من بلاغة القرآن: تفسير الآية 50 من سورة الأحزاب – الجزء الأول
[هل هذا كلام يا نبي الإسلام؟!]
Blogger المدونة الرئيسية في
[هل هذا كلام يا نبي الإسلام؟!]
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا "
[سورة الأحزاب :50]
[هل هذا كلام يا نبي الإسلام؟]
ملاحظة هامة:
لقد استغرق مني هذا التفسير المختصر"لهذه الآية 150 حلقة ولكن رحمة بأعصابكم وصبركم قررت أن أختصر التفسير المختصر إلى ثلاث حلقات:
1.
قد يظن القارئ العادي العاجز عن فهم لغة القرآن والذي لم يتعمق في أعماق محيط اللغة العربية (من أمثال الملحدين) وغير قادر على التبحر باللغة الربانية (واللغة العربية ربانية المنشأ) ويجهل أسلوب الوحي العميق والمتوتر جداً ويعتقد واهماً بأنَّ "الله" عز وجل قد فتح أبواب الجنس على مصارعيها أمام نبيه المصطفى الحبيب دون حساب ورقيب يغرف من محيط النكاح ما شاء ورغب.
لا، وألف لا!
فهذا عجز عن إدراك الفكرة المعجزة واستشراف أبعادها العميقة التي لا يمكن أن تتبدى إلا بالتغلغل في نسيج لغة الوحي المعجزة والمكتنزة بالمعاني الباطنية المقدسة والأهداف الربانية التي هي خارج عقول البشر.
2.
فالآية "الشريفة": تبدأ بحرف النداء "يا أيها". وفي هذا النداء معنى لطيف ورقيق وكأنه يهمس في أذني الرسول المصطفى من غير إزعاج أو تسرع أو إلحاح.
الله القدير الخبير شخصياً يهمس في أذني الرسول الخاتم لكل الرسل برقة ورفق ودون إحراج ويقول له:
"يا أيها النبي".
هذا كلام دقيق فيه سماحة وعطف – فهل تلاحظون؟!
فهو لم يقل له "يا محمد" – بل "يا أيها النبي" فخصصه وميزه عن جميع المخلوقات الأخرى من الأنس والجن على الأرض وفي أرجاء الكون وجعله قدوة يُعتز بها لمن لا قدوة له [مثل الملحدين واللادينيين].
3.
ثم يتدرج العليم الحكيم في مخاطبته للرسول:
يقول له لا تحزن ولا تقلق عما تقوم به من نكاح بالجملة ليل نهار فنحن "حللنا" لك هذا ومنحناك الشهادة والتبرير.
أي أنَّ الرسول "المصطفى" [هل لاحظتم؟] لم يكن مختاراً بل هو ينفذ حكمة الله وحُكْمَه. فالله عز وجل لم يستخدم فعل "سمح". ففي هذا الفعل نوع من الاعتباط والإطلاق على معنى القرار والله منزه من القرارات الاعتباطية والرغائب الاستثنائية. ولهذا فإنه استخدم فعل "حَلَّل".
فجزالة الفعل "حَلَّل" ومعناه العميق لا يقتصر على السماح فقط، بل ويكشف عن "الفعل المحلل" الذي لا ينبغي أن يخجل منه الرسول الحبيب في تنفيذ إرادة الله بالنكاح والتسري. والرسول هو الوصي والأمين على هذه الإرادة. وإن ما يحكم به الله هو منفعة لا للنبي فقط بل وللبشرية أيضاً.
يقول الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله ورحم جميع المسلمين (ومن بينهم الملحدين):
صلى الله عليه وسلم سيد الإنسانية، سيد الرحماء، حياته جهاد في إنقاذ إخوته في الإنسانية، مقصده الآخرة، فهو الكريم الذي ما تلوثت نفسه من الدنيا أبداً ذراتها كالماء العذب الطاهر النقي.
فما تزوَّج صلى الله عليه وسلم زوجةً إلا بأمر من الله، ولهذا الزواج مصلحة راجحة من مصالح الدعوة للإسلام بجلب المنفعة الإنسانية ودرء الأخطار الاجتماعية وحقن الدماء الكثيرة.
[هذا الاقتباس كان من المفروض لمتولي الشعراوي. ولكن ظهر بعد فترة أن الرابط الذي وضعته لا يعمل. وبعد البحث لم أجد الرابط الأصلي ولكنني وجدت ذات النص في منتديات كثيرة وتحت أسماء أخرى، منتحل كالعادة، وتحت اسم: "الحكمة من وراء تزوج صلى الله عليه وسلم أكثر من زوجة"]
3.
