مبحث في أخبار الآحاد
أخبار الآحاد إن كنت لا تعلم عليها مدار عامة أحكام الشريعة الإسلامية ، والقليل منها هو الذي ثبت بالحديث المتواتر ، وليس كما يظن البعض أن الحديث المتواتر هو عامة الشريعة .
وخبر الآحاد كما عرفه الجمهور : هو ما لم يتواتر ، أي ما لم تتحقق فيه صفات الحديث المتواتر .
والمتواتر : هو ما رواه جمع غفير عن جمع غفير تحيل العادة تواطؤهم علي الكذب .
وهذه التفرقة التي جعلوها أصلا من أصول الدين الإسلامي ليس لها دليل من كتاب أو سنة ، وما كان كذلك فهو باطل ، ومع هذا صارت دينا للأمة تعمل به من دون أن تدري ! !
قالوا : وهو خبر لا يفيد العلم بنفسه .
وقد ذهب الجمهور إلي وجوب العمل بخبر الواحد .
وقالوا : إذا وقع الإجماع علي العمل بقتضاه فإنه يفيد العلم ، لأن الإجماع قد صيره من المعلوم صدقه ، وكذا إذا تلقته الأمة بالقبول ! ! !
وقالت طائفة : يعرض خبر الواحد علي القياس فإن وافقه قبلناه وإلا لم نقبله ! !
وقالت طائفة : أخبار الآحاد لا تخصص عمومات الكتاب ولا تقيد مطلقه ! !
وقالت طائفة : يؤخذ في العمليات ولا يؤخذ به في العلميات ! !
واللطيف في الأمر أن هذه القاعدة الأخيرة عليها عامة أهل العلم أو إن صح التعبير المنتسبون إلي العلم ، فهم ليسوا من أهله .
وتري الرجل منهم يتشدد في العقيدة والأسماء والصفات ، فإن كلمته في أخبار الآحاد وجدته يعتقد عقيدة الأشاعرة والمعتزلة ! !
فهو علي مذهب من يسميهم أهل السنة في الأسماء والصفات ، وعلي مذهب الأشاعرة والمعتزلة في اعتقاد أن خبر الواحد يحتج به في العمليات ولا يحتج به في العلميات ، والمسكين يظن أنه علي الجادة المستقيمة لمجرد أن له سلف قالوا تلكم المقالة من قبل ! !
هل تذكر ما قاله محمد صلي الله عليه وسلم ؟
أما زلت تذكر ؟
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( لتتبعن سنن من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ،حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ ، قال : فمن ؟ ) .
نعم ، صدق والله ، الكلام محفوظ كما وعد رب العباد ، لكن كل المضمون قضي عليه ، نعم قضي عليه بقواعد وضعها بنو آدم لتكون حكما علي شرع الله سبحانه وحديث نبيه صلي الله عليه وسلم ،
قواعد تستطيع أن تسميها عدم تخصيص عموم الكتاب بآحاد السنة ،
أو تسميها وداً أو سواعاً أو يغوث ويعوق ونسراً ، لا فرق بين الأسمين ، فكلاهما يعطل ما جاء به محمد صلي الله عليه وسلم .
أو تسميها عدم تقييد مطلقات الكتاب بآحاد السنة ،
ويجوز أيضا أن تسميها اللات أو العزي أو مناة الثالثة الكبري ! !
لا تهم الأسماء ، المهم أن نتبع سنن من قبلنا ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكناه ، ليصدق حديثه صلي الله عليه وسلم .
إن لم يكن هذا حقاً فأتوني بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله عليه السلام يبين أن أخبار الآحاد في العمليات تختلف عنها في العلميات ، دليل ولو من ضعيف السنة ، ولو من الأحاديث شديدة الضعف .
والرد الوحيد الذي سوف تسمعه هو قولهم " إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون " .
وحججهم في هذا الباب حجج عقلية محضة ، ليس فيها دليل من كتاب أو سنة ، بل الهوي والتقليد الأعمي .
