رد شبهات أثارها البعض حول احتجاج المتقدمين
من المحدثين بالأحاديث الحسان عند المتأخرين
قال الله تعالى في كتابه العزيز : "يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب" ،
فالهوى ينسى صاحبه يوم الحساب !!
فقط يتذكر هـواه الذي يريد أن ينتصر لـه فماذا تكون النتيجة ؟
عـذاب شديد ………
نعوذ بالله من الأهواء وأهلها .
بعض المتأخرين لما رأى شعاع من النور ينفذ من بين الظلمات ، استفزه الشيطان ، وأوحي إليه أن يجمع بعض الشبهات التى يظنها أدلة ، ويضعها في كتاب ليضل به أهل العلم وطلبته ، زاعماً أن الحديث الحسن بشقيه وكونه موضع احتجاج عند المحدثين المتقدمين منهم والمتأخرين مسألة منتهية ، محسومة عند المتقدمين والمتأخرين !!
كيف لا ؟؟!!
والكذب علي العلماء أهون وأيسر من الكذب علي الله ورسوله !!
وهنا نرد علي هذه الأباطيل باختصار ، لا يخل بالرد ، ونذكر بسبب ذلك ألا وهو عدم التطويل فإن عدد الملازم لا يعنينا في شيء ، ولو أطلنا في كل مبحث لما انتهى هذا البحث إلا بعد سنوات طوال .
يقول الأخ محمد عبد المقصود في تقريظه لكتاب : القول الحسن في كشف شبهات حول الاحتجاج بالحديث الحسن :
وقد شاع في عصرنا بين ناشئة طلبة العلم قول خالف المنهج العلمي الدقيق لعلمائنا ، فقال حدثاء الأسنان بعدم الأخذ بالحديث الحسن لغيره ، بل وغالي بعضهم فلم يأخذ أيضاً بالحسن لذاته ، وفرحوا بهذا القول وتبجحوا به ، وطاروا به كل مطار ، مما أدي إلي إنكارهم لجملة كثيرة من الأحاديث الثابتة ، حتي وصل ببعضهم أن عاد إلي سماع الملاهي والمعازف بزعمه أن لم يصح في ذلك حديث ، ومنهم من أنكر ثبوت أحاديث المهدي ، وكذلك عدم صحة أحاديث إتيان المرأة في الدبر ، وعدم مشروعية صيام عرفة لغير الحاج ، وكذلك عدم مشروعية صيام الستة أيام من شوال لعدم صحة هذه الأحاديث ، وأمور أخري خاضوا فيها ، وفرقوا بين أقوال المتقدمين والمتأخرين ، ولسان حالهم يقول : انتهي الاجتهاد والقول قول المتقدمين زعموا ، مع نقلهم لأقوال مبتورة عن أهل العلم وتمسكهم بها لنصرة مذهبهم هذا ، ( أقول : انظر إلي الفقرة الخاصة بكلام الشافعي لتعلم من الذي ينقل الأقوال المبتورة ) ، في حلقات يطول ذكرها من مسلسل التهتك العلمي . انتهي الجزء المراد نقله .
أقول : أما قوله في تحقير من خالفه في الاحتجاج بما يسمي بالحديث الحسن عند المتأخرين ( حدثاء الأسنان ) وكذا قوله ( وفرحوا بهذا القول وتبجحوا به ، وطاروا به كل مطار ) ، فلا رد عليه في الدنيا ، والحساب بين يدي الرحمان .
أما قوله (مما أدي إلي إنكارهم لجملة كثيرة من الأحاديث الثابتة ) ، فالذي ينكر حديث ثابت غير الذي يقول أن هذا الحديث لا يثبت عندي ، والفرق بينهما أظنه واضح لا يحتاج إلي كثير بيان ، فهو ثابت عندك ، أما عندي فهو ضعيف ، فكان ماذا ؟؟
وأحاديث أفطر الحاجم والمحجوم أثبتها أحمد ، وضعفها يحيي بن معين رضي الله عنهما ، فهل كان يحيي ينكر الأحاديث الثابتة ؟؟
إنما ثبت هذا عند أحمد ولم يثبت عند يحيي ، هذا كل ما في الأمر .
وقوله (حتي وصل ببعضهم أن عاد إلي سماع الملاهي والمعازف بزعمه أن لم يصح في ذلك حديث ) ، ليس فيه حجة علي من خالفه ، بل هو أسلوب عاطفي في كسب في كسب قلب المستمع الجاهل بعلم الإسناد ولا علاقة له بالعلم ، وكل حديث ورد في تحريم المعازف صراحة لا يخلو سنده من مشكلة تقضي عليه ، وحديث هشام بن عمار سنده هالك ، من أوجه ، منها التكلم في هشام بن عمار نفسه وحفظه ، واتهام أحمد رحمه الله له بالتجهم ( راجع ميزان الإعتدال ترجمة هشام بن عمار ، وراجع قول الحافظ فيه في التقريب ) ، وكذا الكلام في كونه من معلقات البخاري ، أما دائه العضال فهو عطية بن قيس الذي عليه مدار كل أوجه الحديث .
ثم أن البخاري رحمه الله لم يخرج هذا الحديث للاحتجاج ، وإنما أخرجه شاهداً في باب تحريم الخمر ، أما مذهب البخاري في هذا ففي كتاب التفسير ، في تفسير قوله تعالي " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " ، قال البخاري رضي الله عنه علي ما أذكر : فكل لهو باطل إذا شغل عن ذكر الله .
وحديث عائشة الصحيح لا دلالة فيه علي التحريم ، وإنما فيه أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يسمع الغناء قبل دخول أبي بكر ، وسمع بعد دخول أبي بكر ، فمن ادعي أن قول النبي صلي الله عليه وسلم لأبي بكر ( دعهما ) ليس إقراراً للجاريتين ، فليس له متعلق في قول أبي بكر بحضرة النبي صلي الله عليه وسلم واصفاً الغناء بأنه ( مزمار الشيطان ) ،
وأخرج أحمد في مسنده قال : حدثنا مكي بن إبراهيم ، عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد رضي الله عنه ، أن النبي صلي الله عليه وسلم كان عند عائشة فدخلت امرأة ، فقال : ( أتدرين من هذه يا عائشة ؟ ) ، قالت : لا ، قال : ( هذه قينة بني فلان ، أتحبين أن تغنيك ؟ ) ، قالت : نعم ، فأعطاها طبقاً فغنتها .
وكذا أخرجه النسائي في الكبرى ، وسنده صحيح علي شرط الصحيح كما تري ، ولا مطعن فيه .
فالنبي صلي الله عليه وسلم سأل عائشة : ( أتحبين أن تغنيك ؟ ) ، ولو كان حراماً ما سألها عن هذا .
ولما قالت رضي الله عنها : نعم ، أعطاها طبقاً فغنتها !!
فالذي تقوله الأحاديث الصحيحة أن الغناء ليس بحرام ( لا نتكلم عن الفيديو كليب إنما نتكلم عن الغناء ) ، والمعازف ليست حراماً ، وللشوكاني رحمه الله ورضي عنه رسالة مفيدة جداً اسمها : إبطال الإجماع علي تحريم مطلق السماع ، فراجعها إن شئت .
وقوله ( وعدم مشروعية صيام عرفة لغير الحاج ) ، فالتفصيل الذي تفصله هذا فرع من قبولك تصحيح أحاديث الترغيب في صيامه ، وأحاديث الترغيب في صيام يوم عرفه بها مزيج من الضعف والاضطراب في السند والمتن لا تخفي إلا علي من لا بصر له .
وأصحها علي الإطلاق هم الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه أظنه من رواية سعد بن سعيد ، وهو أخو يحيي بن سعيد رحمهما الله تعالي .
