القول السديد في مقاصد التوحيد

القول السديد في مقاصد التوحيد

الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي

رحمه الله

مقدمة تشتمل على صفوة عقيدة أهل السنة

وخلاصتها المستمدة من الكتاب والسنة

وذلك أنهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , والقدر خيره وشره , فيشهدون أن الله هو الرب الإله المعبود , المتفرد بكل كمال , فيعبدونه وحده , مخلصين له الدين , فيقولون إن الله هو الخالق البارئ المصور الرازق المعطي المانع المدبر لجميع الأمور , وأنه المألوه المعبود الموحد المقصود , وأنه الأول الذي ليس قبله شيء , الآخر الذي ليس بعده شيء , الظاهر الذي ليس فوقه شيء , الباطن الذي ليس دونه شيء , وأنه العلي الأعلى بكل معنى واعتبار , علو الذات , وعلو القدر , وعلو القهر , وأنه على العرش استوى , استواء يليق بعظمته وجلاله , ومع علوه المطلق وفوقيته , فعلمه محيط بالظواهر والبواطن , والعالم العلوي والسفلي : وهو مع العباد بعلمه , يعلم جميع أحوالهم , وهو القريب المجيب , وإنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته , والكل إليه مفتقرون في إيجادهم وإيجاد ما يحتاجون إليه في جميع الأوقات , ولا غنى لأحد عنه طرفة عين , وهو الرحمن الرحيم , الذي ما بالعباد من نعمة دينية ولا دنيوية ولا دفع نقمة إلا من الله , فهو الجالب للنعم , الدافع للنقم , ومن رحمته أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا يستعرض حاجات العباد حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول لا أسأل عن عبادي غيري , من ذا الذي يدعوني فأستجيب له , من ذا الذي يسألني فأعطيه , من ذا الذي يستغفرني فأغفر له : حتى يطلع الفجر . فهو ينزل كما يشاء , ويفعل ما يريد , ليس كمثله شيء وهو السميع البصير

ويعتقدون أنه الحكيم , الذي له الحكمة التامة في شرعه وفي قدره , فما خلق شيئا عبثا , ولا شرع الشرائع إلا للمصالح والحكم , وأنه التواب العفو الغفور , يقبل التوبة من عباده , ويعفو عن السيئات : ويغفر الذنوب العظيمة للتائبين والمستغفرين والمنيبين , وهو الشكور الذي يشكر القليل من العمل , ويزيد الشاكرين من فضله .

ويصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات الذاتية ,كالحياة الكاملة , والسمع والبصر , وكمال القدرة , والعظمة والكبرياء , والمجد والجلال والجمال , والحمد المطلق , ومن صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته كالرحمة والرضا , والسخط والكلام , وأنه يتكلم بما يشاء , كيف يشاء , وكلماته لا تنفد , ولا تبيد , وأن القرآن كلام الله غير مخلوق , منه بدا , وإليه يعود , وأنه لم يزل ولا يزال موصوفا بأنه يفعل ما يريد : ويتكلم بما يشاء , ويحكم على عباده بأحكامه القدرية , وأحكامه الشرعية , وأحكامه الجزائية , فهو الحاكم المالك , ومن سواه مملوك محكوم عليه , فلا خروج للعباد عن ملكه ولا عن حكمه .

ويؤمنون بما جاء به الكتاب , وتواترت به السنة . إن المؤمنين يرون ربهم تعالى عيانا جهرة , وإن نعيم رويته والفوز برضوانه أكبر النعيم وألذه , وإن من مات على غير الإيمان والتوحيد فهو مخلد في نار جهنم أبدا , وإن أرباب الكبائر إذا ماتوا على غير توبة ولا حصل لهم مكفر لذنوبهم ولا شفاعة , فإنهم وإن دخلوا النار لا يخلدون فيها , ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان إلا خرج منها , وإن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها : وأعمال الجوارح وأقوال اللسان , فمن قام بها على الوجه الأكمل فهو المؤمن حقا , الذي استحق الثواب وسلم من العقاب , ومن انتقص منها شيئا نقص من إيمانه بقدر ذلك , ولذلك كان الإيمان يزيد بالطاعة وفعل الخير , وينقص بالمعصية والشر .

ومن أصولهم السعي والجد فيما ينفع من أمور الدين والدنيا مع الاستعانة بالله , فهم يحرصون على ما ينفعهم ويستعينون بالله . وكذلك يحققون الإخلاص لله في جميع حركاتهم , ويتبعون رسول الله , فالإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول , والنصيحة للمؤمنين طريقهم .

فصل

ويشهدون أن محمدا عبده ورسوله , أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله , وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم , وهو خاتم النبيين , أرسل إلى الإنس والجن بشيرا ونذيرا , وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا , أرسله بصلاح الدين وصلاح الدنيا , وليقوم الخلق بعبادة الله , ويستعينوا برزقه على ذلك . ويعلمون أنه أعلم الخلق وأصدقهم وأنصحهم , وأعظمهم بيانا , فيطيعونه ويحبونه , ويقدمون محبته على محبة الخلق كلهم , ويتبعونه في أصول دينهم وفروعه , ويقدمون قوله وهديه على قول كل أحد وهديه , ويعتقدون أن الله جمع له من الفضائل والخصائص والكمالات ما لم يجمعه لأحد , فهو أعلى الخلق مقاما , وأعظمهم جاها , وأكملهم في كل فضيلة : لم يبق خير إلا دل أمته عليه : ولا شر إلا حذرهم عنه . وكذلك يؤمنون بكل كتاب أنزله الله , وكل رسول أرسله الله , لا يفرقون بين أحد من رسله .

ويؤمنون بالقدر كله , وأن جميع أعمال العباد - خيرها وشرها - قد أحاط بها علم الله , وجرى بها قلمه , ونفذت فيها مشيئته , وتعلقت بها حكمته , حيث خلق للعباد قدرة وإرادة , تقع بها أقوالهم وأفعالهم بحسب مشيئتهم , لم يجبرهم على شيء منها , بل جعلهم مختارين لها , وخص المؤمنين بأن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم , وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان , وجعلهم من الراشدين بفضله ونعمته , وولى غيرهم ما تولوه ورضوه لأنفسهم من الكفر والفسوق والعصيان بعدله وحكمته .

ومن أصول أهل السنة أنهم يدينون بالنصيحة لله ولكتابه ورسوله , ولأئمة المسلمين وعامتهم , ويأمرون بالمعروف , وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة , ويأمرون ببر الوالدين , وصلة الأرحام , والإحسان إلى الجيران والمماليك والمعاملين , ومن له حق , وبالإحسان إلى الخلق أجمعين .

ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها , وينهون عن مساوئ الأخلاق وأرذلها , ويعتقدون أن أكمل المؤمنين إيمانا , أعظمهم إيمانا ويقينا , وأحسنهم أعمالا وأخلاقا , وأصدقهم أقوالا , وأهداهم إلى كل خير وفضيلة : وأبعدهم من كل رذيلة . ويأمرون بالقيام بشرائع الدين , على ما جاء عن نبيهم فيها وفي صفاتها ومكملاتها , والتحذير عن مفسداتها ومنقصاتها , ويرون الجهاد في سبيل الله ماض مع البر والفاجر , وأنه ذروة سنام الدين , جهاد العلم والحجة , وجهاد السلاح , وأنه فرض على كل مسلم أن يدافع عن الدين بكل ممكن ومستطاع .

ومن أصولهم الحث على جمع كلمة المسلمين , والسعي في تقريب قلوبهم وتأليفها , والتحذير من التفرق والتعادي والتباغض , والعمل بكل وسيلة توصل إلى هذا .

ومن أصولهم النهي عن أذية الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم , والأمر بالعدل والإنصاف في جميع المعاملات , والندب إلى الإحسان والفضل فيها . ويؤمنون بأن أفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , خصوصا الخلفاء الراشدون , والعشرة المشهود لهم بالجنة , وأهل بدر , وبيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار , فيحبون الصحابة ويدينون الله بذلك , وينشرون محاسنهم ويسكتون عما قيل عن مساوئهم , ويدينون الله باحترام العلماء الهداة وأئمة العدل ومن لهم المقامات العالية في الدين والفضل المتنوع على المسلمين , ويسألون الله أن يعيذهم من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وأن يثبتهم على دين نبيهم إلى الممات . فهذه الأصول الكلية بها يؤمنون ولها يعتقدون وإليها يدعون .

كتاب التوحيد

قال المصنف رحمه الله : كتاب التوحيد هذه الترجمة تدل على مقصود هذا الكتاب من أوله إلى آخره , ولهذا استغنى بها عن الخطبة : أي أن هذا الكتاب يشتمل على توحيد الإلهية والعبادة بذكر أحكامه وحدوده وشروطه , وفضله وبراهينه , وأصوله وتفاصيله , وأسبابه وثمراته ومقتضياته , وما يزداد به ويقويه , أو يضعفه ويوهيه وما به يتم ويكمل .

اعلم أن التوحيد المطلق العلم والاعتراف بتفرد الرب بصفات الكمال والإقرار بتوحده بصفات العظمة والجلال , وإفراده وحده بالعبادة , وهو ثلاثة أقسام :

أحدها : توحيد الأسماء والصفات , وهو اعتقاد انفراد الرب جل جلاله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال التي لا يشاركه فيها مشاركة بوجه من الوجوه , وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأسماء والصفات ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله , من غير نفي لشيء منها ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل , ونفي ما نفاه عن نفسه , أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب , وعن كل ما ينافي كماله .

الثاني : توحيد الربوبية بأن يعتقد العبد أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير الذي ربى جميع الخلق بالنعم وربى خواص خلقه وهم الأنبياء وأتباعهم بالعقائد الصحيحة والأخلاق الجميلة والعلوم النافعة والأعمال الصالحة , وهذه التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدارين .

الثالث : توحيد الإلهية ويقال له توحيد العبادة وهو العلم والاعتراف بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين وإفراده وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين لله وحده وهذا الأخير يستلزم القسمين الأولين ويتضمنهما , لأن الألوهية التي هي وصفه تعم جميع أوصاف الكمال وجميع أوصاف الربوبية والعظمة , فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والأفضال , فتوحده تعالى بصفات الكمال وتفرده بالربوبية يلزم منه أنه لا يستحق العبادة أحد سواه . ومقصود دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم الدعوة إلى هذا التوحيد .

