وهي أنه لا مكان له في مثل هذا النوع من الاجتماعات. فهي في مقاصدها (الفقهية) تعمل ضده وتسعى إلى ضرره. فما الفائدة له من حضوره وما الضرر لهم من غيابه؟
[4]
كان اجتماعاً تاريخياً لم يشهد مثله أحدٌ من سكان القرية.
وليس السبب لأنه لم يتخلف عنه أحد من سكان القرية (تقريباً لم يتخلف عنه أحد!)؛
ولم يكن السبب لأنه قد حضره جميع أئمة الجوامع القريبة؛
ولا لأن الجوامع قد أغلقت أبوابها، والمقاهي والمحلات خلت من زبائنها [اللهم إلا القطة المرقطة، التي تعرفتُ عليها فيما بعد، قررت اقتناص الفرصة للتسلل إلى دكان القصاب لعلها تجد شيئاً يسد جوعها وينتهي صيامها الذي طال].
ولكن لم تمض غير لحظات حين سمع الجميع كيف صرخت صرخة مدوية "مياااااااااااو" من جراء ركلة القصاب الذي رمى بها إلى الجهة الأخرى من الشارع!
وليس السبب لأن الفجر قد مر من غير صلاة؛
بل وليس السبب حتى لأن زوجة المختار الصبية الجميلة الغنجة قد حضرت الاجتماع فتحلق حولها الشباب والشيوخ الذين مَرَّة يستعيذون من الشيطان الرجيم ومرة أخرى من الشباب المتسرعين؛
إن السبب الذي جعل من هذا الاجتماع اجتماعاً تاريخياً هو ما كان يدور بين سكان القرية بأن رأساً سيسقط كرأس البصل، وصاحب هذا الرأس (يا مولانا) هو الحمار الذي تعدى الحدود فاستحق ما شرَّع الله من حدود ونهايته عذاب النار.
[5]
والسبب الآخر الذي سيجعل الناس يتذكرون هذا الاجتماع هو أنه كان قصيراً جداً إلى درجة لم يستطع شباب القرية بالتمتع بالاقتراب من زوجة المختار الصبية. بل أنه حتى أقصر من حبل المشنقة المُعَد للحمار.
كان أئمة الجوامع والمختار ومعاز المختار متفقين مسبقاً، وقد تناسوا آرائهم الأولى، ومستندين هذه المرة في قرارهم إلى فَتْوةٍ أخبرني مَنْ أثق به بأنها صادرة عن كبير شيوخ الإفتاء التي وزعت "بصورة سرية" على أئمة الجوامع بأن أذان الحمار باطلٌ؛
والصلاة على أذان الحمار باطلة؛
والدفاع عن الحمار باطل؛
ومناقشة آراء الحمار باطلة؛
وذكر الحمار في الصلاة باطل؛
وصلاة الحمير في الجوامع باطلة؛
وإنَّ ما يقوله الحمار منافيٌ للشرع وأن أذانه كان "محدثة" وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة و "مَنْ أَحْدّثَ في أمرنا ما ليس منه فهو رد" [من غير لف ولا دوران].
ولكن القطة المرقطة صرَّحت بنبرة ملغزة أمام الكثير من الناس قائلة:
- يا أذان يا بطيخ!
وحينما سَألْتُها عن قصدها ردت على عادتها وهي تغمز بعينها اليسرى وتهز بأكتافها وكأنها راقصة غجرية:
-"في وقت آخر، حبيبي" !
واختفت كالأرنب في قبعة الساحر مثلما ظهرت!
[6]
وهكذا فإن تحليلات مؤسسات الدراسات الاستراتيجية والمؤشرات المرئية والمخفية كلها تشير إلى أن الحمار قد أصبح في "خبر كان". فقد خرق الحد الفاصل ما بين الإنس والحيوان وتفَّوه بما يخالف الإيمان وتسلط على منارة الأذان. وكل هذه الذنوب من الكبائر منذ الآن حتى ظهور المهدي.
