Blogger المدونة الرئيسية في
[1]
كان ما أسَرَّته إليَّ القطةُ المرقطة من حديث يجعلها، بدون نقاش، محللاً سياسياً من الطراز الرفيع. فهي لم تكن تهتم بالتفصيلات العابرة ولا بالافتراضات الجانبية التي أطلقها القصاب وبائع السمك، ولا آراء المختار الساذجة. وإنَّ أكثر ما كانت تتجنبه هو تصريحات أمين الشحات إمام الجامع الأحول، الذي كانت تقول عنه بأنه "جامعُ أحاديثَ العَجَائِز" و"مختلق الخرافات" و"مؤتمن على الهراء". وهي لم تهتم بـ"الأدلة العقلية" على غرار جماعة الباطنيين. فالحقائق "الصلبة" كانت مهنة القطة المرقطة الحقيقية وقد كانت تتجنب أسلوب "حلقات وسلاسل الرواة" و"مبدأ الإسناد"، قال فلان الذي سمع من علتان، وقيل أن فلان سمع من عفطان... فهذه السخافات بالنسبة لها، وكما تقول هي:
- تعويض عن غياب الحقائق!
فمصادرها كانت مباشرة وشخصية محضة [تقريباً شخصية]. فهي شاهد عيان، سمعتْ كلَّ شيء بأذنيها، ورأتْ كلَّ شيء بعينيها ولهذا فإنَّ حياتها كانت معرضة للخطر مما اضطرت للاختفاء فيما بعد.
باختصار:
كان الحمار جزءاً من حركة تصحيحية واسعة، أو المصطلح الذي كانت تصر عليه القطة المرقطة "حركة مُرَاجَعَة " للعقيدة المحمدية!
[2]
فإذا كان الناس قد اشمأزوا من أكاذيب وسخافات الكهنوت فإن الحمار كان مشمئزاً من موقف "رب العالمين" [كانت قد تبقت في قلبه أو "فؤاده" ثمالة إيمان بوجود رب خالق. أو كما قال للقطة المرقطة نفسه: لقد جزعت من هذا الرب].
أهان هذا "الرب" الجميع.
وقد كانت شتائمه لا تقل ابتذالاً عن شتائم السَّوقة والدهماء.
كما كان جزعاً من موقف السيد محمد [هكذا أخذ الحمار يسميه بصورة رسمية ودبلوماسية] على حد سواء. فقد بدأ بشتم عمه وانتهى بشتم وإهانة الحمير لا لسبب إلا لكي يتظاهر أمام أصحابه بأنَّه راوي حكايات طريفة!
لكن السيد محمد، وهذا ما يتعجب منه مطيع الغائب، قد شن حرباً شعواء على الكثير من الحيوانات، وبشكل خاص على الحمير والكلاب، حتى قرر [السيد محمد] بأن ما شيء يقطع الصلاة غير المرأة والحمار والكلب!
وهذا تطرف، يقول الحمار، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى الكراهية والعداء ما بين البشر والحيوانات.
أمَّا حشره للمرأة ما بين الحمار والكلب، فهي قضية لم يفهمها مطيع الغائب وكان يعتبرها إما زلة لسان من السيد محمد أو أنْها تحمل إعجازاً لغوياً لم يصل البشر إلى فك رموزه.
[3]
ثم واصلت القطة سرد أسرار الحمار:
في البدء حاجج الحمار كفقيه متمكن من أدوات البحث وعلم الرجال [القطة المرقطة تسميه: علم اللقطاء] متبعاً بعرض تساؤلاته أسلوباً علمياً "هادئاً" حتى لا يحرَّض ضده "سكان المعمورة" التي لم تعد معمورة وكل المنظمات الإسلامية ومكتب البريد ومصلحة النظافة وهيئة الإحسان وشركة إنتاج الزيوت. فما كان يسعى إليه هو البرهنة على عدم صحة قراءة النَّصَّ الأوَلِّيّ (إذا كان هناك نَصَّاً أوَلَّيَّاَ) بسبب خلُوِّه من التنقيط والتشكيل وهذا ما يجعله عرضة لقراءات متعددة، وصرح غير مرة في مركز القرية، أمام جَمْعٍ غَفِيرٍ من المارة وكانت القطة المرقطة والمختار وبائع الخُردة من بينهم، ما فحواه:
- إنَّا نشكُّ في هذه القراءة!