فذكر المصنف في هذه الترجمة من النصوص ما يدل على أن الله خلق الخلق لعبادته والإخلاص له , وأن ذلك حقه الواجب المفروض عليهم , فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل دعوا إلى هذا التوحيد , ونهوا عن ضده من الشرك والتنديد , وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا القرآن الكريم فإنه أمر به , وفرضه وقرره أعظم تقرير , وبينه أعظم بيان , وأخبر أنه لا نجاة ولا فلاح ولا سعادة إلا بهذا التوحيد , وأن جميع الأدلة العقلية والنقلية والأفقية والنفسية أدلة وبراهين على الأمر بهذا التوحيد ووجوبه , فالتوحيد هو حق الله الواجب على العبيد , وهو أعظم أوامر الدين , وأصل الأصول كلها , وأساس الأعمال .

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

لما ذكر في الترجمة السابقة وجوب التوحيد , وأنه الفرض الأعظم على جميع العبيد ذكر هنا فضله وهو آثاره الحميدة ونتائجه الجميلة وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة والفضائل المتنوعة مثل التوحيد فإن خير الدنيا والآخرة من ثمرات هذا التوحيد وفضائله .

فقول المؤلف رحمه الله : " وما يكفر من الذنوب " من باب عطف الخاص على العام فإن مغفرة الذنوب وتكفير الذنوب من بعض فضائله وآثاره كما ذكر شواهد ذلك في الترجمة .

ومن فضائله أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوباتهما .

ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية ومنها أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة ومنها أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه .

ومن أعظم فضائله أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد . فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت .

ومن فضائله أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات : فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي لما يخشى من سخطه وعقابه .

ومنها أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين , ومنها أنه يخفف على العبد المكاره ويهون عليه الآلام , فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح , ونفس مطمئنة , وتسليم ورضى يأقدار الله المؤلمة .

ومن أعظم فضائله أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم , وخوفهم ورجائهم , والعمل لأجلهم , وهذا هو العز الحقيقي , والشرف العالي , ويكون مع ذلك متألها متعبدا لله لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه , ولا ينيب إلا إليه , وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه .

ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققا كاملا بالإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمله كثيرا وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السماوات والأرض , وعمارها من جميع خلق الله كما في حديث أبي سعيد المذكور في الترجمة وفي حديث البطاقة التي فيها لا إله إلا الله التي وزنت تسعة وتسعين سجلا من الذنوب , كل سجل يبلغ مد البصر , وذلك لكمال إخلاص قائلها , وكم ممن يقولها ولا تبلغ هذا المبلغ , لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإخلاص الكامل مثل ولا قريب مما قام بقلب هذا العبد .

ومن فضائل التوحيد أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى , وإصلاح الأحوال , والتسديد في الأقوال والأفعال .

ومنها أن الله يدافع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة , ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره , وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة والله أعلم .

باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

وهذا الباب تكميل للباب الذي قبله وتابع له , فإن تحقيق التوحيد تهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر , ومن البدع القولية الاعتقادية , والبدع الفعلية العملية , ومن المعاصي , وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات , وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد , ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله , وبالسلامة من البدع والمعاصي التي تكدر التوحيد وتمنع كماله , وتعوقه عن حصول آثاره .

فمن حقق توحيده بأن امتلأ قلبه من الإيمان والتوحيد والإخلاص , وصدقته الأعمال بأن انقادت لأوامر الله طائعة منيبة مخبتة إلى الله , ولم يجرح ذلك بالإصرار على شيء من المعاصي , فهذا الذي يدخل الجنة بغير حساب : ويكون من السابقين إلى دخولها وإلى تبوء المنازل منها .

ومن أخص ما يدخل في تحقيقه كمال القنوت لله وقوة التوكل على الله : بحيث لا يلتفت القلب إلى المخلوقين في شأن من شئونه , ولا يستشرف إليهم بقلبه , ولا يسألهم بلسان مقاله أو حاله , بل يكون ظاهره وباطنه وأقواله وأفعاله وحبه وبغضه , وجميع أحواله كلها مقصود بها وجه الله متبعا فيها رسول الله . والناس في هذا المقام العظيم درجات

( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) [ سورة الأنعام : الآية 132 ]

وليس تحقيق التوحيد بالتمني ولا بالدعاوي الخالية من الحقائق , ولا بالحلي العاطلة , وإنما ذلك بما وقر في القلوب من عقائد الإيمان وحقائق الإحسان وصدقته الأخلاق الجميلة , والأعمال الصالحة الجليلة , فمن حقق التوحيد على هذا الوجه حصلت له جميع الفضائل المشار إليها في الباب السابق بأكملها والله أعلم .

باب الخوف من الشرك

الشرك في توحيد الإلهية والعبادة ينافي التوحيد كل المنافاة وهو نوعان : شرك أكبر جلي , وشرك أصغر خفي , فأما الشرك الأكبر فهو أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله , أو يخافه أو يرجوه أو يحبه كحب الله , أو يصرف له نوعا من أنواع العبادة , فهذا الشرك لا يبقي مع صاحبه من التوحيد شيء : وهذا المشرك الذي حرم الله عليه الجنة ومأواه النار , ولا فرق في هذا بين أن يسمي تلك العبادة التي صرفها لغير الله عبادة أو يسميها توسلا أو يسميها بغير ذلك من الأسماء فكل ذلك شرك أكبر لأن العبرة بحقائق الأشياء ومعانيها دون ألفاظها وعباراتها .

وأما الشرك الأصغر فهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة كالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك فإذا كان الشرك ينافي التوحيد ويوجب دخول النار والخلود فيها وحرمان الجنة إذا كان أكبر وأنه لا تتحقق السعادة إلا بالسلامة منه كان حقا على العبد أن يخاف منه أعظم خوف وأن يسعى في الفرار منه ومن طرقه ووسائله وأسبابه ويسأل الله العافية منه كما فعل ذلك الأنبياء والأصفياء وخيار الخلق وعلى العبد أن يجتهد في تنمية الإخلاص في قلبه وتقويته وذلك بكمال التعلق بالله تألها وإنابة وخوفا ورجاء وطمعا وقصدا لمرضاته وثوابه في كل ما يفعله وما يتركه من الأمور الظاهرة والباطنة فإن الإخلاص بطبيعته يدفع الشرك الأكبر والأصغر , وكل من وقع منه نوع من الشرك فلضعف إخلاصه .

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

وهذا الترتيب الذي صنعه المؤلف في هذه الأبواب في غاية المناسبة , فإنه ذكر في الأبواب السابقة وجوب التوحيد وفضله والحث عليه وعلى تكميله , والتحقق به ظاهرا وباطنا , والخوف من ضده : وبذلك يكمل العبد في نفسه . ثم ذكر في هذا الباب تكميله لغيره بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإنه لا يتم التوحيد حتى يكمل العبد جميع مراتبه ثم يسعى في تكميل غيره , وهذا هو طريق جميع الأنبياء , فإنهم أول ما يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له وهي طريقة سيدهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم , لأنه قام بهذه الدعوة أعظم قيام , ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن . ولم يفتر ولم يضعف حتى أقام الله به الدين وهدى به الخلق العظيم , ووصل دينه ببركة دعوته إلى مشارق الأرض ومغاربها , وكان يدعو بنفسه ويأمر رسله وأتباعه أن يدعوا إلى الله وإلى توحيده قبل كل شيء لأن جميع الأعمال متوقفة في صحتها وقبولها على التوحيد .

فكما أن على العبد أن يقوم بتوحيد الله فعليه أن يدعو العباد إلى الله بالتي هي أحسن : وكل من اهتدى على يديه فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء وإذا كانت الدعوة إلى الله وإلى شهادة أن لا إله إلا الله فرضا على كل أحد كان الواجب على كل أحد بحسب مقدوره فعلى العالم من بيان ذلك والدعوة والإرشاد والهداية أعظم مما على غيره ممن ليس بعالم : وعلى القادر ببدنه ويده أو ماله أو جاهه وقوله أعظم مما على من ليست له تلك القدرة . قال تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) [ سورة التغابن : الآية 16 ]

ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة , وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين .

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

هما بمعنى واحد , فهو من باب عطف المترادفين , وهذه المسألة أكبر المسائل وأهمها كما قال المصنف رحمه الله . وحقيقة تفسير التوحيد العلم والاعتراف بتفرد الرب بجميع صفات الكمال وإخلاص العبادة له .

وذلك يرجع إلى أمرين : نفي الألوهية كلها عن غير الله بأن يعلم ويعتقد أنه لا يستحق الإلهية ولا شيئا من العبودية أحد من الخلق , لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا غيرهما , وأنه ليس لأحد من الخلق في ذلك حظ ولا نصيب .

والأمر الثاني إثبات الألوهية لله تعالى وحده لا شريك له وتفرده بمعاني الألوهية كلها وهي نعوت الكمال كلها . ولا يكفي هذا الاعتقاد وحده حتى يحققه العبد بإخلاص الدين كله لله فيقوم بالإسلام والإيمان والإحسان وبحقوق الله وحقوق خلقه قاصدا بذلك وجه الله وطالبا رضوانه وثوابه , ويعلم أن من تمام تفسيرها وتحقيقها البراءة من عبادة غير الله وأن اتخاذ أنداد يحبهم كحب الله أو يطيعهم كطاعة الله أو يعمل لهم كما يعمل لله , ينافي معنى لا إله إلا الله أشد المنافاة , وبين المصنف , رحمه الله , أن من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ) , فلم يجعل مجرد التلفظ بها عاصما للدم والمال , بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك , بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له , بل لا يحرم ماله ولا دمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله , فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ولا دمه .

فتبين بذلك أنه لا بد من اعتقاد وجوب عبادة الله وحده لا شريك له ومن الإقرار بذلك اعتقادا ونطقا , ولا بد من القيام بعبودية الله وحده طاعة لله وانقيادا ولا بد من البراءة مما ينافي ذلك عقدا وقولا وفعلا , ولا يتم ذلك إلا بمحبة القائمين بتوحيد الله وموالاتهم ونصرتهم , وبغض أهل الكفر والشرك ومعاداتهم , ولا تغني في هذا المقام الألفاظ المجردة ولا الدعاوي الخالية من الحقيقة , بل لا بد أن يتطابق العلم والاعتقاد والقول والعمل , فإن هذه الأشياء متلازمة متى تخلف واحد منها تخلفت البقية والله أعلم .

باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

وهذا الباب يتوقف فهمه على معرفة أحكام الأسباب , وتفصيل القول فيها أنه يجب على العبد أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور :

أحدها أن لا يجعل منها سببا إلا ما ثبت أنه سبب شرعا أو قدرا .

ثانيها أن لا يعتمد العبد عليها بل يعتمد على مسببها ومقدرها مع قيامه بالمشروع منها وحرصه على النافع منها .