وكلها لا تقوم بها حجة ولا يقتنع بها إلا من حرمه الله سبحانه حظه من الفهم ، فيظن أن هذا هو العلم ، وما هو ببالغه .
فالإسلام كله إنما بني علي خبر واحد ، وهو إخبار نبينا عليه السلام أن الله سبحانه أرسله للناس ، وهذا خبر واحد .
وبخبر الواحد هذا آمن به أبو بكر رضي الله عنه ، من غير قرينة تقويه ولا دلالة ترجحه ، ولا معجزة تؤيده ، وبعد ذلك توالت البينات والمعجزات .
فإن قلتم : أنه عليه السلام كان معروفا بين العرب بالصدق ، قلنا وكذا الرواة الثقات الأثبات معروفون بالصدق فلم جعلتم ما يروونه من أخبار ظني الثبوت وما قاله النبي عليه السلام لأبي بكر لما دعاه إلي الإسلام قطعي الثبوت ؟ !
وإنما ثبتت النبوة عند أبي بكر لما صدق خبر الواحد هذا الذي أخبره به عليه الصلاة والسلام .
وكذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما دعا عثماناً وعبد الرحمن بن عوف كان خبره بالنسبة لكل منها خبر واحد ، وخالي من القرائن لأن ذلك كان في باديء الدعوة ، فلم أخذوا به من غير جدال في أمر خطير كهذا ؟ !
واقرأ هذه الفقرة للشيخ الألباني رحمه الله :
وإن من أعجب ما يسمعه المسلم العاقل اليوم هو هذه الكلمة التي يرددها كثير من الخطباء والكتاب كلما ضعف إيمانهم عن التصديق بحديث ، حتي ولو كان متواتراً عند أهل العلم بالحديث ، كنزول عيسي عليه السلام في آخر الزمان ، فإنهم يستترون بقولهم : حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة ، وموضع العجب أن قولهم هذا هو نفسه عقيدة ، وبناء علي ذلك فعليهم أن يأتوا بالدليل القاطع علي هذا صحة هذا القول ، وإلا فهم متناقضون فيه ، وهيهات هيهات فإنهم لا دليل لهم إلا مجرد الدعوي ، ومثل ذلك مردود في الأحكام فكيف في العقيدة ؟ انتهي كلامه .
فمن الذي نصب نفسه حكما علي دين الله ونصوصه ، فيقول : هذا يصلح في العقائد ، وهذا يصلح للعبادات ! !
وما ابتلي الإسلام إلا بهذه القواعد التي قعدها أناس ليجعلوا من عقولهم حكاماً علي الشريعة ! !
ومن هذه القواعد التي وضعها بنو آدم من غير الرسل ، بل من أناس أرسلت الرسل لهدايتهم ، من هذه القواعد :
1ـ رد الزيادة في حديث الآحاد التي تتضمن حكما زائدا علي نص القرآن ، بدعوي أن هذا من قبيل النسخ ، وآحاد السنة لا تنسخ القرآن ! !
وأسأل : من أي آية أو حديث صحيح استدللتم هذا الإستدلال العبقري ؟ !
2 ـ قولهم : يعرض خبر الآحاد علي القياس فإن وافقه قبلناه ، وإلا لم نقبله ! !
وهذا كسابقه من عفن العقول ، لا دليل عليه من كتاب ولا سنة .
3 ـ قولهم : أن الصحابي إذا روي حديثا ثم عمل بخلافه لم نقبل هذا الحديث ولو كان إسناده صحيحاً .
وهذا والله ضعف في العقول والقلوب ، فربما نسي هذا الصحابي ما رواه وهذا وارد لذا عمل بخلافه ، وربما تأوله ، أو ظن نسخه ، والعبرة بما رواه وثبت بإسناد صحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم .
4 ـ عدم قبول حديث الآحاد إذا خالف أصلاً من أصول الشريعة .
وهذا الذي يقول هذا القول لا يستطيع رد قول من أقوال إمامه إذا تعارض مع أصول الشريعة ، بل سيبحث ويدور دوران الرحي حتي يجد وجهاً للجمع ، أما في حديث النبي صلي الله عليه وسلم فلا ، إنما يرد الحديث ! !
