نبذة عن تاريخ الحديث الحسن
لفظة الحسن من الألفاظ التي تواترت عن أئمة الحديث منذ القدم ، فوصفوا بها الأحاديث في مواضع كثيرة من كتبهم ، أو كتب من دون علمهم ، رحمهم الله تعالي ورضي عنهم .
فتراها في كلام يحيي بن سعيد ، وعلي بن المديني ، وأحمد ، والبخاري ، والترمذي ، وأبو حاتم ، وغيرهم من أئمة الحديث رحمهم الله ، وكلهم قد أكثروا من استخدامها وكلامهم مدون في كتبهم ، أو كتب طلابهم ، إلا ما كان من كلام علي بن المديني رحمه الله فلم نراها من كلامه إلا في موضع واحد وهو كتاب العلل له رحمه الله وغفر له ، وأما كتبه الأخرى فلم يصلنا منها شيء ، وكذا من نقل عن علي بن المديني رحمه الله فلا أظنه قد اطلع علي أكثر من هذا الموضع الواحد والله أعلم .
وراجع ما قيل في تلف مسنده المعلل في حياته وعدم نشاطه لجمعه مرة أخري فهو يدل علي المطلوب بوضوح ومن كان عنده فضل علم في هذا فلا يبخل به علينا وله جزيل الثواب من الله إن شاء الله تعالي .
وتكرار هذه الكلمة على ألسنتهم بهذا الكم الكبير يدل على أن الحديث الحسن له أصل عندهم و إلا لم يكن لذكر هذه اللفظة معنى .
وهذا المعنى من المؤكد أنه غير الصحيح والضعيف ، إذ أنهما اصطلاحان قائمان بذاتهما ، مشهوران علي السنة أهل العلم ، وقد ذكرهما غير واحد في كلامه ، أو إجاباته علي سؤالات أو في تصانيفه .
قال ابن تيمية :
إثبات الحسن اصطلاح للترمذي ، وغير الترمذي من أهل الحديث ليس عندهم إلا صحيح وضعيف .
راجع : فتاوي ابن تيمية والموقظة للذهبي للمزيد .
وهذا الكلام الذي قاله ابن تيمية رحمه الله تعالي عندنا أخطأ فيه وأصاب .
فكون إثبات الحسن اصطلاح للترمذي ، فهذا لا غبار عليه .
أما قوله : إن غير الترمذي من أهل الحديث ليس عندهم إلا صحيح وضعيف ، فهذا منتقد عندنا من أوجه :
أ ـ أن هذه الكلمة ذكرت كثيراً على ألسنة شيوخ الترمذي وشيوخ شيوخه وذلك قبل وضع الترمذي لهذا الحد .
ب ـ أن ذكر هذه الكلمة على ألسنة أئمة هذا الفن يعني أن لها مدلول ومعنى عندهم ، وهذا المعنى موجود كواقع بين المشتغلين بالحديث من قبل وضع الترمذي لتعريفه .
ج ـ لو لم يكن لها مدلول ثابت ومعين عند أئمة هذا الفن قبل الترمذي رحمهم الله ، لكان استخدامهم لها بهذه الكثرة تخبط وعشوائية علت مداركهم وهممهم عنها .
وعلى هذا نستطيع أن نقول :
أن التعريف كان موجوداً قبل جامع الترمذي ومتعارف عليه بين أئمة هذا الفن الشريف ويصفون به الكثير من الأحاديث ولكن أحداً منهم لم يدونه في تصانيفه ، حتي جاء الترمذي رحمه الله فدونه في تقدمة جامعه ، فكان أول من دونه لا أول من حده والله أعلم .
وأظن أن ابن تيمية رحمه الله بني قوله هذا علي اختلاف المواضع التي أطلقوا فيها الحسن .