ثالثها أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره لا خروج لها عنه , والله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء : إن شاء أبقى سببيتها جارية على مقتضى حكمته ليقوم بها العباد ويعرفوا بذلك تمام حكمته حيث ربط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها : وإن شاء غيرها كيف يشاء لئلا يعتمد عليها العباد وليعلموا كمال قدرته وأن التصرف المطلق والإرادة المطلقة لله وحده . فهذا هو الواجب على العبد في نظره وعمله بجميع الأسباب .

إذا علم ذلك فمن لبس الحلقة أو الخيط ونحوهما قاصدا بذلك رفع البلاء بعد نزوله : أو دفعه قبل نزوله , فقد أشرك لأنه إن اعتقد أنها هي الدافعة الرافعة فهذا الشرك الأكبر وهو شرك في الربوبية , حيث اعتقد شريكا مع الله في الخلق والتدبير , وشرك في العبودية حيث تأله لذلك وعلق به قلبه طمعا ورجاء لنفعه وإن اعتقد أن الله هو الدافع الرافع وحده ولكن اعتقدها سببا يستدفع بها البلاء فقد جعل ما ليس سببا شرعيا ولا قدريا سببا وهذا محرم وكذب على الشرع وعلى القدر : أما الشرع فإنه ينهى عن ذلك أشد النهي وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة وأما القدر فليس هذا من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود ولا من الأدوية المباحة النافعة .

وكذلك هو من جملة وسائل الشرك فإنه لا بد أن يتعلق قلب متعلقها بها وذلك نوع شرك ووسيلة إليه فإذا كانت هذه الأمور ليست من الأسباب الشرعية التي شرعها على لسان نبيه التي يتوسل بها إلى رضا الله وثوابه ولا من الأسباب القدرية التي قد علم أو جرب نفعها مثل الأدوية المباحة كان المتعلق بها متعلقا قلبه بها راجيا لنفعها فتعين على المؤمن تركها ليتم إيمانه وتوحيده فإنه لو تم توحيده لم يتعلق قلبه بما ينافيه وذلك أيضا نقص في العقل حيث تعلق بغير متعلق ولا نافع بوجه من الوجوه : بل هو ضرر محض .

والشرع مبناه على تكميل أديان الخلق بنبذ الوثنيات والتعلق بالمخلوقين , وعلى تكميل عقولهم بنبذ الخرافات والخزعبلات , والجد في الأمور النافعة المرقية للعقول , المزكية للنفوس , المصلحة للأحوال كلها دينيها ودنيويها والله أعلم .

باب ما جاء في الرقى والتمائم

أما التمائم فهي تعاليق تتعلق بها قلوب متعلقيها والقول فيها كالقول في الحلقة والخيط كما تقدم فمنها ما هو شرك أكبر كالتي تشتمل على الاستغاثة بالشياطين أو غيرهم من المخلوقين فالاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك كما سيأتي إن شاء الله ومنها ما هو محرم كالتي فيها أسماء لا يفهم معناها لأنها تجر إلى الشرك .

وأما التعاليق التي فيها قرآن أو أحاديث نبوية أو أدعية طيبة محترمة فالأولى تركها لعدم ورودها عن الشارع ولكونها يتوسل بها إلى غيرها من المحرم , ولأن الغالب على متعلقها أنه لا يحترمها ويدخل فيها المواضع القذرة .

وأما الرقى ففيها تفصيل : فإن كانت من القرآن أو السنة أو الكلام الحسن فإنها مندوية في حق الراقي لأنها من باب الإحسان , ولما فيها من النفع , وهي جائزة في حق المرقي إلا أنه لا ينبغي له أن يبتدئ بطلبها , فإن من كمال توكل العبد وقوة يقينه أن لا يسأل أحدا من الخلق لا رقية ولا غيرها : بل ينبغي له إذا سأل أحدا أن يدعو له أن يلحظ مصلحة الداعي والإحسان إليه بتسببه لهذه العبودية له مع مصلحة نفسه , وهذا من أسرار تحقيق التوحيد ومعانية البديعة التي لا يوفق للتفقه فيها والعمل بها إلا الكمل من العباد . وإن كانت الرقية يدعى بها غير الله ويطلب الشفاء من غيره فهذا هو الشرك الأكبر لأنه دعاء واستغاثة بغير الله , فافهم هذا التفصيل , وإياك أن تحكم على الرقى بحكم واحد مع تفاوتها في أسبابها وغاياتها .

باب من تبرك بشجر أو حجر أو غيرهما

أي فإن ذلك من الشرك ومن أعمال المشركين فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يشرع التبرك بشيء من الأشجار والأحجار والبقع والمشاهد وغيرها فإن هذا التبرك غلو فيها وذلك يتدرج به إلى دعائها وعبادتها وهذا هو الشرك الأكبر كما تقدم انطباق الحد عليه وهذا عام في كل شيء حتى مقام إبراهيم وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصخرة بيت المقدس وغيرها من البقع الفاضلة .

وأما استلام الحجر الأسود وتقبيله واستلام الركن اليماني من الكعبة المشرفة فهذا عبودية لله وتعظيم لله وخضوع لعظمته فهو روح التعبد فهذا تعظيم للخالق وتعبد له وذاك تعظيم للمخلوق وتأله له فالفرق بين الأمرين كالفرق بين الدعاء لله الذي هو إخلاص وتوحيد والدعاء للمخلوق الذي هو شرك وتنديد .

باب ما جاء في الذبح لغير الله

أي أنه شرك , فإن نصوص الكتاب والسنة صريحة في الأمر بالذبح لله , وإخلاص ذلك لوجهه , كما هي صريحة بذلك في الصلاة فقد قرن الله الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه , وإذا ثبت أن الذبح لله من أجل العبادات وأكبر الطاعات , فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام , فإن حد الشرك الأكبر وتقسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعا أو فردا من أفراد العبادة لغير الله .

فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص , وصرفه لغيره شرك وكفر , فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء , كما أن حد الشرك الأصغر هو كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة , فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر , فإنه مما يعينك على فهم الأبواب السابقة واللاحقة من هذا الكتاب , وبه يحصل لك الفرقان بين الأمور التي يكثر اشتباهها والله المستعان .

باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

ما أحسن اتباع هذا الباب بالباب الذي قبله , فالذي قبله من المقاصد وهذا من الوسائل . ذاك من باب الشرك الأكبر , وهذا من وسائل الشرك القريبة , فإن المكان الذي يذبح فيه المشركون لآلهتهم تقربا إليها وشركا بالله قد صار مشعرا من مشاعر الشرك , فإذا ذبح فيه المسلم ذبيحة ولو قصدها لله فقد تشبه بالمشركين وشاركهم في مشعلاهم , والموافقة الظاهرة تدعو إلى الموافقة الباطنة والميل إليهم .

ومن هذا السبب نهى الشارع عن مشابهة الكفار في شعارهم وأعيادهم وهيئاتهم ولباسهم وجميع ما يختص بهم إبعادا للمسلمين عن الموافقة لهم في الظاهر التي هي وسيلة قريبة للميل والركون إليهم , حتى أنه نهى عن الصلاة النافلة في أوقات النهي التي يسجد المشركون فيها لغير الله خوفا من التشبه المحذور .

باب من الشرك النذر لغير الله

باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

متى فهمت الضابط السابق في حد الشرك الأكبر , وهو أن من صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك , فهمت هذه الأبواب الثلاثة التي والى المصنف بينها , فإن النذر عبادة مدح الله الموفين به : وأمر صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة , وكل أمر مدحه الشارع أو أثنى على من قام به أو أمر به فهو عبادة , فإن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة , والنذر من ذلك .

وكذلك أمر الله بالاستعاذة به وحده من الشرور كلها وبالاستغاثة به في كل شدة ومشقة , فهذه إخلاصها لله إيمان وتوحيد , وصرفها لغير الله شرك وتنديد .

والفرق بين الدعاء والاستغاثة أن الدعاء عام في كل الأحوال , والاستغاثة هي الدعاء لله في حالة الشدائد , فكل ذلك يتعين إخلاصه لله وحده , وهو المجيب لدعاء الداعين المفرج لكربات المكروبين , ومن دعا غيره من نبي أو ملك أو ولي أو غيرهم , أو استغاث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر , وكما أنه خرج من الدين فقد تجرد أيضا من العقل , فإن أحدا من الخلق ليس عنده من النفع والدفع مثقال ذرة لا عن نفسه ولا عن غيره بل الكل فقراء إلى الله في كل شئونهم .

باب قول الله تعالى "أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون”

قول الله تعالى : ( أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) [ سورة الأعراف : الآية 191 ] هذا شروع في براهين التوحيد وأدلته , فالتوحيد له من البراهين النقلية والعقلية ما ليس لغيره , فتقدم أن التوحيدين : توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من أكبر براهينه وأضخمها . فالمتفرد بالخلق والتدبير , والمتوحد في الكمال المطلق من جميع الوجوه , هو الذي لا يستحق العبادة سواه .

وكذلك من براهين التوحيد معرفة أوصاف المخلوقين , ومن عبد مع الله , فإن جميع ما يعبد من دون الله من ملك وبشر ومن شجر وحجر وغيرها كلهم فقراء إلى الله , عاجزون ليس بيدهم من النفع مثقال ذرة , ولا يخلقون شيئا وهم يخلقون , ولا يملكون ضرا ولا نفعا , ولا موتا ولا حياة ولا نشورا , والله تعالى هو الخالق لكل مخلوق , وهو الرازق لكل مرزوق , المدبر للأمور كلها , الضار النافع , المعطي المانع , الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع كل شيء وله يقصد ويصمد ويخضع كل شيء , فأي برهان أعظم من هذا البرهان الذي أعاده الله وأبداه في مواضع كثيرة من كتابه وعلى لسان رسوله , فهو دليل عقلي فطري كما أنه دليل سمعي نقلي على وجوب توحيد الله , وأنه الحق وعلى بطلان الشرك .

وإذا كان أشرف الخلق على الإطلاق لا يملك نفع أقرب الخلق إليه وأمسهم به رحما فكيف بغيره : فتبا لمن أشرك بالله وساوى به أحدا من المخلوقين : لقد سلب عقله بعد ما سلب دينه : فنعوت الباري تعالى وصفات عظمته وتوحده في الكمال المطلق أكبر برهان على أنه لا يستحق العبادة إلا هو , وكذلك صفات المخلوقات كلها وما هي عليه من النقص والحاجة والفقر إلى ربها في كل شئونها وأنه ليس لها من الكمال إلا ما أعطاها ربها من أعظم البراهين على بطلان إلهية شيء منها , فمن عرف الله وعرف الخلق اضطرته هذه المعرفة إلى عبادة الله وحده , وإخلاص الدين له والثناء عليه , وحمده وشكره بلسانه وقلبه وأركانه وانصرف تعلقه بالمخلوقين خوفا ورجاء وطمعا والله أعلم .