وبهذه القواعد السقيمة المحدثة التي هي من قبيل البدعة في الدين ، بها تحكموا في السنة النبوية الشريفة ، مع إن العكس هو المطلوب الذي أمرنا الله سبحانه به ! !
قال تعالي " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة " ، فجعل سبحانه قضاء رسول الله صلي الله عليه وسلم نافذا لا يحل تركه أو نبذه أو تفضيل غيره عليه ، أما هذه القواعد فقد جعلت من السنة دمية يلعب بها هؤلاء لعب الأطفال بالدمي ! !
ومن أسخف الأقوال ، بل قل من أعجبها وأطرفها ، أنهم لما أرادوا أن يردوا حديث أبي هريرة في المصراة وهو حديث صحيح ولم يجدوا له حيلة ، قالوا : أبو هريرة ليس من فقهاء الصحابة ! !
فهذه القواعد التي زعمها أهل الأصول والكلام والفلسفة هي التي تحكمت في الدين في ما بعد ، وبدلا من أن ترد هذه القواعد إلي السنة لتقرر صوابها من خطأها ، بدلا من هذا أصبحت السنة ترد إلي تلك القواعد ، فما كان يوافق تلك القواعد قبلوه ، وما خالف تلك القواعد ردوه ! !
فلم يعد الحكم في دين الله لله ولا لرسوله ، بل أصبح لتلك الشرذمة التي قعدت تلك القواعد ، والعجب أن واحدا منها ليس له دليلاً من الشرع ! !
المسألة الأولي : النظر في حد التواتر وحد الآحاد
اختلف الناس في حد التواتر ، وإنما اتفقوا أن كل ما ليس بمتواتر فهو من قبيل حديث الآحاد .
وحد المتواتر مسألة اجتهادية بحتة ، لا نص من الوحيين يحكمها ، لذا فقد اختلفوا فيها كما هو الحال دائماً .
1 ـ قال بعضهم : حد التواتر هو أن يروي الحديث من سبعين طريقا ، واستلوا بقول الله تعالي " واختار موسي قومه سبعين رجلا لميقاتنا " ، وهذا لا دلالة فيه البتة !
2 ـ وقال فريق آخر : حد التواتر هو أن يروي الحديث من أربعين طريقا ، واستدلوا بقول الله تعالي " فتم ميقات ربه أربعين ليلة " ! ! ، وهذا لا دلالة فيه أيضا !
3 ـ وهكذا كلما وجدوا رقما في القرآن جعلوه دليلا علي التواتر ، والله ورسوله من هذا بريئان ، ولم لا يكون حد التواتر هو قوله تعالي " وأرسلناه إلي مائة ألف أو يزيدون " ؟ ! ، أو قوله تعالي " مثني وثلاث ورباع " ؟ ! !
أو أي رقم آخر ذكره سبحانه وتعالي في كتابه العزيز ؟ !
ولو أراد الله سبحانه وتعالي أن يضع فاصلا بين المتواتر وبين الآحاد لبين ولفصل ، ولأمر نبيه عليه السلام أن يبين لنا .
وهذا الاختلاف في حد المتواتر يدل علي أنه من عند غير الله سبحانه ، إذ لو كان من عنده لما كان فيه اختلاف لقوله تعالي " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " .
ونسأل الذين يقولون بأن حد التواتر مثلاً أن يرويه سبعون صحابياً ، نسألهم هل إذا رواه تسعة وستون صحابياً خرج من حد التواتر أم لا ؟
فإن قالوا : خرج من حد التواتر طالبناهم بالدليل علي الأمر كله ، ولا سبيل إلي ذلك أبداً .
