من البديهي أن نبدأ بتعريف ماهية العلة في اصطلاح المحدثين، وماذا يعنون بها، وما مثالها ؟؟
وهي تقدمة نظرية لا مفر منها، ولكني سأحاول اختصارها قدر الإمكان والتركيز علي النواحي العملية، بغرض اكتساب ملكة النظر في العلة، ومعرفة هل هذه العلة تقدح في صحة الحديث أم لا ؟!
وعلم علل الحديث غير علم الجرح والتعديل، لكنهما متداخلان إلي درجة يصعب معها الفصل بينهما، فكلاهما ُبنِيَت بعض جزئياته علي العلم الآخر .
ولبيان هذا التداخل سنضرب مثالاً واحداً، ونترك مزيد البيان إلي قسم الأمثلة العملية علي العلة .
والمثال الذي نختاره هو حديث وائل بن حجر رضي الله عنه من طريق زائدة قال: نا عاصم بن كليب، قال: حدثني أبي أن وائل بن حجر أخبره قال: قلت: لأنظرن إلى رسول الله r كيف يصلي، فنظرت إليه فقام فكبر ورفع يديه، حتى حاذتا بأذنيه، ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد، ثم لما أراد أن يركع رفع يديه مثلها، قال: ووضع يديه على ركبتيه ثم لما رفع رأسه رفع يديه مثلها، ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه، ثم قعد وافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض اثنتين من أصابعه وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها .
والشاهد الذي نريده هاهنا أن زائدة بن قدامة رحمه الله تعالي روي هذا الحديث بلفظة ( يحركها )، أي أن رسول الله صلي اله عليه وسلم كان إذا جلس للتشهد يحرك إصبعه وهو يشير بها .
لكن هذا الحديث لم يتفرد به زائدة بن قدامة رحمه الله، وإنما شاركه فيه كثير من الحفاظ الأثبات، وكلهم خالفوه في هذه اللفظة، فقالوا: ( يشير بها ) ولم يقولوا لفظة: يحركها .
فرواه: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وبشر بن المفضل، وعبد الله بن إدريس، وغيرهم عن عاصم بن كليب، عن أبيه عن وائل بن حجر قال رأيت النبي r يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا جلس أضجع اليسرى ونصب اليمنى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ويده اليمنى على فخذه اليمنى وعقد اثنتين: الوسطى والإبهام، وأشار بالسبابة .
وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، كل واحد منهم منفرداً أثبت وأوثق من زائدة بن قدامة وأحفظ رحمهم الله تعالي جميعاً .
فلو خالف سفيان الثوري وحده زائدة، لكان القول قول سفيان .
ولو خالف شعبة وحده زائدة، لكان القول قول شعبة .
ولو خالف سفيان بن عيينة وحده زائدة، لكان القول قول سفيان بن عيينة .
فكيف وقد خالفوه مجتمعين، ومعهم أيضاً بشر المفضل وعبد الله بن إدريس وغيرهم ؟؟
والذي نريد أن نقوله هنا أن قولنا: سفيان أوثق من زائدة وأثبت، يعني وبهدوء أن علم الجرح والتعديل متداخل مع علم علل الحديث، وإلا فكيف حكمنا أن هذا أرجح من ذاك ؟، فهذا لا يكون إلا بسبر حديث كل منهم ومعرفة نوعية الأخطاء التي يقع فيها وكميتها ونسبتها بالمقارنة بمروياته .
وبصورة أيسر، وبفرض أن نسبة خطأ شعبة في الرواية نصف في الألف مثلاً، وأن هذه النسبة ليست في المتون بل في أسماء الرواة ،
وبفرض أن نسبة خطأ زائدة في الرواية واحد بالمائة مثلاً، وأن هذه النسبة تقع في المتن والسند ،
فماذا سيكون الراجح في هذه اللفظة ؟
ما رواه شعبة ؟، أو ما رواه زائدة ؟؟
فهذا ما قصدناه من قولنا أن علم الجرح والتعديل متداخل مع علم علل الحديث، فالترجيح هاهنا يعتمد علي معرفة قدر كل راو وصوابه وخطأه، وهذا من علم الجرح والتعديل .
وللفائدة أيضاً فإن علم الجرح والتعديل يعتمد علي علم علل الحديث بصورة لا تخفي علي ممارس للفن، فما علمنا أن خطأ شعبة عامته يكون في الأسماء، ولا يكون في المتون إلا قليلاً إلا بالنظر في مروياته ومقارنتها بمرويات الآخرين، ومن ثم وصلنا إلي هذه النتيجة .
ولا يخفي أن جمع المرويات ومقارنتها هو من علم علل الحديث، كما لا يخفي أن هذه هي النقطة المحورية الأساسية في معرفة مقادير الرواة جرحاً وتعديلاً .
أولاً تعريف العلة:
قال الحاكم في المعرفة:
اعلم أن معرفة علل الحديث من أجل علوم الحديث وأدقها وأشرفها وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب .
وهي عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه ،
فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهرة السلامة منها ،
ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر ،
ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي ،
وبمخالفة غيره له ،
مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم أو غير ذلك ،
بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به ،
أو يتردد فيتوقف فيه ،
وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه ،
وكثيراً ما يعللون الموصول بالمرسل مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول ويجيء أيضا بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول، ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه .
وقال الخطيب أبو بكر:
السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط .
وروى عن علي بن المديني قال: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه .
ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث وهو الأكثر ،
وقد تقع في متنه ،
ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعاً كما في التعليل بالإرسال والوقف ،
وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن ،
ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف المانعة من العمل به على ما هو مقتضي لفظ العلة في الأصل ،
ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح ،
وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث ،
ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط حتى قال : من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول ،
كما قال بعضهم من الصحيح ما هو صحيح شاذ والله أعلم .