باب قول الله تعالى "حتى إذا فزع عن قلوبهم”

قول الله تعالى : ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) [ سورة سبأ : الآية 23 ]

وهذا أيضا برهان عظيم آخر على وجوب التوحيد وبطلان الشرك , وهو ذكر النصوص الدالة على كبرياء الرب وعظمته التي تتضاءل وتضمحل عندها عظمة المخلوقات العظيمة , وتخضع له الملائكة والعالم العلوي والسفلي , ولا تثبت أفئدتهم عندما يسمعون كلامه أو تتبدى لهم بعض عظمته ومجده , فالمخلوقات بأسرها خاضعة لجلاله معترفة بعظمته ومجده خاضعة له خائفة منه , فمن كان هذا شأنه فهو الرب الذي لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر والتعظيم والتأله , إلا هو , ومن سواه ليس له من هذا الحق شيء , فكما أن الكمال المطلق والكبرياء والعظمة , ونعوت الجلال والجمال المطلق كلها لله لا يمكن أن يتصف بها غيره فكذلك العبودية الظاهرة والباطنة كلها حقه تعالى الخاص الذي لا يشاركه فيه مشارك بوجه .

باب الشفاعة

إنما ذكر المصنف الشفاعة في تضاعيف هذه الأبواب لأن المشركين يبررون شركهم ودعاءهم للملائكة والأنبياء والأولياء بقولهم نحن ندعوهم مع علمنا أنهم مخلوقون مملوكون , ولكن حيث أن لهم عند الله جاها عظيما ومقامات عالية ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى وليشفعوا لنا عنده كما يتقرب إلى الوجهاء عند الملوك والسلاطين ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم وإدراك مآربهم . وهذا من أبطل الباطل , وهو تشبيه لله العظيم ملك الملوك الذي يخافه كل أحد , وتخضع له المخلوقات بأسرها , بالملوك الفقراء المحتاجين للوجهاء والوزراء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم , فأبطل الله هذا الزعم وبين أن الشفاعة كلها له كما أن الملك كله له , وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه , ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله , ولا يرضى إلا توحيده وإخلاص العمل له . فبين أن المشرك ليس له حظ ولا نصيب من الشفاعة , وبين أن الشفاعة المثبتة التي تقع بإذنه إنما هي الشفاعة لأهل الإخلاص خاصة وأنها كلها منه , رحمة منه وكرامة للشافع , ورحمة منه وعفوا عن المشفوع له , وأنه هو المحمود عليها في الحقيقة وهو الذي أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها وأناله المقام المحمود .

فهذا ما دل عليه الكتاب والسنة في تفصيل القول في الشفاعة .

وقد ذكر المصنف رحمه الله كلام الشيخ تقي الدين في هذا الموضع وهو كاف شاف , فالمقصود في هذا الباب ذكر النصوص الدالة على إبطال كل وسيلة وسبب يتعلق به المشركون بآلهتهم , وأنه ليس لها من الملك شيء : لا استقلالا ولا مشاركة ولا معاونة ومظاهرة , ولا من الشفاعة شيء , وإنما ذلك كله لله وحده , فتعين أن يكون المعبود وحده .

باب قول الله تعالى "إنك لا تهدي من أحببت”

قول اله تعالى : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) [ سورة القصص : الآية 56 ]

وهذا الباب أيضا نظير الباب الذي قبله , وذلك أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق على الإطلاق وأعظمهم عند الله جاها وأقربهم إليه وسيلة , لا يقدر على هداية من أحب هداية التوفيق وإنما الهداية كلها بيد الله , فهو الذي تفرد بهداية القلوب كما تفرد بخلق المخلوقات , فتبين أنه الإله الحق , وأما قوله تعالى :

( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ سورة الشورى : الآية 52 ]

فالمراد بالهداية هنا هداية البيان وهو صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله وحيه الذي اهتدى به الخلق .

باب أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

والغلو هو مجاوزة الحد بأن يجعل للصالحين من حقوق الله الخاصة به شيء , فإن حق الله الذي لا يشاركه فيه مشارك هو الكمال المطلق , والغنى المطلق , والتصرف المطلق من جميع الوجوه , وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه , فمن غلا بأحد من المخلوقين حتى جعل له نصيبا من هذه الأشياء فقد ساوى به رب العالمين وذلك أعظم الشرك , ومن رفع أحدا من الصالحين فوق منزلته التي أنزله الله بها فقد غلا فيه وذلك وسيلة إلى الشرك وترك الدين .

والناس في معاملة الصالحين ثلاثة أقسام : أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة لهم والتوقير والتبجيل , وأهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها , وأهل الحق الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية ولكنهم يبرأون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم , والصالحون أيضا يتبرأون من أن يدعوا لأنفسهم حقا من حقوق ربهم الخاصة , كما قال الله عن عيسى صلى الله عليه وسلم :

( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) [ سورة المائدة : الآية 116 ]

واعلم أن الحقوق ثلاثة : حق خاص لله لا يشاركه فيه مشارك وهو التأله له وعبادته وحده لا شريك له , والرغبة والإنابة إليه وحده حبا وخوفا ورجاء , وحق خاص للرسل وهو توقيرهم وتبجيلهم والقيام بحقوقهم الخاصة : وحق مشترك وهو الإيمان بالله ورسله , وطاعة الله ورسله , ومحبة الله , ومحبة رسله : ولكن هذه لله أصلا وللرسل تبعا لحق الله , فأهل الحق يعرفون الفرقان بين هذه الحقوق الثلاثة فيقومون بعبودية الله وإخلاص الدين له , ويقومون بحق رسله وأوليائه على اختلاف منازلهم ومراتبهم والله أعلم .

باب ما جاء فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

ما ذكره المصنف في البابين يتضح بذكر تفصيل القول فيما يفعل عند قبور الصالحين وغيرهم : وذلك أن ما يفعل عندها نوعان : مشروع وممنوع .

أما المشروع فهو ما شرعه الشارع من زيارة القبور على الوجه الشرعي من غير شد رحل : يزورها المسلم متبعا للسنة فيدعو لأهلها عموما ولأقاربه ومعارفه خصوصا فيكون محسنا إليهم بالدعاء لهم وطلب العفو والمغفرة والرحمة لهم , ومحسنا إلى نفسه باتباع السنة وتذكر الآخرة والاعتبار بها والاتعاظ .

وأما الممنوع فإنه نوعان : أحدهما محرم ووسيلة للشرك , كالتمسح بها والتوسل إلى الله بأهلها والصلاة عندها وكإسراجها والبناء عليها والغلو فيها وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة . والنوع الثاني شرك أكبر كدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم , فهذا شرك أكبر وهو عين ما يفعله عباد الأصنام مع أصنامهم .

ولا فرق في هذا بين أن يعتقد الفاعل لذلك أنهم مستقلون في تحصيل مطالبه أو متوسطون إلى الله , فإن المشركين يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله . فمن زعم أنه لا يكفر من دعا أهل القبور حتى يعتقد أنهم مستقلون بالنفع ودفع الضرر , وأن من اعتقد أن الله هو الفاعل وأنهم وسائط بين الله وبين من دعاهم واستغاث بهم فلا يكفر . من زعم ذلك فقد كذب ما جاء به الكتاب والسنة , وأجمعت عليه الأمة من أن من دعا غير الله فهو مشرك كافر في الحالين المذكورين , سواء اعتقدهم مستقلين أو متوسطين . وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام , فعليك بهذا التفصيل الذي يحصل به الفرقان في هذا الباب المهم الذي حصل به من الاضطراب والفتنة ما حصل ولم ينج من فتنته إلا من عرف الحق واتبعه .

باب حماية المصطفى حمى التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

حماية المصطفى حمى التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك من تأمل نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب رأى نصوصا كثيرة تحث على القيام بكل ما يقوي التوحيد وينميه ويغذيه من الحث على الإنابة إلى الله وانحصار تعلق القلب بالله رغبة ورهبة وقوة الطمع بفضله وإحسانه والسعي لتحصيل ذلك وإلى التحرر من رق المخلوقين وعدم التعلق بهم بوجه من الوجوه أو الغلو في أحد منهم والقيام التام بالأعمال الظاهرة والباطنة وتكميلها وخصوصا حث النصوص على روح العبودية وهو الإخلاص التام لله وحده .

ثم في مقابلة ذلك نهى عن أقوال وأفعال فيها الغلو بالمخلوقين ونهى عن التشبه بالمشركين لأنه يدعو إلى الميل إليهم ونهي عن أقوال وأفعال يخشى أن يتوسل بها إلى الشرك , كل ذلك حماية للتوحيد ونهي عن كل سبب يوصل إلى الشرك , وذلك رحمة بالمؤمنين ليتحققوا بالقيام بما خلقوا له من عبودية الله الظاهرة والباطنة وتكميلها لتكمل لهم السعادة والفلاح , وشواهد هذه الأمور كثيرة معروفة .

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

مقصود هذه الترجمة الحذر من الشرك والخوف منه وأنه أمر واقع في هذه الأمة لا محالة والرد على من زعم أن من قال لا إله إلا الله وتسمى بالإسلام أنه يبقى على إسلامه ولو فعل ما ينافيه من الاستغاثة بأهل القبور ودعائهم وسمى ذلك توسلا لا عبادة فإن هذا باطل .

فإن الوثن اسم جامع لكل ما عبد من دون الله لا فرق بين الأشجار والأحجار والأبنية ولا بين الأنبياء والصالحين والطالحين في هذا الموضع وهو العبادة , فإنها حق الله وحده فمن دعا غير الله أو عبده فقد اتخذه وثنا وخرج بذلك عن الدين ولم ينفعه انتسابه إلى الإسلام , فكم انتسب إلى الإسلام من مشرك وملحد وكافر ومنافق . والعبرة بروح الدين وحقيقته لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها .

باب السحر

باب شيء من أنواع السحر

وجه إدخال السحر في أبواب التوحيد أن كثيرا من أقسامه لا يتأتى إلا بالشرك والتوصل بالأرواح الشيطانية إلى مقاصد الساحر فلا يتم للعبد توحيد حتى يدع السحر كله قليله وكثيره , ولهذا قرنه الشارع بالشرك , فالسحر يدخل في الشرك من جهتين :

من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم وربما تقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمته ومطلوبه : ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك , وذلك من شعب الشرك والكفر , وفيه أيضا من التصرفات المحرمة والأفعال القبيحة كالقتل والتفريق بين المتحابين والصرف والعطف والسعي في تغيير العقول , وهذا من أفظع المحرمات وذلك من الشرك ووسائله ولذلك تعين قتل الساحر لشدة مضرته وإفساده .