ـ قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل :
سعد بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري أخو يحيى وعبد ربه ابني سعيد الأنصاري ، روى عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد ، روى عنه عبد العزيز الدراوردي وعبد الله بن نمير وأبو أسامة ، سمعت أبى يقول ذلك ، حدثنا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن حنبل قال : قال أبى : سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد ضعيف ، حدثنا عبد الرحمن قال : ذكره أبى عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : أنه قال : سعد بن سعيد صالح ، حدثنا عبد الرحمن قال : سمعت أبى يقول : سعد بن سعيد الأنصاري مؤدى ، قال أبو محمد يعنى أنه كان لا يحفظ يؤدى ما سمع .
ـ وقال ابن عدي في الكامل :
سعد بن سعيد بن قيس أخو يحيى بن سعيد الأنصاري مديني ، ثنا بن حماد ثنا عبد الله عن أبيه قال : سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد ضعيف الحديث ، وقال النسائي فيما أخبرني محمد بن العباس عنه قال : سعد بن سعيد بن قيس مديني ليس بالقوي .
أما قوله ( وكذلك عدم مشروعية صيام الستة أيام من شوال لعدم صحة هذه الأحاديث ) فالحديث الذي في صحيح مسلم أعله البخاري في التاريخ الكبير بقوله : ولا نعلم سماع عبد الله بن معبد الزماني من أبي قتادة ، وطرقه الأخري أوهي من بيت العنكبوت ، إلا طريق ثوبان رضي الله عنه ربما كان للبعض به متعلق ممن لا يهتمون بتعليل الأحاديث ، بل همهم الأوحد هو ترضية جميع الأطراف ، ومالك بن أنس رضي الله عنه ورحمه لما سُئِل عن صيام ستة أيام من شوال قال : هي بدعة ، ولا أعلم أحداً من أهل العلم والفقه صامها ، بل كلهم علي كراهيتها وبدعيتها خشية أن يُلحق برمضان ما ليس منه ، وهذا القول ثابت في في روايات الموطأ .
أما أحاديث إتيان المرأة في الدبر فهالكة لا تحتاج إلي كبير علم لردها .
ويقول الشيخ أسامة القوصي في تقريظه لنفس الكتاب :
ولهذا وصلوا إلي هذه النتيجة الواضحة البطلان ، فإما أبيض وإما أسود ، فما استطاعوا أن يتصوروا التداخل بين الأبيض والأسود لضعف بصائرهم .
أقول : لنقل أن الأبيض هو ما ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم وقاله ، والأسود هو شديد الضعف والمكذوبات وهو غير ثابت ولم يقله بالقطع ، فالسؤال الآن : ذلك التداخل اللوني الجميل درجته أنه بين الثابت وغير الثابت ؟؟ ، أم ماذا نسميه ؟؟
أنسميه ربما قاله وربما لم يقله ؟؟
أم نبحث عن اسم آخر ؟؟
فلنسميه إذن : ربما لم يقله وربما قاله .
فلا هو ثابت ، ولا هو غير ثابت ، فماذا هو ؟؟
وكيف ستلحقه بالثابت ؟
سؤال أحتاج إلي إجابة له !!
أما ضعف البصائر فمحل التيقن منه أو من عدمه بين يدي الرحمان سبحانه وتعالي ، أسأل الله سبحانه وتعالي السلامة لي ولإخواني .
أما المؤلف نفسه فيقول في مقدمته :
فكان من هؤلاء الشباب من يقول : لا نأخذ إلا بالقرآن والسنة فقط ، ويأخذ أحدهم القرآن ومعه بعض كتب السنة المجردة من الشروح وكتاب لسان العرب ولا شيء غير ذلك ، فكان النتيجة أن وصلوا لاعتقاد الخوارج وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
أما قوله ( فكان من هؤلاء الشباب من يقول : لا نأخذ إلا بالقرآن والسنة فقط ، ويأخذ أحدهم القرآن ومعه بعض كتب السنة المجردة من الشروح وكتاب لسان العرب ولا شيء غير ذلك ) فأقول لصاحب المباهالات : أي كتب الشروح كان يقرأ أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن تبعهم من التابعين ومن تبعهم ؟؟ ، أم أنك تري أن من اكتفي بالكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالي هدي للناس ، والسنة النبوية المشرفة سيضل لأنه لم يقرأ حثالة أفكار بني آدم ؟؟؟
وهل يمكن أن تخبرنا أي كتب الشروح كان يقرأ مالك بن أنس ؟
أو الشافعي أو أحمد ؟
أو يحيي بن معين وعلي بن المديني ؟
فأنت تعتقد أن الكتاب والسنة بالفهم اللغوي المبني علي العربية السليمة غير كاف ؟؟ ،
فانظر أين تضع قدمك أيها الشيخ الجليل .......
وأما قوله ( فكان النتيجة أن وصلوا لاعتقاد الخوارج وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) فهذه هي تهمة العصر لمن أراد أن يطعن خصمه ، ونحن والله يشهد لا نعتقدهم إلا من أهل البدع ، ولكن لو كان من لوازم الاهتداء بالكتاب والسنة من غير أراء بني آدم ومذاهبهم وفرقهم واختلافهم أن يقول المسلم برأي الخوارج لما وسعنا إلا اتباعه .
ثم يقول معرضاً بالدكتور حاتم بن عارف العوني صاحب كتاب المنهج المقترح : فانظر كيف ألغي عشرة قرون من حياة الأمة الإسلامية ، فهذه العصور في حياة الأمة الإسلامية في فهم هؤلاء كانت ضياعاً وضلالاً حتي جاء هؤلاء لينقذوا الأمة من الضلال ، فمعني كلام صاحب المنهج المقترح وأمثاله أن علماء الأمة من القرن الخامس إلي الآن إما لم يفهموا كلام المتقدمين ، وإما أنهم فهموه وهجروه عمداً ، وهم الذين فهموا كلام المتقدمين ونصروه ، فأي قول أفسد من هذا فإنا لله وإنا إليه راجعون .
أقول : ليس هناك ما يمنع أن يكون فهم رجل من المعاصرين أو عدة لكلام العلماء المتقدمين أصح وأولي من فهم من سبقه من أهل العلم ، خاصة الذين داروا في فلك المذاهب وظلمات الفرقة وعلوم الكلام .
وقد صح عنه صلي الله عليه وسلم قوله ( فرب مُبَلَغَ أوعي من سامع ) ، فإذا كان النبي صلي الله عليه وسلم يأمر بإبلاغ حديثه فلربما وعاه من يسمعه أكثر من الذي سمعه مباشرة من النبي صلي الله عليه وسلم ، فإن كان يمكن لمسلم لم يسمع من النبي صلي الله عليه وسلم مباشرة أن يعي معني قوله صلي الله عليه وسلم أكثر من صحابي جليل من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فهذا في من هم من متأخري الأمة بعد القرون المفضلة ليس هناك ما يمنعه أو يجعل العقل يرده ، وكلمة مُبَلَغَ في قوله صلي الله عليه وسلم تشمل كل من يبلغه حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم من هذه الأمة إلي يوم القيامة ، وأحب أن أُذكر أن هذا الحديث من الدين الذي نزل به الروح الأمين .
وهذه الفقرة قد ذكرتها في مبحث خاص بالقياس ، ولكن لا بأس من ذكرها هاهنا لتوضيح بعض الأمور :
ـ ما روي عنه صلي الله عليه وسلم في قصته لما بعث معاذاً إلي اليمن : عن رجال من أصحاب معاذ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن ، فقال : ( كيف تقضي ؟ ) ، فقال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : ( فإن لم يكن في كتاب الله ) ، قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ) ، قال : أجتهد رأيي ، قال : ( الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، ( اللفظ للترمذي رحمه الله ) .
قالوا : هذا نص صحيح صريح في القياس ، فالنبي صلي الله عليه وسلم أقر معاذاً علي أنه سيجتهد إن لم يجد في كتاب الله ولا في السنة المطهرة ، أي سيجتهد فيما ليس فيه نص شرعي ، وهذا لا يكون إلا بإلحاقه علي شيء منصوص عليه ، وهذا هو القياس .