وبعد أن استطاع أئمةُ الجوامع توريط المختار بافتتاح الاجتماع وتَحَمُّله تبعات قرارهم حتى آخر الأيام تقدم المختار إلى منصة صنعوها بسرعة وارتجال وهي بضع طاولات من المقهى القريب وبعد أن شرح موقف أئمة الجوامع الفقهي على عجل[وقد علق مفتتحاً الاجتماع بتواضع بأنه غير متخصص في هذه الأمور] أعلن، والشباب يضيقون الحلقة على زوجته الصبية الغنجة، ما يلي:
- "لقد اقترف الحمار ما يخالف الشرع ويعادي وحدة الأمة ولهذا فإن "ذنبه على جنبه" ولا تتحمل القرية عواقب ما فعل ولا ذنب لها فيما اقترف والصلاة والسلام على ...." . وقبل أن يكمل جملته الأخيرة أخذ صوت زوجته الصبية يتعالى وهي تتأوه وتتحسر وشباب القرية يتلمظون حولها وكأنهم قطط انتهت لتوها من تناول صوصج دجاج مشوي على الفحم!
فنزل المختار من المنصة المرتجلة متوجهاً صوب زوجته الصبية مما جعل شباب القرية ينفضون عن حلقتهم الضيقة التي حاصروا بها زوجته. فاشتاط المختار غضباً ومسك زوجته الصبية [كما اعتاد أن يمسك معازه من قرونها] من شعرها وجرجرها إلى بيتهم العالي القريب من الساحة.
[7]
أما أئمة الجوامع فقد واصلوا "الاتصال" بالجماهير "يستفسرون عن أحوالهم" ويردُّون على استفتاءاتهم في باب الوضوء والنجاسة والطهارة والنكاح وغسل الميت ونجاسة الذمي وأحكام الضراط وحكم الزواج من الهندوسي ورأي الشريعة في ويندوز 3.0 ومكيفات الهواء westinghouse، وما رأي الدين في المطر الصناعي وهل هو حلال أم حرام، وغيرها من الأمور الهامة والمصيرية لحياتهم.
وبعد انتهاء الاجتماع عادت زوجة "صاحبنا" الحمار التي لم يكن يبدو عليها أية علامات للتأثر أو القلق، بل كانت مستبشرة ومستمتعة بصحبة حمار الجيران وحميرها الصغار يلتفون حولها وكأنهم في يوم عيد.
[8]
كنت على ثقة بأن القطة المرقطة تعرف الشيء الكثير من أسرار المجتمع "اللامدني" للقرية، وأسرار الحمار بالذات، ولهذا قررت الاتصال بها بصورة سرية ومهما كلف الأمر [وبقدر ما يمكن حفظ السر في هذه القرية. وكما تقول القطة المرقطة: "الأسرار أحمال يجب إلقاءها جانباً"] لا أعتقد أن الأمر يكلف أكثر من صحن "صوصج الدجاج"!
وبينما أنا أفكر بطريقة الاتصال بها مرت بالقرب مني قطة صغيرة تبدو وكأنها منهكة ومريضة. وعندما سألتها فيما إذا كانت تعرف القطة المرقطة أجابت بصورة ملغزة:
- ربما!
- طيب، هل من الممكن أن تنقلي لها رسالة شفهية؟
- يعتمد؟
قالت القطة وكأنها خبيرة بعالم السياحة والخدمات الاجتماعية!
-"أرجوكِ قولي لها بأنني سأنتظرها عند دكان القصاب وسوف "أشكرك على خدمتك"، وغمزت لها بعيني على طريقة القطة المرقطة موحياً لها بشيء لذيذ. فانطلقت القطة الصغيرة التي كانت في البداية تبدو واهنة القوى كنمر يطارد غزالاً في براري إفريقيا، حتى أني لم أستطع ملاحقتها بنظري!