قال الحمار متحدثاً على أسلوب الفقهاء حتى يعطي لما يقوله نوعاً من المصداقية والثقل أكثر مما يستطيع مستمعوه أن يدركوا.
- فهذه القراءة (يقول الحمار) لا تعبر عن "الذات الإلهية" أكثر مما تعبر عن تقاليد عربية معادية للحمير! فما هو الفرق بيننا؟
لم يفهم أحد قصده من "ما هو الفرق بيننا". ولكنهم "بفطرتهم" قرروا أن في هذه العبارة من المحظورات!
- وااااااااه . . . . . .
أطلق مستمعوه صوتاً غريباً لا معنى له في القواميس والمعاجم العربية. وإذا ما استثنيت نفسي [ولا يزال الكلام للقطة] فإن "واههم" كانت أقرب إلى الخوف من التعجب. ورغم أنهم ما فهموا شيئاً حتى اللحظة، لكنهم أدركوا بحدسهم "الفطري" بأن الحمار سيقول ما لا يُحمد عقباه!
- المعنى .. المعنى يا شيخ!
طالب ساعي البريد الملقب بــ "السلحفاة"، لأن بطاقات التهنئة بعيد الفطر "المبارك!" للعام الماضي لم يوزع إلا نصفها بعدُ. أما بطاقات التهنئة لهذا العام، فلها أن تنتظر ما شاءَ السلحفاة أن تنتظر، فهو رب البريد! ومن يعرف السلحفاة عن قرب، وأنا أعرفه، فإنه يطالب بــ "زبدة الكلام". فهو ليس بطيء الحركة وحسب، وإنما بطيء التفكير والفهم أيضاً.
- نحن لسنا متفرغين للكلام مثلك. عندنا عمل!
صاح من بعيد القصاب.
- المعنى .. المعنى!
كرر السلحفاة مصراً على الاختصار مسترشداً بالقول العربي "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ".
لم يكن هذا الإلحاح يعجب الحمار.
الحق أنه كان مستعداً فقهياً، لكنه لم يجد بداً من الاختصار وإلا فَقَدَ مستمعيه. فنظر نحوي نظرة غريبة مليئة بالمعاني فأخذ جلدي يقشعر من الخوف. فأنا لست ضده ولست معه. أنا مثل دول عدم الانحياز، أنحاز حسب اتجاه الرياح والمصالح. وإذا ما حدث وحسبوني بأنني أتفق معه فعليَّ أن أقول "وداعاً أيتها الفِتات والفضلات، وداعاً يا بقايا السمك، وداعاً أيتها السعادة" فهم حقودون ومنتقمون . فما كان عليَّ إلا أن أضمَّ صوتي إلى بقية الأصوات قائلة شيئاً لا يفهمه ناسُ الفطرة:
- مياو . . مياو!
- أنتم تعرفون، كما يعرف الجميع . . . . [واصل مطيع].
- نحن لا نعرف يا فَهِيم، كما لا يعرف الجميع. هل تريد أن تعرضنا للشبهات؟
قاطعه المختار وقد حظيت مقاطعته بترحيب وموافقة الآخرين. فواصل الحمار على مضض:
- لم تكن الكتابة العربية وقت كتابة "مصحف محمد" تحمل نقاطاً ولا حركات. ولهذا فإنهم في الآية: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" وبدلا من أن يقرؤوا النقطة تحت الحرف: " أَبكَرَ الْأَصْوَاتِ"، بمعنى أوَّل الأصوات، أو ربما الصوت البِكر، قرأوها بنقطة فوق الحرف " أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ" وهذه هي بداية المشكلة، يا جماعة، هل تفهمون!