ومن أنواعه الواقعة في كثير من الناس النميمة لمشاركتها للسحر في التفريق بين الناس وتغيير قلوب المتحابين وتلقيح الشرور . فالسحر أنواع ودركات بعضها أقبح وأسفل من بعض .

باب ما جاء في الكهان ونحوهم

أي من كل من يدعي علم الغيب بأي طريق من الطرق وذلك أن الله تعالى هو المنفرد بعلم الغيب فمن ادعى مشاركة الله في شيء من ذلك بكهانة أو عرافة أو غيرها أو صدق من ادعى ذلك فقد جعل لله شريكا فيما هو من خصائصه وقد كذب الله ورسوله . وكثير من الكهانة المتعلقة بالشياطين لا تخلو من الشرك والتقرب إلى الوسائط التي تستعين بها على دعوى العلوم الغيبية , فهو شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به , ومن جهة التقرب إلى غير الله , وفيه إبعاد الشارع للخلق عن الخرافات المفسدة للأديان والعقول .

باب النشرة

وهو حل السحر عن المسحور . ذكر فيه المصنف كلام ابن القيم في التفصيل بين الجائز منه والممنوع وفيه كفاية .

باب الطيرة

وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع والأشخاص وغيرها فنهى الشارع عن التطير وذم المتطيرين وكان يحب الفال ويكره الطيرة , والفرق بينهما أن الفال الحسن لا يخل بعقيدة الإنسان ولا بعقله وليس فيه تعليق القلب بغير الله بل فيه من المصلحة النشاط والسرور وتقوية النفوس على المطالب النافعة , وصفة ذلك أن يعزم العبد على سفر أو زواج أو عقد من العقود أو على حالة من الأحوال المهمة ثم يرى في تلك الحال ما يسره : أو يسمع كلاما يسره مثل يا راشد أو سالم أو غانم , فيتفاءل ويزداد طمعه في تيسير ذلك الأمر الذي عزم عليه : فهذا كله خير , وآثاره خير , وليس فيه من المحاذير شيء .

وأما الطيرة فإنه إذا عزم على فعل شيء من ذلك من الأمور النافعة في الدين أو في الدنيا , فيرى أو يسمع ما يكره أثر في قلبه أحد أمرين أحدهما أعظم من الآخر ( أحدهما ) أن يستجيب لذلك الداعي , فيترك ما كان عازما على فعله أو بالعكس فيتطير بذلك , وينكص عن الأمر الذي كان عازما عليه , فهذا كما ترى قد علق قلبه بذلك المكروه غاية التعليق وعمل عليه , وتصرف ذلك المكروه في إرادته وعزمه وعمله فلا شك أنه على هذا الوجه أثر على إيمانه , وأخل بتوحيده وتوكله . ثم بعد هذا لا تسأل عما يحدثه له هذا الأمر من ضعف القلب ووهنه وخوفه من المخلوقين وتعلقه بالأسباب وبأمور ليست أسبابا , وانقطاع قلبه من تعلقه بالله . وهذا من ضعف التوحيد والتوكل , ومن طرق الشرك ووسائله ومن الخرافات المفسدة للعقل .

الأمر الثاني أن لا يستجيب لذلك الداعي ولكنه يؤثر في قلبه حزنا وهما وغما , فهذا وإن كان دون الأول لكنه شر وضرر على العبد , وضعف لقلبه وموهن لتوكله وربما أصابه مكروه فظن أنه من ذلك الأمر فقوي تطيره , وربما تدرج به إلى الأمر الأول , فهذا التفصيل يبين لك وجه كراهة الشارع للطيرة وذمها ووجه منافاتها للتوحيد والتوكل وينبغي لمن وجد شيئا من ذلك وخاف أن تغلبه الدواعي الطبيعية أن يجاهد نفسه على دفعها ويستعين الله على ذلك ولا يركن إليها بوجه ليندفع الشر عنه .

باب ما جاء في التنجيم

التنجيم نوعان :

نوع يسمى علم التأثير وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الكونية فهذا باطل ودعوى لمشاركة الله في علم الغيب الذي انفرد به , أو تصديق لمن ادعى ذلك وهذا ينافي التوحيد لما فيه من هذه الدعوى الباطلة ولما فيه من تعلق القلب بغير الله ولما فيه من فساد العقل , لأن سلوك الطرق الباطلة وتصديقها من مفسدات العقول والأديان .

النوع الثاني علم التسيير وهو الاستدلال بالشمس والقمر والكواكب على القبلة والأوقات والجهات فهذا النوع لا بأس به بل كثير منه نافع قد حث عليه الشارع إذا كان وسيلة إلى معرفة أوقات العبادات أو إلى الاهتداء به في الجهات , فيجب التفريق بين ما نهى عنه الشارع وحرمه وبين ما أباحه أو استحبه أو أوجبه , فالأول هو المنافي للتوحيد دون الثاني .

باب الاستسقاء بالنجوم

لما كان من التوحيد الاعتراف لله بتفرده بالنعم ودفع النقم وإضافتها إليه قولا واعترافا واستعانة بها على طاعته كان قول القائل : مطرنا بنوء كذا وكذا ينافي هذا المقصود أشد المنافاة لإضافة المطر إلى النوء , والواجب إضافة المطر وغيره من النعم إلى الله فإنه الذي تفضل بها على عباده , ثم الأنواء ليست من الأسباب لنزول المطر بوجه من الوجوه وإنما السبب عناية المولى ورحمته وحاجة العباد وسؤالهم لربهم بلسان الحال ولسان المقال فينزل عليهم الغيث بحكمته ورحمته بالوقت المناسب لحاجتهم وضرورتهم , فلا يتم توحيد العبد حتى يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة عليه وعلى جميع الخلق ويضيفها إليه ويستعين بها على عبادته وذكره وشكره , وهذا الموضع من محققات التوحيد وبه يعرف كامل الإيمان وناقصه .

باب قوله"ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله”

قول الله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ) [ سورة البقرة : الآية 165 ]

أصل التوحيد وروحه إخلاص المحبة لله وحده وهي أصل التأله والتعبد له بل هي حقيقة العبادة ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه , وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه .

ومن تفريعها وتكميلها الحب في الله والبغض في الله فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال , ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه : وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده .

أما اتخاذ أنداد من الخلق يحبهم كحب الله ويقدم طاعتهم على طاعة الله ويلهج بذكرهم ودعائهم فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله , وصاحب هذا الشرك قد انقطع قلبه من ولاية العزيز الحميد , وتعلق بغيره ممن لا يملك له شيئا , وهذا السبب الواهي الذي تعلق به المشركون سينقطع يوم القيامة أحوج ما يكون العبد لعمله وستنقلب هذه المودة والموالاة بغضا وعداوة .

واعلم أن أنواع المحبة ثلاثة أقسام :

الأول : محبة الله التي هي أصل الإيمان والتوحيد .

الثاني : المحبة في الله وهي محبة أنبياء الله ورسله وأتباعهم ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأزمنة والأمكنة وغيرها وهذه تابعة لمحبة الله ومكملة لها .

الثالث : محبة مع الله وهي محبة المشركين لآلهتهم وأندادهم من شجر وحجر وبشر وملك وغيرها وهي أصل الشرك وأساسه .

وهنا قسم رابع وهو المحبة الطبيعية التي تتبع ما يلائم العبد ويوافقه من طعام وشراب ونكاح ولباس وعشرة وغيرها , وهذه إذا كانت مباحة إن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب العبادات , وإن صدت عن ذلك وتوسل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات , وإلا بقيت من أقسام المباحات والله أعلم .

باب قول الله تعالى "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه”

قول الله تعالى : ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ) [ سورة آل عمران : الآية 175 ]

هذا الباب عقده المصنف رحمه الله لوجوب تعلق الخوف والخشية بالله وحده والنهي عن تعلقه بالمخلوقين وبيان أنه لا يتم التوحيد إلا بذلك : ولا بد في هذا الموضع من تفصيل يتضح به الأمر ويزول الاشتباه .

اعلم أن الخوف والخشية تارة يقع عبادة وتارة يقع طبيعة وعادة , وذلك بحسب أسبابه ومتعلماته , فإن كان الخوف والخشية خوف تأله وتعبد وتقرب بذلك الخوف إلى من يخافه وكان يدعو إلى طاعة باطنة وخوف سري يزجر عن معصية من يخافه كان تعلقه بالله من أعظم واجبات الإيمان , وتعلقه بغير الله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله , لأنه شرك في هذه العبادة التي هي من أعظم واجبات القلب غير الله مع الله , وربما زاد خوفه من غير الله على خوفه لله , وأيضا فمن خشي الله وحده على هذا الوجه فهو مخلص موحد , ومن خشي غيره فقد جعله لله ندا في الخشية كمن جعل لله ندا في المحبة وذلك كمن يخشى من صاحب القبر أن يوقع به مكروها أو يغضب عليه فيسلبه نعمة أو نحو ذلك مما هو واقع من عباد القبور .

وإن كان الخوف طبيعيا كمن يخشى من عدو أو سبع أو حية أو نحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري : فهذا النوع ليس عبادة وقد يوجد من كثير من المؤمنين ولا ينافي الإيمان , وهذا إذا كان خوفا محققا قد انعقدت أسباب الخوف فليس بمذموم , وإن كان خوفا وهميا كالخوف الذي ليس له سبب أصلا أو له سبب ضعيف , فهذا مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من الجبن فهو من الأخلاق الرذيلة , ولهذا كان الإيمان التام والتوكل والشجاعة تدفع هذا النوع , حتى أن خواص المؤمنين وأقوياءهم تنقلب المخاوف في حقهم أمنا وطمأنينة لقوة إيمانهم وشجاعتهم الشجاعة القلبية , وكمال توكلهم , ولهذا أتبعه بهذا الباب :

قول الله تعالى : ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ سورة المائدة : الآية 23 [

باب قول الله تعالى "وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين”

قول الله تعالى : ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ سورة المائدة : الآية 23 ]

التوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه , ويتم توحيده والعبد مضطر إلى التوكل على الله والاستعانة به في كل ما يريد فعله أو تركه من أمور دينه أو دنياه .

