الأدلة العقلية على وجود الله والكنغر الأبْيَض وقِطَّة جارتنا وأشياء أخرى [2]

خلاصة تاريخ “البراهين” العقلية على “وجود الله هي عدم وجود أي برهان!

فإذا كانت “البراهين العقلية” براهين فعلية فإن" الله" قد قال كلمته النهائية و"ظهر الحق وزهق الباطل"!

ولهذا فإنه من “المنطقي” أن يكفوا عن هذا التبذير السخيف للمواد الخام (كالورق مثلاً) والموارد المالية بتأليف المزيد من أطنان الكتب والمجلَّات وآلاف المنشورات واستهلاك ملايين “الميغابايتات” في شبكة الإنترنت لتكرارها وترديدها. وبدلاً من كل هذا، وطالما أنهم قد أعلنوا فوزهم على أنفسهم، عليهم أن يتفرغوا للابتهالات والاحتفالات بانتصار “القضية الإلهية” البرهانية ودخول البشرية، أمماً وشعوباً وقبائل أفواجاً، في صفوف أديانهم وليهدئوا هُمْ، وحتى نهدأَ نحن، وليستتب الأمن والسلام ولتنتشر المحبة الإلهية على المعمورة!

آميـن!

1.

ولكن لا شيء من هذا قد حدث، وليس ثمة أية أدلة “منطقية”، ولأكنْ كريماً: أو "غير منطقية"، تلوح في الأفق على أن شيئاً من هذا القبيل سيحدث!

فــ"قِطَّةُ جيراننا" لا تزال ملحدة (خلافا لصاحبتها التي تحمل سلسلة عنق بصليب من أيام شبابها وقد نسيت أن تنزعها)، والحقائق لا تزال قائمة كما هي دائماً:

لا وجود للآلهة، ومن أي نوع كانت، إلا في عقول المؤمنيـن وهم لا يزالون يطاردون الناس في بلدانهم (هناك حيث يسمح لهم قانون الدولة مطاردتهم) ويقودون عمليات الإرهاب المنظمة المرئية والمستترة في كل مكان، وهناك من أقام جهازاً حكومياً على إجبار الناس على الإيمان والصوم والصلاة، ومن ألحد فإن عقابه الموت على طريقة "محاكم التفتيش!

فهل هذا هو البرهان؟!

2.

وعلى النقيض تماماً من رجال اللاهوت، لا يوجد، ولا عالم فيزياء واحد [أكرر للفائدة: ولا واحد] يردد، ليل نهار، كالمخبول، أموراً من قبيل أن الأرضَ كروية وأن للأجسام والكواكب قوة جاذبية وأن الطاقة تساوي مربع السرعة مضروبة بالكتلة وأن، وأن .... !

فهذه “قضايا” قد تمت البرهنة عليها ودخلت باعتبارها حقائقَ في كل المناهج الدراسية المدرسية والجامعية وأصبحت جزءاً من الاختراعات التكنولوجية وتحولت إلى بديهيات يستند إليها الناس في تفكيرهم وعملهم اليومي (طالما لا توجد مشاهدات تجريبية جديدة تفند النظريات القديمة). 

كما إنهم، أعني العلماء، ومن عقود كثيرة أخذوا يوجهون اهتمامهم نحو الإجابة على أسئلة جديدة ويطورون صياغات جديدة لكل ما توصلوا إليه من نظريات وهم ماضون في عملهم الذي يحظى بإعجاب حتى "بابا الفاتيكان”! 

أما عمل “بابا الفاتيكان” فلا يحظى بإعجابهم (وحتى أكون صادقاً مع نفسي: لا يحظى بإعجاب أغلبية العلماء)!

3.

هل هذا يعني بأن العلماء لا يستخدمون المنطق؟

بالعكس. 

ليس بمقدور العلماء الاستغناء عن قوانين المنطق. فكل نظرية علمية قد تم البرهنة عليها تجريبياً غالباً ما تبدأ بفرضية علمية، وقد تكون هذه الفرضية محض فرضية منطقية. لكن الفارق ما بين طرق البرهنة اللاهوتية والعلمية هو الفارق ما بين اللاهوت والعلم!

إنَّ الفرضية العلمية تنطلق من المشاهدة، أو المشاهدات التجريبية، في إطار ظروف وفترات زمنية وأماكن مختلفة، وفي أحيان كثيرة يسعى العالم إلى إيجادها مختبرياً. بل إن العلم يقوم بعمل ما لم ولن يقوم بها رجال اللاهوت وهو: نقد الفرضية ذاتها والبحث عما يمكن أن يثبت خطأها. والخطوة الأخيرة هي واحدة من أهم سمات الأمانة والأخلاق العلمية التي يفتقدها اللاهوت جملة وتفصيلاً!

