الحمد لله رب العالمين، الرحمان الرحيم، أشهد أنه لا إله إلا هو، له التفرد بالربوبية والألوهية، له الحكم وإليه ترجعون ،
وأشهد أن محمداً صلي الله عليه وسلم عبده ورسوله، أتم به النعمة، وأكمل به البيان، وأخرج به الناس من الظلمات إلي النور .
فالحمد لله سبحانه وتعالي علي نعمه وآلائه، وعلي رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم، ثم أما بعد ،
فمن أهم العلوم التي ينبغي لكل مسلم الإهتمام بها تعلماً وتعليماً وعملاً: علم الحديث النبوي الشريف .
دراية ورواية ،
حفظاً وفقهاً ،
سنداً ومتناً ،
وتميزاً لصحيح الحديث من سقيمه ،
وذلك لأن بيان الدين كله عند محمد صلي الله عليه وسلم وحده لا غيره .
قال سبحانه وتعالي في كتابه الكريم : " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزٍلَ إليهم ولعلهم " ،
وقال سبحانه وتعالي : " وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي يختلفون فيه " .
فمهمة البيان موكلة له وحده صلي الله عليه وسلم ،
لا إمام، ولا حجة، ولا آية، ولا مذهب، ولا مرشد، ولا أحدٌ غير محمد صلي الله عليه وسلم .
وكذا تيسير الدين مهمته صلي الله عليه وسلم ،
قال تعالي: " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً " .
وقال سبحانه وتعالي: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " .
ولأن البيان مهمته صلي الله عليه وسلم ،
ولأن التيسير أيضاً مهمته أيضاً صلي الله عليه وسلم ،
فإن أقصر الطرق وأسرعها إلي رضا رب العباد سبحانه وتعالي هو اتباع محمد صلي الله عليه وسلم .
وهذا الإتباع المطلوب لا يتأتي إلا بتمييز ما قاله صلي الله عليه وسلم من ما لم يقله، أو من ما نُسب إليه صلي الله عليه وسلم عن طريق الخطأ .
وتمييز ما قاله صلي الله عليه وسلم من كل ما نٌسب إليه درب طويل، لا يسلكه إلا أولو العزم من الرجال .
وهؤلاء الرجال لهم زاد يتزودون به في هذا الدرب الطويل، ولا يستطيعون اجتياز هذه المفازة إلا بهذا الزاد .
وهذا الزاد يحوي أنواعاً مختلفة من العلوم والملكات ،
ومنها: علم الجرح والتعديل ،
ومعرفة الأسماء والكني ،
وتمييز الموقوف من المرفوع ،
ومعرفة المزيد في متصل الأسانيد ،
وغيرها من علوم الحديث الشريف .
ومن أهم ما يتزود به السالك في درب الحديث الشريف علم علل الحديث، وقليل من تزود به !!
علي طول عمر هذه الأمة لم يتقن علم علل الحديث ويتكلم فيه إلا ما يقل عن خمسين محدثاً، من كل هؤلاء المشتغلين بالحديث الشريف، والذين يزيد عددهم عن خمسين ألفاً علي أقل تقدير .
ومعني هذا أنهم لا يزيدون علي واحدٍ في الألف علي أعلي تقدير !!
وهذا يدل علي ندرة هؤلاء، وأنهم أعز من الكبريت الأحمر !!
وسأذكر عدداًً منهم رحمهم الله تعالي ورضي عنهم في مبحث قادم بغرض التعريف بهم، وذكر بعض ما قيل فيهم رحمهم الله تعالي .
وهؤلاء هم الذين حفظ بهم الله سبحانه وتعالي علي هذه الأمة دينها، برحلتهم في طلب الحديث، بتركهم الأهل والمال لكتابة حديث واحد، ببيعهم الغالي والرخيص من أجل العلو في إسناد حديث، بزهدهم في هذه الدنيا وتفرغهم لحفظ حديث سيد ولد آدم صلي الله عليه وسلم .
قال ابن أبي حاتم رحمهما الله تعالي في تقدمة الجرح والتعديل:
سمعت أبى يقول: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمى زيادة على ألف فرسخ !!! ،
ولم أزل أحصى حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته !! ،
ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصى كم مرة !! ،
ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة !!
وخرجت من البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشياً !!
ومن مصر إلى الرملة ماشياً !!
ومن الرملة إلى بيت المقدس !!
ومن الرملة إلى عسقلان !!
ومن الرملة إلى طبرية !!
ومن طبرية إلى دمشق !!
ومن دمشق إلى حمص !!
ومن حمص إلى إنطاكية !!
ومن إنطاكية إلى طرسوس !!
ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقى على شيء من حديث أبى اليمان فسمعت !!
ثم خرجت من حمص إلى بيسان !!
ومن بيسان إلى الرقة !!
ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد !!
وخرجت قبل خروجى إلى الشام من واسط إلى النيل !!
ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشياً، كل هذا في سفرى الأول، وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين !!
فتأمل يرحمك الله تعالي كم دفع أبو حاتم رحمه الله ثمناً لهذا العلم الشريف من سنوات عمره، ومن جهده، ومن تضحيته !!
هل عرفت الآن كيف أصبح أبو حاتم الرازي هو ذاك الرجل الذي إذا قال مثلاً: الصحيح مرسل، أو قال مثلاً: فلان لا يحتج بحديثه، وقف كل المشتغلين بالحديث عند قوله، ولم يستطيعوا رده إلا بقول قرين له في العلم، له مثل باعه في هذا العلم الشريف، حفظ مثل حفظه، ورحل مثل رحلته، ودفع ثمن العلم مثلما دفعه أبو حاتم رضي الله تعالي عنه وعن أهل الحديث ورحمهم .
وهكذا كان شعبة ويحيي القطان وأحمد ويحيي بن معين وعلي بن المديني والبخاري وغيرهم من أطباء علل الحديث رحمهم الله تعالي .
وتأمل هذه الرحلة التي يرويها أبو حاتم الرازي رحمه الله، وكيف سافر بين الأقطار سيراً علي الأقدام !!
ولو تخيل طالب علم هذه الرحلة علي دراجة عادية، بل قل: دراجة بخارية لظنها رابع الغول والعنقاء والخل الوفي كما يقولون !!
فكيف بأبي حاتم الذي قام بها سيراً علي قدميه ؟؟!!
ولا تظن أنه تفرد بهذا العمل رحمه الله تعالي، بل هذا الذي فعله قام به كثير غيره، منهم شعبة ويحيي القطان وأحمد ويحيي بن معين وعلي بن المديني والبخاري والداراقطني وغيرهم ممن سيأتي ذكرهم من أطباء علل الحديث رحمهم الله تعالي .
بل منهم من سافر رحلة كاملة بين عدة بلدان من أجل معرفة حديث واحد، ومنهم شعبة بن الحجاج رضي الله عنه .
فالرحلة في طلب الحديث الشريف منحة من الله سبحانه وتعالي يمن بها علي من يشاء من عباده، " أم يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله " .
وعلم علل الحديث شأنه شأن كل علوم الحديث يحسبها الجاهل كهانة وخرصاً .
فلو قال أحمد مثلاً: حدثنا يحيي حدثنا شعبة، فقلت لجاهل: يحيي هذا هو القطان، لأنكر عليك ولقال: وما أدراك أن يحيي هذا هو القطان ؟؟
ألا يحتمل أن أحمداً روي عن أي يحيي غير القطان ؟؟
فكيف تجزم بأن يحيي هذا هو القطان ؟؟
وينظر لكونك تجزم بأنه القطان بعين الريبة والشك وربما الاستهزاء !!
وكذا إذا قيل: فلان لا يحتج بحديثه !!
قال لك: وما أدراك أنه أخطأ في كل ما تفرد به ؟؟، ألا يمكن أن يكون أصاب في بعضه ولا نعرف ؟؟
وإذا قيل: فلان ثقة يحتج بحديثه !!
قال لك: ألا يمكن أن يكون قد أخطأ في بعض ما رواه ولم نعرف ؟؟
هو لا يدري كيف يسير الأمر !!
هو يحتاج أن يبدأ الطريق من بدايته !!
وإن لم يفعل فستستوي كل الأشياء عنده !!
سيستوي الصحيح مع الضعيف، فكله ظنٌ !!
فالصحيح يمكن أن يكون لم يقله !!
والضعيف يمكن أن يكون قاله !!
إذن فالكل سواء !!
هكذا تدور الأمور في كل عقل جاهل، لم يرتو من نهر علوم الحديث، وخاصة علم علل الحديث .
أو في كل عقل غاب في ظلمات الكلام وعلومه .
أو في عقل جعل دينه هو تلك القواعد الأصولية المصنوعة من بقايا عفن عقول بني آدم .
قال ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل:
سمعت أبي رحمه الله يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم ومعه دفتر فعرضه علىّ، فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وجاء في بعضه هذا حديث باطل، وجاء في بعضه هذا حديث منكر، وجاء في بعضه هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح ،
فقال: من أين علمت أن هذا خطأ وأن هذا باطل وأن هذا كذب ؟؟، أخبرك راوي هذا الكتاب بأنى غلطت وأنى كذبت في حديث كذا ؟؟!! ،
فقلت: لا ما أدري هذا الجزء من روايه، غير أنى أعلم أن هذا خطأ وان هذا الحديث باطل وان هذا الحديث كذب ،
فقال: تدعى الغيب ؟ ،
قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب ،
قال: فما الدليل على ما تقول ؟ ،
قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم ،
قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن ؟ ،
قلت: أبو زرعة ،
قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت ؟؟ ،
قلت: نعم ،
قال: هذا عجب !! ،
فأخذ فكتب في كاغذ ألفاظى في تلك الأحاديث، ثم رجع إلىّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث ،
فما قلت أنه باطل قال أبو زرعة هو كذب، قلت: الكذب والباطل واحد ،
وما قلت أنه كذب قال أبو زرعة هو باطل ،
وما قلت أنه منكر قال هو منكر كما قلت ،
وما قلت أنه صحاح قال أبو زرعة هو صحاح ،
فقال: ما أعجب هذا !!، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما ؟؟!! ،
فقلت: ذلك أنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله بان ديناراً مبهرجاً يحمل إلى الناقد فيقول هذا دينار مبهرج، ويقول لدينار هو جيد، فان قيل له: من أين قلت أن هذا مبهرج هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار ؟؟، قال: لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أنى بهرجت هذا الدينار ؟؟، قال: لا، قيل: فمن أين قلت أن هذا مبهرج ؟؟، قال: علماً رزقت ،
وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك .
قلت له: فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت، فان قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج وان هذا ياقوت ؟؟، هل علمت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج ؟؟، قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً ؟، قال: لا، قال: فمن أين علمت ؟، قال: هذا علم رزقت ،
وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بان هذا الحديث كذب وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه .
قال أبو محمد: تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فان تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلي غيره فإن خالفه بالماء والصلابة علم أنه زجاج، ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم .
وانظر إلي تعجب هذا الرجل الذي يصفه أبو حاتم رحمه الله تعالي بأنه من جلة أصحاب الرأي من قول أبي حاتم: هذا باطل وهذا كذب !!!
ولا ينتهي العجب عنده من اتفاق أبي زرعة مع أبي حاتم رحمهما الله تعالي في الحكم علي الأحاديث !!
ولو كلف نفسه عناء الرحلة، لقال له البخاري ومسلم وأحمد وعلي بن المديني ويحيي بن معين وغيرهم من عباقرة هذا الفن علي نفس هذه الأحاديث نفس الأحكام تقريباً !!
وهذا عند هذا الجاهل الذي هو من جلة أصحاب الرأي نوع من الكهانة التي لا تثبت شيئاً ولا تنفي شيئاً، وصنف من صنوف ادعاء العلم بالغيب، وهو في ريب من الكل .
هذا عنده كذاك !!
ما ثبت عنده كالذي لم يثبت !!
الصحيح ربما لم يقال !!
والضعيف ربما قيل !!
كلاهما عنده ظن، أو غلبة ظن علي أعلي تقدير !!
أما اليقين فلا يكون إلا بحديث متواتر !!
" فهم في ريبهم يترددون "
" قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا " ؟؟!!
" إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون " .
وهكذا اختلطت الأمور علي كثير من الناس، بل من المنسوبين إلي العلم، بل من المنسوبين إلي هذا العلم الشريف، علم الحديث !!
والكارثة الكبري أن هؤلاء الآن في مرحلة الإقتناع التام بأن سقط الكلام هذا هو منتهي العلم، وأن حثالة أفكار بني آدم هذه هي دين الله الذي نزل به الأمين جبريل علي قلب محمد صلي الله عليه وسلم !!
وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم )، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى ؟، قال: ( فمن ؟ ) .
فهذه نبوءة من لا ينطق عن الهوي، يخبر بأن هذه الأمة ستتبع اليهود والنصاري حذو القذة بالقذة إلا طائفة ممن رحم الله سبحانه وتعالي وهدي !!
عن قيس عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) .
وهذه أخري من محمد صلي الله عليه وسلم، تبين حجم الفئة التي ستكون علي الحق، وأنهم طائفة من بين كل هؤلاء !!!
تري أي شيء قصد رسول الله صلي الله عليه وسلم لما أخبر بأن هذه الأمة ستسلك درب اليهود والنصاري، وأن الذين سيبقون علي الجادة هم أقل القليل من هذه الأمة ؟؟!!
في أي شيء سنتبعهم شبراً بشبر ؟!
بكل تأكيد في تحريفهم الكلم عن مواضعه ،
واختلافهم علي أنبيائهم ،
وتفرقهم إلي مذاهب وفرق وطوائف، وهذا لا شك فيه .
ولا نحتاج أن نؤكد أن كل ما فعلوه فعلناه وأكثر !!
ـ تمذهبوا وتفرقوا إلي بروتستانت وكاثوليك وأرثوذوكس وغيرها من طوائف الضلال والغي .
فتفرقت هذه الأمة إلي سلف وخلف ، سنة وشيعة ، شافعية ومالكية ، حنابلة وأحناف ، أهل ظواهر وأهل بواطن وأهل طريقة ، أشاعرة وماتردية !!
ـ حرفوا الكلم عن مواضعه، فحرفت هذه الأمة الكلم عن مواضعه ،
إذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة قتات )، قالوا: بل سيدخل ولكن في النهاية !!
لأنه صلي الله عليه وسلم يقصد أنه لا يدخل الجنة قتات مع أول الداخلين، لكنه سيدخل في آخر الصف كما يزعمون .
أما نحن ولله الحمد فنؤمن أن ما قصده النبي صلي الله عليه وسلم قد قاله بوحي من السميع البصير الذي لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه صلي الله عليه وسلم لا يتكلم إلا بوحي من الله سبحانه وتعالي .
وأن كلامه صلي الله عليه وسلم داخل في إرادة البيان من الله سبحانه وتعالي، والتي أكدها سبحانه وتعالي في غير موضع من كتابه .
وداخل في أمره سبحانه وتعالي لرسوله صلي الله عليه وسلم بالتبليغ عنه سبحانه وتعالي مراده من خلقه .
وكل هذا يدعو إلي شديد بيان وتوضيح، ومع هذا لم يقل عليه الصلاة والسلام لفظة: مع أول الداخلين !!!
وإذا قال صلي الله عليه وسلم: ( لاَ يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ )، قالوا: ليس معني هذا أنه يفقد الإيمان، لكن الإيمان يخرج منه فيكون كالظلة فوق رأسه، فإذا انتهي من الزنا عاد إليه الإيمان !!
والنبي صلي الله عليه وسلم لم يقل هذا، بل قال: ( والتوبة معروضة بعد )، فعلق عودة الإيمان علي التوبة .
فلما استيأسوا خلصوا نجياً فقالوا: هذا ليس قولنا، ولكنه قول ابن عباس ترجمان القرآن، وابن عم رسول الله صلي الله عليه وسلم، وحبر هذه الأمة .
قلنا : فهذا كذب وبهتان لا شك فيه، فالذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البخاري في صحيحه قال :
حدثنا محمد بن المثنى، أخبرنا إسحاق بن يوسف، أخبرنا الفضيل بن غزوان، عن عكرمة، عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن )، قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه ؟، قال: هكذا وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا وشبك بين أصابعه ,
فالذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما بصرف النظر عن الخلاف الشديد في عكرمة مولي ابن عباس هو نفس ما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم، وليس هذا القول الأعوج الذي ينسبونه إليه رضي الله عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين .
ـ اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، فباعت هذه الأمة آيات الله سبحانه وتعالي كلها بلا ثمن !!!
ـ كانوا لا يُقيمون الحدود علي الأشراف، ويقيمونها علي الضعفاء، فعطلت هذه الأمة كل الحدود، علي كل الفئات، الكبراء منهم والضعفاء، وأظن أن هذا من باب المساواة بين الناس !!!
ـ أكلوا أموال الناس بالباطل، فأنشأت هذه الأمة مؤسسات لأكل أموال الناس بالباطل لا يكاد يسلم منها إلا من رحم الله سبحانه وتعالي !!
ـ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فاتخذت هذه الأمة علمائها أرباباً من دون الله سبحانه وتعالي، بل ورسلاً من دون رسول الله صلي الله عليه وسلم .
وبدلاً من أن يكون قول الله سبحانه أو قول رسوله صلي الله عليه وسلم هو الفصل بين المختلفين، صار كل من يقرأ آية من كتاب الله سبحانه وتعالي أو حديثاً من صحيح سنة محمد صلي الله عليه وسلم يبحث عن رجل يفصل له في هذه الآية أو هذا الحديث .
فصاروا كلهم حكاماً علي الله سبحانه وتعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم بدلاً من التحاكم إلي الله سبحانه ورسوله صلي الله عليه وسلم !!
وكل هذا من جراء الإعراض عن علوم السنة المشرفة والاتجاه بسرعة الضوء إلي علم الكلام والفلسفة والمنطق .
فكل مرض تعيشه هذه الأمة إنما أصيبت به نتيجة إعراضها عن سنة نبيها صلي الله عليه وسلم، وإقبالها علي رأي هذا وما أحبه ذاك وما ظنه هذا حسناً .
والخير كل الخير لهذه الأمة في أن تتمسك بسنة نبيها وهديه في كل شيء صلي الله عليه وسلم .
فلا تتعجب إذن عندما تسمع ما رواه سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ r خَطِيباً بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ )، أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، أَلاَ وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمتِى فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِى، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )، قَالَ: فَيُقَالُ لِى: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ .
فهؤلاء المنكوسين الذين سيؤخذ بهم ذات الشمال أول ما شاهدهم رسول الله صلي الله عليه وسلم عرفهم أنهم من أمته، والسؤال الذي أريد أن أطرحه هو: كيف عرفهم صلي الله عليه وسلم ؟؟
لابد أنه عرفهم من اللحي، وآثار السجود، والتحجيل والغرة من آثار الوضوء !!
ومع وضوئهم وصلاتهم وأعمالهم التي أدت إلي حشرهم في زمرة هذه الأمة اُخِذَ بهم ذات الشمال !!
فماذا كان السبب ؟؟
السبب الوحيد هو: ( إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ) ،
والدليل أنهم من القرون التالية لزمن رسول الله صلي الله عليه وسلم هو قوله: ( فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ) .
أي أن هؤلاء من الذين لم يكن الرسول صلي الله عليه وسلم شهيداً عليهم، لذا فهو صلي الله عليه وسلم لا يعلم بحالهم، ولا بما أحدثوه من بعده، لذا فقد همّ بالدفاع عنهم في عرصات القيامة والتشفع لهم، فلما قيل له صلي الله عليه وسلم أن هؤلاء من الذين أحدثوا بعده في دين الله سبحانه وتعالي، تبرأ منهم صلي الله عليه وسلم، بل ويعتذر إلي رب العباد سبحانه وتعالي قائلاً: ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ ) .
فهؤلاء الذين هلكوا ما هلكوا إلا لأنهم أحدثوا في دين الله ما ليس منه بعد وفاة نبيهم صلي الله عليه وسلم، الذي قال عنه الله سبحانه وتعالي: " وإن تطيعوه تهتدوا " .
فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟؟
وكما قدمنا فإنه لا سبيل إلي اتباع محمد صلي الله عليه وسلم إلا بعلم الحديث النبوي الشريف، ومن ضمن علومه علم علل الحديث مدار بحثنا .
وسأبدأ بتقدمة نظرية قصيرة بغرض التمهيد للقاريء الذي لم يحتك بعلم علل الحديث من قبل، ليسهل عليه الدخول في الأمثلة العملية والتي ستكون هي المبحث الرئيسي في هذا الكتاب .
أما المبحث التمهيدي فينقسم إلي قسمين:
ـ الأول: التعريف بمعني العلة وماهيتها .
والغرض منه بيان معني العلة، وأن العلة غير الجرح والتعديل، فكلاهما علم قائم برأسه، وإن كان كل منهما يحتاج إلي الآخر أشد الاحتياج .
ـ الثاني: التعريف بأعلام علم علل الحديث، وذكر نبذات مختصرة عنهم رحمهم الله تعالي ورضي عنهم .
فهؤلاء العباقرة معظمهم من المجهولين عند السلف وأنصار السنة والتبليغ والتكفير والإخوان المفلسين وعامة الطوائف التي تدعي انتساباً للإسلام !!
فأردنا أن نعرف بهم رحمهم الله ورضي عنهم ، ليعرف المسلمون قدرهم ، حتي إذا قلنا في تعليل حديث مثلاً : قال أبو زرعة : الصواب مرسل ، عرف السامع قدر أبي زرعة ، فلا يرد كلامه رحمه الله تعالي بكلام هذا أو ذاك من المتأخرين المتطفلين علي هذا العلم الشريف .
والذي دفعني لهذا برغم أني لا أحب الإطالة في المقدمات النظرية أن إخواننا الذين يهتمون بشأن دينهم يساوون بين هؤلاء المتقدمين العباقرة الأفذاذ، وبين ابن حجر والسيوطي والسخاوي، بل وأحياناً يقدمون الألباني علي البخاري وأحمد وأبي حاتم !!!
وفي مرة من المرات كنت في إحدي المكتبات أبحث عن كتاب، فدخل شيخ فاضل يبحث عن حديث من أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم، فلما تحير في البحث سألته: عن أي حديث تبحث فربما استطعت مساعدتك ؟
فأخبرني أنه يبحث عن حديث صححه الألباني في سلسلته، في فضل قراءة " قل هو الله أحد " عشر مرات بعد صلاتي المغرب والفجر !!
فسألته: هل صححه البخاري أو مسلم أو أحمد أو علي بن المديني أو يحيي بن معين أو أحد من المتقدمين الراسخين ؟؟
فقال: أقول لك صححه الشيخ الألباني !!
فهو كالكثيرين من طلاب العلم ينظر للمتأخرين بل وللمعاصرين علي أنهم أهل الاستدراك علي المتقدمين !!
ولا يجد أحدهم في نفسه غضاضة أن يحتج بحديث أعله أو ضعفه البخاري أو أحمد أو غيرهم من أهل الحديث رضي الله عنهم لمجرد أن فلاناً صححه من المتأخرين أو المعاصرين .
فأردت أن يعرف كل باحث الفارق الشاسع بين كل متقدم مها قل قدره بين أقرانه، وبين كل متأخر مهما علا قدره بين أقرانه .
أسأل الله تعالي أن ييسر الأمر لي، وينفع به في الدنيا والآخرة ، ويجعله خالصاً لوجهه سبحانه وتعالي .
اللهم اغفر لي ولأهل الحديث وألحقنا بهم علي خير ، واحشرنا في زمرتهم .
اللهم صل علي محمد وعلي آل محمد كما صليت علي آل إبراهيم، اللهم بارك علي محمد وعلي آل محمد كما باركت علي آل إبراهيم، إنك حميد مجيد .