واحتج به الآمدي في نفس المسألة ، وفي مسائل أخري كثيرة في كتابه إحكام الأحكام .
وقال أمام الحرمين في كتابه البرهان في أصول الفقه : والعمدة في هذا الباب علي حديث معاذ ، والحديث صحيح مدون في الصحاح متفق علي صحته لا يتطرق إليه التأويل .
وقال الغزالي : هذا حديث تلقته الأمة بالقبول ، ولم يظهر أحد فيه طعناً ولا إنكاراً ، وما كان كذلك لا يقدح فيه كونه مرسلاً ، بل لا يجب البحث عن إسناده .
وقال صاحب كشف الأسرار : إن مثبتي القياس متمسكون به أبداً في إثبات القياس ، ونفاته كانوا يشتغلون بتأويله ، فكان ذلك اتفاقا منهم علي قبوله .
قال ابن القيم في أعلام الموقعين عن رب العالمين : وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصاً عن الله ورسوله ، فقال شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال : ( كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟) ، قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : (فإن لم يكن في كتاب الله ؟) ، قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : ( فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : أجتهد رأيي لا آلو ، قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدري ثم قال : ( الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) .
فهذا حديث وإن كان رواته غير مسمين فهم أصحاب معاذ ، ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث ، وقد قال بعض أئمة الحديث إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به ، قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم .
وراجع كتب أصول الفقه لترى أقوالهم في الاحتجاج بهذا الحديث علي حجية القياس ، وأنه عمدة أدلتهم في المسألة .
أقول : ووالله لو ثبت لكنت أول القائلين بالقياس بلا أدني شك ، وكذا كل من رد الحديث وأنكر القياس من أهل علم النبوة رضي الله عنهم لو ثبت عندهم لقالوا به ، فهم والله أهل العلم والفضل وإتباع الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم ، أما أهل الجهل بالنقل وعلم النبوة فهم يتخبطون ، ومهما كانت النوايا حسنة فإن النتائج تكون مريرة ، ولهذا فإن كتب الأصوليين والفقهاء وأصحاب السير والمفسرين -إلا المسند منها- أفسدت من حيث أرادوا أن يصلحوا ، فالخير كل الخير في ميراث محمد صلي الله عليه وسلم تعلماً وتعليماً وعملاً .
ولننظر إلي أقوال أهل العلم في هذا الحديث ، أعني أهل الحديث :
1 ـ قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل .
2 ـ وقال البخاري في تاريخه : الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ وعنه أبو عون ، لا يصح ولا يعرف إلا بهذا .
3 ـ وقال الداراقطني في العلل : رواه شعبة عن أبي عون هكذا وأرسله بن مهدي وجماعات عنه والمرسل أصح .
4 ـ قال أبو داود : أكثر ما كان يحدثنا شعبة عن أصحاب معاذ أن رسول الله ، وقال مرة : عن معاذ .
5 ـ وقال عبد الحق : لا يسند ولا يوجد من وجه صحيح .
6 ـ وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية : لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه .
7 ـ وقال ابن طاهر في تصنيف له مفرد في الكلام على هذا الحديث : اعلم أني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار وسألت عنه من لقيته من أهل العلم بالنقل فلم أجد إلا طريقين ، أحدهما طريق شعبة ، والأخرى عن محمد بن جابر ، عن أشعت بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ وكلاهما لا يصح ، قال : وأقبح ما رأيت فيه قول إمام الحرمين في كتاب أصول الفقه والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ ، قال : وهذه زلة منه ولو كان عالماً بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة .
8 ـ قال ابن حجر في تلخيص الحبير : كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه فإنه قال : والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته .
9 ـ وقال ابن حزم : لا يصح لأن الحارث مجهول وشيوخه لا يعرفون ، قال وادعى بعضهم فيه التواتر وهذا كذب بل هو ضد التواتر لأنه ما رواه أبي عون عن الحارث فكيف يكون متواتراً ؟
وقال أيضاً : وأما حديث معاذ فيما روي من قوله أجتهد رأيي ، وحديث عبد الله بن عمرو في قوله أجتهد بحضرتك يا رسول الله فحديثان ساقطان .
فمن الناس بعد هؤلاء ؟!!
فيا أولي الألباب من الأولي أن يتكلم في هذه الأصول إن جاز لأحد أن يتكلم فيها ؟
أهل الحديث والعلم به ، أهل المعرفة بما ثبت عن نبيهم صلي الله عليه وسلم ، ورثة علوم الرسول الكريم عليه السلام ، أهل العلم بالأدلة ، أم أهل الكلام والفلسفة والمنطق الذي اختلط بالمذهبية العفنة ؟؟
أهل الإتقان ومعرفة العلل ، أم الذين لا يعرفون الفرق بين الصحيحين وبين كتب قدماء المصريين .
والله إن اسم إمام الحرمين لينخلع القلب له رهبة ، ومع ذلك لا يعلم شيئا عن الحديث الذي يستدل به في مسألة أصولية يتفرع عليها المئات من الفروع ، بل لا يتردد ولا يقول مثلاً : وأظنه في الصحيح ، بل يجزم بمنتهي الثقة والتأكد أن الحديث مدون في الصحاح ومتفق علي صحته !!
هل رأيتم أعجب من هذا ؟؟
وإذا وعي قلبك هذا فلا تتعجب إذا سمعت الغزالي الشهير بحجة الإسلام يقول : أن هذا الحديث متواتر ، وتلقته الأمة بالقبول ، ولا يجب البحث عن إسناده ، ولم يطعن فيه أو ينكره أحد !!
حديث يدور علي صحابي واحد هو معاذ بن جبل رضي الله عنه يصفه بالتواتر ، ثم يقول إن الأمة تلقته بالقبول وكأن كل هؤلاء الأعلام ليسوا من الأمة !! ، ولم يطعن فيه أحد أو ينكره طبعا كما رأيتم ، ولذا لا يجب البحث عن سنده !!
وأما صاحب كشف الأسرار فمبلغ علمه أن نفاة القياس اشتغلوا بتأويل هذا الحديث لأنهم بالطبع لا يجدون منه مهرباً كما نري !! ، فيحاولون جاهدين أن يجدوا له تأويلاً مقبولاً !!
ومن المؤكد أنه لم تبلغه هذه الأقوال من جبال الأمة ورجالها !!
وهذا من أكبر الأدلة علي الظلام الذي حدث بعد القرن الثالث ، حتي المنتسبين إلي العلم ألقوا كتب السنة وعلمها خلف ظهورهم واشتغلوا بالفلسفة والكلام وكتب المذاهب ، والمشتغل منهم بالحديث يظن أن كل حديث في كتب السنن والصحيحين قد وضعوه للإحتجاج به !! ، حتي أن بعضهم سمي الكتب الستة : الصحاح الستة !!
فتمخض هذا عن هؤلاء ومئات من أمثالهم ، يحسبهم الجاهل من أهل العلم فيعض علي كلامهم بالنواجذ ، وهم لا يعرفون غير علم أرسطاليس وأشباهه ، وللشيخ الألباني رحمه الله رسالة مفيدة جداً سنذكر مقاطع منها في مبحث قادم إن شاء الله ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
أما ابن القيم فيعلل قبول القرون السابقة لهذا الحديث فيقول : أنه روي عن أصحاب معاذ ، وهذا أقوي من أن يكون روي عن صاحب واحد من أصحابه ، ولذا يجب قبوله .
فماذا سيقول يا تري في كون المرسل هو الصحيح ؟
أي أن الصواب هو رواية الحديث مرسلاً بدون ذكر : عن معاذ ، وهذا ما رجحه الداراقطني رحمه الله في علله .
فالعلة الآن علتان : جهالة الرواة عن معاذ ، والخلاف في وصله وإرساله والراجح هو الإرسال .