لأنهم أطلقوه تارة علي الصحيح ، وتارة أخري علي الضعيف ، وثالثة علي المعلول ، وهذا كله مدون في كتبهم وأقوالهم التي وصلتنا ، وهذا كله يدخل في المعني الذي اصطلح عليه لمسمي الحسن في زمن ابن تيمية ومن بعده ،
وبالتحديد منذ وضع ابن الصلاح تعريفه الذي سنذكره قريباً إن شاء الله تعالي ، وذهب الكثير من أهل العلم إلي كونهم يعنون الحسن اللغوي تبعاً لهذا الفهم ، لذا قال رحمه الله : وغير الترمذي من أهل الحديث ليس عندهم إلا صحيح وضعيف .
وسنبدأ في عرض تعريفات الحديث الحسن بشقيه والكلام على كل منها وشرحها شرحاً وافياًً بأذن الله .
دراسة أهم تعريفات الحديث الحسن
إن أول دراسة أي أمر من الأمور يجب أن تبدأ بمعرفة ماهية هذا الأمر وكينونته ، وهذه الماهية تتركب من عدة قيود يجمعها تعريف ، فإذا دخل أمر من الأمور محل البحث وانحصر داخل تلك القيود المحددة ، سمي بالإسم المخصوص لها ، والتي تعبر بمجموعها عن ماهيته وكينونته .
فإذا قلنا مثلاً أن الحديث الصحيح هو : ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلي منتهاه من غير شذوذ ولا علة .
فقيود التعريف هي :
ـ اتصال السند ، والاتصال ضد الإنقطاع .
ـ وعدالة الرواة ، أي ليس فيهم فاسق ولا صاحب بدعة مكفرة ولا مفسقة ولا متهم في دينه .
ـ وضبط الرواة ، وهو درجة حفظ كل منهم من حيث الإتقان والأخطاء التي وقع فيها أثناء روايته للأحاديث .
ـ إنعدام الشذوذ ، وهو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه أو لمجموع الثقات الذين يروون معه نفس المتن .
ـ إنعدام العلة ، كالخلاف في الوصل والإرسال ، والوقف والرفع ، والاضطراب في الأسانيد أو المتون .
فهذه خمس قيود لهذا التعريف ، إذا توفرت هذه القيود في سند من الأسانيد سمي السند : سندٌ صحيحٌ .
وبالضرورة إذا أطلقنا الصحة علي أي سند من الأسانيد علم بالضرورة أن هذه القيود الخمس توفرت في هذا السند الموصوف بالصحة .
فالقيود إذا توفرت أطلقنا المسمي ، وإذا أطلقنا المسمي علمنا يقيناً بتوفر هذه القيود في نظر من أطلق الوصف ، وهو واضح ولله الحمد .
قال الذهبي في الموقظة :
الحسن : وفي تحرير معناه اضطراب .
ثم ذكر تعريف الخطابي قبل تعريف الترمذي .
ولكن رأينا أن نذكر التعريفات الأول فالذي يليه ثم الذي يليه وهكذا تبعاً للترتيب الزمني .
ولكون الترمذي أول من دون تعريفاً للحديث الحسن من أهل الحديث كما قدمنا .
أولاً : تعريف الترمذي رحمه الله :
قال : فكل حديث ليس في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون شاذاً ويروي من غير وجه فهو عندنا حديث حسن .
قال الذهبي :
وهذا مشكل ، علي ما يقول فيه حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقول الترمذي : هذا حديث حسن صحيح عليه إشكال ، بأن الحسن قاصر عن الصحيح ففي الجمع بين السمتين لحديث واحد مجاذبة .
وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبداً وهو أن ذلك راجع إلي الإسناد ، فيكون قد روى بإسناد حسن وبإسناد صحيح .
وحينئذ لو قيل : حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه لبطل هذا الجواب .
وحقيقة ذلك_أن لو كان كذلك_ أن يقال : حديث حسن وصحيح ، فكيف العمل في حديث يقول فيه : حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه ؟
فهذا يبطل قول من قال : أن يكون ذلك بإسنادين .