انطلقتُ باتجاه القصاب ولم أكن أعرف فيما إذا كانت خطتي ستنجح أم لا. وقبل أن أصل دكان القصاب سمعت صوتاً يناديني:
- حبيبي!
وعندما التفتُ كانت القطة المرقطة تسير خلفي وكأنها لا تعرفني ثم همستْ وهي تراقب المارة:
- أشمُّ رائحة الصوصج بالدجاج. هل تشم أنت أيضاً.
- سأكون سعيداً لو تشاركيني بقطع من الصوصج المحمرة؟
قلتُ بأدب جمٍّ يليق بالحديث مع قطة من هذا النوع.
- هل تخرَّف؟!
ردت بشيء من الاستغراب والاستهجان معاً.
- أنا لم أذق طعم البروتينات منذ عودة المختار من الحج هو وزوجته الصبية!
[9]
طلبتُ من القصاب بتحمير قطع من الصوصج و "رشَّة" من السماق ورغيف من الخبز الطازج وبعد أن جهز كل شيء لفها برغيف الخبز وطواها في صفحة من صحف الحكومة التي توزع مجاناً بإشراف المختار ومن قبل القنفذ السريع.
أخذنا الصوصج وتوجهنا إلى مصطبة آيلة إلى السقوط في الحديقة الصغيرة المقابلة لدكان القصاب. وبعد أن جلسنا [أقصد عندما جلستُ أنا. فالقطة جلست في مكان استراتيجي تحت المصطبة مستعدة للقفز والهروب].
في الجهة الأخرى من المصطبة كانت تجلس القطة الصغيرة وكأنها ظهرت من الفراغ وهي تنظر إلي بنظرات ذات دلالة واضحة وكأنها تقول: "أنت وعدتني!".
وهكذا فتحت الجريدة وأخذت قطعة من الصوصج ورميتها للقطة الصغيرة، أما الباقي فقد قدمته للقطة المرقطة التي قالت بدون تفكير:
- "لا حبيبي، بدون خبز!"
- "واضح".
قلت موافقاً فأعطيت الخبز للقطة الصغيرة التي تلقفته بامتنان وقدمت للقطة المرقطة قطع الصوصج بالدجاج.
لست متأكداً كم استغرق التهام القطة المرقطة لقطع الصوصج. لكنني متأكد بأنها كسرت كل الأرقام القياسية المحتملة!
وحالما انتهت وتلمظت ثم مسحت شواربها وعدلت من جلستها، قالت:
- "حركة مُرَاجَعَة"!
- ماذا؟
- هل أنت أطرش؟ "حركة مُرَاجَعَة "؟
وأخذت تصرخ وكأنني أطرش.
- لقد سمعت! "حركة مُرَاجَعَة "! ماذا يعني "حركة مُرَاجَعَة "؟
- اسمع ولا تقاطعني، أوكي؟! حركة تصحيحية ... هل تفهم؟
- "لم ألتق بحياتي أسوء من هذا القطة"، هَمْهَمْتُ مع نفسي بصوت غير مسموع.
- أسْمَعُ ما تقول. فأنا لست عجوزة!
قالت القطة ثم أخذت، كخبير استراتيجي، تشرح لي بالتفصيل قضية "حركة المراجعة" . . . .
[25] ملاحظة هامة 1 تستبق الأمور: ولكن عندما "حمت الحديدة" فيما بعد انقلب جميع هؤلاء الأتقياء عما تحدثوا به وعما اقترحوه وادعوا أنهم كانوا ضد الحمار الذي دنس بيت الله وضد الإمبريالية وإسرائيل والملحدين وشركة كوكا كولا!
ملاحظة هامة 2: احتجاجهم على شركة كوكا كولا فيه نوع المبالغة والأحرى بهم كان الاعتراض على شركة مرسيدس!