فهذا نموذج لأقوال أهل العلم الذين لم يكن همهم الأوحد هو الحديث الشريف وإنما خلطوا به غيره من العلوم الغريبة عن الإسلام ، وانظر إلي أسمائهم التي ترتجف لها قلوب الرجال ، هذا شيخ الإسلام ، وذاك حجة الإسلام ، وثالثهم إمام الحرمين !!
فالزم طريق الحديث تنجو بإذن الله ، وإن لم تكن أبصرت ما حدث من خلل فابك علي نفسك من الآن .
فهل رأيت الآن ما قاله إمام الحرمين والآمدي والغزالي وابن القيم ومئات ممن تبعهم علي هذا القول ؟؟
وهل رأيت قول البخاري والترمذي والداراقطني وغيرهم من المحدثين ؟؟
وهل قرأت مثلاً فتاوي ابن الصلاح الذي وضع هذه القواعد بفهمه وتبعوه من غير تنقيب ولا تفتيش ؟؟!!
فهل هؤلاء هم الذين يصفهم بأنهم أفهم لكلام المتقدمين من غيرهم ؟؟!!!
فأنت الآن تريد منا أن نسلم عقولنا لابن الصلاح ومن تبعه ، ونغلق عقولنا ، ونغلق كتب الحديث ، ونتفرغ لتقليد كل من كتب أو قعد قاعدة في كتاب !!
وعن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( لتتبعن سنن من قبلكم ، شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ ، قال : فمن ؟ ).
فهذه نبؤة نبينا عليه السلام بأننا سنسير علي درب اليهود والنصارى ، وهل فعلوا إلا تحريف الدين ، والتمذهب والفرقة ؟؟
وهذا أدعي أن يبحث من لديه القدرة علي البحث عن كل صغيرة وكبيرة ولا يُسلم عقله لأحد إذا ظهر له الدليل الصحيح .
أما قضية معرفة الحق بالعدد والوزن فمردود عليها بما رواه أبو أسماء الرحبي عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) .
والقلة محمودة علي الدوام في كتاب الله ،
قال سبحانه وتعالي : " وما آمن معه إلا قليل " ،
وقال تعالي : " إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " ،
ويقول سبحانه وتعالي عن الكثرة :
" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك " ،
" وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " ،
" وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " ،
فظهر أنه لا دلالة في الكثرة علي الحق ، بل دائماً هم اقرب للباطل .
ويقول أيضاً في مقدمة كتابه السابق ذكره :
وأيضاً انا أتحداهم أن يدرسوا منهجاً فقهياًُ ، أو يؤلفوا كتاباً فقهياً يصلح لغير المتخصصين وعوام المسلمين ، فإنهم لو سلكوا منهجهم في ذلك لخلت الأبواب من الأدلة وتعطلت السنن .
أقول : هذا الكلام مبني علي قاعدة فاسدة ، بل قل غاية في الفساد ، ألا وهي جعل النتيجة دليلاً عل المقدمة التي تسبق هذه النتيجة ، وهذا الأسلوب في التفكير يدل علي عجز شديد في القدرات العقلية والعلمية لمن يتخذه لنفسه أسلوباً .
فهذه الفقرة يريد أن يقول لنا فيها : إذا لم نحتج بالحسن لغيره أو الحسن لذاته فكيف سنقول دعاء كفارة المجلس ؟؟
أو كيف سنقول غفرانك بعد الخروج من الخلاء ؟؟
أوجدوا لنا طريقة ، فإن لم تجدوا فليس هناك بد من الاحتجاج بالحديث الحسن !!
هذه هو معني كلامه بالضبط !!
أقول لك : إن لم تجد حديثاً صحيحاً يثبت لك قولة غفرانك بعد الخروج من الخلاء ، فاضرب علي هذا الباب في عقلك ، ولا تقل شيئاً بعد الخروج من الخلاء ، ولا تجعل همك الأعظم أنك وجدت سلفك علي هذا ، فتتمسك بقاعدة باطلة لتؤيد لك ما أنت عليه أنت ومن سبقك .
ومن تخبطه في كتابه الذي أخذ يحشوه بمواضيع لا علاقة لها بالموضوع :
قال : سبق أن بينا أن الحديث الحسن هو : الحديث الذي يقع في إسناده راو أو أكثر عدل ضابط خف ضبطه عن ضبط راوي الصحيح مع اتصال سنده من غير شذوذ ولا علة قادحة .
وقد قلنا : إنه يقع في إسناده راو فأكثر عدل ضابط خف ضبطه إلي آخره ، لأن الإسناد إن كان فيه راو واحد كذلك فإن الإسناد يكون حسناً ، وإن كان كل رواته بهذا الوصف فإنه يكون حسناً كذلك .
ومقتضي هذا أن السند الذي فيه مثلاً ثلاثة من الرواة الموسومين بخفة الضبط هو حديث حسن !!
ولاحظ أنه يشترط سلامة الحديث الحسن من العلة ، وهذا مخالف لما وضعه الترمذي والخطابي ، بل ومخالف لأقوال الأئمة في وصف حديث معلول بالحسن ، وراجع علي سبيل المثال كتاب علل الترمذي الكبير ، باب صلاة الخوف ، لتري كيف وصف البخار حديثاً معلولاًً بأنه حديث حسن .
ألا يكفيك أن ما أنت عليه مخالف لما كان عليه هؤلاء ؟؟
فأنت تشترط السلامة من العلة ، وهم يطلقون الحسن علي المعلول ، ثم تدعي أنك ومن تسير علي دربهم أفهم لكلامهم من غيركم !!
وقال في موضع : لا شك في كون الحافظ ابن حجر أفهم لكلام البخاري والترمذي من طالب علم في القرن الخامس عشر .
وقال في موضع آخر : فنقول لكم : هل أنتم أفهم لكلام الأئمة المتقدمين من ابن الصلاح أو ابن تيمية أو ابن حجر أو غيرهم ممن ذكرناهم ومن لم نذكرهم ؟
أقول : هذا هو كلام أهل التقليد والمذهبية بعينه ، فكل كلام أو دليل يخالف قول إمامهم يسألوك : هل كان الإمام لا يعرفه ؟ ، وهل ستفهم أكثر من الإمام ؟؟؟
ثم نسأل نحن هل أنت ومن يعتقد مثل ما تعتقد أفهم لقول مالك في الصفات : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة من ابن حجر ؟؟
ووافقه علي هذا الفهم النووي ،
وإمام الحرمين ،
وأبو الحسن الأشعري ،
والغزالي ،
وآلاف من مشاهير علماء المسلمين .
فهل كل هؤلاء كانوا علي خطأ ؟
وكذا قوله في شرح حديث ( خطبنا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي إثر سماء كانت بليل ) ، قال : وقد قرأت بخط بعض شيوخنا أنه يؤخذ من هذا الحديث أن للولي المتمكن من النظر في الإشارات أن يقول القول وينسبه إلي الله !!!
ولم يستنكره ، أو يوهنه ، فهذا إقرار منه علي هذا القول .
وكذا قوله في جواز التبرك بالصالحين من بني آدم في شرح عدة أحاديث منها حديث غسل ابنة النبي صلي الله عليه وسلم عند وفاتها رضي الله عنها .
فهل أنت أفهم لكلام المتقدمين في هذه المسائل أم ابن حجر ومن تبعه في كل مسألة ، وفي كل مسألة منها تبعه أسماء تخيف من يقرأها ؟؟؟!!
فهل تخالفه في هذه المسائل أم توافقه ؟؟
فإن قلت أنك تخالفه لأن الدليل بخلاف قوله ، وأنه عندك بشر يخطئ ويصيب .
أقول لك : فدعنا نُحكِم الدليل في كل مسألة ، وتدعنا من الانتصار لقول بدليل أن فلاناً قاله أو ذهب إليه .
وإن ذهبت مذهبه في كل هذا فقد قُضي الأمر معك .