وإن قالوا : لا لم يخرج من حد التواتر ، قلنا : فإن رواه ثمانية وستون صحابياً ؟
فإن قالوا : يخرج عن حد التواتر ، طالبناهم بالدليل ، وإن قالوا : لا لم يخرج عن حد التواتر ، قلنا : فإن رواه سبعة وستون صحابياً ؟
وهكذا حتي نصل إلي الواحد ، إما دليل من كتاب الله أو صحيح سنة نبيه عليه السلام ، وإما الوصول إلي رواية الواحد ، لا سبيل إلا هذا .
المسألة الثانية :
إثبات التواتر المعنوي للروايات التي تبين أخذ الصحابة رضي الله عنهم بأخبار الآحاد وإقراره لهم علي ذلك من غير تفريق بين عقائد وعبادات ، ولو كان هذا من الدين لبينه عليه السلام .
1 ـ عن توبة العنبري قال : قال لي الشعبي : أرأيت حديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قاعدت ابن عمر قريباً من سنتين أو سنة ونصف فلم أسمعه يحدث عن النبي إلا هذا قال : كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : إنه لحم ضب فأمسكوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلوا أو اطعموا فإنه حلال ، أو قال : لا بأس به ) ، شك فيه ، ( ولكنه ليس من طعامي ) .
فهاهنا قالت زوج النبي صلي الله عليه وسلم : إنه لحم ضب ، فقبلوه علي الفور ، وأقرهم عليه السلام ، ولم يقل لهم : ولكن هذا في العمليات أما في العمليات فلا يؤخذ به ، وهذا دليل علي عدم الفرق ، إذ لو كان هناك فرق لبينه عليه السلام ، وكما يقولون في كتبهم : لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
2 ـ عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيماً رفيقاً فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال : ( ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ) .
فهؤلاء نفر ، أي عدد قليل ، قيل لا يتجاوز العشرة ، وهؤلاء خبرهم خبر آحاد ، ومع هذا أمرهم النبي صلي الله عليه وسلم أن يرجعوا ويعلموا قومهم ، ولم يقل علموهم العبادات دون العقائد ، فدل هذا علي أنهما سواء .
3 ـ عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ) .
فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يمسكون عن الطعام بأذان بلال ، وهذا معناه أنهم كانوا يعتقدون دخول وقت الفجر عند سماع الأذان ، وهذه عقيدة أقر النبي صلي الله عليه وسلم عليها ولم ينكرها .
4 ـ عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة .
وهذه عقيدة أخري ، إعتقاد تحول القبلة قبل أن يتحولوا إليها فعلاً ، وقد أقرها عليه السلام .
5 ـ عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب من فضيخ وهو ، تمر فجاءهم آت فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها .
وهذه عقيدة أخري ، وهي اعتقاد أن الخمر حرام ، وبعد ذلك الإمتناع عنها ، فالإعتقاد يسبق العمل .
6 ـ عن عبيد بن حسين عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم قال : وكان رجل من الأنصار إذا غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدته أتيته بما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا غبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهده أتاني بما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن البين الواضح أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يوحي إليه من العقائد والعبادات ، فكان عمر يقبل خبر الواحد فيها من الأنصاري ، وهذا كان علي عهد الوحي ، فلو كان غير جائز للزم البيان .
7 ـ عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا : جاء أعرابي فقال : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله ، فقام خصمه فقال : صدق اقض بيننا بكتاب الله ، فقال الأعرابي : إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فقالوا لي : على ابنك الرجم ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة ثم سألت أهل العلم فقالوا : إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، وأما أنت يا أنيس لرجل : فاغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ، فغدا عليها أنيس فرجمها .
وهذا آخر وليس أخير .