نقول : وهذا واضح إذ شرطه في الحسن عنده هو : أن يروي الحديث من غير وجه ، وهذا يخالف وصفه للحديث بالغرابة ، فالغرابة عبارة عن تفرد في طبقة من طبقات السند .
قال ابن الصلاح في علوم الحديث :
كل هذا مستبهم لا يشفي الغليل ، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن من الصحيح .
فكأن ابن الصلاح يقول : إن الشروط التي وضعها الترمذى للحسن الذي يعرفه ابن الصلاح تنطبق علي نوع غيره من الحديث وهو الصحيح .
لأنه أيضاً لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون شاذاً وربما روى من غير وجه ، فهو عندئذٍ داخل في تعريف الترمذى بلا ريب .
نقول : والضعيف أيضا قد تنطبق عليه هذه الشروط أيضا فيدخل في تعريف الترمذي أيضاً .
ومن هذا يظهر أن إشكالية تعريف الترمذى رحمه الله تكمن في أمرين :
الأول : أنه لم يفصل الحسن عن غيره .
الثاني : أن الاصطلاحات المركبة التى استخدمها الترمذي في جامعه مشكلة في ضوء تعريفه للحسن كقوله : حسن غريب ، وحسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
ملاحظة :
الترمذى رحمه الله لم يشترط في تعريفه السلامة من العلة ، بخلاف المتأخرين من المحدثين الذين اشترطوا السلامة من العلة لإطلاق وصف الحسن علي الأحاديث ، ومن المعلوم يقيناً أن الأحاديث التي تكون في مرتبة الاحتجاج عند المحدثين المتقدمين خاصة يشترطون فيها مع الصحة السلامة من العلة مع باقي الشروط ، فكيف بالأحاديث التى نزلت عن درجة الصحة ؟
ولهذا فإن المتأخرين اشترطوا للاحتجاج بالحديث الحسن عندهم – لذاته أو لغيره- السلامة من العلة وهذا يختلف عن منهج المتقدمين في هذا الأمر ، الذين وصفوا الكثير من الأحاديث المعلولة بالحسن ، وسيأتي وصفهم بالحسن لأحاديث معلولة وضعيفة .
ملاحظة أخري :
الترمذي رحمه الله لم يذكر أن هذا الحد قد وضع للفصل بين الصحيح والضعيف من جهة وما سماه بالحسن من جهة أخري ، وبتعبير آخر أنه رحمه الله لم يقل أن الحديث ثلاث أقسام : صحيح وحسن وضعيف ، وأن الأول والثاني يحتج بهما من دون الضعيف ، بل منتهي ما ذكره رحمه الله أن الحديث الذي تتوفر فيه هذه الشـروط يوصف بكونه حديث حسن ، ومن فعله في جامعه أطلق الحسن علي الصحيح والضعيف والمعلول ، والذي توفرت فيه هذه الشروط التي حددها رحمه الله ، أما ماهية الحُسن عنده وعند المتقدمين رحمهم الله تعالي ، فسيأتي بيانها في مبحث قادم ، وهو : تحقيق معني الحسن عند المتقدمين إن شاء الله تعالي .
ثانيا:ً تعريف الخطابي :
قال : الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء .
قال الذهبي :
وهذه عبارة ليست علي صناعة الحدود والتعريفات ، إذ الصحيح ينطبق ذلك عليه أيضاً ، لكن مراده مما لم يبلغ درجة الصحيح .
وقول الذهبي رحمه الله صحيح سديد سوي قوله : لكن مراده مما لم يبلغ درجة الصحيح ، فإن هذا القول يحتاج إلي دليل ، وهو مبني فقط علي ما تصوره الذهبي وغيره من المتأخرين من كون الوصف بالحسن درجة من درجات صحة الحديث ، وليس هذا بصحيح كما ستري ، ولذا فإن الخطابي رحمه الله قال ما أراده ، ولكي نجزم بأنه أراد معني غير ذلك نحتاج لدليل من كلام الخطابي أيضاً ، والله الموفق .