ـ قال هذا المؤلف في كتابه :
قال الشافعي في الرسالة :
المنقطع مختلف فيه فمن شاهد أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم من التابعين فحدث منقطعاً عن النبي صلي الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور :
1ـ إن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلي رسـول الله صلـي الله عليه وسلم بمثل معني ما روي ، كانت هذه دلالة علي صحة من قبل عنه وحفظه .
2ـ وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك ويعتبر عليه بأمور :
ـ هل يوافقه غيره بمرسله ممن قبل عنه العلم من غير رجاله الذين قبل عنهم ، فان وجد ذلك كان ذلك دلالة تقوى مرسله ، وهى أضعف من الأولي ، " هذا نص كلام الشافعي كما في الرسالة " .
ـ وإن لم يوجد نظرنا إلي بعض ما يرويه بعض أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم قولا له " أي موقوفاً " ، فان وجد يوافق ما روي عن الصحابي كانت هذه دلالة علي أنه لم يأخذ مرسله إلا من أصل يصح .
ـ وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم .
ـ وكذا إن كان إذا سمى من روي عنه لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عنه في الرواية ، فيستدل بذلك علي صحته فيما روى عنه ، ويكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه ، ومتى خالف ما وصف أضر بحديثه حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله . انتهي كلام الشافعي .
قال المؤلف : فهنا يبين الشافعي رحمه الله أن المرسل إذا جاء من وجه آخر مرسل من غير رجاله فإنه يقوي أحدهم الآخر ، انتهى كلام الرجل .
ولن نذكر شرحاً ولا تعليقاً إلا بعد أن نكمل كلام الشافعي :
قال : وإن وجدت الدلالة بصحة حديثه أحببنا أن نقبل مرسله ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل !!!
ويل للتدليس ماذا يفعل بأهله !!
فقط يقول الشافعي أحببنا ولم يوجب قبول هذا المرسل للاحتجاج لا علي نفسه ولا غيره ، ونقبل كما هو معلوم لا تعني أن نحتج بمرسله ، ولكن تعنى ألا نرد هذا المرسل ولكن يعتبر به ، وقد سبق بيان طريقة المحدثين المتقدمين في ذلك رحمهم الله تعالي ، وأنه ليس كل ما قبلوه للتخريج والتدوين قبلوه للاحتجاج به ، وظهر الفرق بين الأمرين واضحاً .
لذا فإنه فصل وقال : وهي دلالة أضعف من الأولي فتأمل .
ومع ذلك يقر بأن الحجة لا تقوم به كما تقوم بالمتصل !!
وهذا صحيح !!
أي أن قبول هذا المرسل وعدم رده لا يعنى بحال من الأحوال أنه يصلح حجة كالمتصل .
أي أن المرسل إذا توفر فيه أعلي شرط شرطه الشافعي وهو أن يروي هذا المعنى الثقات الأثبات متصلاً مرفوعاً ، إذا توفر فيه هذا فهو ليس كالمتصل في الحجية !!
وإذا تأملت كلام الشافعي رحمه الله لوجدت أن معناه ألا يكون هذا المتن المروي شاذاً ، وأن يكون من رواه يأخذ من أصول صحيحة ، ولا يخالف الحفاظ المأمونين فيما يروونه !!
وهذا والذي بعث محمداً بالحق كأنه نسخة من تعريف الترمذي رحمه الله تعالي الذي اشترط عدم الشذوذ مع عدم اشتراطه عدم العلة ، وهو نفس كلام الشافعي الذي لا يطرح المرسل الذي يعله الموقوف الصحيح ، بل يعتبره معلولا بهذا ، لكنه ليس بشاذ فتأمل !!!
ونسـأل هذا الرجل : هل توافـق الشافعي علي مسح الرأس ثلاثاً في الوضوء ؟؟ ، فهو يحبه أيضاً !!
بالطبع تخالفه ، هل توافقه في الجهر بالبسملة في الصلاة ؟؟
بالطبع لا !!
وعشرات المسائل أمثالها ، ما الذي جعلك تطرح أقواله في هذه المسائل وتحتج بها في هذه المسألة ؟؟
إن قلت الدليل أرحتنا واسترحت ، وإلا فهو ما حذر منه الرحمن : الهوى !! ، نعوذ بالله منه .
نعود إلي كلام الشافعي :
أ ـ الشافعي لم يطلق الكلام علي المرسل وإنما حدد أنه خاص بمراسيل التابعين الذين رأوا أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم ، فلا يدخل فيه مراسيل صغار التابعين مثلاً ، فتأمل .
ب ـ الشافعي لم يتعرض للأحاديث الضعيفة والكسيرة والجريحة كما يفعل هذا المتأخر وإضرابه .
ج ـ إذا روي الحفاظ المأمونون ما رواه التابعي الكبير مرسلاً ، رووه متصلاً بمعناه ، دل هذا فعلاًً علي صحة المعنى ، ولم يدل علي كون التابعي أصاب في حفظ الإسناد ولا كونه إذا سمى سمى عدلاً حافظاً .
د ـ الشافعي نفسه يقر أن رواية الحفاظ المأمونون لما رواه التابعي الكبير دليل علي صحته ، " وهذا غير مسلم له " ، أما ما تلاه من شواهد كموافقة قول صحابي أو فتوى أهل العلم فهذه الدلالات كلها أضعف من الأولي كما قال الشافعي نفسه .
ه ـ بعد كل هذا يقول الشافعي : ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل .
و ـ لم يصرح أو يلمح أن هذه المراسيل للاحتجاج بها .
وانظر إلي كلام ابن رجب رحمه الله :
فإذا وجدت هذه الشرائط دلت علي صحة المرسل وأن له أصلاً وقبل وأحتج به ( هذا منتقد بكلامه القادم ) ، ومع هذا فهو دون المتصل في الاحتجاج .
ـ فإن المرسل اجتمعت فيه هذه الشرائط يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذاً عمن لا يحتج به .
ـ ولو عضده حديث متصل صحيح لأنه محتمل ألا يكون أصل المرسل صحيحاً .
ـ وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما واحد وأن يكون متلقي عن غير مقبول الرواية .
ـ وإن عضده قول صحابي فيحتمل ، أن الصحابي أخطأ في رأيه من غير سماع من النبي صلي الله عليه وسلم ، فلا يكون في ذلك ما يقوى المرسل .
ـ ويحتمل أن المُرسِل لما سمع قول الصحابي ظنه مرفوعا فغلط في رفعه وأرسله ولم يسم الصحابي ، فما أكثر ما يغلط في رفع الموقوفات .
ـ وإن عضده موافقة قول عامة الفقهاء فهو كما لو عضده قول الصحابي وأضعف ، فإنه محتمل أن يكون مستند الفقهاء اجتهاد منهم وأن يكون المرسل غلط ورفع كلام الفقهاء .
ولكن هذا في حق كبار التابعين مستبعد .
انظر يرحمك الله إلي هذا التناقض العجيب !!!
الأمر عنده محسوم الحديث المرسل بهذه الشروط عنده وعند جميـع المتأخرين حجة ويتقوي ويحتجون به ، واستقـر صنيعهم علي هذا ؟؟!
ثم ينقده هذا النقد اللاذع وهذا أيضا ما فعله الذهبي في الموقظة عندما تكلم عن حد الحديث الحسن .
نسأل هؤلاء المتمسحين في كلام الشافعي : الحديث الحسن عندكم تقوم به الحجة كالصحيح تماماً أم لا ؟؟ ، وبمعني آخر : إذا عارض حديث حسن حديث صحيح ماذا ستفعلون ؟؟
ستطرحون الحديث الحسن ؟؟
أم ستجمعون بينهما ؟؟
إن قلتم : لا ، فليس لكل هذه الضجة معني لأن الصحيح يقين والحسن ظن لا يغنى من الحق شيئاً ، وإن قلتم نعم مثله في الحجية خالفتم كلام الشافعي الذي تحتجون به ، وهو في النهاية بشر يصيب ويخطئ ، هذا بفرض أن قوله موافق لقولكم .
واليكم أمثلة تؤكد لكم أن الشافعي لم يكن يقوي الأحاديث ببعضها كما ادعي بعضهم وإن كان احتج بأحاديث لا ترقي إلي درجة الصحة في بعض المسائل ، إلا أن الجواد قد يكبو ، والصارم قد ينبو ، رحم الله الشافعي وغفر له :
أ-الأم فقرة مسح الأذن في الوضوء :
قال الشافعي : ولو ترك مسح الأذنين لم يعد لأنهما إن كانتا من الوجه غسلتا معه ولو كانتا من الرأس كفي ماسحهما أن يمسح بالرأس ،،،،،،،،،
والشاهد أن حديث الأذنان من الرأس لم يثبت عنده مع كثرة طرقه .
وهذا مجرد مثال .
مثال من الأم أيضاً :
قال الشافعي في الأم باب التسمية علي الوضوء :
أحب للرجل أن يسمى الله عز وجل ابتداء وضوئه فإن سهي سمى الله متى ذكر وإن كان قبل أن يكمل الوضوء .
وإن ترك التسمية ناسياً أو عامداً لم يفسد وضوئه .
انتهى كلامه من الأم .
والشاهد قوله وإن ترك التسمية ناسياً أو عامداً لم يفسد وضوئه .
ومعنى هذا أن طـرق أحاديث التسمية عنـد الوضوء لا تثبت عنـده علي كثرتها !!
وكذا عند البخاري والترمذي وأحمد .
ثم نجد مع الأسف في عصرنا الحالي من يصنف رسالة في ثبوت حديث التسمية عند الوضوء !!!
وللزيادة راجع : قوله في الفرق بين بول الجارية والغلام والأحاديث الواردة في ذلك ،
وكذا أحاديث كراهية فضل طهور المرأة وقول الشافعي ،
وكذا الحجامة للصائم ، وقوله في المسألة .
ولاحظ أن كل هذه المسائل فيها أحاديث ترتقي إلي درجة الصحة بمجموع طرقها عند من يقوي الطرق ببعضها .
وراجع قول الشافعي فيها جميعاً وفي غيرها لتعلم أنه لم يكن يقوي الأحاديث ببعضها ويرقيها كما فعل المتأخرون .
ومن أراد الزيادة فالأم مطبوع ولله الحمد .
" وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين "
أما معني قول الشافعي أحببنا أن نقبل مرسله فهو يعنى عدم رده وطرحه ، فقبول الراوي أو الرواية غير الاحتجاج بالراوي أو الرواية .
وبهذا الفهم تستقيم أقوال الشافعي مع الأمثلة التى ضربناها من كتاب الأم وما شابهها .
وقد يكون الشافعي لا يقوي الطرق ببعضها ثم تجده يحتج بحديث ضعيف فتظن أنه إنما احتج به لما اعتضد بشاهد أو متابع ، فاعلم أن كل عالم بشر ، وليس الكمال إلا لكتاب الله سبحانه وتعالي ، أما كتب بني آدم فلابد أن يعتريها النقص .
ـ أما الرجل الثاني الذي يحتج بالحسن عندهم فهو محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله ، هل سمعتم قولاً أعجب من هذا ؟؟
ومن أراد رد هذه الشبهة التى لن نضيع وقتنا في ردها فليراجع باب تخليل اللحية في كتاب العلل الكبير وتحسينه لأحاديث الباب إلا حديث أبي سورة عن أبي أيوب لم يحسنه ، " طبعا البخاري رحمه الله يقصد معني الحسن عند المتقدمين " .
وكذا باب ويل للأعقاب من النار ومن العجيب أن هذا الحديث عنده في الصحيح من أوجه فكان يجب عليه أن يصحح هذه الطرق لا أن يحسنها ، فتأمل .
وغيرها من الأمثلة لمن أراد التوسع ، يطلق الحسن علي طريقين أو ثلاثة ، ثم يتوقف في الرابع ، مع أن مقتضي تعدد الطرق أن يحسن الجميع فتأمل .
وأهل العلم يخطئون أحياناً في تصحيح حديث أو تضعيفه ، فلا يحسن بنا أن نعتبر أخطاءهم قواعد عامة فهم رحمهم الله بشر يصيب ويخطئ .
والرواة الذين تكلم البخاري عن أوهامهم كعبد الرزاق مثلاً إنما خرج لهم في مواضع معينة ،
لا تخفي علي من تأملها .
ككون الحديث من طريق الراوي محل النقد صحيح من طريق ثاني أنزل من الأول .
أو كون الباب دليله الأصلي من كتاب الله عز وجل فيأتي بالحديث كأنه متابعة لثبوت الحكم ابتداء بالكتاب ،
أو أن يسمح له هذا الشيخ بالنقل من أصوله المكتوبة ، وهكذا.....
وكل بشر يصيب ويخطئ ، والبخاري قد يخرج لأحد الرواة وهو عنده ثقة ، لأنه لم يبلغه ما يكون سبباً في ضعفه عنده ، وبهذه الكيفية يكون حديث هذا الراوي عند البخاري صحيح ، ويتكلم بعض أهل الجرح والتعديل في هذا الراوي بما بلغهم من خفة ضبطه مثلاً أو سوء حفظه ، فيكون حديث نفس الراوي عند غير البخاري ليس في درجة الصحة ، فليس معني هذا أن البخاري رحمه الله يحتج بما دون الصحيح ، ولكن كل يحتج بما هو صحيح عنده ، فإن اختلفوا يرد الجميع إلي قواعد علوم الحديث والجرح والتعديل ليتم الفصل في هذا الراوي محل الخلاف وهذا هو الصواب لا شيء غيره فتدبر ، ولو كان البخاري رحمه الله يحتج بالحسن الاصطلاحي عند المتأخرين كما يظنون لتغيرت معظم تراجمه في الصحيح علي الأحاديث ليجمع بين ما صح عنده ووضعه في جامعه وبين ما يعارضه من أحاديث حسان .
ـ والرجل الثالث عنده الذي يحتج بالحديث الحسن ويقوي الطرق بعضها ببعض هو يحيي بن سعيد القطان ، قال اسحاق بن هانئ : قال أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل : قال لي يحيي بن سعيد : لا أعلم عبيد الله يعني ابن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع عن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ( لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام ....... الحديث ) .
قال أبو عبد الله : فأنكره يحيي بن سعيد عليه .
قال أبو عبد الله : قال لي يحيي بن سعيد : فوجدته قد حدث به العمري الصغير عن ابن عمر مثله .
قال أبو عبد الله : لم يسمعه إلا من عبيد الله ، فلما بلغه عن العمري صححه .
قال المؤلف : والعمري الصغير هو عبد الله بن عمر العمري ، وهو ضعيف في روايته ، ومع ذلك اعتد بها يحيي بن سعيد القطان ، وقوي بها رواية أخيه الثقة عبيد الله بن عمر ، وأزال النكارة عن رواية عبيد الله ، ولو كانت رواية العمري المضعف لا تضيف قوة لما اعتبرها يحيي بن سعيد القطان ، وأقره أحمد علي ذلك .
أقول : ليس بعد هذا تدليس لنصرة ما في العقل .
فالقطان رحمه الله يقول : لا أعلم عبيد الله يعني ابن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع عن ابن عمر ، ومقتضي هذا أن عبيد الله عنده ثقة ثبت في نافع ، فهو لا يعرف له خطأً إلا في هذه الرواية ، وكفي بالمحدث أن تكون أخطاؤه معدودة ، ولكن الروايات الأخري تظاهرت علي لفظة : مسيرة يوم بليلة ، ولهذا استنكر القطان رحمه الله هذه الرواية ، والضعيف لا يخطئ في كل روايته ، بل يصيب أحياناً ويخطئ أحياناً ، فما خالف فيه الثقات فهو خطأ ، وما وافق فيه الثقات هو الصواب ، فالذي دل علي أن رواية عبد الله صحيحة هي رواية عبيد الله نفسها ، وعبيد الله ثقة ثبت ، وعبد الله ضعيف ، ولما كان المشهور عنه التخليط ، وجاء بالرواية علي وجهها موافقة لرواية عبيد الله علمنا أنه لم يخطئ فيها ، فلم ظهر هذا أزال يحيي القطان النكارة عن رواية عبيد الله برواية عبد الله ، لا أنه كما قال المؤلف أزال النكارة برواية ضعيف ، بل أزالها برواية هو متيقن من صحتها لموافقتها رواية الثقة الثبت .