8 ـ عن سعيد بن المسيب قال : أخبرني أبو موسى الأشعري أنه توضأ في بيته ثم خرج فقلت : لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا قال : فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : خرج ووجه ها هنا فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس ، فجلست ثم الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فتوضأ فقمت إليه فإذا هو جالس على بئر أريس وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر ، فسلمت عليه ثم انصرفت فجلست ثم الباب فقلت : لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم ، فجاء أبو بكر فدفع الباب ، فقلت : من هذا ؟ فقال : أبو بكر ، فقلت : على رسلك ثم ذهبت فقلت : يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن ، فقال : ائذن له وبشره بالجنة ، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة ، فدخل أبو بكر وجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني ، فقلت : إن يرد الله بفلان خيرا يريد أخاه يأت به ، فإذا إنسان يحرك الباب فقلت : من هذا ؟ فقال عمر بن الخطاب ، فقلت : على رسلك ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقلت : هذا عمر بن الخطاب يستأذن ، فقال : ائذن له وبشره بالجنة فجئت فقلت : ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فدخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عن يساره ودلى رجليه في البئر ، ثم رجعت فجلست فقلت : إن يرد الله بفلان خيراً يأت به فجاء إنسان يحرك الباب فقلت : من هذا ؟ فقال : عثمان بن عفان ، فقلت : على رسلك فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه ، فجئته فقلت له : ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك ، فدخل فجلس تجاهه من الشق الآخر ، قال شريك : قال سعيد ابن المسيب : فأولتها قبورهم .
فالبشري بالجنة ثلاث مرات لهم رضي الله عنهم كانت بخبر واحد ، ومع هذا لم يتأكدوا بسؤال النبي صلي الله عليه وسلم بعد دخولهم ، وسكت النبي صلي الله عليه وسلم ولم يعد القول عليهم ، فدل هذا علي أنه لا فرق بين العقيدة والعبادة .
9 ـ عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلا وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما قرأه مزقه ، فحسبت أن بن المسيب قال : فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق .
وهذا خبر واحد آخر في العقيدة والعبادة إلي كسري ، وكذا الرسول الذي عاد فأخبر النبي صلي الله عليه وسلم بتمزيق كسري للكتاب خبره خبر واحد .
10 ـ عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم : ( أذن في قومك أو في الناس يوم عاشوراء أن من أكل فليتم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم ) .
وهذا خبر واحد بأمر من النبي عليه السلام .
فهذه عشرة أحاديث في الأخذ بخبر الواحد لا فرق بين عبادة واعتقاد ، إلا لو قال قائل : هذه كلها أحاديث آحاد فلا تقوم بها حجة في المسألة .
فأقول : لم تقم دلالة بدليل صحيح إبتداءً علي الفرق بين الآحاد والمتواتر ولا بين العقيدة والعبادة ، هذا أولاً ،
أما ثانياً : فإن هذه الأحاديث العشرة لها عشرات الطرق الأخري التي تبلغها حد التواتر المعنوي .
صحيح أن هناك بعض الطرق الأخري لم ترتقي إلي درجة الصحة ، ولكن منذ متي كنتم تبحثون عن صحة الحديث ؟ ! !
المسألة الثالثة :
وهو المهم : أن كل عبادة لابد قبل فعلها أن أعتقد أنها من دين الإسلام الذي أنزله الله علي رسوله عليه السلام ، فقبل الصلاة لابد من الاعتقاد أنها من الدين ، وقبل السواك لابد من ذلك أيضاً ، وقبل صلاة الوتر لابد من الاعتقاد أن هذا وحي من الله لنبيه عليه السلام ، فكل عبادة يسبقها اعتقاد هذه العبادة ولا ريب ، فآكل الضب مثلا لابد أن يعتقد أنه غير محرم في شرعنا قبل أن يأكله ، وهذا واضح .
كيف يكون خبر الآحاد ظني الثبوت لا يحتج به في العمليات إلا بعد عرضه علي حثالة أفكار بني آدم ، ولا يحتج به في العلميات ؟ ! !
كيف والله سبحانه يقول " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " ، فلم يفرق سبحانه بين قبول نذارتهم في عقائد أو غيره ، فمن أين أتوا بهذا الفارق الذي لا أصل له في ديننا الذي نزل علي نبينا عليه السلام ؟ ! !
ويقول سبحانه وتعالي " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " ، أي إن جاءكم عدل فلا تتبينوا ، وهذا عند من يأخذ بمفهوم المخالفة ، فلم يأمر بالتفريق بين ما أتي به .