وحقيقة التوكل على الله أن يعلم العبد أن الأمر كله لله وأنه ما شاء الله كان : وما لم يشأ لم يكن , وأنه هو النافع الضار المعطي المانع , وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله , فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه , وفي دفع المضار , ويثق غاية الوثوق بربه في حصول مطلوبه وهو مع هذا باذل جهده في فعل الأسباب النافعة , فمتى استدام العبد هذا العلم وهذا الاعتماد والثقة فهو المتوكل على الله حقيقة , وليبشر بكفاية الله له ووعده للمتوكلين , ومتى علق ذلك بغير الله فهو شرك , ومن توكل على غير الله وتعلق به وكل إليه وخاب أمله .

باب قول الله تعالى "أفأمنوا مكر الله”

قول الله تعالى : ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ) [ سورة الأعراف : الآية 99 ]

مقصود الترجمة أنه يجب على العبد أن يكون خائفا من الله , راجيا له , راغبا راهبا : إن نظر إلى ذنوبه وعدل الله وشدة عقابه , خشي ربه وخافه , وإن نظر إلى فضله العام والخاص وعفوه الشامل رجا وطمع , إن وفق لطاعة رجا من ربه تمام النعمة بقبولها , وخاف من ردها بتقصيره في حقها . وإن ابتلي بمعصية رجا من ربه قبول توبته ومحوها وخشي بسبب ضعف التوبة والالتفات للذنب أن يعاقب عليها , وعند النعم والمسار يرجو الله دوامها والزيادة منها والتوفيق لشكرها , ويخشى بإخلاله بالشكر من سلبها , وعند المكاره والمصائب يرجو الله دفعها , وينتظر الفرج بحلها , وبرجو أيضا أن يثيبه الله عليها حين يقوم بوظيفة الصبر , ويخشى من اجتماع المصيبتين : فوات الأجر المحبوب وحصول الأمر المكروه إذا لم يوفق للقيام بالصبر الواجب , فالمؤمن الموحد في كل أحواله ملازم للخوف والرجاء , وهذا هو الواجب وهو النافع وبه تحصل السعادة , ويخشى على العبد من خلقين رذيلين ( أحدهما ) أن يستولي عليه الخوف حتى يقنط من رحمة الله وروحه . الثاني أن يتجاري به الرجاء حتى يأمن مكر الله وعقوبته , فمتى بلغت به الحال إلى هذا فقد ضيع واجب الخوف والرجاء اللذين هما من أكبر أصول التوحيد , وواجبات الإيمان .

وللقنوط من رحمة الله واليأس من روحه سببان محذوران ( أحدهما ) أن يسرف العبد على نفسه ويتجرأ على المحارم فيصر عليها ويصمم على الإقامة على المعصية ويقطع طمعه من رحمة الله لأجل أنه مقيم على الأسباب التي تمنع الرحمة فلا يزال كذلك حتى يصبر له هذا وصفا وخلقا لازما , وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد , ومتى وصل إلى هذا الحد لم يرج له خير إلا بتوبة نصوح وإقلاع قوي ( الثاني ) أن يقوى خوف العبد بما جنت يداه من الجرائم ويضعف علمه بما لله من واسع الرحمة والمغفرة ويظن بجهله أن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولو تاب وأناب , وتضعف إرادته , فييأس من الرحمة , وهذا من المحاذير الضارة الناشئ من ضعف علم العبد بربه وما له من الحقوق , ومن ضعف النفس وعجزها ومهانتها - فلو عرف هذا ربه ولم يخلد إلى الكسل : لعلم أن أدنى سعي يوصله إلى ربه وإلى رحمته وجوده وكرمه . وللأمن من مكر الله أيضا سببان مهلكان ( أحدهما ) إعراض العبد عن الدين وغفلته عن معرفة ربه وما له من الحقوق , وتهاونه بذلك فلا يزال معرضا غافلا مقصرا عن الواجبات , منهمكا في المحرمات حتى يضمحل خوف الله من قلبه ولا يبقى في قلبه من الإيمان شيء : لأن الإيمان يحمل على خوف الله وخوف عقابه الدنيوي والأخروى .

السبب الثاني أن يكون العبد عابدا جاهلا معجبا بنفسه مغرورا بعمله , فلا يزال به جهله حتى يدل بعمله ويزول الخوف عنه ويرى أن له عند الله المقامات العالية فيصير آمنا من مكر الله متكلا على نفسه الضعيفة المهينة , ومن ههنا يخذل ويحال بينه وبين التوفيق , إذ هو الذي جنى على نفسه , فبهذا التفصيل تعرف منافاة هذه الأمور للتوحيد .

باب من الإيمان الصبر على أقدار الله

أما الصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته فهو ظاهر لكل أحد أنهما من الإيمان , بل هما أساسه وأصله وفرعه فإن الإيمان كله صبر على ما يحبه الله وبرضاه ويقرب إليه وصبر عن محارم الله .

فإن الدين يدور على ثلاثة أصول : تصديق خبر الله ورسوله وامتثال أمر الله ورسوله , واجتناب نهيهما , فالصبر على أقدار الله المؤلمة داخل في هذا العموم ولكن خص بالذكر لشدة الحاجة إلى معرفته والعمل به , فإن العبد متى علم أن المصيبة بإذن الله وأن لله أتم الحكمة في تقديرها وله النعمة السابغة في تقديرها على العبد , رضي بقضاء الله وسلم لأمره وصبر على المكاره تقربا إلى الله ورجاء لثوابه وخوفا من عقابه واغتناما لأفضل الأخلاق , فاطمأن قلبه وقوي إيمانه وتوحيده .

باب ما جاء في الرياء

باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

باب ما جاء في الرياء ثم قال : باب : من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا اعلم أن الإخلاص لله أساس الدين وروح التوحيد والعبادة وهو أن يقصد العبد بعمله كله وجه الله وثوابه وفضله فيقوم بأصول الإيمان الستة وشرائع الإسلام الخمس وحقائق الإيمان التي هي الإحسان وبحقوق الله وحقوق عباده مكملا لها قاصدا بها وجه الله والدار الآخرة , لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا رياسة ولا دنيا وبذلك يتم إيمانه وتوحيده .

ومن أعظم ما ينافي هذا مراءاة الناس والعمل لأجل مدحهم وتعظيمهم أو العمل لأجل الدنيا , فهذا يقدح في الإخلاص والتوحيد .

واعلم أن الرياء فيه تفصيل : فإن كان الحامل للعبد على العمل قصد مراءاة الناس واستمر على هذا القصد الفاسد فعمله حابط وهو مشرك أصغر ويخشى أن يتذرع به إلى الشرك الأكبر , وإن كان الحامل على العمل إرادة وجه الله مع إرادة مراءاة الناس ولم يقلع عن الرياء بعمله فظاهر النصوص أيضا بطلان هذا العمل .

وإن كان الحامل للعبد على العمل وجه الله وحده ولكن عرض له الرياء في أثناء عمله فإن دفعه وخلص إخلاصه لله لم يضره , وإن ساكنه واطمأن إليه نقص العمل وحصل لصاحبه من ضعف الإيمان والإخلاص بحسب ما قام في قلبه من الرياء وتقاوم العمل لله وما خالطه من شائبة الرياء , والرياء آفة عظيمة ويحتاج إلى علاج شديد وتمرين النفس على الإخلاص ومجاهدتها في مدافعة خواطر الرياء والأغراض الضارة والاستعانة بالله على دفعها لعل الله يخلص إيمان العبد ويحقق توحيده .

وأما العمل لأجل الدنيا وتحصيل أعراضها وأغراضها فإن كانت إرادة العبد كلها لهذا المقصد ولم يكن له إرادة لوجه الله والدار الآخرة : فهذا ليس له في الآخرة من نصيب وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن , فإن المؤمن ولو كان ضعيف الإيمان لا بد أن يريد الله والدار الآخرة وأما من عمل العمل لوجه الله ولأجل الدنيا , والقصدان متساويان أو متقاربان فهذا وإن كان مؤمنا فإنه ناقص الإيمان والتوحيد والإخلاص وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص .

وأما من عمل لله وحده وأخلص في عمله إخلاصا تاما ولكنه يأخذ على عمله جعلا ومعلوما يستعين به على العمل والدين كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير وكالمجاهد الذي يترتب على جهاده غنيمة أو رزق وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده لكونه لم يرد بعمله الدنيا وإنما أراد الدين وقصد أن يكون ما حصل له معينا له على قيام الدين ولهذا جعل الله في الأموال الشرعية كالزكوات وأموال الفيء وغيرها جزءا كبيرا لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة كما قد عرف تفاصيل ذلك , فهذا التفصيل يبين لك حكم هذه المسألة كبيرة الشأن ويوجب لك أن تنزل الأمور منازلها والله أعلم .

باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا

باب قول الله تعالى "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك”

ووجه ما ذكره المصنف ظاهر فإن الرب والإله هو الذي له الحكم القدري , والحكم الشرعي , والحكم الجزائي , وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا شريك له , ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى بحيث تكون الطاعات كلها تبعا لطاعته , فإذا اتخذ العلماء والأمراء على هذا الوجه وجعل طاعتهم هي الأصل وطاعة الله ورسوله تبعا لها فقد اتخذهم أربابا من دون الله يتألههم ويحاكم إليهم ويقدم حكمهم على حكم الله ورسوله , وهذا هو الكفر بعينه فإن الحكم كله لله كما أن العبادة كلها لله , والواجب على كل أحد أن لا يتخذ غير الله حكما وأن يرد ما تنازع فيه الناس إلى الله ورسوله وبذلك يكون دين العبد كله لله وتوحيده خالصا لوجه الله , وكل من حاكم إلى غير حكم الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت وإن زعم أنه مؤمن فهو كاذب , فالإيمان لا يصح ولا يتم إلا بتحكيم الله ورسوله في أصول الدين وفروعه وفي كل الحقوق كما ذكره المصنف في الباب الآخر , فمن حاكم إلى غير الله ورسوله فقد اتخذ ذلك ربا وقد حاكم إلى الطاغوت .

باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات

أصل الإيمان وقاعدته التي ينبني عليها هو الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته , وكلما قوي علم العبد بذلك وإيمانه به وتعبد لله بذلك قوي توحيده , فإذا علم أن الله متوحد بصفات الكمال متفرد بالعظمة والجلال والجمال ليس له في كماله مثيل , أوجب له ذلك أن يعرف ويتحقق أنه هو الإله الحق وأن إلهية ما سواه باطلة , فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته فقد أتى بما يناقض التوحيد وينافيه , وذلك من شعب الكفر .

باب قول الله تعالى "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها”

قول الله تعالى : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) [ سورة النحل : الآية 83 ]

الواجب على الخلق إضافة النعم إلى الله قولا واعترافا كما تقدم وبذلك يتم التوحيد , فمن أنكر نعم الله بقلبه ولسانه فذلك كافر ليس معه من الدين شيء .