قال ابن الصلاح في علوم الحديث :
كل هذا مستبهم لا يشفي الغليل ، وليس فيما ذكره الترمذى والخطابي ما يفصل الحسن من الصحيح .
نقول : وربما دخل الضعيف في هذا أيضاً ، وهذا واضح لمن تأمل وعندئذ يدخل الضعيف في الحسن .
من هنا تظهر إشكالية تعريف الخطابي رحمه الله وهي :
ـ أنه لم يفصل الحسن عن غيره .
ونلاحظ أن هذا مشترك بين تعريف الترمذى والخطابي رحمهما الله ، وهذا نفهم منه ببساطة أن معناهما متقارب جداً إن لم يكن واحد .
وهذا لأن ما أنحصر داخل قيود التعريفين واحد ، فدل هذا علي أن قيود التعريفين معناهما واحد ، أو متقارب إلي حد كبير ، وإن اختلفت ألفاظهما بعض الشيء .
ثالثا:ً تعريف ابن الجوزي رحمه الله :
قال : هو ما فيه ضعف محتمل ويجوز العمل به .
قال الذهبي :
وهذا أيضاً ليس مضبوطاً بضابط يتميز به الضعف المحتمل .
وذكره ابن الصلاح معناه في مقدمته ولم يعلق عليه .
وهو كما قال الذهبي رحمه الله تعالي ، ليس مضبوطاً بما يميز هذا الضعف المحتمل من الضعف الذي لا يمكن احتماله ، فهو هلامي إلي حد كبير يستحيل معه ضبط الحد الحقيقي .
فكأن مشكلة هذا التعريف هي كونه :
ـ أولاً : جعل الأمر نسبياً .
ـ ثانياً : لم يحدد معيار لهذا الضعف المحتمل .
ـ ثالثاً : لم يبين كيف يمكن الاحتجاج بحديث ضعفه محتمل وتحت أي قاعدة يندرج هذا ؟
ملاحظة هامة :
لاحظ أن النقد الموجه لهذا التعريف يختلف عن النقد الموجه لسابقيه ، مما يدل علي التفاوت في المضمون بينهما ، وهذا واضح من المقارنة بين لفظ هذا التعريف وبين اللفظين السابقين ، فكأن هذا التعريف كان هو الخطوة الأولي في الجنوح بمفهوم الحديث الحسن إلي المفهوم الذي عليه جمهور المحدثين الآن ، فتنبه .
رابعاً : تعريف ابن الصلاح :
قال : إن الحسن قسمان :
أحدهما : ما لا يخلو سنده من مستور ، لم تتحقق أهليته ، غير أنه ليس مغفلاً ، ولا خطاءً فيما يرويه ، ولا هو متهم بالكذب في الحديث ، أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث، ولا سبب آخر مفسق ، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف ، بأن روى مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر ، حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله ، أو بما له من شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه ، فيخـرج بذلك عـن أن يكون شاذاً ومنكراً ، وكلام الترمذي على هذا يتنزل !!!
والثاني : أن يكون راويه مشهور بالصدق والأمانة ، لكنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح ، لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان ، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد تفرده منكراً ، مع عدم الشذوذ والعلة ، وعلى هذا يتنزل كلام الخطابي !!!
قال الذهبي :
وهذا عليه مؤاخذات .
نقول : إن التعريفات السابقة اكتفينا بذكر بعض النقد الموجه لها مرجئين الكلام عنها تفصيلياً بطريق غير مباشرة إلى مبحث قادم بإذن الله تعالى ، وبيان هذا أن تحقيق معني كلمة الحسن عند المتقدمين رحمهم الله تعالي ورضي عنهم ، سيظهر بالقطع أن كل هذه التعريفات خاطئة ، باستثناء تعريفي الترمذي والخطابي رحمهما الله تعالي .
