الحمد لله رب العالمين ، الرحمان الرحيم ، مالك يوم الدين ، أشهد أن لا إله إلا اله ، المتفرد بالألوهية والربوبية ، له الخلق والأمر ، سبحانه وتعالي عما يشركون .
وأشهد أن محمداً صلي الله عليه وسلم عبده ورسوله ، َمنَّّ به الله سبحانه وتعالي علي الخلق ، ليتم به النعمة ، ويختم به الرسالة ، ويهدي به من يشاء إلي صراط مستقيم ، ثم أمّا بعد ،
فإن الله سبحانه وتعالي ابتعث محمداً صلي الله عليه وسلم إلي الناس جميعاً ، وأمر الخلق كلهم بطاعته واتباعه ، لا فرق في هذا بين أبيض وأسود ، ولا عربي وأعجمي ، ولا أنس وجن .
وأعد لمن اتبع الرسول صلي الله عليه وسلم الجزاء الحسن في الدار الآخرة ، خالدين فيها أبداً .
وأعد لمن العصي الرسول صلي الله عليه وسلم نار جهنم ودرجاتها ، كل علي قدر جُرمِه وذنبه ، أو علي قدر كفره ومشاققته لله سبحانه وتعالي ولرسوله صلي الله عليه وسلم .
وأغلق سبحانه وتعالي كل طريق يؤدي إلي جنته , وإلي رحمته إلا من طرق محمد صلي الله عليه وسلم .
فوجب علي كل عقل فهم هذا وآمن به أن يكون شغله
الشاغل هو : كيف أكون متبعاً لمحمد حذو القذة بالقذة ؟؟
والوصول إلي ما كان عليه محمد صلي الله عليه وسلم أمر غير يسير ، وطريق شاق غير مذلل ، لا يقوم له إلا الرجال ، ولا يسعي إليه ساع إلا بتوفيق من الله وفضل ، لا بذكائه وفهمه وعبقريته كما يظن عوام الجهال .
وعلم الحديث الشريف هو هذا الطريق الشاق الغير مذلل ، وهو نعمة الله سبحانه وتعالي التي يمن بها علي من يشاء من عباده ، فله الحمد حمداً
كثيراً طيباً مباركاً فيه علي ما أنعم به علي عباده الضعفاء المساكين من غير حول منهم ولا قوة ولا سابقة فضل ، لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء ،
" ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم "
" والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم "
أسأل الله سبحانه وتعالي أن يمن علينا وأن يلحقنا بأهل الحديث علي خير ، من غير فتنة ولا بدعة ، آمين .
وعلم الحديث الشريف لا يستغني عنه إلا من سفه نفسه ، ولا يبخسه قدره إلا الضعيف العقل من الرجال ، الغر الغرير !!
كيف لا ؟
وهو السبيل الموصل إلي الرجل الذي أوكل الله إليه مهمة البلاغ ، ومهمة البيان ، ومهمة التيسير ؟؟
فكل من لم يسلك درب الحديث إنما هو في الحقيقة باحث عن واحدة من هذه الثلاث عند غير محمد صلي الله عليه وسلم ،
وكفي بهذه من حماقة وِضعة في العقل .
فالبلاغ مهمته صلي الله عليه وسلم وحده ، قال تعالي :
" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته "
وهذه عند كل مؤمن ليس لها إلا نتيجة واحدة ، ودلالة واحدة ، وهي أن كل ما أراد الله سبحانه وتعالي أن يأمر به عباده ، أو أراد سبحانه وتعالي أن ينهي عنه عباده ، من لدن بعثة محمد صلي الله عليه وسلم إلي قيام الساعة ، هذا كله قد بلغه النبي صلي الله عليه وسلم إلي الناس ، ولم يُخف منه شيئاً .
وكذا البيان ، مهمته وحده صلي الله عليه وسلم ، لم يدع مجالاً لما يحبه هذا ، أو يرضاه ذاك ، قال الله سبحانه وتعالي :
" وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهديً ورحمة ً لقوم يؤمنون " ،
وقال سبحانه وتعالي :
" وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " .
وهذه كأختها ، لا تدع في عقل مؤمن مجالاً لأن يظن أن بيان الدين عند هذا المذهب أو ذاك ، أو في رأي هذا أو ذاك .
ومهمة التيسير هي أيضاً مهمته صلي الله عليه وسلم ، لا
غيره ، قال الله سبحانه وتعالي :
" فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُداً ".
فكان أن البلاغ والبيان والتيسير هي مهمة محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ولا دخل لغيره فيها بإتمام أو تعديل أو تحديث أو تجديد .
ومن هنا كانت أهمية علوم الحديث الشريف ، وإنما اكتسب هذه المكانة الرفيعة من صاحب الحديث ومكانته وأهميته ودوره صلي الله عليه وسلم .
وعلم الحديث طرأ عليه كجزء من الدين الإسلامي ما طرأ علي الكل من تغيير وتبديل ، فالنص محفوظ كما وعد الله سبحانه وتعالي ، لكن ما حدث هو ما فعله الذين من قبلنا ، أي تحريف الكلم عن مواضعه .
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة فإذا ، صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم ، فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس ، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها ، وكان يقول : ( تصدقوا تصدقوا تصدقوا ) ، وكان أكثر من يتصدق النساء ، ثم ينصرف ، فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم ، فخرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى ، فإذا كثير بن الصلت قد بَنَى منبراً من طين ولبن ، فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر ، وأنا أجره نحو الصلاة ،
فلما رأيت ذلك منه قلت : أين الابتداء بالصلاة ؟ ، فقال : لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم ، قلت : كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ثلاث مرار ثم انصرف .
والحديث صحيح ، أخرجه البخاري ومسلم وابن خزيمة وغيرهم .
وفيه دلالة علي ما حدث من تبديل وتغيير والقرن الأول لم ينخرم بعد .
كيف لا يحدث ويكون وقد بَشَرَ بوقوعه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوي ؟؟
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ) ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ ، قال : ( فمن ) .
فماذا فعل هؤلاء ؟؟
وعلم الحديث أيضاً محفوظ في بطون كتب المتقدمين رحمهم الله سبحانه وتعالي ورضي عنهم ، وتحريف كلامهم في كتب المتأخرين وعقولهم بعد أن صار هذا التحريف مدوناً في الكتب ، وصار الكل ينظر إلي هذا التحريف علي أنه هو علوم الحديث التي سار عليها المتقدمون من الجهابذة .
فصار طالب العلم يترك كلام أبي حاتم وأبي زرعة في الرجل ، ويتعلق بقول ابن حجر .
ويترك تعليل عليّ بن المديني والدارقطني للحديث ، ويحتج بتصحيح الألباني !!
وهكذا ... ،
وينسي هذا الطالب أن هؤلاء الذين أعرض عن كلامهم ، وترك النظر في كتبهم لقول متأخر هم أهل الاصطلاح ، وهم الذين وضعوا قواعد هذا العلم وأصلوها .
ولولا هؤلاء لما كان لأحد من المتأخرين علم ولا ذِكر .
والنقطة التي سوف أجعل هذا البحث موضوعاً لها هي :
تقسيم أهل الجرح والتعديل إلي ثلاث أقسام ( متشددين ومتوسطين ومتساهلين ) .
وكنت قد تعرضت لهذه النقطة بشيء من الإيجاز في بحثي : الحديث الحسن بين الحد والحجية ، ولم أشأ أن أطيل هذا البحث هناك ، لأنه كان بحثاً فرعياً هناك .
ولهذا قررت أن أفرده في بحث مستقل ، مع مراعاة عدم التطويل فيه .
أسأل الله سبحانه وتعالي أن يجعله خالصاً لوجهه ، وأن ينفع به في الدارين ، أمين .
اللهم صل علي محمد وعلي آل محمد كما صليت علي آل إبراهيم ، اللهم بارك علي محمد وعلي آل محمد كما باركت علي آل إبراهيم .
محمد عبد القادر جلمد