ومن أقر بقلبه أن النعم كلها من الله وحده وهو بلسانه تارة يضيفها إلى الله , وتارة يضيفها إلى نفسه وعمله وإلى سعي غيره كما هو جار على ألسنة كثير من الناس , فهذا يجب على العبد أن يتوب منه , وأن لا يضيف النعم إلا إلى موليها وأن يجاهد نفسه على ذلك , ولا يتحقق الإيمان والتوحيد إلا بإضافة النعم إلى الله قولا واعترافا , فإن الشكر الذي هو رأس الإيمان مبني على ثلاثة أركان : اعتراف القلب بنعم الله كلها عليه وعلى غيره والتحدث بها والثناء على الله بها والاستعانة بها على طاعة المنعم وعبادته والله أعلم .

باب قول الله تعالى "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون”

قول الله تعالى : ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ سورة البقرة : الآية 22 ]

الترجمة السابقة على قوله تعالى :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ) [ سورة البقرة : الآية 165 ]

يقصد بها الشرك الأكبر بأن يجعل لله ندا في العبادة والحب والخوف والرجاء وغيرها من العبادات - وهذه الترجمة المراد بها الشرك الأصغر كالشرك في الألفاظ كالحلف بغير الله وكالتشريك بين الله وبين خلقه في الألفاظ كلولا الله وفلان وهذا بالله وبك وكإضافة الأشياء ووقوعها لغير الله كلولا الحارس لأتانا اللصوص , ولولا الدواء الفلاني لهلكت , ولولا حذق فلان في المكسب الفلاني لما حصل , فكل هذا ينافي التوحيد , والواجب أن تضاف الأمور ووقوعها ونفع الأسباب إلى إرادة الله , وإلى الله ابتداء ويذكر مع ذلك مرتبة السبب ونفعه فيقول لولا الله ثم كذا ليعلم أن الأسباب مربوطة بقضاء الله وقدره , فلا يتم توحيد العبد حتى لا يجعل لله ندا في قلبه وقوله وفعله.

باب من لم يقنع في الحلف بالله

ويراد بهذا إذا توجهت اليمين على خصمك وهو معروف بالصدق أو ظاهره الخير والعدالة فيحلف فإنه يتعين عليك الرضا والقناعة بيمينه , لأنه ليس عندك يقين يعارض صدقه وما كان عليه المسلمون من تعظيم ربهم وإجلاله يوجب عليك أن ترضى بالحلف بالله وكذلك لو بذلت له اليمين بالله فلم يرض إلا بالحلف بالطلاق أو دعاء الخصم على نفسه بالعقوبات , فهو داخل في الوعيد لأن ذلك سوء أدب وترك لتعظيم الله , واستدراك على حكم الله ورسوله .

وأما من عرف منه الفجور والكذب وحلف على ما تيقن كذبه فيه فإنه لا يدخل تكذيبه في الوعيد للعلم بكذبه , وأنه ليس في قلبه من تعظيم الله ما يطمئن الناس إلى يمينه , فتعين إخراج هذا النوع من الوعيد لأن حالته متيقنة والله أعلم .

باب قول ما شاء الله وشئت

قول : ما شاء الله وشئت هذه الترجمة داخلة في الترجمة السابقة ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) [ سور البقرة : الآية 22 [

باب من سب الدهر فقد سب الله

وهذا واقع كثيرا في الجاهلية وتبعهم على هذا كثير من الفساق والمجان والحمقى إذا جرت تصاريف الدهر على خلاف مرادهم جعلوا يسبون الدهر والوقت وربما لعنوه . وهذا ناشئ من ضعف الدين ومن الحمق والجهل العظيم , فإن الدهر ليس عنده من الأمر شيء فإنه مدبر مصرف والتصاريف الواقعة فيه تدبير العزيز الحكيم , ففي الحقيقة يقع العيب والسب على مدبره , وكما أنه نقص في الدين فهو نقص في العقل , فيه تزداد المصائب ويعظم وقعها وتغلق باب الصبر الواجب , وهذا مناف للتوحيد : أما المؤمن فإنه يعلم أن التصاريف واقعة بقضاء الله وقدره وحكمته فلا يتعرض لعيب ما لم يعبه الله ولا رسوله بل يرضى بتدبير الله ويسلم لأمره وبذلك يتم توحيده وطمأنينته .

باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لذلك

وهاتان الترجمتان من فروع الباب السابق , وهو أنه يجب أن لا يجعل لله ند في النيات والأقوال والأفعال , فلا يسمى أحد باسم فيه نوع مشاركة لله في أسمائه وصفاته كقاضي القضاة وملك الملوك ونحوها , وحاكم الحكام , أو بأبي الحكم ونحوه , وكل هذا حفظ للتوحيد ولأسماء الله وصفاته , ودفع لوسائل الشرك حتى في الألفاظ التي يخشى أن يتدرج منها إلى أن يظن مشاركة أحد لله في شيء من خصائصه وحقوقه .

باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول أي فإن هذا مناف للإيمان بالكلية , ومخرج من الدين , لأن أصل الدين : الإيمان بالله وكتبه ورسله , ومن الإيمان تعظيم ذلك . ومن المعلوم أن الاستهزاء والهزل بشيء من هذه أشد من الكفر المجرد , لأن هذا كفر وزيادة احتقار وازدراء , فإن الكفار نوعان : معرضون ومعارضون , فالمعارض المحارب لله ورسوله , القادح بالله وبدينه ورسوله أغلظ كفرا وأعظم فسادا , والهازل بشيء منها من هذا النوع .

باب قول الله تعالى "ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته”

قول الله تعالى : ( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ) [ سورة فصلت : الآية 50 ]

مقصود هذه الترجمة أن كل من زعم أن ما أوتيه من النعم والرزق فهو بكده وحذقه وفطنته , أو أنه مستحق لذلك لما يظن له على الله من الحق , فإن هذا مناف للتوحيد لأن المؤمن حقا من يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة ويثني على الله بها , ويضيفها إلى فضله وإحسانه , ويستعين بها على طاعته , ولا يرى له حقا على الله , وإنما الحق كله لله , وأنه عبد محض من جميع الوجوه , فبهذا يتحقق الإيمان والتوحيد , وبضده يتحقق كفران النعم , والعجب بالنفس , والإدلال الذي هو من أعظم العيوب .

باب قول الله تعالى "فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما”

قول الله تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) [ سورة الأعراف : الآية 190 ]

مقصود الترجمة أن من أنعم الله عليهم بالأولاد , وكمل الله لهم النعمة بهم بأن جعلهم صالحين في أبدانهم , وتمام ذلك أن يصلحوا في دينهم , فعليهم أن يشكروا الله على إنعامه , وألا يعبدوا أولادهم لغير الله , أو يضيفوا النعم لغير الله , فإن ذلك كفران للنعم مناف للتوحيد .

باب قوله"ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه”

قول الله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) [ سورة الأعراف : الآية 179 ]

أصل التوحيد إثبات ما أثبته الله لنفسه : أو أثبته له رسوله من الأسماء الحسنى : ومعرفة ما احتوت عليه من المعاني الجليلة , والمعارف الجميلة , والتعبد لله بها ودعاؤه بها , فكل مطلب يطلبه العبد من ربه من أمور دينه ودنياه : فليتوسل إليه باسم مناسب له من أسماء الله الحسنى : فمن دعاه لحصول رزق فليسأله باسمه الرزاق , ولحصول رحمة ومغفرة فباسمه الرحيم الرحمن البر الكريم العفو الغفور التواب ونحو ذلك .

وأفضل من ذلك أن يدعوه بأسمائه وصفاته دعاء العبادة , وذلك باستحضار معاني الأسماء الحسنى وتحصيلها في القلوب حتى تتأثر القلوب بآثارها ومقتضياتها , وتمتلئ بأجل المعارف . فمثلا أسماء العظمة والكبرياء والمجد والجلال والهيبة تملأ القلب تعظيما لله وإجلالا له . وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة لله , وشوقا له وحمدا له وشكرا . وأسماء العز والحكمة والعلم والقدرة تملأ القلب خضوعا لله وخشوعا وانكسارا بين يديه وأسماء العلم والخبرة والإحاطة والمراقبة والمشاهدة تملأ القلب مراقبة لله في الحركات والسكنات , وحراسة للخواطر عن الأفكار الردية , والإرادات الفاسدة . وأسماء الغنى واللطف تملأ القلب افتقارا واضطرارا إليه والتفاتا إليه كل وقت في كل حال .

فهذه المعارف التي تحصل للقلوب بسبب معرفة العبد بأسمائه وصفاته وتعبده بها لله لا يحصل العبد في الدنيا أجل ولا أفضل ولا أكمل منها , وهي أفضل العطايا من الله لعبده , وهي روح التوحيد وروحه , ومن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخاص والإيمان الكامل , الذي لا يحصل إلا للكمل من الموحدين . وإثبات الأسماء والصفات هو الأصل لهذا المطلب الأعلى .

وأما الإلحاد في أسماء الله وصفاته فإنه ينافي هذا المقصد العظيم أعظم منافاة , والإلحاد أنواع إما أن ينفي الملحد معانيها كما تفعله الجهمية ومن تبعهم , وإما بتشبيهها بصفات المخلوقين كما يفعله المشبهة من الرافضة وغيرهم , وإما بتسمية المخلوقين بها كما يفعله المشركون حيث سموا اللات من الإله , والعزى من العزيز , ومناة من المنان , فاشتقوا لها من أسماء الله الحسنى فشبهوها بالله , ثم جعلوا لها من حقوق العبادة ما هو من حقوق الله الخاصة , فحقيقة الإلحاد في أسماء الله هو الميل بها عن مقصودها لفظا أو معنى , تصريحا أو تأويلا أو تحريفا . وكل ذلك مناف للتوحيد والإيمان .

باب لا يقال السلام على الله

لا يقال : السلام على الله

وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله ( فإن الله هو السلام ) فهو تعالى السلام السالم من كل عيب ونقص , وعن مماثلة أحد من خلقه له , وهو المسلم لعباده من الآفات والبليات , فالعباد لن يبلغوا ضره فيضروه , ولن يبلغوا نفعه فينفعوه , بل هم الفقراء إليه , المحتاجون إليه في جميع أحوالهم , وهو الغني الحميد .

باب لا يقول اللهم اغفر لي إن شئت

الأمور كلها وإن كانت بمشيئة الله وإرادته , فالمطالب الدينية كسؤال الرحمة المغفرة , والمطالب الدنيوية المعينة على الدين كسؤال العافية والرزق وتوابع ذلك , قد أمر العبد أن يسألها من ربه طلبا ملحا جازما , وهذا الطلب عين العبودية ومخها , ولا يتم ذلك إلا بالطلب الجازم الذي ليس فيه تعليق بالمشيئة , لأنه مأمور به , وهو خير محض لا ضرر فيه , والله تعالى لا يتعاظمه شيء .

وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين سؤال بعض المطالب المعينة التي لا يتحقق مصلحتها ومنفعتها , ولا يجزم أن حصولها خير للعبد . فالعبد يسأل ربه ويعلقه على اختيار ربه له أصلح الأمرين , كالدعاء المأثور " اللهم احيني إذا كانت الحياة خيرا لي , وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي " وكدعاء الاستخارة .

فافهم هذا الفرق اللطيف البديع بين طلب الأمور النافعة المعلوم نفعها وعدم ضررها , وأن الداعي يجزم بطلبها ولا يعلقها , وبين طلب الأمور التي لا يدري العبد عن عواقبها , ولا رجحان نفعها على ضررها , فالداعي يعلقها على اختيار ربه الذي أحاط بكل شيء علما وقدرة ورحمة ولطفا .

باب لا يقل عبدي وأمتي

وهذا على وجه الاستحباب أن يعدل العبد عن قول عبدي وأمتي إلى فتاي وفتاتي , تحفظا عن اللفظ الذي فيه إيهام ومحذور ولو على وجه بعيد , وليس حراما وإنما الأدب كمال التحفظ بالألفاظ الطيبة التي لا توهم محذورا بوجه , فإن الأدب في الألفاظ دليل على كمال الإخلاص خصوصا هذه الألفاظ التي هي أمس بهذا المقام .

باب لا يرد من سأل بالله

وباب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

الباب الأول خطاب للمسئول , وأنه إذا أدلى على الإنسان أحد بحاجة وتوسل إليه بأعظم الوسائل , وهو السؤال بالله , أن يجيبه احتراما وتعظيما لحق الله , وأداء لحق أخيه حيث أدلى بهذا السبب الأعظم .

والباب الثاني خطاب للسائل , وأن عليه أن يحترم أسماء الله وصفاته , وأن لا يسأل شيئا من المطالب الدنيوية بوجه الله , بل لا يسأل بوجهه إلا أهم المطالب وأعظم المقاصد وهي الجنة بما فيها من النعيم المقيم , ورضا الرب والنظر إلى وجهه الكريم والتلذذ بخطابه , فهذا المطلب الأسني هو الذي يسأل بوجه الله , وأما المطالب الدنيوية , والأمور الدنية وإن كان العبد لا يسألها إلا من ربه فإنه لا يسألها بوجهه .

باب ما جاء في " اللو “

اعلم أن استعمال العبد للفظة " لو " يقع على قسمين : مذموم ومحمود :

أما المذموم فأن يقع منه أو عليه أمر لا يحبه فيقول : لو أني فعلت كذا لكان كذا , فهذا من عمل الشيطان , لأن فيه محذورين ( أحدهما ) أنها تفتح عليه باب الندم والسخط والحزن الذي ينبغي له إغلاقه وليس فيها نفع ( الثاني ) أن في ذلك سوء أدب على الله وعلى قدره , فإن الأمور كلها , والحوادث دقيقها وجليلها بقضاء الله وقدره , وما وقع من الأمور فلا بد من وقوعه , ولا يمكن رده . فكان في قوله : لو كان كذا أو لو فعلت كذا كان كذا , نوع اعتراض ونوع ضعف إيمان بقضاء الله وقدره .

ولا ريب أن هذين الأمرين المحذورين لا يتم للعبد إيمان ولا توحيد إلا بتركهما .

وأما المحمود من ذلك فأن يقولها العبد تمنيا للخير , أو تعليما للعلم والخير كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدي ولأهللت بالعمرة ) وقوله في الرجل المتمني للخير ( لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان ) و ( لو صبر أخي موسى ليقص الله علينا من نبئهما ) , أي في قصته مع الخضر .

وكما أن " لو " إذا قالها للخير فهو محمود , فإذا قالها متمنيا للشر فهو مذموم , فاستعمال " لو " تكون بحسب الحال الحامل عليها : إن حمل عليها الضجر والحزن وضعف الإيمان بالقضاء والقدر أو تمني الشر كان مذموما , وإن حمل عليها الرغبة في الخير والإرشاد والتعليم كان محمودا , ولهذا جعل المصنف الترجمة محتملة للأمرين .

باب النهي عن سب الريح

وهذا نظير ما سبق في سب الدهر إلا أن ذلك الباب عام في سب جميع حوادث الدهر , وفي هذا خاص بالريح . ومع تحريمه فإنه حمق وضعف في العقل والرأي , فإن الريح مصرفة مدبرة بتدبير الله وتسخيره , فالساب لها يقع سبه على من صرفها , ولولا أن المتكلم بسب الريح لا يخطر هذا المعنى في قلبه غالبا لكان الأمر أفظع من ذلك , ولكن لا يكاد يخطر بقلب مسلم .

باب قول الله تعالى "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية”

قول الله تعالى : ( يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ) [ سورة آل عمران : الآية 154 ]

وذلك أنه لا يتم للعبد إيمان ولا توحيد حتى يعتقد جميع ما أخبر الله به من أسمائه وصفاته وكماله , وتصديقه بكل ما أخبر به وأنه يفعله وما وعد به من نصر الدين , وإحقاق الحق , وإبطال الباطل , فاعتقاد هذا من الإيمان وطمأنينة القلب بذلك من الإيمان : وكل ظن ينافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية النافية للتوحيد لأنها سوء ظن بالله : ونفي لكماله وتكذيب لخبره , وشك في وعده . والله أعلم .

باب ما جاء في منكر القدر

قد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان وأنه ما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن , فمن لم يؤمن بهذا فإنه ما آمن بالله حقيقة . فعلينا أن نؤمن بجميع مراتب القدر فنؤمن أن الله بكل شيء عليم , وأنه كتب في اللوح المحفوظ جميع ما كان وما يكون إلى يوم القيامة , وأن الأمور كلها بخلقه وقدرته وتدبيره .

ومن تمام الإيمان بالقدر العلم بأن الله لم يجبر العباد على خلاف ما يريدون بل جعلهم مختارين لطاعاتهم ومعاصيهم .

باب ما جاء في المصورين

وهذا من فروع الباب السابق أنه لا يحل أن يجعل لله ندا في النيات والأقوال والأفعال . والند هو المشابه ولو بوجه بعيد , فاتخاذ الصور الحيوانية تشبه بخلق الله , وكذب على الخلقة الإلهية , وتمويه وتزوير , فلذلك زجر الشارع عنه .

باب ما جاء في كثرة الحلف

أصل اليمين إنما شرعت تأكيدا للأمر المحلوف عليه , وتعظيما للخالق , ولهذا وجب أن لا يحلف إلا بالله , وكان الحلف بغيره من الشرك , ومن تمام هذا التعظيم أن لا يحلف بالله إلا صادقا . ومن تمام هذا التعظيم أن يحترم اسمه العظيم عن كثرة الحلف , فالكذب وكثرة الحلف تنافي التعظيم الذي هو روح التوحيد .

باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

المقصود من هذه الترجمة البعد والحذر من التعرض للأحوال التي يخشى منها نقض العهود والإخلال بها بعد ما يجعل للأعداء المعاهدين ذمة الله وذمة رسوله , فإنه متى وقع النقض في هذه الحال كان انتهاكا من المسلمين لذمة الله وذمة نبيه , وتركا لتعظيم الله وارتكابا لأكبر المفسدتين : كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم , وفي ذلك أيضا تهوين للدين والإسلام وتزهيد للكفار به : فإن الوفاء بالعهود خصوصا المؤكدة بأغلظ المواثيق من محاسن الإسلام الداعية للأعداء المنصفين إلى تفضيله واتباعه .

باب الإقسام على الله

باب لا يستشفع بالله على خلقه

وهذان الأمران من سوء الأدب في حق الله , وهو مناف للتوحيد . أما الإقسام على الله فهو في الغالب من باب العجب بالنفس والإدلال على الله وسوء الأدب معه , ولا يتم الإيمان حتى يسلم من ذلك كله .

وأما الاستشفاع بالله على خلقه فهو تعالى أعظم شأنا من أن يتوسل به إلى خلقه , لأن رتبة المتوسل به غالبا دون رتبة المتوسل إليه , وذلك من سوء الأدب مع الله , فيتعين تركه , فإن الشفعاء لا يشفعون عنده إلا بإذنه , وكلهم يخافونه فكيف يعكس الأمر فيجعل هو الشافع وهو الكبير العظيم الذي خضعت له الرقاب وذلت له الكائنات بأسرها .

باب ما جاء في حماية المصطفى حمى التوحيد وسده طرق الشرك

تقدم نظير هذه الترجمة وأعادها المصنف اهتماما بالمقام فإن التوحيد لا يتم ولايحفظ ويحصن إلا باجتناب جميع الطرق المفضية إلى الشرك , والفرق بين البابين أن الأول فيه حماية التوحيد بسد الطرق الفعلية , وهذا الباب فيه حمايته وسده بالتأدب والتحفظ بالأقوال , فكل قول يفضي إلى الغلو الذي يخشى منه الوقوع في الشرك فإنه يتعين اجتنابه , ولا يتم التوحيد إلا بتركه .

والحاصل أن تمام التوحيد بالقيام بشروطه وأركانه ومكملاته ومحققاته : وباجتناب نواقضه ومنقصاته ظاهرا وباطنا , قولا وفعلا وإرادة واعتقادا . وقد مضى من التفاصيل ما يوضح ذلك .

باب قول الله تعالى "وما قدروا الله حق قدره”

قول الله تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) [ سورة الأنعام : الآية 91 ]

ختم المصنف , رحمه الله , كتابه بهذه الترجمة , وذكر النصوص الدالة على عظمة الرب العظيم وكبريائه , ومجده وجلاله , وخضوع المخلوقات بأسرها لعزه , لأن هذه النعوت العظيمة والأوصاف الكاملة أكبر الأدلة والبراهين على أنه المعبود وحده , المحمود وجده , الذي يجب أن يبذل له غاية الذل والتعظيم , وغاية الحب والتأله , وأنه الحق وما سواه باطل . وهذا حقيقة التوحيد ولبه وروحه , وسر الإخلاص فنسأل الله أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته , والإنابة إليه . إنه جواد كريم .

خاتمة

وهذا آخر التعليق المختصر على كتاب التوحيد وتوضيح مقاصده , وقد حوى من غرر مسائل التوحيد . ومن التقاسيم والتفصيلات النافعة ما لا يستغني عنه الراغبون في هذا الفن الذي هو أصل الأصول وبه تقوم العلوم كلها , والحمد لله على تيسيره ومنته . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .