شخصيات تاريخية

المعلم القاضي السياسي الفقيه المفسر الأديب

في العصر العباسي، إبانَ أُفولِ القرن الرابع الهجري، كان هناك صبيٌ لم يتجاوز الرابعة من عمره، يساعد أبيه في بيع ماء الورد، الذي كان يصنعه أباه، فيقضي نهاره في شوارع البصرة أمام المساجد، ليبيع ماء الورد لطلاب العلم، وروادِ المدارس، مقابل دراهم معدودة تُعينهم على مصاعب الحياة. بيد أن تلك الأسرة كانت تهتم بالعلم، فأرسلت ذلك الصبيُ إلى دور العلم ليأخذ نصيبه منه، فتتلمذ على يد (علي أبي القاسم الصيمري)، ثم ارتحل إلى بغداد، وأخذ الفقه عن شيخها أبي حامد الإسفرايني.

فتلك الفترة شهدت تطوراً كبيراً، وتبدلاً خطيراً في الكيان السياسي للدولة الإسلامية. انقسامات سياسية وصراعات مذهبية، فأضحت دولاً متعددة متنافرة، دان بعضها اسمياً للخليفة العباسي في بغداد، واستقلَّ بعضها الآخر وانفصل عن الخلافة.

ولكن، بالرغم من الاضطراب السياسي وضعف الخلافة، إلا أن المساجد كظت بحلقات العلم، وازدهرت الحياة الفكرية، بتشجيع من ملوك وأمراء هذه الدول التي باتت تتنافس فيما بينها في تقريب العلماء والأدباء، وإكرامهم وتزيين بلاطهم بهم. فحفلت هذه الفترة بحركة علمية ناشطة شملت العلوم المختلفة: من رياضيات وجغرافية، وفلك وطب، وفقه وتفسير وغير ذلك، وظهر فيها كثير من العلماء البارعين الذين جمعوا ثمار الثقافات المختلفة.

ومن قلب تلك الأحداث كبُرَ ذلك الصبي، واشتد عوده، فبعد أن انتهل من تلك العلوم، واستشعر ما يمر به الإنسان في تلك الحقبة، شرع في تصنيف كتبه، وأصبح من قادة الفكر وحملة مشاعل العلم والنور، ومن أبرز رجال السياسة، وقاضيًا من أعدل القضاة، وأديبًا ناضجًا ومؤلفًا عظيمًا في شتى فروع ثقافة أمته ...

إنه (أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الشافعي) الشهير بالماوردي نسبة إلى بيع ماء الورد ... ولد عام 364 هـ في مدينة البصرة.

بعد أن أتم تحصيله بدأ التدريس والتأليف، ثم اختير للقضاء في بلدان شتى، تولى القضاء نواحي نيسابور، ولأول مرة في التاريخ الإسلامي لقب الماوردي أقضى القضاة عام 429 هـ ،(بعد أن تجاوز الستين من عمره) واختير سفيراً بين الخليفة وبني بويَة، ثم بين الخليفة والسلاجقة.

عُرف الماوردي بسعة أفقه، وغزارة علمه وعمق ثقافته، كان عالماً متمكناً في علوم السياسة والاجتماع، ومفسراً، وأديباً ذا أسلوب متميز، بصيراً بالعربية والنحو. له افتنان عجيب، وابتكار في التأليف، يُشهد له بالسَّبق في المعرفة بالعلوم الإسلامية وغير الإسلامية.

كان حكيماً وقوراً أديباً، لم ير أصحابه ذراعه يوماً من الدهر من شهدة تحرزه وأدبه.

وقيل في صفاته أنه: صاحب ذاكرة واعية وبديهة حاضرة وعقل مستقيم، متزن في القول والعمل، متواضع شديد الحياء له هيبة ووقار، واتصف بالحلم وضبط النفس، والإخلاص.

ترك الماوردي عدداً من المؤلفات، ذكرت كتب التراجم منها اثني عشر مؤلفاً، وقد تكون أكثر من ذلك، طبع أكثرها، وما زال بعضها مخطوطاً، وبعضها الآخر مفقوداً.

من مواقفه بالصدع بالحق: عندما أمر الخليفة العباسي أن يلقب (جلال الدين بن بُويَه) بلقب شاهنشاه الأعظم ملك الملوك. اختلف الفقهاء ما بين موافق، وغير موافق؛ لأن هذا اللقب لا يجوز إلا في حق الله. وانحاز عوام الناس إلى رأي الفقهاء المانعين، وانتظر الجميع رأي القاضي الماوردي الذي كانت تربطه بجلال الدين البويهي صلة ود وصداقة.

فظهرت شجاعة الماوردي، فهو لا يخاف في الله لومة لائم، فانحاز إلى جانب الحق. وضرب مثلاً فريدًا في الثبات على الحق، فأفتى بالمنع. فأعجب جلال الدين بصدقه وشجاعته فقال له:(أنا أعلم أنك لو حابيت أحدًا لحابيتني، لما بيني وبينك من أواصر المحبة، وما حملك إلا الدين، فزاد بذلك محلك عندي(.

ويمكن تقسيم كتب الإمام الماوردي إلى ثلاث مجموعات:

الكتب الدينية:

1/ تفسير القرآن، ويسمى (النُّكَت والعيون)

2/ الحاوي الكبير، موسوعة فقهية ضخمة في فقه الشافعية، جاء في أربعة آلاف ورقة.

3/ الإقناع، مختصر الحاوي الكبير، في أربعين ورقة.

4/ كتاب البيوع، مازال مجهولاً لم يصل إلينا.

5/ أعلام النبوة، يبحث في أمارات النبوة.

كتبه في السياسة والإدارة والاجتماع:

6/ الأحكام السلطانية والولايات الدينية، من أشهر كتبه، أشبه ما يكون دستوراً للدولة.

7/ نصيحة الملوك.

8/ قوانين الوزارة وسياسة الملك، طبع بمسمى أدب الوزير.

9/ تسهيل النظر وتعجيل الظفر، في أخلاق الملك وسياسة الملك.

كتبه في الأدب واللغة والنحو:

10/ أدب الدنيا والدين، في تربية وتهذيب النفس للدنيا والآخرة.

11/ كتاب الأمثال والحكم، تضمن ثلاثمائة حديث، وثلاثمائة حكمة، وثلاثمائة بيت شعر.

12/ كتاب النحو، عُرف عنه لكنه من الكتب المفقودة التي لم تصل إلينا.

من أقواله:

1/ أعظم الأمور قدراً وأعمها نفعاً ورفداً ما استقام به الدين والدنيا وأنتظم به صلاح الآخرة والأولى؛ لأنه باستقامة الدين تصح العبادة وبصلاح الدنيا تتم السعادة.

2/ النعم زائرة، وأنها لا محالة زائلة، والسرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر من فراقها إذا أدبرت.

3/ قيل للماوردي: كيف ترى الدنيا ؟ فقال: شغلني توقع بلائها عن الفرح برخائها.

4/ ينبغي ألا تضيع صحة جسمك وفراغ وقتك بالتقصير في طاعة ربك والثقة بسالف عملك، واجعل الاجتهاد غنيمة صحتك، والعمل فرصة فراغك، فليس كل الزمان مسعداً ولا ما فات مستدركاً.

5/ الكذب جماع كل شر، وأصل كل ذم، لسوء عواقبه وخبث نتائجه، لأنه ينتج النميمة، والنميمة تنتج البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن ولا راحة، ولذلك قيل: من قل صدقه قل صديقه.

6/ الحياء في الإنسان يكون من ثلاثة أوجه: حياؤه من الله بامتثال أوامره والكف عن زواجره، حياؤه من الناس بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح، حياؤه من نفسه بالعفة وصيانة الخلوات، فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كملت فيه أسباب الخير وانتفت عنه أسباب الشر.

آرائه في التربية:

1/ يؤكد على أهمية التكليف لأن فيه وعن طريقه يعد الإنسان للدنيا والآخرة، وتأتى أهمية تربية الإنسان في هذا الإطار ، وأهمية التربية العقلية، وأهمية قيام التربية على منهج أصول الشرع و أحكامه وتكاليفه.

2/ يرى أن كل العلوم شريفة؛ لأنها تتكامل لتحقيق السعادة الإنسانية، وأهمها العلوم الدينية، ومع هذا فالتخصص مهم و حسن.

3/ مراعاة الفروق الفردية، وأهمية التشويق والتدرج في طلب العلم.

4/ حرية الفكر وترك التقليد.

5/ يرى أن التربية هي التي تضع المجتمع المتجانس.

6/ يرى أن السعادة تكون في طلب العلم النافع.

وفي منتصف القرن الخامس الهجري في سنة 450هـ توفي العالم الفقيه والقاضي الشريف، السياسي الفذ، الأديب الأريب، صاحب التصانيف والتآليف.

غفر الله له وجزاه الله عنا خير الجزاء