المسألة رابعة :
الكثير من آيات الكتاب تثبت حجية خبر الواحد :
ـ قوله تعالي " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " آل عمران 37.
فهذا زكريا عليه السلام لما أخبرته مريم الصديقة أن هذا الذي يراه عندها ليس لها حيلة فيه وإنما هو رزق يسوقه الله إليها قبل خبرها وصدقه ولم يشك في صدقها، وهذا الذي صدقها فيه من العلميات وليس من العمليات فتأمل .
ـ قوله تعالي " وجاء رجل من أقصي المدينة يسعى قال يا موسي إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " القصص 20.
وهذا خبر واحد من هذا الرجل لموسي عليه السلام،وقد قبله منه عليه السلام وعمل بمقتضاه .
وغيرها كثير من المواضع التي في كتاب الله سبحانه،وكلها تبين قبول خبر الواحد بلا تفريق بين عقائد وغيرها .
المسألة الخامسة :
أن ادعاء هؤلاء أن خبر الواحد لا تثبت به عقيدة وتثبت به العبادات ، وأن هذا ظني الثبوت وذاك قطعي الثبوت ، هذا الأمر نفسه عقيدة !! ، وعلي هذا فهو يحتاج إلي دليل من القرآن أو من الحديث المتواتر وهذا ما لا سبيل إليه البتة أبداً ، وما كان كذلك فهو دعوي مجردة عارية من الدليل ، وما كان كذلك فهو أبطل الباطل وتحكم في دين الله بلا برهان ولا حجة .
وانظر إلي هؤلاء الذين وضعوا هذه القواعد وهم يخالفونها بالهوي ، ولا شيء غير الهوي ، فمن يسمون بالأحناف يردون خبر الآحاد إذا جاءت به زيادة عما في نص القرآن بدعوي أن هذا من قبيل النسخ وآحاد السنة لا تنسخ القرآن ، وفي نفس الوقت يأخذون بخبر الواحد في نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة وهو زائد عن لفظ القرآن الكريم ، فالقرآن الكريم لم يذكر القهقهة من نواقض الوضوء ! !
وكذا قالوا : لا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد ، وفي ذات الوقت يخصصون قوله تعالي " فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً " بحديث الوضوء بالنبيذ ، وهو حديث آحاد فضلاً عن كونه هالك لا يصح أبداً ! !
وكم من حديث صحيح وليس ضعيفاً ردوه بهذه القواعد الحمقاء التي وضعوها بعقولهم المريضة :
1 ـ حديث الوتر علي الراحلة ، وهو صحيح لا مطعن فيه .
2 ـ حديث حمل النبي صلي الله عليه وسلم لأمامة بنت زينب في الصلاة .
3 ـ وحديث النهي عن عسيب الفحل .
4 ـ وحديث النهي عن منع الجار من غرس خشبة في الجدار .
5 ـ تأمين الإمام بعد قراءة الفاتحة في الصلاة .
6 ـ أحاديث بول الصبي علي الثياب .
7 ـ حديث رجم اليهوديين الزانيين .
8 ـ حديث رفع اليدين في الصلاة عند الكوع والقيام من الركوع .
9 ـ حديث الصلاة علي القبر .
10 ـ حديث اشتراط ظهر البعير بعد بيعه .
فهذه ومئات مثلها من الأحاديث الصحيحة الثابتة عطلوها وغيروا ما جاء به محمد عليه السلام ! !
بماذا ؟
بالقواعد التي وضعوها وجعلوها حكماً علي الوحي بدلاً من أن يتحاكموا هم للوحي !!
وعلي ما تقرر في هذا المبحث القصير فإن خبر الآحاد حجة بذاته في العلميات والعمليات ، وادعاء خلاف هذا دعوي عارية من الدليل لا حجة عليها من كتاب ولا سنة ، وما كان كذلك فهو باطل .
اللهم صل علي محمد وعلي آل محمد كما صليت علي آل إبراهيم ، اللهم بارك علي محمد وعلي آل محمد كما باركت علي آل إبراهيم .