[4]
لم يفهم أحد من "الجماعة" المتحلقة حول الحمار ذلك اليوم في مركز القرية أي شيء مما قاله، لكن المختار كان على ثقة بأن الحمار يضمر شيئاً غير مستحب بموضوع "النقطة تحت الحرف" وسارع إلى الجامع، على عادته، ليخبر أمين الشحات إمام الجامع الأحول. فهو "مُخْبِرُ" الدولة وهذا هو اسمه الحركي.
أما الآخرون فقد وقعوا في "بئر" الحيرة والفزع من قصة "النُقْطَة" التي تحت الحرف وليس فوقه. أمَّا إمام الجامع فقد أخذ يُكّبِّرُ ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومن الحمار السقيم وعلى عادة شيوخ الأزهر في محطات التلفزيونات الفضائية [وهو لم يكن من الأزهر] أخذ يلوح بسبابته صوب المكان المتوقع لتواجد الحمار ويقول بكثير من التهديد والتشفي:
- ها أنت تقع في الفخ يا حمار!
لم يفهم المختار قصده، لكنه، وبحسه السياسي والأمني وتجربته مع إمام الجامع الأحول، كان على حق حين قرر بأن أخبار الحمار ستكون سيئة!
في اليوم التالي أخذت تظهر في جميع أنحاء القرية قطع صغيرة لُصِقَتْ على باب القصاب وفي المقهى وعلى باب مقر المختار وعلى جدران الجامع [المكسوة بلطخ بنية لا أحد يعرف هل هي حناء أم خراء] وفي الأماكن البارزة في القرية وقد كتب عليها: " النهيق ممنوع والعتب مرفوع"!
[5]
- عليَّ أن أقول "قولة الحق" ...
قالت القطة المرقطة وهي تتلفت يميناً ويساراً. وعندما لَمَحَتِ القطة الصغيرة وهي لا تزال تلحس رغيف الخبز وكأنها تبحث عن آخر "نانو" من صوصج الدجاج، نهرتها قائلة:
- كِشْ!
فلاذت القطة الصغيرة بالفرار، وكالعادة من غير أن أتبين آثارها اختفت بقدرة قادر، أو كأن الأرض قد ابتلعتها حالما سمعت " كِشْ " ثم قالت القطة المرقطة وكأنها تبرر علاقتها الخالية من الود إزاء القطة الصغيرة:
- لا تأمن الصغار، فهم أسوء من الكبار في نقل الأخبار!
ثم واصلت روايتها:
- إلى أين وصلنا، حبيبي؟
- إلى "قولة الحق"!
قلت بشيء من الجزع. فهي تُقَطِّرُ الكلامُ تقطيراً وكأنَّ لديها وقتاً محدداً وعليها أن تشغله بالكلام.
ثم واصلت القطة المرقطة:
- الحق أن الرجل، أقصد الحمار، قد بذل جهداً محموداً وحاول أن يطرح وجهة نظره بصورة مسالمة أمام الكثير من الناس و"اللَّاناس". إذ أنه تحدث مع معاز المختار ومع العجوزة بائعة الفجل - الحاجة عفرة التي لم تحج إلى أي بيت من بيوت الدنيا غير بيت المختار، نزولاً عند رغبته لتعليم زوجته الصغيرة بعضاً من فنون النساء.
لكنها بدلا من ذلك علمتها كيف تتحايل على المختار وتبتزه وتفرض عليه ما هو عاجز عن قبوله، مثل دعوة ابنها العاطل الأعزب [الذي كانه لقبه الشهير "أبو كاسكيت" لأنه كان يضع على رأسه كاسكيتاً حتى في النوم] لكي يقوم بزرع أشجار التين في حديقة البيت المرتقبة والتي لا يمكن أن تنمو في قرية لا تمطر السماء فيها إلا وقت الأعياد الوطنية ولهذا فهو قد قام بـ"حرث" أرض أخرى! فزوجة المختار الصبية كانت بحاجة إلى دروس عملية ما كان المختار قادراً على دفع ثمنها!
فصرَّحت العجوز أمام الحمار، من غير لف ودوران، قائلة:
- جِلْدُك يحكَّك!
لكنه لم يفهم كالعادة. فجلده ما كان يحكه وما كان على الحاجة عفرة أن تقدم افتراضاً لا تستطيع اختباره تجريبياً.
[6]
واصل الحمار محاولاته" التنويرية" في قرية لا تعرف معنى التنوير لشرح قضيته العادلة فتحدث مع بقرة الجيران البوذية، التي قالت له بالحرف الواحد "هذي مشكلتك مولانا فكل واحد منَّا يتحمل وزر ما فعله في حياته السابقة"!
ثم اتصل بصورة سرية بصاحب المقهى الأذربيجاني[26] لكن الأخير قال له ليس بالحرف الواحد " الله قاراداشيم بيلميرم[27].
بل هو لم يستثن حارس الجامع [الذي غالباً ما يسرق مصابيح الجامع ويبيعها في السوق السوداء حيث كانت توجد في سوق القرية قطعة سوداء كتب عليها "محل اللُّقطات"] وزوجة المختار، التي لم يجذب انتباهها شيئاً آخر غير قدرة الحمار على الكلام.
كما عرض قضيته أمام المعلم الوحيد في القرية [وهو شيوعي سابق منفي من قبل الحكومة في مدرسة تتكون من خرابة لا يحضر فيها غير عدة تلاميذ حتى لا يختلطون بأولاد الحرام لكنهم يقضون جل وقتهم في رعي الماعز] الذي نصحه بأن يهتم بعلفه بدلاً من أن يحث الخطى إلى منيته فالنضال من أجل الطبقة العاملة هو النضال من أجل استمرار تخلفها. كما أنه لا يريد أنْ يتدخل بالسياسة بعد ما "بهذلوه".
[7]
ولأنَّ مطيعاً صبور وعنيد فقد أتصل بسِرِّيَّة شديدة وتَكَتُم بشلة من الحمير في القرية المجاورة [يسموها شلة المرح] وشرح وجهة نظره "لها" أو "لهم"، لا فرق، فكانت لهم "وجهة" أخرى هربوا إليها، ما عدا الحمار المُسِنُّ عبد المتوكل الذي ظل في مكانه واقفاً متأملاً حمارنا فترة طويلة جداً ما يكفي لكي تنبت للحمار أسنان جديدة، ثم قال:
- أنت عندك مشاكل نفسيه، يا بني! أليس من الأفضل أنْ تمارس رياضة البولينج بدلاً من أن تُبَذِّر وقتك في أمور لا طائل منها؟! إما أن تؤمن بالطناطل والملائكة والسعالي والجن وإما أن تطلب اللجوء! فالطريق الثالث أفشل الطرق!
أمَّا عبد الباري المفتي [كان جده مفتى القرية] البيطري[28] الوحيد في القرية والمشكوك في أنه يحمل شهادة بيطرة والذي لا يمانع من معالجة سكان القرية في حالات الطوارئ قال له بأنه غير متخصص بالحمير ولا يفهم اعتراضاته اللاهوتية. كما أنه لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد سواء كان للحمار "أنكر الأصوات" أم "أبكر الأصوات". فالحمار يبقى حماراً حتى لو غنى أغنية "ما تصبرنيش بوعود" لأم كلثوم!
[8]
لقاء الحمار بخراف القرية:
من أهم اللقاءة "المكوكية" الدعوية ,التبشيرية التي أجراها مطيع الغائب لشرح وجهة نظره هو لقاءه مع خرفان القرية.
فرغم العدد الكبير لحمير القرية [كما أشرت سابقاً إلى أن نسبة الحمير إلى عدد السكان قد يصل إلى 1.33 حمار لكل واحد من سكان القرية] فإنَّ خرفان القرية هي الأغلبية الساحقة من غير منافس. بل أنْ شهرة القرية باعتبارها "قرية حمير" يعود بالدرجة الرئيسية إلى شهرة حمار القرية المتمرد مطيع الغائب. وقد كان على القرية أنْ تحمل اسم قرية الخرفان [وحتى لا يزعل الماعز: "قرية الخرفان والماعز"]. فعدد قطعان الخرفان والماعز التي ترعى في مرعى القرية طول اليوم بالعشرات. والقرية مشهورة بتصدير الخرفان والماعز إلى الدول الإسكندنافية.
ولهذا فقد كان من الطبيعي – ومن الطبيعي جداً أنْ يلتقي مطيع الغائب بقاعدة شعبية واسعة مثل الخرفان.
كان حوارهم [إنْ كان من الممكن تسميته "حوار"] صعباً ومعقداً للغاية. فقد كانت الخرفان لا تمل من تكرار موقفها المعروف:
- ماع .. ماع.. ماع!
وقد حاول بصبر ومثابرة إلى يوجه اهتمامها إلى قضية غير "الماع" ولكن بدون جدوى.
ولهذا صرخ بها:
ماذا لو كان الذئب الآن قادماً!
فدبَّت الفوضى بين قطعان الخرفان كالنار في الهشيم؛ مثلما دبَّ الذعر والهلع بينها ففرت في جميع الاتجهات من غير هدف وهي تسحق بعضها البعض الآخر بأقدامها من غير حتى أنْ تتأكد من أنَّ مطيع الغائب لم يفعل شيئاً غير أن يفترض!
- ها هو سبب بقاء "رب الخرفان"!
قال مطيع الغائب بسخرية مرة وغادر مرعى الخرفان المذعورة الذي انتشرت فيه جثث الخرفان المسحوقة.
[9]
باختصار شديد، بذل الحمار جهوداً جبارة ليبدد تصورات الناس الخاطئة حوله والمسيئة له ولأبناء جنسه بسبب سوء فهم الآية المذكورة وأحاديث "الحبيب" التي أخرجته عن طوره في مناسبات كثيرة. فهو لا يفهم كيف يكون بمقدور نبي، مثل السيد محمد، أن يقول: “إذا سمعتم أصوات الدِيَكة فاسألوا الله من فضله فإنّها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوَّذوا من الشيطان فإنها رأت شيطاناً"!
- هل هذا معقول؟!
[يردد الحمار دائماً].
ولم يكف الحمار عن تساؤلاته:
"ما علاقة صوت الديكة بالملائكة وما علاقة صوتي بالشيطان؟" و"ماذا إذا رأى الناس فيلاً؟ أو بقرة؟ أو دباً؟ أو دُعْمُوصاً؟ هل هذا كلام يا نبي الإسلام؟".
ثم يضيف:
-"طيب، فهل يعني حين تبدأ جميع حمير الأرض بالنهيق، فأنها ترى الشيطان؟ أليس هذا تناقضاً منطقياً؟ كيف يمكن أن يكون الشيطان في كل مكان وفي آن واحد؟ أليس هذه من خصائص رب العالمين المُفْتَرَض؟
وهل يوجد أكثر من شيطان؟".
أسئلة الحمار كثيرة والإجابات معدومة والعين بصيرة واليد قصيرة.
كانت تلوح في الأفق أحداث جلل. . .
كان الحمار يسعى إلى أثبات ما لا يمكن إثباته: أنَّ لا فرق ما بين صوته وصوت المؤذنين.
ثم نشرت القطة مخالب أرجلها الأمامية وكأنها قد أنهت ما عليها من كلام:
- هل أنت راض، حبيبي؟
قالت القطة وهي تستعد للانطلاق للبحث عن مغامرة جديدة وحقائق جديدة ومستمع جديد.
إنها التاريخ الحي للقرية. إذ لا قرية بدونها. فالتاريخ يخلق القُرى، وليس العكس!
- من يرضَ عن معرفته، فسوف يغلق على نفسه باب الجهل!
قلتُ وكنت أنتظر من القطة المرقطة أن تُعَلِّق بطريقتها الساخرة. لكنها اختفت مثلما ظهرت.