ثم أن يحيي القطان وأحمد الذي أقره كما تقول مع التسليم لك بأنهم قووا رواية ثقة برواية ضعيف ، فأقول لك : فالزم ما قلته تعود إلي ما قلناه ، فيحيي وأحمد رضي الله عنهما ضما رواية ضعيف إلي رواية ثقة متقن ، فافعل مثلهما وكلما رأيت رواية مفردة غريبة من ثقة ثبت أزل نكارتها برواية الضعفاء ، وهذا الذي فعلوه هو ما يسمي بالاعتبار عند المحدثين ، أما ما تفعله وتقوله أنت ومن يحذو حذوك فليس له علاقة بما ذكرته عن يحيي وأحمد رضي الله عنهما .
وبالمناسبة فلم نسمع أن حديث إنما الأعمال بالنيات أنكره يحيي بن سعيد مثلاً !!
وهذا دليل أن هذا الحديث كان حالة خاصة أيضاً لمخالفته الروايات الأخري الصحيحة في الباب .
ـ ومن شبههم العقيمة قولهم : طرح الحسن بشقيه من مرتبة الاحتجاج يعطل كثيراً من الأحكام الشرعية ؟!
فيقولون لك : ستعطل قولة غفرانك بعد الخلاء !!
نقول : كيف أصبحت أحكام شرعية وأدلتها مازالت محل بحث وخلاف إثباتاً ونفياً ؟
ثم إن طرح الحديث الضعيف يعطل أضعاف ما يعطله طرح الحديث الحسن من الأحكام ، فهل هذه حجة في الاحتجاج بالحديث الضعيف ؟؟!!
فكل ما تردون به علي من يريد منكم أن تحتجوا بالضعيف نرد به عليكم .
ـ ومن شبههم أيضاً قولهم : أن الحديث الضعيف إذا روي من عدة طرق فان هذا يدل علي أن له أصلاً فليس من المعقول أن يخطئ كل هؤلاء .
شبهة قوية دخلت حتى علي بعض المنتسبين للعلم .
وقد سبق وتكلمنا في مبحث كيف توثق الرواة وتضعف بكلام جيد ولله الحمد فأغني عن تكراره هنا ولكن سنضرب مثالاً واحداً لمزيد من التبيين .
سنذكر طريقين من طرق حديث مشهور صححه البعض وأعله وضعفه البعض .
وله حوالي تسع طرق فيما أعلم ، وبعض هذه الطرق يروي من غير وجه ، وسنبين أن الطريقين علامة جلية علي ضعف الحديث وليس علي صحته .
ـ الطريق الأول :
مسعود بن محمد الرملي عن عمران بن هارون عن مسلمة بن علي عن أبي عبد الله الحمصى عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم .
ـ الطريق الثاني :
عبد الله بن إبراهيم عن محمد بن عاصم عن يحيي بن شبيب عن الثوري عن حميد عن أنس عن النبي صلي الله عليه وسلم .
والحديث له طرق أخري من طريق أبي هريرة وابن عباس وجابر وثوبان وأبي أيوب وغنام الأنصاري .
فلو رأي واحد منهم ، أعنى المصابين بمرض تعدد الطرق هذه الطرق والأوجه لحكم بتواتر الحديث ربما من غير أن ينظر في أسانيده ،
أما نحن ولله المن والفضل فلا نقلد في هذا أحداً ، وإن جاز لنا التقليد قلدنا متقدماً راسخاً أو متأخراً علي درب المتقدمين ،
ولننظر إلي السند الأول : ابن عمر صحابي مكثر جداً ،
ونافع مكثر جداً عنه ،
ونافع حدث عنه من الثقات الأثبات : الزهري ، وأيوب ، وعبيد الله ، وابن عون ، وابن جريج ، الأوزاعي ، ومالك ، وعقيل ، والليث ، وخلق كثير ، كلهم لم يحدث واحد منهم بهذا عن نافع ، حتي أتى أبو عبد الله الحمصى فرواه ، ولم يروه عنه إلا مسلمة بن علي .
ومسلمة هذا قال عنه أبو عبد الرحمان النسائي رحمه : متروك " الضعفاء والمتروكون للنسائي 570 ".
وراجع كلام الداراقطني في الضعفاء ،
وابن عدي في الكامل ،
وابن معين في تاريخه ،
الجوزجاني في المتروكين ، وغيرهم فيه .
فهل يمكن أن يكون هذا الحديث رواه نافع بأي حال من الأحوال ؟
أين مالك ؟ أين الزهري ؟ أين عقيل ؟ أين الأوزاعي ؟ أين عبيد الله ؟ أين ابن عون ؟ أين الحفاظ ؟؟!!!
فهذا دليل علي أن هذا وهم بلا ريب ، كل عاقل يري ذلك بعينيه ، هذا الوهم من الحمصى ؟ ، من مسلمة ؟ ، لا يهم ، المهم أننا نجزم أن نافعاً لم يقل هذا طرفة عين .
ومعني هذا أن هذا الطريق ليس له وجود في الواقع إلا في عقل من أخطأ في هذه الرواية ، أما في الحقيقة فلا وجود له .
أما الطريق الثاني ، طريق أنس فهو أعجب وأعجب !!!!
فأنس رضي الله عنه يروي عنه مئات منهم حميد ، وحميد يروي عنه مئات منهم سفيان الثوري !!
والثوري العلم يتفرد عنه يحيي بن شبيب بهذا !!
هل يحيي هذا حافظ ؟
هل هو متقن ؟
هل هو ثبت ؟
هل يتحمل هذا التفرد ؟
لننظر لنري….
قال ابن حبان في المجروحين : حدث بالبصرة ، يروي عن الثوري ما لم يحدث به قط، لا يجوز الاحتجاج به بحال .
ومعني هذا أيضاً أن هذه الرواية ليست إلا وهماً صنعه عقل يحيي بن شبيب ، أما خارج عقل يحيي بن شبيب فلا وجود لهذه الرواية مطلقاً .
فهل الطريقان يقوي بعضهم بعضاً ؟
طريق ليس له وجود في دنيانا ، بل فقط في عقل رجل واحد ، وطريق آخر مثله ليس له وجود في الحقيقة ، بل فقط في عقل من أخطأ ورواه ، هل يقوي بعضهم بعضاً !!!!
فطريق ليس له وجوداً يقوي طريقاً ليس له وجوداً !!!
وبعد هذه التقوية يصير هذا الحديث واقعاً ، والكارثة أنه دين !!
وكأنه عملية ولادة لشيء لم يكن له وجود من قبل ، فصاد له وجوداً ، ثم عبدنا به الله سبحانه وتعالي !!
وبوضوح فإن الطريق الأول ليس بحديث أصلاً ، فنافع لم يسمعه من ابن عمر ولم يحدث به عنه ، وكذا عبد الله بن عمر لم يسمعه من النبي صلي الله عليه وسلم ولم يحدث به يوماً .
وكذا الطريق الثاني ، لم يحدث به الثوري أبداً ، ولم يسمعه منه يحيي بن شبيب أبداً ، وإنما هي أوهام الرواة !!
كان من المفترض أن يروي الطريق الأول عن نافع علي الأقل من أوجه كثيرة ، وكذا الثاني بالنسبة لحميد علي الأقل أو الثوري .
فالطريق الثاني يزيد الأول وهناً علي ، وهن وضعفاً علي ضعف ،
والعجب أن هذا الحديث يروي من تسع طرق عن تسع صحابة !!