4.

فعندما يقول المعلم للتلميذ بأن “الجاذبية موجودة”، فإنه لا يقدم له براهين عقلية على مثل هذا الادعاء. فهو ببساطة يطلب منه أن يفك من يده القلم الذي بحوزته فقط ولا شيء آخر. وهكذا سيرى الطفل بـ” أم عينيه” بأن القلم وكل شيء من الأشياء التي حوله تسقط حالما يحررها مما يمنعها من السقوط. وهذا ينطبق على الفيل وعمائم شيوخ اللاهوت ومنارات الجوامع وثمرة اليقطين (القرع) وكتب اللاهوت وقطة الجيران وهلم جرا وهكذا دواليك وإلى آخره!

أما البرهنة على الحقائق العلمية المعقدة الكبرى فهي الأخرى لا تختلف من حيث المبدأ: إذ يتم إقامتها بذات المنطق التجريبي ولكن تتطلب أجهزة قياس وتسجيل ومراقبة معقدة. إلا أن المبدأ واحد وواحد فقط: البرهنة العيانية والحسية أو ملاحظة النتائج غير المباشرة لـ” وجود الحقيقة” العلمية والتي يمكن تكرارها دائماً.

5.

وعندما يتم التوصل إلى تحقق هذه أو تلك من الفرضيات والبرهنة عليها استناداً إلى معايير العلم النقدية المتفق عليها الآن في عصرنا بين العلماء ومن مختلف البلدان والقوميات والانتماءات، فإن الفرضية تتحول إلى نظرية راسخة: تتحول إلى حقيقة مثبتة. حينئذ يتم نشرها وتدريسها للطلبة - على الأقل حتى اللحظة الراهنة.

وحالما تنتهي البرهنة على هذه الفرضية يوجه العلماء اهتمامهم إلى قضايا أخرى والبحث عن أجوبة على أسئلة أخرى.

وهذا ما لا يعرفه ولن يعرفه اللاهوت!

فهم لا يمتلكون غير قضية إيمانية واحدة. وليس أمامهم إلا اللف والدوران على أنفسهم كالقطة التي تريد أن تمسك ذيلها بأسنانها!

ولن تمسكها!

6.

لنأخذ مثالاً ذا طابع حياتي معروف من قبل الجميع (أقصد القراء!) هو مرض: تصلب العضلات الجانبي الضموري “Amyotrophic lateral sclerosis”. من نتائج هذا المرض هو الشلل التام لعضلات الجسم. فالمرض يقوم بتحطيم العضلات الحركية تحطيماً تاماً. ولهذا فإن الشخص المصاب بهذا المرض يفقد القدرة على الكلام (بل وحتى التنفس الطبيعي) ويفقد المريض إمكانيات أي نظام لغوي آخر كاللغة الإشارية الحركية مثلاً. لكن المرض من ناحية أخرى لا يصيب آليات تفكير المريض. إذ يحتفظ الإنسان بكامل قدراته العقلية والثقافية والإدراكية.

هنا نحن أمام سؤال بسيط للغاية:

كيف لنا أن نعرف ما يدور في خلد ستيفن هوكينغ (الذي يعاني من المرض المشار إليه) طالما أنه قد فقد كل القدرات الممكنة على التعبير، أي الأنظمة الإشارية اللفظية والحركية، لصياغة الرسائل المعبرة عما يدور في خلده وتفكيره؟

إن ما يدور في دماغه سيظل هناك إلى الأبد ولا يمكن البرهنة على وجوده وإن أية محاولة لصناعة فرضيات عما يدور في ذهنه هي مجرد “فرضيات” لا دليل على وجودها كفرضيات وجود "الله".

كما يبدو أن “إيماننا” بقدرته على إنتاج أفكار مدهشة هو كأيماننا بوجود “إله عليم وحكيم وخير”: مجرد لغو وتخريف!

لكننا على الرغْم من هذا كله استطعنا التعرف على ما يدور في ذهنه وعلى خلاصات تفكيره، كيف حدث هذا:

لا توجد أية معجزة. فعصور المعجزات قد ولت مع انتفاء عصور الخرافة وليس عن طريق "البراهين العقلية!" بطبيعة الحال. لأن "البراهين العقلية" تقول لنا بأن "الله موجود" لا لسبب إلا لأنه واجب الوجود وهذا هراء ينفعه ولكن لا ينفعنا.

الإجابة بسيطة، هي: العلم.