أما تعريف ابن الصلاح فسنتكلم عنه هنا أيضاً نظراً لأهمية التعريف لأسباب :
أولاً :
أنه أول من قسم الحسن إلى حسن لذاته وحسن لغيره ( بصرف النظر عن صحة هذا التقسيم ) .
ثانياً :
أن فترة ما قبل تعريف ابن الصلاح كان هذا المعنى مبهماً غامضاً ، كل يحاول فك أسراره وغموضه .
وأول من أرسى له قواعد شبه ثابتة هو ابن الصلاح رحمه الله ، ولا أقول ثابتة للنقاط التالية :
أ ـ كلام الترمذي والخطابي رحمهما الله يتنزل على قسم واحد يسمى الحسن كما صرحا بذلك ، والترمذي سواء كان أول من حده أو أول من دونه فهو أعلم بمراده من ابن الصلاح وغيره .
وإذا سلمنا بكلام ابن الصلاح في كون القسم الأول يتنزل على تعريف الترمذي ( وهو الحسن لغيره ) ، فإن تعريف الخطابي يمكن حمله على هذا أيضاً ، فلا داعي للقول بأنهما نوعان .
ب ـ قول الخطابي رحمه الله : (ما عرف مخرجه واشتهر رجاله أي عرف مصدره الذي يرويه وذلك بأن يكون روي عنه من غير وجه ورجال هذه الأوجه مشهورون أي غير متهمون ) يعني بوضوح قول الترمذي (ليس في إسناده من يتهم بالكذب ويروي من غير وجه ) ، وسيتضح في المباحث القادمة بإذن الله .
ج ـ الترمذي رحمه الله لم يتكلم عن مستور ولا مغفل ولا كثير الخطأ ، ولا عن سبب مفسق ، على العكس يدخل في تعريفه الثقات وهذا واضح من قوله : لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ، وكذا بالمفهوم الكذاب ، ومن أشبه حديثه حديث الكذاب والمتهم بالكذب ، فشمل الباقي أي الثقة الثبت والثقة والذي خف ضبطه والضعيف .
د ـ الترمذي رحمه الله لم يذكر أبداً كلمة يعتضد به في تعريفه ولا في غيره فيما أعلم ، ولا ذكر شواهد ولا متابعات يقوي بعضها بعضاً وعلي هذا فإن هذا القول هو مجرد دعوي مبنية علي فهم رجل من علماء المسلمين يصيب ويخطئ ، فلا يصـح أن يصبح فهمه دليلاً في المسألة ، بل إثبات هذا الفهم يحتـاج إلـي أدلة .
ه ـ لم يشترط الترمذي رحمه الله السلامة من العلة ولا الخطابي وهذا له تفسير قادم إن شاء الله ، بينما اشترطه ابن الصلاح في تعريفه وهذا من الأدلة علي تباين المقاصد ، لأن الترمذي وغيره أطلقوا الحسن علي أحاديث معلولة وهي عند ابن الصلاح لا يحتج بها لأن من شرطه في الحسن ألا يكون معلولاً .
و ـ كون الترمذي رحمه الله أول من حد الحسن أو أول من دونه فهذا بالقطع يعني أن قولنا في نقد تعريفه : لم يفصل بينهما أقرب للخطأ .
خاصة وأنه رحمه الله وكذا الخطابي لم يقولا أن الحسن غير الصحيح ، بل في جامع الترمذي مئات المواضع يصف الحديث بالصحة والحسن .
فمن الذي قال أن الترمذي أو الخطابي أرادا أن يفصلا ما يسمى بالحسن عن الصحيح ، بل العجيب أيضا أن تعريف الترمذي يدخل فيه الصحيح بلا ريب ، وكذا الخطابي وسيأتي تفصيلاً إن شاء الله .
ولكي نجزم أنهما أرادا فصل ما يسمى بالحسن عن الصحيح فلابد من وجود دليل علي ذلك من كلامهم أيضاً ولا يكون ذلك بمجرد الظنون والوجهات الشخصية .
ز ـ بالنسبة للتعريف الثاني الذي قال ابن الصلاح رحمه الله أنه يتنزل على كلام الخطابي فسيتضح قريباً مواضع نقده إن شاء الله تعالى ، ويكفي أن نسأل من يقول هذا القول : كيف نزل هذا الراوي عن درجة رواة الصحيح ؟؟ ، وهذا سيظهر في مبحث : كيف توثق الرواة وتضعف ، وسيظهر جلياً أن هذا الراوي الذي نزل عن درجة رجال الصحيح لابد أن يكون تفرده إما شاذاً أو منكراً ، لا يمكن غير هذا .
ح ـ ابن الصلاح ليس له سلف في هذا القول فيما أعلم ( حسب شرطهم الفاسد الذي يشترط سلفاً لكل قول وهم أول من يخالفه )، أعنى قوله أن الحسن قسمان : حسن لذاته وحسن لغيره .
فهذا الذي قاله ابن الصلاح مبني علي استقرائه ، وكل قول بُني علي الاستقراء وليس علي دليل واضح فهو قابل للقبول والرد والمعارضة باستقراء غيره .
ومما سبق يتضح لنا أن مسألة الحسن وأقسامه إن كان له أقسام مسألة مضطربة ظلت حتى عصر ابن الصلاح لا قاعدة لها ولا منهجية علمية ، بل مجرد اجتهادات فردية من هنـا وهناك لفهم كلام الترمذي والخطابي والبخاري وأحمد وعلي بن المديني وأبو حاتم وإضرابهم رحمهم الله تعالي .
والأصل في هذه المسالة هو تعريف الترمذي والخطابي ، وأقوال شيوخ الترمذى وطبقتهم وطبقة شيوخهم كذلك ، وكل ما يستطيعه متأخر هو إعمال ذهنه لمحاولة فهم اصطلاحاتهم وإنزالها علي موضعها .
أما أن يكون فهم المتأخر نقد موجه للمتقدمين خاصة وأن الترمذي والخطابي النقد الموجه لهما واحد ، والبخاري يطلق الحسن علي الصحيح أيضاً ، فهذا في قبوله من المتأخر نظر عندي والله الموفق .
وكذا بعد ابن الصلاح ( 643 هـ ) فإن الأمر لم يستقر .
وحتى وقتنا الحالي فإنك لا تستطيع أن تظفر بتعريف يشفي الصدر في مسألة الحسن .
ونعود ونذكر بأن للصحيح حدٌ ثابتٌ منذ القدم لا يتغير ،
نعم من الممكن أن نختلف في إدخال حديث أو إخراجه من قيود تعريف الصحيح تبعاً لاجتهاد كل مجتهد .
ولكن يبقي التعريف بقيوده صلباً غير قابل للنقد .
بخلاف الحسن فليس له ماهية محددة حتي وقتنا هذا .
أي لا يوجد له حد حقيقي متعارف عليه بين أهل العلم بالحديث .
ومع ذلك فهو في موضع الاحتجاج عند جماهير أهل العلم من المحدثين والفقهاء والأصوليين والمفسرين !!!
فتأمل .
ولنرجع إلى الذهبي .
خامساً : أقوال الذهبي رحمه الله :
قال رحمه الله : فأقول :
الحسن ما ارتقي عن درجة الضعيف ولم يبلغ درجة الصحة .
وإن شئت قلت :
الحسن ما سلم من ضعف الرواة فهو حينئذ داخل في قسم الصحيح .
وحينئذ يكون الصحيح مراتب كما قدمناه والحسن ذو رتبة دون تلك المراتب ، فجاء الحسن مثلاً في آخر مراتب الصحيح .
ثم يقول رحمه الله :
ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها فأنا على إياس من ذلك ، (ت 748) .
قد عبر الذهبي بسطوره هذه عن الحقيقة ، انظر إلى قوله : ( ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها فأنا على إياس من ذلك ) ،
فحتى ذلك لوقت لم يكن فعلاً للحسن قاعدة يندرج تحتها !!!
على عكس الصحيح مثلاً فتعريفه يدخل فيه كل الصحيح ، ويخرج منه كل ما ليس بصحيح فتأمل .
وهذا معناه أن بعض ما يطلق عليه الحسن يدخل في الصحيح ، وبعضه يدخل في الضعيف ، وهكذا ...
وهذا حق بناء علي فعل الراسخين من المتقدمين وتعريف الترمذي والخطابي رحمهما الله .
سادسا:ً تعريف الحافظ ابن حجر :
قال الحافظ في النخبة بعد أن ذكر تعريف الصحيح :
فإن خف الضبط فهو الحسن لذاته .
قال صاحب توضيح الأفكار :
التعريف غير منضبط أيضاً ، فإن خفة الضبط أمر مجهول .
وتعريف الحافظ عندنا منتقد بأمور :
أ ـ أن قوله فإن خف الضبط : هذا ليس مضبوطاً بضابط تتميز به خفة الضبط من عدمه .
ب ـ أن القول بأن فلاناً خف ضبطه جرح فيه ، وقدح في حفظه فكيف يؤخذ ما تفرد به ليوضع في مقام الاحتجاج ؟؟
ج ـ كيف يحكم علي الراوي بأنه خف ضبطه ؟؟ ، فهذا يخالف أن نضع ما تفرد في مقام الاحتجاج ؟
د ـ قوله : فإن خف الضبط فهو الحسن لذاته ، يعني مع توافر بقية شروط الصحيح ، ومنها السلامة من العلة ، وهذا مخالف لما عليه أهل الحديث من المتقدمين ، كالبخاري ، وأبو حاتم ، والترمذي ، والداراقطني ، وغيرهم رحمهم الله من عدم اشتراط السلامة من العلة لإطلاق الوصف بالحسن ، وسيأتي وصفهم للأحاديث المعلولة بأنها حسان .
وأخيراً فهذه هي التعريفات التي وقفنا عليها من كتب الاصطلاح التي بين أيدينا ذكرناها مع بعض الكلام اليسير عنها ولم نمهل منها شيئاً قدر الاستطاعة .
إلا ما قيل في مسألة حسن المعنى إذا لا حاجه لها هنا والله المستعان .
فإذا تأملنا هذه التعريفات لوجدنا أننـا لم نصل إلى الآن إلى ما يشفي الصدور .
وأن الصحيح مثلاً مستقر ثابت معلوم الحد بعكس الحسن فهو ليس مستقر ولا معلوم الحد ونستطيع أن نقول وبصراحة : أن الحديث الحسن ليس له حتى الآن حد حقيقي على أسس علمية ثابتة .
يقول الذهبي :
وهذا حق ، فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ عن أن يرقيه إلي رتبة الصحيح ، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما ، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما ، ولو انفك لصح باتفاق .
فتأمل قوله : إن الحسن لا ينفك عن ضعف ما !!!
أي مهما بلغت درجته سواء في أعلي درجات الحسن ، أو أدناها ، ففيه شيء من ضعف ، وإلا كان من قسم الصحيح .
انتهي كلامه فتأمله ، وهذا متيقن بديهي !!!
ملاحظة هامة :
كتاب المحدث الفاصل للراماهرمزى ، وكذا كتاب الكفاية للخطيب ، وكتاب معرفة علوم الحديث للحاكم ، كلها لم تتعرض لذكر نوع من الحديث يسمى الحديث الحسن كقسم من أقسام صحة الحديث ، فتفكر.