[10]
خلال وجودي القصير في قرية الحمار تحدثت مع "ذوات" كثيرة، بشرية وحيوانية، ووصلت إلى نفس قناعة القطة المرقطة بأن الرجل، أقصد الحمار، وقبل الصعود إلى مئذنة الجامع، سعى إلى إقناع المؤمنين بما هم عاجزين عن الاقتناع به وهو أن في "الكتاب" خطأً أو سوء تقدير، حتى أنَّ حفار القبور المعتوه، ابن أخت المختار، أخذ يحفر قبراً عميقاً وعريضاً رغم أن لا أحد قد "انتقل إلى الرفيق الأعلى". وعندما سألوه "لمن هذا القبر" أجاب من غير اهتمام وباختصار شديد:
- للحمار!
هذا ما دفع الحمار ليس إلى حافة اليأس، بل إلى أعماق اليأس المظلمة. فقد تخلى عنه الجميع: أتانه والجيران والأصدقاء، وحتى الحمير "الذين" كان يدافع عن كرامتهم الشخصية وسمعتهم التي لوثتها آيات "الكتاب" من غير حق أو سبب وجيه، نهقوا بوجهه وتركوه.
وهو في بحر الظلمات التي تعصف به أمواجه الرهيبة، وحيداً، مخذولاً، مهاناً ومذلولاً، رفع رأسه إلى السماء [بقدر ما هو قادر على رفع رأسه] وصرخ [أو نهق] في وجه رب قرر أن يسقطه من حسابه:
- "أنتَ ازدريتني وحقرتني وجعلت الناس يستخفون بي، فكيف يحق للصانع أن يزدري ما صنعه؟
إنك لأسوء صانع!
فقد أثْبَتَّ أنك بشر ككل البشر، وأنت زائل ككل الزائلين"!
[11]
كانت صرخته [أو نهيقه] مدوية، ارتجف من هولها الجميع، حتى لكأنهم في حلم، أو تهيأ لهم بأنهم قد سمعوا فقرروا أن هذا محض أضغاث أحلام أو أنه من جراء اللحوم الفاسدة التي يبيعها القصاب بالتشارك مع المختار وأمين الشحات إمام الجامع الأحول والأسماك المتعفنة في دكان السَّماك بسبب حرارة الصيف الحامية.
لاذ سكان القرية بالصمت [لأنه ليس هناك ملاذاً للهرب].
فما سمعوه منه لا يمكن أن يتحدثوا به، وما لا يمكن التحدث به لا وجود له.
حفار القبور المعتوه وحده تمكن من التعبير الغامض وهو يحفر قبراً للحمار حتى قبل أن يسمع خبر موته:
- وهذا هو!
إنه موت الحمار غير المعلن.
فهو كالأشجار تموت واقفة ولا تزال خضراء حتى يحسبها الرائي بأن ثمارها سرعان ما ستظهر بعد قليل. لكنها ميتة وستتهاوى في لحظة ما لا يمكن حتى القطة المرقطة أن تتوقعها.
فنهق الحمار، أو أذَّن، وقد صار ما صار!
[26] لا أحد يعرف كيف وصل هذا الأذربيجاني إلى هذه القرية النائية من بلاده والتي هي ليس أقل تصحراً ولا البشر هنا أقل قساوة من البشر هناك، ولكن عليَّ الاتفاق مع القطة المرقطة قولها: لله في خلقه شؤون!
[27] وهي تعنى، والمسؤولية تقع على عاتق القطة: "والله يا أخي أنا ما أعرف!".
[28] يدعي عبد الباري محظوظ المفتي بأنَّه درس البيطرة في "جامعة لهور الإسلامية" تخصص: الحيوانات الأسترالية وبشكل خاص الكنغر. وهو يعمل في غرفة لا يوجد فيها غير كرسي ومنضدة متهاوية ملحقة بمقر المختار وقد علق على الجدار الطيين عدداً كبيراً من الشهادات بلغات أجنبية هندية وباكستانية وروسية].