ولم يصل إلينا من طريق واحد صحيح !!!!!!
أليس هذا أمراً عجيباً ؟!
واسمع إلي كلام ابن حبان رحمه الله في كتابه المجروحين قال :
كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات ، وكان ذلك من سوء حفظه وكثرة خطئه ، فلا كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات ، وكان ذلك من سوء حفظه وكثرة خطئه ، فلا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد ، فأما فيما وافق الثقات فهو صادق في الروايات يحتج به .
وهذا الراوي هو ابن أبي الزناد ، ولاحظ قوله : فلا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد ، فأما فيما وافق الثقات فهو صادق في الروايات يحتج به ، ولم يقل رحمه الله : فيما وافق فيه الضعفاء والمختلطين والمجاهيل ، لذا فإن الذي ينزل عن درجة الثقة لا يحتج بحديث ولو رواه معه كل ضعفاء الدنيا كلهم ، إلا إذا رواه معهم ثقة واحد ثبت .
فكم من حديث لم يسمعه إلا صحابي واحد وبلغنا بطريق صحيح لا شبهة فيه ولا مطعن.
مثال :
حديث أبي عثمان النهدي عن أبي موسي قال : كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم في سفر ، فكنا إذا علونا كبرنا ، فقال : أربعوا علي أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، تدعون سميعاً بصيراً قريباً .
ثم أتي عليّ وأنا أقول في نفسي : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال لي : يا عبد الله بن قيس قل لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة ، أو قال : لا أدلك به .
والحديث عند أحمد وكرره ، وعبد بن حميد ، والبخاري وكرره ، ومسلم وكرره ، وغيرهم .
فالنصف الثاني من الحديث حوار دار بين الحبيب محمد صلي الله عليه وسلم وأبي موسي الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله عنه ، بينهما فقط !!!
ومع هذا وصلنا بإسناد صحيح ليس فيه مطعن ومن أوجه كثيرة !!!
لماذا ؟!
لأنه من الدين الذي تعهد الله عز وجل بحفظه .
ـ وكذا حديث بيع جابر بن عبد الله رضي الله عنه ناقته للنبي صلي الله عليه وسلم .
ـ وحديث صلاة النبي صلي الله عليه وسلم بالليل وصلاة ابن عباس معه في بيت ميمونة أم المؤمنين .
ـ وحديث أم حرام بنت ملحان في بشري النبي عليه الصلاة والسلام لها بالجهاد وركوب البحر .
ومئات الأحاديث لم يسمعها غير واحد ، ومع هذا وصلتنا غضة طرية ، اجتازت كتب الرجال ، وكتب السماعات ، وكتب العلل ، ودونت في الصحيحين وغيرهما !!
لأنها من الدين الذي أذن به الله تعالي ، وليست من الظن ، الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً !!
وكلما زادت طرق الحديث وتشعبت دل هذا علي أنه ليس له أصل صحيح طالما لم يأت من طريق واحد صحيح ليس فيه مطعن .
فهذا الحديث الذي ضربناه مثلاً ، لو جاء من طريق ثالث شبيه بسابقيه هل يقويهم أم يزيدهم ضعفاً ؟!
وإذا جاء بعدها من طريق رابع ، ليس بأحسن حالاً من هؤلاء ، هل يقويهم أم يزيدهم وهناً ؟!!
وهكذا كلما زادت الطرق واشتهرت الأسانيد والشيوخ كانت هذه الطرق توهن بعضها بعضاً ، وتثبت أن الحديث ليس له أصلاً ، وليس كما ظن الكثير من المتأخرين من أنها تقوي بعضها وتثبت أن لها أصل .
ـ ومن حججهم ما روى عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال : أحاديث أفطر الحاجم والمحجوم ولا نكاح إلا بولي أحاديث يشد بعضها بعضا وأنا أذهب إليها .
وهذا فيما أعلم ليس له عن أحمد إلا طريق عبد الوهاب بن أبي عصمة عن أحمد بن أبي يحيي ، وعبد الوهاب ابن أبي عصمة بحثت عن ترجمته في كل كتاب استطعت الوصول إليه فلم أجد له ترجمة !!
سلمنا أنه قال ذلك ، لم لا نقول أنه يعنى أن رغم بعض الضعف في أسانيد الحديثين فإن لهما طرق أخري تصح عند أحمد رحمه الله ، وهذه تقوي تلك وهذا من أساليب الترجيح المعروفة عند المحدثين .
خاصة وأن التضعيف هنا من غير الرجال ، أي بالاضطراب وهذا قد يختلف في مثله الحفاظ ،
فلا يصح إطلاق هذا القول عن أحمد والله أعلم .
سلمنا صحة نسبة القول إلي أحمد رحمه الله ، فهل هذه هي القاعدة العامة عنده أم استثناء ؟
سلمنا أنها قاعدته العامة فهل لابد أن يكون مصيباً فيها ؟؟
فنري أن هذا القول عن أحمد فيه نظر ، وإن ثبت عنه فإنه غير ملزم لمن ظهر له أن الدليل بخلافه .
ويؤيد أن هذا القول عن أحمد استثناء وليس قاعدة أن حديث احتجام النبي عليه السلام وهو محرم صائم رويت عن ابن عباس من أوجه أيضاً ، فقد رواه عن ابن عباس أربعة من رواة ابن عباس علي ما أذكر ، منهم عكرمة ، فلو كان هذا مذهبه علي الإطلاق لكان الحديثان ثابتين عنده ولجمع بينهما ، وهذا أيضا يقوي وجهة أن المقصود أنه صح عنده من طرق أفطر الحاجم والمحجوم واستشهد بالضعاف منها ، خاصة وأن أوجه حديث شداد بن أوس رضي الله عنه تحتمل التصحيح من كثير من المشتغلين بالحديث لأن الكلام فيهم من جانب العلة ، وكذا أوجه طريق ثوبان رضي الله عنه ، والله أعلم .
ـ ومن حججهم أن يأتوا بعدة مسائل عن بعض مشاهير المحدثين احتجوا فيها بأحاديث ليست صحيحة ويجعلونها قاعدة لهذا المحدث ، فيحتج عليك بحديث لفليح بن سليمان في صحيح البخاري ، أو حديث لعبد الرحمان بن أبي الموالي في صحيح البخاري ، أو غيرهم من الذين نزلوا عن درجة الثقة أو الضعفاء ، ثم يقولون لك : هاهو ذا البخاري يحتج بأحاديث هؤلاء ، وهم ليسوا من الثقات ، فهو يحتج بالأحاديث الحسان لذاتها كما يحتج بالأحاديث الحسان لغيرها .
فاعلم أن كل محدث بشر يصيب ويخطئ ، وما كان الدين كاملاً عند أحد إلا محمداً صلي الله عليه وسلم وبعده فإن هذا ليس لأحد !!!
وهؤلاء الذين احتج بهم البخاري لم يحتج بهم غيره وضعفهم ، فلابد من حسم القول فيهم ،عن طريق دراسة أحاديثهم ، أما جعل الكل معصوماً من الخطأ ، وتوجيه كلام الجميع ليتفق ، فهذا لا ينتج عنه إلا هذه الحال التي نحن فيها اليوم ، والتي يدعو فيها خمسة ملايين مسلم في الحرم في الثلث الأخير من شهر رمضان ، يدعون فيها الله سبحانه وتعال لأن ينصر المسلمين ، فيزداد اقتراب اليهود والنصارى ، حتي أصبحوا علي مشارف الحرم المكي الشريف !!
وراجع حديث استئذان أبي موسي علي عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيره ،
وراجع حديث عمر وعبد الرحمان بن عوف في رضي الله عنهما في الطاعون في الصحيحين وغيرهما .
وغير هذا كثير ثابت لا مطعن فيه يدل علي أنه ما من أحد إلا علم ولم يعلم .
هذا في أكابر الصحابة !!! فكيف بمن بعدهم ؟!!!