كما تلاحظ عزيزي القارئ بأن الله عندما "حَلَّل" لسيد الرحماء كثرة النكاح فإن في هذا التحليل حكمة متعددة الوجوه والمستويات وليس مجرد "إباحة". ففي معنى الإباحة الإطلاق أما في معنى التحليل فالتحديد والقدر المعقول والعدد المتوافق مع المنطق والشرع الإلهي.
وهذا هو ذات الفرق مثلاً ما بين "قام" و"نهض"
يقول جل ثناؤه:
"يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ"
فهو لم يقل "انهض" – بل "قمْ". هل تفهم أيها القارئ؟!
فحين كانت سيدة نساء الجنة خديجة الكبرى روحي فداها تدثره وهي حانية عليه أراد الله منه أن يقوم لا أن ينهض.
لان في القيام إذلال وخضوع لله وحده وفي "النهوض" استكبار واستجبار.
وفي القيام قوة. يقول المصطفى "قوموا للصلاة" وليس "انهضوا". فتدبر عزيزي القارئ!
ولهذا فلو كانت مجرد "إباحة" لقال الحكيم العليم: "إنا حللنا لك" ووقف وسكت (والله لا يعرف السكوت جل كلامه) من غير أن يشرح صدره وأن يحدد طريقه وهدفه.
فهل انتبهت، يا عزيزي القارئ، إلى هذه الفكرة الخفية؟!
فالإعجاز كل الاعجاز أن يقول لسيد الإنسانية:
أولاً، "يا أيها النبي" وليس يا محمد!
ثانياً، إنا "حللنا" لك وليس "سمحنا" لك. ففي السماح نوع من الإباحة كما قلنا – والله منزه من الأخطاء والزلل والإباحية. فهو لا "يبيح" بل "يحلل".
ثالثاً، إنه يؤمره ولا يخيره. فلو خيره لما قام الرسول الكريم وسيد الرحماء بتحمل مسؤولية 12 زوجة والكثير من ملك اليمين ومن أولئك المؤمنات التقيات اللواتي وهبن أنفسهن لا لشيء إلا لمرضاة الله ورسوله. فقد كان سيدنا محمد مشغولاً بالدعوة إلى دين الله الذي لا دين غيره، ويدفع الناس أفواجاً إلى عبودية الله التي لا حرية من بعدها. وفي مثل هذه الحالة الصعبة والمحرجة فإن أعباء النساء لهي أقسى من حرارة الصحراء في عز الصيف!
4.
كما على القارئ أن ينتبه لحرف الجر والضمير المتصل في "لك".
ففي هذين الحرفين إعجاز وكشف للعقل الباطن لا يمكن أن تحتمله اللغات الأخرى. فهل قرأ أحدكم شيئاً لشكسبير الإنجليزي وغوته الألماني وجيمس جويس الإيرلندي (قبحهم الله جميعاً وأدخلهم الجحيم واحداً تلو الآخر) مثل هذا الاستخدام المعجز لهذين الحرفين؟!
الجواب الجازم: طبعا - لا.
فالرحمن العليم عندما يخاطب الرسول الكريم برقه ويقول له "يا أيها النبي إنا حللنا لك" فإن في "لك" حرف الجر "اللام" وهو يفيد التملك والعلاقة و"الكاف" ضمير متصل يعود إلى النبي فيكتمل المعنى ويتحقق الغرض من حرف النداء "يا أيها" وهو للقريب – فالنبي المصطفى قريب من الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد.
عن يحيى بن الأكثم عن وكيع قال، قلت: يا رسول الله هل الله بعيد أم قريب؟ قال: فصمت رسول الله برهة وكأنها الدهر كاشفا عن ساقه البيضاء ثم قال: إن الله قريب مني وأنا قريب منكم فكونوا قربي" (حديث صحيح – صححه البهبهاني في صحيحه: الجزء الخمسين، الصفحة 1190، طبعة دار جامعة التوحيد الإسلامية، الهند 1420 ه).
وهذا يعني أن "التحليل لك" وحدك لا شأن لغيرك. فأنت القريب وللقريب حق ليس للآخرين شيء منه.
أي: "يا أيها النبي إنا حللنا لك" ومن هنا فإنه ليس لرسول الله أن يخالف أو يتباطأ. فهذا حكم الله وأحكام الله لا يمكن إلا طاعتها والخضوع لها.
وما على الرسول إلا ينكح ويستنكح ما طاب له لا ما طاب للآخرين!
للتفسير بقية . . .
من بلاغة القرآن: تفسير الآية 50 من سورة الأحزاب – الجزء الثاني
من بلاغة القرآن: تفسير الآية 50 من سورة الأحزاب – الجزء الثالث