فقد قامت إحدى الشركات بصناعة وتطوير كمبيوتر خاص مثبت على كرسيه المتحرك يسمح له بــ” التحدث” والكتابة. إذ يقوم ستيفن هوكينغ بالتحكم فيه عن طريق حركة العضلات الوحيدة القادرة على التحكم بها (وهي إحدى عضلات الوجه الموجودة تحت العين). وتتم قراءة الحركات بواسطة جهاز استشعار خاص بالأشعة تحت الحمراء مدمج في نظارته وقد سمح له هذا الكمبيوتر أيضاً بكتابة النصوص العلمية المعقدة.

هذا هو البرهان على “وجود أفكار” في مخ ستيفن هوكينغ! لأننا استلمنا عندما كان على قيد الحياة نصوصاً علمية مترابطة ونستطيع أن نناقش هذه النصوص ويستطيع هو الرد على تساؤلاتنا حولها.

وهذا هو طريق العلم في البرهنة على الأشياء والظواهر والحقائق التي لا تُرى بالعين أو عن طريق الميكروسكوبيات والتلسكوبات.

هذا هو الطريق الواقعي المؤدي إلى إثبات” الحقائق” وليس الأوهام والبراهين العقلية.

7.

وختاماً أجد إغراء "البراهين العقلية" لا يُقَاَوم!

وها هو ولعهم بالأدلة المنطقية يغريني (بل ينتقل إلى كالعدوى)، وها أنا أتوصل وبعد "تفكير طويل"، وليس بدون "إلهام من قوى عليا خارجية" إلى القضية المنطقية التالية:

تقول جدتي بأن الكنغر هو الحيوان الوحيد في أستراليا!

وقد حدثتني جدتي (أيضاً) عن حيوان أسترالي أبيض!

إذن: الكنغر حيوان أسترالي أبيض!!!

8.

إن هذه القضية الزائفة لهي نموذج صادق وحَرفي “للبراهين الوجودية”. ومقارنة القضيتين يتكشف لنا تطابقهما من جهة، ومنطق صياغة “القضايا المنطقية” الزائف الواحد من جهة أخرى.

فالمقدمات في القضيتين، وهي حجر أساس القضايا الاستنباطية، هي قضايا افتراضية “إيمانية” أو ادعاء لا دليل عليه - بل كذب: “الله عظيم وخالق للكون وعالم به” هو ادعاء لا يقبله غير المؤمنين. فإذا كانت هذه المقدمة موجهة إليهم فإن القضية تبدو “مفهومة” جداً فالمؤمن مؤمن لأنه ضحية للخرافات (وهكذا، عاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات).

ولكن أن تقول هذا لمن لا يقبل وجود الآلهة جملةً وتفصيلاً، فإنها لمحاولة سخيفة للإقناع من غير شك.

فكيف تريد أن تقنع الآخرين بــ” وجود إله” يرفضون وجوده بقضية منطقية تتضمن مقدمتها الكبيرة تأكيداً على وجود هذا الإله؟!

هل من المعقول؟!

ففي ابسط كتاب مدرسي في المنطق سوف يخبرك بأن هذه مغالطة منطقية من نوع المصادرة على المطلوب. فهو منذ البداية يتضمن ما يريد البرهنة عليه. إن هذه القضية ومن حيث الجوهر لا تختلف عن القضية الثانية. فعندما ندعي بأن” الكنغر هو الحيوان الوحيد في أستراليا”، والعُهْدَةُ على جَدَّتِي، ورغم أنه ادعاء عقيم، فإنه لن تعد مشكلة في أن يكون في أي لون نشاء. لقد صادرنا على المطلوب منذ البداية.

9.

وهكذا نستطيع أن نمضي قدماً بـ” قضايانا البرهانية المنطقية” إلى ما لا نهاية. وليس في الأمر أي خرق لقواعد المنطق ولمبدأ “الصدق”!

هذا هو كل ما يقدر أن يقدمه اللاهوت سواء في صيغته الساذجة أو الصيغ التي يقترحها علينا اللاهوت الصريح أو اللاهوت المتزين بزي العلم (أو تلاميذ المدارس الدينية وأنصاف المتعلمين). وهذا ما ينبغي أن نتوقعه ونعثر عليه في أعقد الصيغ اللغوية والأساليب الأدبية والمحاجات العقلية. لا شيء آخر مطلقاً وهذا ما يحبط مساعي اللاهوت.


ملاحظة هامة جداً جداً: 

لقد ذكرت القطة في هذا الموضوع ثلاث مرات. ولهذا عليَّ أن أقر بأنني لا أملك قطة، وليست لدي نظريات تتعلق بالقطط، ولست عابداً للقطط، ولهذا أثبت هذه الملاحظة!


الأدلة العقلية على وجود الله والكنغر الأبْيَض وقِطَّة جارتنا وأشياء أخرى [1]